نهاد محمود
باحثة دكتوراه بكلية الدراسات الإفريقية العليا- جامعة القاهرة
تمهيد:
يشهد العالم اليوم تحوّلات جذرية نتيجة التغيرات الاقتصادية وعدم الاستقرار السياسي والاضطرابات المناخية، فضلًا عن تفاقم مسألة عدم المساواة الاجتماعية، وفي خضم هذا المشهد المُعقَّد، تبرز إفريقيا كفاعل محوري غالبًا ما يُهمَّش في النقاشات الدولية، رغم أنها تحتضن بعضًا من أسرع الاقتصادات نموًّا، وتُسجّل أعلى معدلات النمو السكاني، وتحتوي على بعض من أكبر احتياطات الموارد الطبيعية والمعادن الإستراتيجية، إضافةً إلى تسارع معدلات التحوُّل الرقمي واتساع رقعة التنافس والشراكات بين القوى التقليدية والناشئة على أرضها.
وفي هذا السياق، تأتي أهمية تقرير “استشراف مستقبل إفريقيا”، الصادر عن مؤسسة بروكينغز عام 2025م، والذي يُعنَى بتحليل التحديات التي قد تواجه القارة حتى عام 2030م، إلى جانب استكشاف الفرص المتاحة، وذلك في ظل بيئة جيوسياسية وجيو-اقتصادية تتَّسم بقَدْر متزايد من التنافسية.
ومع اقتراب الموعد النهائي لتحقيق أهداف التنمية المستدامة ٢٠٣٠م، يكتسب التقرير أهمية خاصة، من خلال تركيزه على الأولويات القصوى التي قد تُسهم في تحديد مسار إفريقيا خلال الفترة (٢٠٢٥ – ٢٠٣٠م). وبالنظر إلى التحوُّل الديموغرافي الكبير المتوقع فيها –حيث من المتوقع أن تُشكّل إفريقيا حوالي ٤٠% من سكان العالم بحلول عام ٢١٠٠م-؛ فإن التنمية المستدامة للقارة تُعدّ أولوية لا تقتصر على الأفارقة فقط، بل على العالم أجمع، خاصةً أن استقرار وتنمية إفريقيا لهما تأثير مباشر على الاستقرار والازدهار العالميين.
انطلاقًا مما سبق، نستعرض أبرز ما جاء في التقرير (استشراف مستقبل إفريقيا… الأولويات الكبرى للقارة خلال الفترة من 2025 وحتى 2030م)، من إمكانات واعدة أو مخاطر تتصل بمستقبل إفريقيا وفقًا للمحاور التالية:
أولًا: مستقبل إفريقيا الاقتصادي… الإمكانات والمعوّقات
في البداية يُشير تقرير استشراف مستقبل إفريقيا (٢٠٢٥-٢٠٣٠م) إلى أن القارة تُعدّ الآن واحدة من أكثر المناطق الواعدة للنمو الاقتصادي، بفضل ما تمتلكه من ثروات طبيعية هائلة، وتعداد سكاني شابّ ومتزايد، وحراك ابتكاري متسارع. وعليه، لم يَعُد السؤال عمّا إذا كانت إفريقيا قادرة على النهوض لمواجهة تحديات العولمة؟ بل كيف يمكنها تحقيق ذلك اعتمادًا على إمكاناتها الذاتية؟
ورغم الإمكانات الكبيرة التي تزخر بها القارة، تبقى التحديات حاضرة بقوة. فعلى سبيل المثال: يعيش حوالي ٦٠٪ من سكان إفريقيا تحت خط الفقر، بينما لم يتجاوز معدل نمو الدخل الفردي ١,١٪ سنويًّا خلال العقود الماضية، ما يعكس تباطؤًا في تحقيق الرفاه الاقتصادي.
كما تتعرَّض القطاعات الإنتاجية لتراجُع في مستويات الكفاءة، إلى جانب ارتفاع معدلات البطالة، لا سيما بين الشباب، وانتشار انعدام الأمن الغذائي، ما يزيد الضغوط على البنى التحتية والخدمات الاجتماعية، التي تعاني أساسًا من تدهور مستمر نتيجة العجز المالي المتزايد.
علاوةً على ذلك، تواجه القارة تحديات كبيرة تتمثل في التقلبات الاقتصادية العالمية التي تؤثر على أسواقها وأسعار صادراتها، وتزايد الاضطرابات السياسية التي مسَّت حوالي ٣٠٪ من سكانها خلال العقد الماضي، إلى جانب تباطؤ معدلات نمو الإنتاجية؛ حيث انخفضت من ٢,٢٪ إلى ٠,٨٪ خلال العقد الأخير. كما أنه من المتوقع أن يُشكِّل تغيُّر المناخ تهديدًا وجوديًّا لأكثر من ٩٠٠ مليون شخص بحلول عام ٢٠٥٠م، مما يجعل التحوُّل إلى نموذج اقتصادي أكثر استدامة أمرًا ملحًّا.
واستنادًا لذلك، يرى التقرير أن الطريق نحو مستقبل أكثر ازدهارًا يتطلب الاستثمار في رفع إنتاجية الموارد، وتوسيع سلاسل القيمة المحلية، بدلاً من الاقتصار على تصدير المواد الخام، بالإضافة إلى ضرورة تسريع تبنّي التحولات الرقمية لتعزيز التنافسية. كما ينبغي تعميق أُسُس التكامل الإقليمي عبر تنفيذ اتفاقية التجارة الحرة القارية، واستغلال الفرص التي يقدمها الاقتصاد الأخضر، مع ضرورة تمكين القطاع الخاص ليصبح مُحرِّكًا رئيسيًّا للنمو وخلق فرص العمل.
ثانيًا: الشباب والتنمية المستدامة
في هذا القسم، يُبرز التقرير (استشراف مستقبل إفريقيا) أهمية تمكين الشباب كعامل حاسم لتحقيق التنمية المستدامة في القارة الإفريقية. فمع تزايد نسبة الشباب في التركيبة السكانية، أصبح من الضروري تبنّي سياسات تُركّز على تعزيز دورهم في المجتمع ككل.
وفي هذا السياق، يُشدّد واضعو التقرير على أهمية تبنّي سياسات شاملة تراعي احتياجات الشباب وتُعزز مساهمتهم في مختلف المجالات التنموية. كما يوصي بضرورة تعزيز التعاون بين الحكومات والمجتمع المدني والقطاع الخاص، من أجل توفير البيئة المناسبة لنمو الشباب وتفعيل دورهم الريادي في مجتمعاتهم.
وفي ختام هذا القسم، يؤكد التقرير أن تمكين الشباب يُمثّل حجر الأساس لتحقيق التنمية المستدامة في إفريقيا. ولتحقيق ذلك، يتطلب الأمر التزامًا جادًّا من الحكومات، وتعاونًا وثيقًا مع مختلف الفاعلين، لضمان تهيئة بيئة داعمة تُطلق طاقات الشباب وتُوظّفها في بناء مستقبل أكثر استدامة وازدهارًا للقارة.
ثالثًا: التحوّل الأخضر
في هذا الإطار، يُبرز تقرير استشراف إفريقيا ٢٠٢٥-٢٠٣٠م أن القارة الإفريقية تقف أمام فرصة تاريخية للتحوُّل تجاه نموذج تنموي أخضر ومستدام، مستفيدةً من مواردها الطبيعية الغنية وتنوعها البيئي. فمع التحديات المتزايدة المرتبطة بتغيُّر المناخ، مثل الجفاف والفيضانات وارتفاع درجات الحرارة، أصبح من الضروري تبنّي سياسات بيئية ناجعة توازن بين النمو الاقتصادي والحفاظ على البيئة.
علاوةً على ذلك، يشير التقرير إلى أن إفريقيا تمتلك إمكانات هائلة في مجال الطاقة المتجددة، خاصةً الطاقة الشمسية والرياح، مما يتيح لها تقليل الاعتماد على الوقود الأحفوري وتعزيز أمن الطاقة. كما يُسلط الضوء على أهمية الاستثمار في الزراعة المستدامة، التي تُعدّ ركيزة أساسية للأمن الغذائي وتوفير فرص العمل، لا سيما في المناطق الريفية.
من جانب آخر، يؤكد التقرير على أهمية تطوير أنظمة النقل العام وإدارة النفايات بأساليب مستدامة بيئيًّا، إلى جانب أهمية تعزيز الإطار التشريعي البيئي وتفعيل تطبيقه بفعالية. كما يُوصي بدعم الابتكار والبحث العلمي في القضايا البيئية، وتوفير التمويل الكافي للمبادرات الخضراء، ولا سيما من خلال تعزيز الشراكات بين القطاعين العام والخاص.
كما يشدد التقرير على أهمية التوعية المجتمعية والتعليم البيئي (الوعي البيئي)، لضمان مشاركة فعَّالة من المواطنين في جهود الحفاظ على البيئة، وتعزيز ثقافة الاستدامة في المجتمعات الإفريقية.
وفي نهاية هذا القسم، يؤكد التقرير أن التحوُّل الأخضر لم يعد ترفًا تنمويًّا، بل بات ضرورة وجودية تُمليها تحديات الحاضر والمستقبل الإفريقي. وعليه، يُنبه التقرير إلى أن هذا التحوُّل يتطلب التزامًا قويًّا من الحكومات، وتعاونًا وثيقًا مع القطاع الخاص والمجتمع المدني، بالإضافة إلى ضرورة دعم المجتمع الدولي، لتحقيق الأهداف البيئية والتنموية المنشودة.
رابعًا: التحوُّل الرقمي… نحو تنمية معرفية شاملة
على صعيد التحوُّل الرقمي، يشير تقرير “استشراف إفريقيا ٢٠٢٥- ٢٠٣٠م” إلى أن القارة الإفريقية تشهد تحولًا رقميًّا متسارعًا، مع ازدياد الاعتماد على التكنولوجيا في مختلف القطاعات. فمع انتشار الهواتف الذكية وتحسُّن البنية التحتية للاتصالات، أصبحت التقنيات الرقمية جزءًا أساسيًّا من الحياة اليومية للمواطنين؛ حيث تساهم في تسهيل العديد من الأنشطة الاقتصادية والاجتماعية، بما يفتح آفاقًا جديدة لتحفيز النمو الاقتصادي وتعزيز التنمية الاجتماعية.
كما يُبرز التقرير أن التحوّل الرقمي يُمكن أن ييسر العديد من الخدمات للفئات الأكثر تهميشًا، مثل تحسين جودة التعليم والرعاية الصحية، من خلال إتاحة خدمات رقمية متطورة تُراعي احتياجات السكان في المناطق النائية.
ومع ذلك، يُشير التقرير إلى أن هناك تحديات كبيرة تُواجه هذا التحول، منها نقص المهارات الرقمية للأفراد المعنيين بتقديم هذه الخدمات، وضعف البنية التحتية في بعض المناطق، والحاجة إلى سياسات وتشريعات تُواكب التطورات التكنولوجية. لذا، يُوصي التقرير بضرورة الاستثمار في التعليم والتدريب الرقمي، وتطوير البنية التحتية التكنولوجية، وتعزيز الشراكة بين القطاعين العام والخاص؛ لضمان استفادة الجميع من مكاسب التحول الرقمي.
خامسًا: نحو إفريقيا مُوحَّدة وقادرة على التكيُّف مع التحديات المستقبلية
في هذا الجزء من التقرير، يشير واضعوه إلى أن تعزيز الحوكمة والاندماج الإقليمي يُعدّان من العوامل الأساسية لتحقيق التنمية المستدامة والشاملة في القارة. فمع التحديات المتزايدة التي تواجهها الدول الإفريقية، مثل الصراعات المسلحة وتهديدات تغيُّر المناخ والتحديات الاقتصادية؛ أصبح من الضروري تعزيز التعاون الإقليمي وتبنّي ممارسات مؤسساتية وقيادية فعّالة؛ لضمان استقرار وازدهار القارة.
كما يوضح التقرير أن الاندماج الإقليمي يُمكن أن يُسهم في تعزيز التجارة البينية، وتسهيل حركة الأشخاص والبضائع وتحسين البنية التحتية، بما يُعزّز قدرة الدول الإفريقية على مواجهة التحديات المشتركة، كما يُسهم في تعزيز الأمن والسلام عبر التعاون في مجالات مكافحة الإرهاب والجريمة المنظمة.
وفي المجمل، يُشدد التقرير على أهمية تعزيز مؤسسات الحكم الرشيد، من خلال تعزيز الشفافية والمساءلة، وتبني سياسات تشاركية تُشرِك المواطنين في صنع القرار. كما يُوصي بدور أكثر فعالية للمجتمع المدني، وتمكين المرأة والشباب؛ لضمان فعالية عمليات الحوكمة.
سادسًا: إفريقيا في قلب النظام العالمي الجديد
يشير تقرير استشراف إفريقيا ٢٠٢٥- ٢٠٣٠م في هذا القسم إلى أن القارة الإفريقية تشهد تحولًا إستراتيجيًّا في علاقاتها الدولية؛ حيث أصبحت تلعب دورًا متناميًا في النظام العالمي متعدد الأقطاب. فمع التحديات العالمية المتزايدة، مثل تغيُّر المناخ والأزمات الصحية والتقلبات الاقتصادية، باتت إفريقيا شريكًا لا غِنَى عنه في الجهود الدولية لمعالجة هذه القضايا.
في هذا السياق، يؤكد التقرير على أن الشراكات العالمية تُعدّ أداة حيوية لتعزيز التنمية المستدامة في إفريقيا، من خلال توفير منافذ للتمويل ونقل التكنولوجيا والخبرات وبناء القدرات.
على الصعيد ذاته، يُشدّد التقرير على أهمية تطوير سياسات خارجية إفريقية موحدة، تُعزّز مكانة القارة على الساحة الدولية، وتُسهم في تحقيق مصالحها الإستراتيجية. كما يُوصي بتعزيز دور الاتحاد الإفريقي كممثل في المحافل الدولية يتبنّى موقفًا مشتركًا يُعبِّر عن دول القارة كافة.
من جانب آخر، يُنبّه التقرير إلى أهمية تنويع الشراكات الدولية لإفريقيا، من خلال تعزيز التعاون مع القوى الناشئة، مثل الصين والهند والبرازيل، بالإضافة إلى الشركاء التقليديين، مثل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، وكذلك تبادل الخبرات بين الدول الإفريقية والدول النامية الأخرى، بما يدعم التعاون بين بلدان الجنوب.
خاتمة:
على الرغم من أن تقرير “استشراف مستقبل إفريقيا… والأولويات الكبرى للقارة خلال الفترة من 2025 وحتى 2023م” الصادر عن مؤسسة بروكينغز يتسم بالثراء فيما طرحه من قضايا تتعلق بالفرص والتحديات أمام إفريقيا، إلا أن معرفة أنه تقرير صادر عن مؤسسة بحثية أمريكية تستدعي التعامل معه بنظرة نقدية متأنية، وعليه نذكر عددًا من الملاحظات التي ينبغي التنبُّه لها:
أولًا: يُلاحظ استمرار هيمنة المنظور الخارجي الغربي على تناول التقرير للقضايا الإفريقية؛ فعلى الرغم من الجهود المبذولة لفهم السياق الإفريقي، تبقى بعض التحليلات محكومة بأُطُر تفسيرية لا تعكس بدقة تعقيدات الواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي داخل القارة.
ثانيًا: يبرز في بعض التوصيات مَيْل غير مباشر نحو خدمة مصالح السياسة الخارجية الأمريكية، لا سيما عبر التأكيد على أهمية الشراكات مع الولايات المتحدة، مما قد يؤدي إلى انحراف الأولويات بعيدًا عن المصالح الإفريقية الذاتية.
ثالثًا: يعاني التقرير من اتجاه واضح نحو التعميم؛ إذ يتناول إفريقيا باعتبارها وحدة متجانسة متجاهلًا الفروقات الواضحة بين دول القارة، ما يُضعِف من قدرة التقرير وطرحه على تقديم توصيات دقيقة.
رابعًا: يتجنّب التقرير نقد هيكل النظام العالمي، مُهَمِّشًا دوره في إعادة إنتاج أنماط الفقر والتبعية، ما يجعل أطروحاته محصورة ضمن نفس الأُطُر التي ساهمت في تفاقم الأوضاع القائمة.
خامسًا: رغم نظرة التفاؤل التي تغلب على التقرير، إلا أنه يبقى مشروطًا؛ إذ يطرح أهدافًا طموحة دون معالجة كافية للعوائق السياسية والمؤسساتية التي قد تَحُدّ من تحقيق هذه الأهداف على المدى القريب والمتوسط.
سادسًا: يغيب البُعد الثقافي عن التقرير غيابًا واضحًا، فلا أثر يُذْكَر للقضايا المرتبطة باللغة، أو الإبداع الفني، بما يعكس إفريقيا كما لو كانت مشروعًا اقتصاديًّا صرفًا، تُقاس نهضتها بالأرقام والمعايير التنموية.
في نهاية المطاف، ورغم التحفظات المطروحة، يمكن القول: إن التقرير يُشكّل مساهمة مهمة في إثارة النقاش حول مستقبل التنمية في إفريقيا، وما يرتبط بها من رهانات تتصل بمستقبل القارة، غير أن الاستفادة منه تقتضي قراءته بعين نقدية، مع التأكيد على ضرورة تبنّي أجندة تنموية قارية مُستقلة (أصيلة) تنبع من أولويات الشعوب الإفريقية وتستجيب لتطلُعاتها الحقيقية، بعيدًا عن تأثيرات الفاعلين الأجانب وأجنداتهم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مصدر التقرير:
Landry Signé (Ed.), Foresight Africa: Top Priorities for the Continent “2025-2030”, (Washington, D.C: Brookings Institution, Jan 2025), On: https://www.brookings.edu/wp-content/uploads/2025/01/Foresight-Africa-2025-2030-Full-report.pdf