نِهاد محمود
باحثة دكتوراه بكلية الدراسات الإفريقية العليا- جامعة القاهرة
تمهيد
على الرغم من أن أرض إفريقيا تزخر بخيرات لا تُقدَّر، وتُخفي في أعماقها ما يجعلها من أغنى بقاع الأرض بالموارد الطبيعية؛ إلا أن شعوبها ما تزال تعيش تحت وطأة التهميش والفقر، وتعاني من فجوات اجتماعية واقتصادية واسعة تفصلها عن عالَم الشمال المُتْرَف، وكأن الثروات والخيرات تُحيط بهم دون أن تَمسّ حاجاتهم الأساسية.
وهذه المفارقة الصارخة بين غِنَى الأرض الإفريقية وفَقْر أهلها لا يمكن اختزالها في أخطاء داخلية أو ضعف في الإدارة فحسب، بل تُمثّل نتيجة مباشرة لتاريخ طويل من النَّهب المنظَّم؛ نَهْب لم يتوقف بانتهاء الاستعمار التقليدي، بل تبدَّلت صُوَره وتخفَّت في أشكال أكثر تعقيدًا بعد الاستقلال، فمن خلال تحالفات خفية بين نخب محلية وشركات متعددة الجنسيات، وقوى دولية ذات مصالح، استمرت عمليات الاستنزاف تحت لافتات مُغرية مثل الاستثمار والتنمية.
وفي سياق كهذا، تتحوّل الدولة من إطار للحماية والرعاية إلى أداة وظيفية تُسهِّل الوصول إلى الثروات بدلاً من صونها، فتُعاد صياغة الهشاشة والفقر لا بوصفها اختلالات عابرة، بل كآليات مستدامة تضمن بقاء تدفُّق الموارد نحو الخارج دون انقطاع.
وفي هذا الإطار، يبرز حديثنا حول كتاب “آلة النهب” (The Looting Machine)للصحفي الاستقصائي البريطاني “توم بورجيس”، وهو عَمَل يتوغّل في تفاصيل شبكة الاستغلال المنظّم التي تُعيد الهيمنة على ثروات إفريقيا. ولا يكتفي “بورجيس” بتناول الفساد بصورته التقليدية، بل يُقدِّم تحليلًا دقيقًا لكيفية تحوُّل الثروة إلى عبء (لعنة)، والدولة إلى كيان يُدار بمنطق الشركات، والمواطن إلى كائن مُهمَّش في معادلة لا تهتم بالعدالة أو التنمية، بل تحتكم فقط لمنطق الربح مهما كانت التكاليف.
أولًا: أهمية الكتاب
يُمثّل كتاب “آلة النهب” مدخلًا مُهمًّا لفهم كيف يُعاد تشكيل الاستعمار في إفريقيا بأساليب جديدة؛ فالكتاب يُوضِّح أن إدارة الموارد في القارة لا تقوم على مبدأ السيادة أو خدمة التنمية، بل تخضع لمنطق النهب المُنظَّم؛ حيث تتداخل مصالح الفاعلين المحليين مع قوى دولية، وتذوب الحدود بين ما هو قانوني وما هو خفي.
كما تتجلى أهمية الكتاب في كونه لا يُركِّز على حالات فردية من الفساد، بل يُقدِّم رؤية أوسع لمنظومة عالمية تُبقي إفريقيا في موقع التبعية، من خلال دور الشركات متعددة الجنسيات، والمؤسسات المالية الدولية، وتحالفات النُّخَب الحاكمة مع مراكز النفوذ الخارجي، وكلها عوامل ساهمت في استمرار الفقر والتراجع في مجالات عديدة.
وفي هذا السياق، يطرح الكتاب سؤالًا مُهمًّا مفاده: كيف تحوَّلت الثروات في إفريقيا من فرصة للتحرُّر إلى وسيلة للاستعباد؟ وكيف يُستخدم النفط، أو الذهب، أو الماس كأدوات للهيمنة بدلًا من أن تكون قاطرة للتنمية؟
لهذا، يُعدّ الكتاب مرجعًا مهمًّا لكل مَن يسعى إلى فَهْم قصة الاستغلال بصورته الحديثة، ومَن يرغب في تجاوز الخطابات السطحية حول “التنمية” ليرى كيف تُدار إفريقيا في الحقيقة، ومَن يديرها؟ ولماذا؟
ثانيًا: بنية الكتاب وتنظيمه
خلال مسعى “بورجيس” إلى تقديم تحليله حول عملية نهب ثروات إفريقيا، قسَّم كتابه إلى 10 فصول -بالإضافة إلى المقدمة والخاتمة-؛ جاءت على النحو التالي:
مقدمة: لعنة الثروات
تُسلّط الضوء على المفارقة بين غِنَى إفريقيا بالموارد الطبيعية وفقرها المزمن نتيجة النهب المنظّم.
الفصل الأول: فوتونغو: حين تتقاطع السلطة مع رأس المال
يستعرض كيف أصبحت النخبة الحاكمة في أنجولا تتحكم بثروات النفط عبر شبكة شركات فاسدة تمزج بين السلطة والمال.
الفصل الثاني: قوانين للعرض فقط… مفارقات السلطة والمحاسبة
يكشف هذا الفصل كيف تُستخدم القوانين الصورية لتجميل المشهد لدولة غارقة في الفساد.
الفصل الثالث: دور النظام العالمي في تكريس الفقر
يناقش كيف تخلق شركات التعدين والدول الغنية نُظمًا تؤدي إلى إنتاج الفقر بدلًا من التنمية.
الفصل الرابع: غوانشي: شبكات النفوذ التي تُحرِّك السوق من خلف الستار
يُفصِّل دور شبكات العلاقات غير الرسمية (خاصة مع الصين) في صفقات الموارد التي تتجاوز القانون ويغيب عنها المساءلة.
الفصل الخامس: عندما تتصارع الأفيال تُسحَق الحشائش
يُوضّح كيف أن التنافس بين القوى الكبرى يترك الشعوب الإفريقية ضحية لصراعات لا ناقة لها فيها ولا جمل.
الفصل السادس: بكين في قلب إفريقيا… الجسر الذي تمرّ عبره الصفقات الكبرى
يتناول صعود النفوذ الصيني في إفريقيا من خلال مشاريع ضخمة وتحالفات مبنية على تبادل الموارد بالقروض.
الفصل السابع: التمويل السام… حين يُصبح الاقتصاد أداةً للدمار والاستعمار
يكشف العلاقة السامة بين التمويل الدولي واستغلال المناجم؛ حيث يؤدي البحث عن الربح إلى تدمير البيئة والمجتمعات المحلية الإفريقية.
الفصل الثامن: القَدَر بريء… تبريرات زائفة لاستغلال إفريقيا
ينتقد هذا الفصل تبرير الظلم باسم القَدَر أو الدِّين، مؤكدًا أن النهب الممنهج ما هو إلا ثمار لقرارات بشرية مدروسة بعناية.
الفصل التاسع: الذهب الأسود
يكشف كيف تحوَّل النفط إلى أداة للفساد السياسي والثراء غير المشروع على حساب التنمية.
الفصل العاشر: ملوك المال الجدد
يعرض صعود طبقة من الأوليغارش في إفريقيا، يجنون الثروات من مواردها بينما تغيب الشفافية والمحاسبة.
خاتمة: تواطؤ بلا حدود… عندما يصبح العالم شريكًا في إفقار إفريقيا!
تؤكد على أن النهب في إفريقيا لم يكن ليتحقق لولا تواطؤ المؤسسات الدولية والحكومات الأجنبية، وكذلك الأسواق العالمية التي تتغذى على ثروات القارة.
ثالثًا: أبرز القضايا والإشكاليَّات المُثارة بالكتاب
1- النفط وفساد نُخبة أنجولا:
في هذا القسم من الكتاب يقدّم “بورجيس” دراسة مُعمّقة لأنجولا كنموذج واضح على كيفية تحوّل الدولة الغنية بالموارد إلى كيان تعمل فيه النخبة الحاكمة، وكأنها تدير شركة خاصة تهدف للثراء الشخصي أكثر من خدمة المصلحة العامة.
كما يأتي عنوان هذا الجزء تحت اسم “فوتونغو المحدودة”، في إشارة إلى القصر الرئاسي فوتونغو، الذي أصبح رمزًا لشبكة من السياسيين والعسكريين ورجال الأعمال الذين باتوا يسيطرون على اقتصاد أنجولا ويستغلون ثروات البلاد لمصلحتهم الخاصة.
من جهة أخرى، يوضح الكاتب كيف أنه عقب نهاية الحرب الأهلية عام 2002م، كان من المتوقع أن تدخل أنجولا مرحلة من الإعمار والاستقرار، غير أن ما حدث كان إعادة توزيع لثروات النفط لصالح القلة المقربة من الرئيس الأنجولي آنذاك “جوزيه إدواردو دوس سانتوس” (تولى منذ عام 1979م وحتى عام 2017م).
وعليه، لن يكن مستغربًا أن تكون أنجولا اليوم من أكبر الدول الإفريقية المنتجة للنفط، ومع ذلك يغرق أكثر من نصف سكانها في الفقر المدقع، كما أنه تكاد تنعدم البنية التحتية الأساسية خارج العاصمة “لواندا”، فالمدارس والمستشفيات في حالة مزرية، والخدمات الأساسية غائبة، بينما تستعرض قلة من العائلات الثراء الفاحش المستمد من عائدات النفط.
2-النفط والاستبداد… لعنة غينيا الاستوائية:
في هذا القسم، ينتقل “بورجيس” إلى غينيا الاستوائية، الدولة الصغيرة على الساحل الغربي لإفريقيا؛ حيث تتجسد واحدة من أكثر صور النهب والثراء في العصر الحديث، فمع اكتشاف النفط قبالة سواحلها في التسعينيات، تدفقت مليارات الدولارات إلى البلاد، لكن هذه الثروة لم تُترجَم إلى تنمية أو تُحسِّن في حياة المواطنين، وبدلًا من ذلك، تحوَّلت غينيا الاستوائية إلى ملكية خاصة لعائلة الرئيس تيودورو أوبيانغ نغيما، الذي كان يحكم قبضته الحديدية على البلاد منذ عام 1979م.
وفي هذا السياق، يروي لنا بورجيس كيف أن العاصمة مالابو تحوَّلت إلى مدينة براقة، مليئة بمشاريع استعراضية مُموَّلة بعائدات النفط، في حين بقيت المناطق الريفية الأخرى غارقة في الفقر، بلا كهرباء أو مياه نظيفة أو مدارس.
ويتعمق الكاتب هنا في عالم من الفساد المترسخ؛ حيث تسيطر العائلة الحاكمة على مفاصل الاقتصاد، وتستغل عائدات النفط لشراء القصور الفاخرة في كاليفورنيا وغيرها، لإشباع أسلوب حياة استثنائي من الرفاهية، لا يَمُت بصلة إلى مستوى المعيشة البائس لشعب غينيا الاستوائية.
كما يسرد لنا قصصًا عن نجل الرئيس، تيودورين أوبيانغ، الذي كان يُنفق الملايين على السيارات الفارهة واليخوت الفخمة، في وقتٍ كانت فيه معدلات وفيات الأطفال وسوء التغذية مرتفعة بشكل مأساوي داخل البلاد.
من جانب آخر، يشير بورجيس إلى أن هذا الفساد لم يكن ممكنًا لولا تواطؤ القوى الخارجية، فشركات النفط الكبرى وخصوصًا الأمريكية لعبت دورًا مركزيًّا في دعم النظام مقابل ضمان استمرار تدفق النفط، إضافةً إلى الحكومات الغربية التي غضَّت الطرف هي الأخرى، عن انتهاكات حقوق الإنسان وغسيل الأموال.
وبشكل عام، يرسم هذا القسم من الكتاب صورة لنظام استبدادي استغل موارد بلاده الطبيعية لبناء إمبراطورية شخصية، محميًا بالثروة وبالتواطؤ الدولي، بينما ترك الغالبية العظمى من شعبه يعانون البؤس والإهمال. كما يُغذّي هذا الطرح فهمًا أعمق لكيف أن لعنة الموارد لا تنتج فقط الفقر، بل تَخلق نظمًا سلطوية مشوهة تخنق أيّ فرص حقيقية للنمو والتقدم.
3- مسارات النهب والعنف في النيجر والكونغو الديمقراطية… حين تتحول الثروات إلى نقمة:
استمرارًا لما سبق، يواصل الكاتب استعراض ظاهرة “لعنة الموارد” في إفريقيا، مُركزًا هنا على النيجر وجمهورية الكونغو الديمقراطية، بوصفهما مثالين بارزين على تحوُّل الثروات الطبيعية لتصبح وقودًا للفقر والعنف بدلًا من أن تكون بابًا للتنمية، ويسرد “بورجيس” هنا كيف أن هاتين الدولتين، رغم غناهما الهائل باليورانيوم والنفط والنحاس والكوبالت، تعانيان من انقسامات سياسية حادة، وهشاشة مؤسسية، وفقر مدقع يطحن غالبية السكان.
في النيجر، التي تُعدّ من أفقر دول العالم رغم أنها مُورِّد رئيسي لليورانيوم الذي يُغذِّي مفاعلات الطاقة النووية في فرنسا، تذهب معظم عائدات الثروات إلى حفنة صغيرة من النخبة السياسية في البلاد، بينما تظل المجتمعات المحلية معدمة، بلا خدمات أساسية، وبلا فرص حقيقية للحياة الكريمة.
وفي الكونغو الديمقراطية، تبدو القصة أكثر مأساوية، فرغم أنه بلد شاسع وغنيّ بموارد لا تُقدَّر بثمن، لكنه ظل طوال عقود -ولا يزال- مسرحًا لحروب دامية مدفوعة بالرغبة في السيطرة على المعادن الثمينة.
وفي هذا السياق، يوضح بورجيس كيف أن شركات التعدين الأجنبية، بالتواطؤ مع أمراء الحرب والنخب السياسية الفاسدة، حوَّلت مناطق التعدين إلى جبهات قتال دائمة؛ حيث يعمل الأطفال في ظروف مُروِّعة لاستخراج الكوبالت والذهب من أجل تلبية احتياجات الأسواق العالمية.
في مناخ كهذا، لا يوجد أيّ مفهوم حقيقي لمردود اجتماعي من عائد هذه الثروات، بل إن الموارد نفسها أضحت سببًا رئيسيًّا لتمزيق المجتمعات وإبقاء السكان أَسْرى لدائرة لا تنتهي من الفقر والعنف.
وهنا، تتضح رسالة بورجيس بوضوح، وهي أن الثروات الطبيعية، حين تقع في بيئات سياسية مضطربة ومؤسسات ضعيفة، تتحوَّل إلى قوى مدمرة، فالمفارقة التي يريد أن يُؤكّد عليها هي أن الأماكن التي تختزن في باطنها أغلى الكنوز العالمية هي ذاتها التي تحتضن أشد أشكال الفقر والدمار الإنساني، كما يؤكد أن المشكلة ليست في وجود الموارد، بل في كيفية إدارتها، ومَن الذي يملك القوة والسيطرة على عوائدها.
4-التنين الذي يُعانق القارة… إفريقيا في قبضة الصين الناعمة:
في هذا القسم، يذهب “بورجيس” إلى التوسع الصيني في إفريقيا، موضحًا كيف تبنَّت الصين نموذجًا مختلفًا عن النموذج الغربي في تعاملها مع القارة، ويُفسِّر كيف استطاعت أن تُؤسِّس حضورًا قويًّا وسريعًا في إفريقيا، ليس عبر فرض شروط سياسية أو اقتصادية كما تفعل المؤسسات الغربية، بل من خلال علاقات مباشرة مع الأنظمة والنخب الحاكمة، بعيدًا عن أيّ مساءلة أو شفافية.
في المقابل، يبين الكاتب أن هذا النموذج لم يكن مجرد شراكة اقتصادية، بل تأسيسًا لمنظومة جديدة من التبعية؛ حيث وجدت الأنظمة الإفريقية نفسها مدينة للصين بمليارات الدولارات، مع رهونات مستقبلية على مواردها الطبيعية.
من خلال هذا السرد، لا يُقدِّم “بورجيس” الصين كفاعل استعماري تقليدي، بل كقوة تستغل الثغرات القائمة في نُظُم الحكم الإفريقية لتعزيز نفوذها، مستخدمةً أدوات المال والصداقة بدلاً من المدافع والدبابات. ويشير إلى أن هذا الشكل الجديد من الاستغلال الاقتصادي، رغم أنه يبدو أقل قسوة من الاستعمار التقليدي، إلا أنه لا يقل خطورة في نتائجه النهائية؛ إذ يُرسِّخ أنظمة استبدادية، ويُؤجِّل أيّ احتمال حقيقي لتنمية مستقلة وشاملة للقارة.
في نهاية هذا القسم، يؤكد الكاتب على أن ماكينة النهب في إفريقيا لم تَعُد حكرًا على الغرب، بل إن الصين أصبح لها دور نَشِط ومحوريّ في إدامة نفس المعضلة، ولكن بلغة دبلوماسية ناعمة، وعلاقات شخصية متشابكة، وصفقات مُظلمة خلف الكواليس.
خاتمة: (تفكيك آلة النهب يبدأ من الداخل):
بالرغم من الجهد الكبير الذي قدّمه كتاب “آلة النهب” في تتبُّع خيوط الشبكات المعقَّدة التي تتداخل فيها المصالح المحلية والدولية لنهب الموارد الإفريقية، فإن عمله لا يخلو من بعض التحفظات التي تستدعي التوقُّف عندها بعين نقدية، فالكتاب في سعيه إلى فَضْح البنى التي تنتج الفقر والإقصاء في القارة، يقع أحيانًا في فخّ اختزال إفريقيا في موقع الضحية السلبية؛ حيث تُصوَّر شعوبها كأجساد مُنْهَكة وعاجزة، في مقابل قوى خارجية تتصرّف بفاعلية وهيمنة، وهذا التوصيف، وإن كان نابعًا من نية فَضْح الظلم، فإنه يُغْفِل أو على الأقل يُهمِّش ما يتعلق بمحاولات الرفض من الداخل، كالمبادرات الشعبية، والأصوات الصحفية، والحركات الاجتماعية، التي واجهت منظومات النهب وحاولت كسرت دوائرها المغلقة.
ومن اللافت أيضًا أن التعاطف الذي يُبديه الكاتب مع القارة، لا يمنع من ملاحظة أن المنظور السائد في طرحه هو منظور غربي، يلعب دور المراقب الأخلاقي من الخارج؛ ذاك الذي يُسلِّط الضوء على “الفساد الإفريقي” من موقع الاستكشاف، دون مساءلة كافية لموقعه كجزء من نظام مرتبط بتاريخ الهيمنة والفساد في القارة، وهو أمر يمكن ربطه ولو بشكل جزئي بكون المؤلف بريطاني الجنسية.
لكن رغم ذلك، يُقدِّم الكتاب في مجمله قراءة هامة وجادّة لشبكة الاستغلال والنهب المعقدة التي تتجاوز الصورة النمطية للعدو الخارجي المتربّص، محاولًا الكشف عن شبكة من التواطؤ العميق بين قوى دولية ونُخَب محلية ارتضت أن تكون شريكة في نَهْب ثروات شعوبها، بما يُوضِّح أنها منظومة تقوم على تبادل المصالح وتقاسم الغنائم، لا يمكن فهمها من خلال معادلات الهيمنة التقليدية فحسب.
ويُذكِّرنا هذا في النهاية بمَثل إفريقي عميق الدلالة يقول: “إذا لم يكن هناك عدو في الداخل، فلن يستطيع العدو في الخارج أن يؤذيك”، وهو مَثل يُلامس بعمق مأزق القارة الإفريقية ليُخبرنا أن المعركة الحقيقية من أجل تحرُّر إفريقيا لا يمكن أن تقتصر على مواجهة الخارج المُتغوّل، بل لا بد أن تبدأ أولًا من الداخل، من خلال مراجعة دور النُّخَب الإفريقية التي ساهمت –بشكل مباشر أو غير مباشر– في فتح الطريق لهذا الاستغلال، فالكشف عن شبكة الاستعمار الجديد خطوة مهمة، لكنّ الأهم هو بناء قوة داخلية تحمي الثروات، من خلال توزيع عادل للموارد، وشفافية في إدارة الحكم، ومحاسبة لمَن أساؤوا استخدام سلطتهم باسم السيادة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مصدر الكتاب:
Tom Burgis, The Loathing Machine: Warlords, Oligarchs, Corporations, Smugglers, and the Theft of Africa’s Wealth, (New York: Public Affairs, 2015).