مقدمة:
تُعرف جنوب إفريقيا في أدبيات سباق التسلح النووي بكونها الدولة الوحيدة في القارة السمراء التي حازت القنبلة النوويَّة، وهي أيضًا الدولة التي تمكَّنت من بناء ترسانة نوويَّة، ثم قرَّرت بعد ذلك التخلّي عنها طواعيةً، وهي خطوة لم تُقْدِم عليها أيّ قوة نوويَّة أخرى حتى اليوم.
بدأت جنوب إفريقيا حقبتها النوويَّة في سبعينيَّات القرن الفائت؛ فتَحْت وطأة العزلة والعقوبات الدوليَّة المفروضة عليها مِن قِبَل المُجتمع الدولي نتيجة لاتباعها سياسة الفصل العنصري وتصاعُد وتيرة الصراع المُسلَّح على حدودها؛ بدأت جنوب إفريقيا في تطوير أبحاثها وبرامجها النوويَّة للأغراض العسكريَّة، وهو ما قادها في النهاية إلى إنتاج ست قنابل نوويَّة، قبل أن يُعلن آخر رؤسائها في حقبة الفصل العنصري – فريدريك دي كليرك، في خضم التغيرات الداخليَّة والتحولات العميقة التي عصفت بالنظام الدولي إثر انتهاء الحرب الباردة- إنهاء برنامج بلاده النووي، والتخلص من مخزون الأسلحة النوويَّة لديها، ليعقب ذلك انضمام جنوب إفريقيا إلى مُعاهدة حظر انتشار الأسلحة النوويَّة NPT كدولة غير نوويَّة، ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل تحوَّلت البلاد إلى قوةٍ رائدة في الجهود العالميَّة الرامية إلى مناهضة انتشار أسلحة الدمار الشامل، بما في ذلك الأسلحة النوويَّة، والحدّ من مخاطرها على الاستقرار والأمن الدوليين.
يسعى هذا المقال إلى مناقشة أهم الدوافع التي عزَّزت طموحات جنوب إفريقيا النوويَّة بالرغم من عزلتها الدوليَّة واستمرار الحظر الاقتصادي والعسكري عليها مِن قِبَل الأمم المُتحدة، كما يُسلِّط المقال الضوء على ملامح الإستراتيجية الوطنيَّة للردع النووي التي صاغتها حكومة الفصل العنصري، ثم يُعالج بعد ذلك أهم الأسباب التي يُمكن في ضوئها تفسير قرار بريتوريا تفكيك أسلحتها النوويَّة والانضمام لمُعاهدة حظر الانتشار النووي، ويُختتم المقال بأهم الدروس المُستخلَصة من التجربة النوويَّة القصيرة لجنوب إفريقيا.
طموحات مُحرَّمة: دوافع جنوب إفريقيا النوويَّة
لم تكن طموحات جنوب إفريقيا النوويَّة نابعة من شعورها بالتهديد النووي، كما هو الحال، على سبيل المثال، بالنسبة لباكستان إزاء التهديد النووي الذي تُشكِّله الهند، فجنوب إفريقيا لا توجد في منطقة جيوسياسيَّة حساسة، ولم يكن لديها خصوم نوويون تقليديون، فأقرب الدول الحائزة للسلاح النووي تبعُد عنها آلاف الأميال ولا تُشكِّل خطرًا أو تهديدًا مباشرًا لأمنها؛ إلا أنَّ مسعى بريتوريا لحيازة القنبلة النوويَّة كان يقترن برغبتها في تحقيق جملة من المكاسب؛ من أهمها: توطيد دعائم حكمها داخليًّا، وتعزيز مكانتها كقوة حليفة للغرب. والأهم من ذلك: ردع التهديدات المتصورَّة الناجمة عن التطورات الإقليميَّة خلال سبعينيَّات وثمانينيَّات القرن العشرين.
فعلى الصعيد الداخلي، كانت جنوب إفريقيا، منذ عام 1948م، تحت حكم الحزب الوطني الذي تُهيمن عليه الأقلية البيضاء (الأفريكان)، وهو حزب مُحافظ معارض للشيوعيَّة والقوى الاشتراكيَّة، غير أنه كان يقود نظام الفصل العنصري (الأبارتايد)؛ ويهدف -عبر إضفاء الطابع القانوني والمؤسساتي- إلى تعزيز هيمنة ومصالح الأقلية البيضاء المنحدرة من أصول أوروبيَّة، وإقصاء الأغلبية السوداء وتهميش حقوقها المدنيَّة والسياسيَّة في المُجتمع الجنوب إفريقي.
كان تبني هذا النظام العنصري، في وقتٍ راجت فيه المبادئ والاتفاقيات الدوليَّة المعنية بحقوق الإنسان، وأخذت حركة الحقوق المدنيَّة زخمًا شعبيًّا واسعًا، فضلًا عن تنامي حركات التحرر الوطنيَّة المُناهضة للاستعمار في إفريقيا، وغيرها من بلدان العالم الثالث؛ وهذا ما أثار سخط المُجتمع الدولي ضد حكومة الأقلية البيضاء في جنوب إفريقيا؛ حيث اتجهت كثير من الحكومات إلى قطع علاقاتها الدبلوماسيَّة والاقتصادية معها كوسيلة للضغط عليها للتخلّي عن تلك المُمارسات غير الإنسانيَّة.
بدورها أدانت الأمم المُتحدة سياسة الفصل العنصري، ودعت حكومة الأقلية البيضاء في بريتوريا إلى التخلّي عن هذه السياسات غير الأخلاقيَّة، واتباع نهج أكثر تشاركية وديمقراطية، وأمام تعنُّت جنوب إفريقيا ورفضها الامتثال لدعوات المُجتمع الدولي، دعت الجمعية العامة في أكتوبر 1974م إلى طردها من عضوية الأمم المُتحدة، إلا أنَّ مجلس الأمن فشل في اعتماد القرار بسبب استخدام حق الفيتو مِن قِبَل الولايات المُتحدة وبريطانيا وفرنسا، وعلى إثر ذلك اكتفت الجمعية العامة بتعليق عضويتها في المُنظمة الأممية([1]).
وفي نوفمبر 1977م، دعا مجلس الأمن كافة الدول الأطراف في الأمم المُتحدة إلى إنهاء علاقاتها السياسيَّة والتجاريَّة مع جنوب إفريقيا، وفرض حظر اقتصادي وعسكري عليها، كما تضمن قراره رقم 418 الذي اتخذه المجلس بالإجماع حَظْر واردات السلاح والمُعدات العسكريَّة إلى جنوب إفريقيا حظرًا تامًّا، فتحوَّلت جنوب إفريقيا، نتيجة لذلك، إلى دولةٍ معزولة ومنبوذة دوليًّا.
لم تكن المقاطعة والعزلة الدوليَّة المشكلة الوحيدة التي عانَى منها النظام السياسي في جنوب إفريقيا في هذه المرحلة، فسُرعان ما كشفت التطورات الإقليميَّة عن أزماتٍ أخرى أشد خطورة. فبعد انسحاب البرتغال، كآخر قوة أوروبيَّة، من مستعمراتها في إفريقيا، نالت أنغولا وموزامبيق، على إثر ذلك، استقلالهما عنها عام 1975م، وتمكنت الحركة الشعبيَّة لتحرير أنغولا المدعومة مِن قِبَل الاتحاد السوفييتي والكتلة الاشتراكيَّة من الوصول إلى السُلطة؛ إلا أنَّ القوى السياسيَّة المُعارضة المتمثلة في الجبهة الوطنيَّة لتحرير أنغولا والاتحاد الوطني لاستقلال أنغولا ما لبثت أنْ أعلنت الحرب على النظام السياسي في لواندا، لتندلع بذلك شرارة الحرب الأهليَّة الأنغولية (1975- 1990م)([2])، لكن سرعان ما تم تدويل الصراع وتحوُّله إلى حربٍ بالوكالة بين القطبين العظميين؛ الولايات المُتحدة والاتحاد السوفييتي؛ حيث اصطفت جنوب إفريقيا في هذا الصراع إلى جانب الجبهة الوطنيَّة لتحرير أنغولا، فيما تلقَّت حكومة الحركة الشعبيَّة دعمًا اقتصاديًّا وعسكريًّا مِن قِبَل موسكو، إضافةً إلى دعم عسكري مباشر مِن قِبَل كوبا التي شرعت في إرسال قواتها للقتال مع الحكومة الأنغوليَّة، ومع تطوُّر الصراع نجحت القوات الشيوعيَّة في إجبار القوات الجنوب إفريقية على التراجع والانسحاب من مناطق عملياتها.
شهدت هذه الفترة أيضًا سقوط حكومة الأقلية البيضاء في روديسيا الجنوبيَّة (زيمبابوي حاليًّا) بقيادة إيان سميث Ian Smith، والتي كانت تحظى بدعم حكومة الفصل العنصري في جنوب إفريقيا، ولم يقف الأمر عند هذا الحد؛ حيث زادت القوى الشيوعيَّة في دول الإقليم من دعمها لقوات تحرير ناميبيا -التي استُخدمت أراضيها كنقطة انطلاق للعمليات العسكريَّة في الحرب الأنغوليَّة من قبل جنوب إفريقيا-، وهي فصائل مُسلحة كانت تنادي باستقلال ناميبيا التي وُضعت بعد الحرب العالمية الأولى تحت انتداب ثم وصاية جنوب إفريقيا، لكن هذه الأخيرة رفضت دعوات الأمم المُتحدة وكذلك محكمة العدل الدوليَّة بتقرير مصير الإقليم أسوةً بالأقاليم الأخرى الخاضعة للانتداب.
شكل-1: خريطة توضح موقع جنوب إفريقيا ودول الجوار الجغرافي
أدَّت هذه التطورات الإقليميَّة، فضلًا عن سياسة العزلة والمقاطعة الدوليَّة، إلى تزايد الشعور بالخوف والخطر لدى حكومة الأقلية البيضاء في جنوب إفريقيا، التي رأت أنها مُطوَّقة بحزام مِن قِبَل القوى الشيوعيَّة المُعادية لها؛ حيث كان الاتحاد السوفييتي يرغب في الإطاحة بتلك الحكومة الموالية للغرب واستبدالها بحكومة يساريَّة متحالفة معه، وقد تعزَّزت هذه المخاوف نتيجة التعاون الوثيق بين حزب المؤتمر الوطني الإفريقي، الذي أجبر على الانتقال إلى المنفى منذ عام 1965م، والحزب الشيوعي الجنوب إفريقي والأحزاب الشيوعيَّة الأخرى التي تنشط في دول الجوار، بهدف تكثيف المقاومة والنضال المُسلَّح ضد نظام الأبارتايد وإسقاطه.
وهكذا، رأت حكومة جنوب إفريقيا، المنبوذة دوليًّا، والمُحاصَرة إقليميًّا بالقوى اليساريَّة المُعادية، أنها قد أصبحت عُرضةً لمخاطر مضاعفة؛ لذا كان عليها التحرك لردع تلك التهديدات المتصوَّرة، فكان سبيلها إلى تحقيق ذلك يكمن في توظيف برامجها وأبحاثها النوويَّة للأغراض العسكريَّة بغرض حيازة السلاح النووي؛ باعتباره الضمانة الأمنيَّة الوحيدة لردع أعدائها ومنع تعرُّضها لغزو عسكري وشيك مِن قِبَل القوى الشيوعيَّة، خاصةً بعد أن تراجعت الولايات المُتحدة عن دعمها للصراع الدائر في أنغولا إثر «تعديل كلارك» الذي أقره الكونغرس الأمريكي عام 1976م، وبموجبه بات محظورًا على الحكومة الأمريكيَّة تقديم المُساعدة العسكريَّة لأي طرفٍ في أنغولا.
وثمة عامل آخر، يُمكن الحديث عنه كدافع لطموحات بريتوريا النوويَّة، وهو أنَّ حكومة جنوب إفريقيا كان لديها تصوُّر مؤداه أنَّ امتلاكها للقنبلة النوويَّة قد يُعزّز من دورها عالميًّا، ويُجبر الدول الغربيَّة، بما في ذلك الولايات المُتحدة، على تقديم ضمانات أمنيَّة لها في حال تعرضت لهجوم مِن قِبَل القوى الشيوعيَّة المُحيطة، ومِن ثَمّ فإنَّ أحد أهداف حيازة السلاح النووي كان يتمثل في مُحاولة ابتزاز الغرب الذي ينخرط في صراع أيديولوجي عالمي مع الاتحاد السوفييتي ويطمح إلى موازنة القوة النوويَّة معه.
بلوغ الهدف: حيازة القنبلة وصياغة الإستراتيجية النوويَّة
بدأت الصناعة النوويَّة في جنوب إفريقيا مع تأسيس مجلس الطاقة الذريَّة عام 1948م، وكانت المُهمة الرئيسية للمجلس تتمثل في الإشراف على تنظيم صناعة تعدين اليورانيوم، وبحلول عام 1959م أيَّدت جنوب إفريقيا تطوير صناعة نوويَّة محليَّة، وبدأت خططًا لبناء مفاعل بحثي بالتعاون مع برنامج «الذرة من أجل السلام» وهو برنامج أمريكي؛ بهدف تعزيز الاستخدام السلمي للطاقة النوويَّة([3]). وفي إطار تعزيز الشراكة بين البلدين، زوَّدت الولايات المُتحدة بريتوريا بمُفاعل للأبحاث النوويَّة SAFARI-1، وتولت تدريب علماء جنوب إفريقيين، وأمدت المفاعل باليورانيوم المُخصب كوقودٍ حتى عام 1976م.
ومع تزايد القلق الدولي بشأن الانتشار النووي، توصل المُجتمع الدولي عام 1968م إلى مُعاهدة الحد من اتشار الأسلحة النوويَّة (NPT)، والتي أصبحت نافذة المفعول بعد ثلاث سنوات، وتعهدت بموجبها الدول الأطراف، بما فيها القوى الكبرى، إلى اتخاذ التدابير الفعلية لوقف سباق التسلح النووي والعمل على نزع الأسلحة النوويَّة نزعًا شاملًا وتامًّا تحت إشراف دولي صارم([4]).
ومع ذلك، رفضت حكومة جنوب إفريقيا التوقيع على المُعاهدة، مما أدَّى إلى عزلها بشكل متزايد وتشديد العقوبات الدوليَّة عليها مِن قِبَل الأمم المُتحدة، كما علَّقت واشنطن مساعداتها إليها ومُنع رياضيوها من المُشاركة في الألعاب الأولمبيَّة، إلا أنَّ هذه الضغوط الدوليَّة لم تكن كافية لكبح طموحات جنوب إفريقيا النوويَّة؛ حيث اعتقد قادة البلاد أنَّ تلك العزلة الدوليَّة المفروضة عليهم ترتبط بنظام الفصل العنصري لا بالأنشطة النوويَّة([5]).
بحلول 1978م، دفع تفاقم الأوضاع الإقليميَّة -التي أشرنا إليها في موضع سابق-، حكومة جنوب إفريقيا إلى اتخاذ قرارين؛ أولًا، إنشاء دورة وقود نووي مُستقلة تمامًا لتلبية جميع متطلبات مفاعلاتها البحثية والطاقوية، وبالتالي تحرير نفسها من الاعتماد على دول خارجيَّة موردة غير موثوقة، وثانيًا، المُضي قدمًا في عملية تحول وتوسيع كبيرين لبرنامج الأسلحة النوويَّة، ونقل مسؤولية برنامج الأسلحة من مؤسسة الطاقة الذريَّة (AEC) إلى مؤسسة الأسلحة أرمسكور ARMSCOR، كما اتجهت جنوب إفريقيا إلى إعداد برنامج عمل، تضمن إنتاج عدد من الأسلحة النوويَّة المُجمَّعة بالمدافع مع أنظمة الإطلاق الجوي المرتبطة بها، والقيام بدراسات تتعلق بتقنية الانفجار الداخلي والنووي وأنظمة إطلاق الصواريخ الباليستية طويلة المدى المُصاحبة لها([6]).
وتشير بعض التقارير الأمريكيَّة التي رُفِعَت عنها السرية قبل عدة سنوات إلى أنَّ الاتحاد السوفييتي قد بعث برسالةٍ إلى الولايات المُتحدة تفيد بأنَّ أقمار التجسس السوفييتيَّة قد رصدت دلائل على استعداد جنوب إفريقيا لاختبار أسلحة نوويَّة في موقع بصحراء كالاهاري، وسُرعان ما وجَّه مكتب الاستطلاع الوطني الأمريكي أقمار التجسس لتصوير الموقع؛ حيث اتفق محللو الاستخبارات لاحقًا على أنه مُعَدّ لإجراء تجارب نوويَّة، وفي سبتمبر 1979م، لاحظت الاستخبارات الأمريكيَّة وميضًا غامضًا مُثيرًا للجدل فوق جنوب المُحيط الأطلسي والذي يُعتقد أنه ناجم عن إجراء تجربة نوويَّة، ويُرجح أنَّ جنوب إفريقيا قد طوَّرت وأنتجت بالفعل أول قنبلة نوويَّة لها في هذا التاريخ، وهو ما أكده الرئيس الأسبق “دي كليرك De Klerk” عندما أقرَّ بأنَّ حقبة الأسلحة النوويَّة في بلاده بدأت بحلول نهاية 1979م، واستمرت حتى عام 1990م([7]).
وتثير تجربة جنوب إفريقيا في مضمار الأسلحة النوويَّة، رغم إمكاناتها الاقتصاديَّة والتكنولوجيَّة المحدودة ومعاناتها بسبب العقوبات الدوليَّة؛ الكثير من الشكوك حول تعويلها على قدراتها الوطنيَّة دون وجود دعم خارجي؛ حيث يُعتقد أنَّ إسرائيل قد تعاونت في نقل تكنولوجيا صناعة الأسلحة النوويَّة إليها، بحكم العلاقات الوثيقة آنذاك بين تل أبيب وحكومة الفصل العنصري، بوصفهما حصنين ضد التمدد الشيوعي وتواجهان أخطارًا وتهديدات متشابهة، تمثلت في حزب المؤتمر الوطني المُعارض للحزب الوطني الحاكم في بريتوريا ومنظمة التحرير الفلسطينيَّة المُعادية لإسرائيل، غير أنَّ حكومة جنوب إفريقيا نفت صحة هذه المزاعم، وصرحت بأنها لم تتلقَّ الدعم من أيّ طرف.
جدول زمني لأهم أنشطة البرنامج النووي في جنوب إفريقيا
الجدول من إعداد الباحث بالرجوع إلى:
South Africa refuses to let go of its nuclear explosives, Businesstech, 22 Mar 2015,Available on: https://2u.pw/wqzkL
بحيازتها للسلاح النووي، كان على حكومة جنوب إفريقيا الاضطلاع بمهمة صياغة إستراتيجية وطنيَّة للردع النووي، وقد استندت هذه الإستراتيجية إلى ثلاث مراحل؛ تمثلت المرحلة الأولى في «حالة عدم اليقين الإستراتيجي»، وهي المرحلة التي لا تَعترف خلالها جنوب إفريقيا بقدراتها النوويَّة ولا تُنكرها، أما المرحلة الثانية فتُقِرّ فيها حكومة جنوب إفريقيا سرًّا للقوى الغربيَّة العظمى بامتلاكها أسلحة نوويَّة، وذلك في حال تعرضت أراضيها لتهديد عسكري، وتأتي المرحلة الثالثة في حال فشل الكشف الجزئي عن تقديم المُساعدة والدعم اللازمين لتهدئة الأوضاع، فتُقِرّ جنوب إفريقيا علنًا بقدراتها النوويَّة أو تقوم بإجراء تجارب نوويَّة تحت الأرض([8]).
ومما تجدُر ملاحظته بشأن هذه الإستراتيجية أنها قد وُضعت لحثّ الحكومات الغربيَّة، سيَّما الولايات المُتحدة، على مساعدة جنوب إفريقيا في حال تعرضها لهجوم مُسلح من جانب القوات العسكريَّة للدول المُجاورة المدعومة من الاتحاد السوفييتي، فيما يرى البعض أنَّ هدف جنوب إفريقيا من هذه الإستراتيجية كان إجبار الغرب على تقديم ضمانات نوويَّة لموازنة التهديد السوفييتي في حال تعرَّضت البلاد للهجوم، وبالتالي، فإنَّ إستراتيجية جنوب إفريقيا للردع النووي كانت تنطوي على ما يُمكن تسميته بـ «ابتزاز سياسي» للولايات المُتحدة والقوى الغربيَّة الأخرى؛ لدفعها إلى التقارب مع حكومة بريتوريا ودعمها في صراعها مع دول الجوار([9]).
نهاية الحقبة النوويَّة: لماذا تخلت جنوب إفريقيا عن سلاحها النووي؟
بعد توليه المنصب بفترة وجيزة، أصدر الرئيس فريدريك دي كليرك (1989- 1994م) وهو آخر رئيس لجنوب إفريقيا في حقبة الفصل العنصري، توجيهاته بتفكيك أسلحة الردع النووي بالكامل تمهيدًا لإعلان بلاده دولة خالية تمامًا من القدرات النوويَّة، ونتيجة للعوامل السياسيَّة الداخليَّة والخارجيَّة السائدة وقتها، تقرَّر عدم الإفصاح عن قدرات جنوب إفريقيا النوويَّة السابقة قبل انضمامها إلى مُعاهدة حظر الانتشار النووي؛ لذلك اعتبر مشروع التفكيك حينها على أنه سري للغاية([10]). وفور التخلص من ترسانتها النوويَّة، شرعت جنوب إفريقيا، بحلول 1991م، في الانضمام إلى مُعاهدة حظر انتشار الأسلحة النوويَّة باعتبارها دولة غير حائزة للسلاح النووي، ثم توقيعها اتفاقية الضمانات الشاملة مع الوكالة الدوليَّة للطاقة الذريَّة.
وفي خطابه أمام برلمان جنوب إفريقيا، في مارس 1993م، أعلن الرئيس دي كليرك، أنَّ بلاده قد فكَّكت، ابتداءً من عام 1990م، ستة أسلحة نوويَّة محلية الصنع، كما أقرَّ دي كليرك بأنَّ حقبة الأسلحة النوويَّة في جنوب إفريقيا امتدت من نوفمبر 1979م، عندما اكتمل تصنيع النموذج الأولي للجهاز النووي المتفجر، إلى فبراير 1990م، مؤكدًا أنَّ جميع الأسلحة الستة، إضافةً إلى سلاح سابع غير مُكتمل، قد فُكِّكت قبيل انضمام بلاده إلى مُعاهدة حظر الانتشار النووي([11]).
وبحلول عام 1994م أكدت الوكالة الدوليَّة للطاقة الذريَّة تفكيك جميع الأسلحة النوويَّة التي كانت بحوزة جنوب إفريقيا، ومنذ ذلك الحين، أصبحت جنوب إفريقيا قوةً رائدةً ومؤثرة في الجهود الدوليَّة الرامية إلى مناهضة الانتشار النووي وإيجاد عالم خالٍ من الأسلحة النوويَّة، وفي 1996م، انضمت جنوب إفريقيا إلى دول إفريقية أخرى في إعلان قارة إفريقيا منطقة خالية من الأسلحة النوويَّة من خلال معاهدة بليندابا Treaty of Pelindaba، التي سُميت بذلك نسبةً إلى منشأة قديمة للأبحاث في جنوب إفريقيا([12]).
ولا شك أنَّ هناك العديد من العوامل والأسباب التي تقف وراء القرار المُفاجئ الذي اتخذته حكومة جنوب إفريقيا بتفكيك ترسانتها من الأسلحة النوويَّة وإغلاق منشآتها النوويَّة بشكل تام، ونعرض فيما يلي لأهم الأسباب والحجج التي يُمكن أن تُقدِّم تفسيرًا علميًّا ومنطقيًّا لهذا القرار الذي شكَّل سابقةً في تاريخ القوى النوويَّة.
أولًا– كان لانتهاء الحرب في أنغولا وتوقيع اتفاق السلام الذي رعته الأمم المُتحدة، والتزام جميع جيران جنوب إفريقيا بالتوقيع على مُعاهدة عدم انتشار الأسلحة النوويَّة؛ دور مهمّ في تقليل تصورات جنوب إفريقيا للتهديدات المُحتملة، ومِن ثَمَّ تحفيزها على التخلي عن الأسلحة النوويَّة كونها أصبحت بلا جدوى([13]). فبحلول أغسطس 1988م، توصَّلت حكومات جنوب إفريقيا وأنغولا وكوبا إلى وقفٍ فِعْلي لإطلاق النار، أعقبه انسحاب قوات جنوب إفريقيا من كافة الأراضي الأنغوليَّة بحلول سبتمبر من العام نفسه، تلا ذلك توقيع اتفاقية بين الدول الثلاث قضت باستقلال ناميبيا وانسحاب 50 ألف جندي كوبي من أنغولا، وهو ما كان يعني عمليًّا نهاية الصراع وحرب الحدود في إفريقيا الجنوبيَّة([14]).
ثانيًا– أدَّى انهيار جدار برلين أواخر عام 1989م إلى نهاية الحرب الباردة، وبالتالي تراجع التهديد السوفييتي في جنوب إفريقيا؛ حيث عزَّزت قيادة الرئيس السوفييتي ميخائيل غورباتشوف تصورًا لدى حكومة جنوب إفريقيا بأنَّ موسكو لم تَعُد تُشكّل التهديد الذي كانت تُمثله سابقًا، علاوةً على ذلك، حاول غورباتشوف تخفيف الانطباع السائد لدى حكومة الأقلية البيضاء في جنوب إفريقيا بأنَّ بلاده تقف وراء جميع المشاريع الإمبرياليَّة في جنوب إفريقيا، وبالتالي تُشكِّل تهديدًا كبيرًا لأمنها([15]). ومِن ثَم فإنَّ تخلّي جنوب إفريقيا عن أسلحتها النوويَّة يُمكن تفسيره على أنه استجابة منها لانخفاض التهديد المتصوّر لأمنها القومي.
ثالثًا– كان للمُفاوضات والمُصالحة السياسيَّة التي شهدتها جنوب إفريقيا، ابتداءً من عام 1990م، بين الحزب الوطني الحاكم وحزب المؤتمر الوطني المُعارض، وما أدَّت إليه من تغيير جذري “سلمي” تمثل في سقوط حكومة الأقلية البيضاء وانهيار نظام الفصل العنصري بعد أكثر من نصف قرن وصعود حكومة الأغلبية، كان لها انعكاس واضح على تفكير صُنّاع القرار ورؤيتهم لمستقبل الدولة، فالعقوبات الدوليَّة كانت قد ألحقت ضررًا بالغًا باقتصاد البلاد، ولتجاوز هذه المرحلة كان على جنوب إفريقيا أنْ تنخرط في منظومة الاقتصاد العالمي، وأن تطبع علاقاتها مع المُجتمع الدولي عوضًا عن التصادم معه، فكان التصور السياسي حينها أنَّ الأسلحة النوويَّة وإن كانت أداةً للردع والحماية في الماضي، قد تُصبح عائقًا أمام الانفتاح وتعزيز فرص التنمية في حاضر البلاد ومستقبلها.
رابعًا– ثمة حجة أخرى يسوقها بعض المحللين لتفسير تخلّي جنوب إفريقيا الطوعي عن ترسانتها النوويَّة، تتمثل تلك الحجة في أنَّ حكومة الحزب الوطني، ومع تزايد شعورها بعدم قدرتها على الاستمرار في سياسة الفصل العنصري أمام تصاعد نفوذ حزب المؤتمر الوطني وعجزها عن مواجهته، قد تخوَّفت من إساءة استخدام الترسانة النوويَّة مِن قِبَل حكومة ذات أغلبية سوداء، ويُعضد أنصار هذه الحجة موقفهم بأنَّ الولايات المتحدة، بدورها، كانت تتخوَّف من أنَّ الانتقال إلى نظام بقيادة حزب المؤتمر الوطني الإفريقي قد يُعزِّز ظاهرة الانتشار النووي؛ لذا مارست واشنطن ضغوطًا كبيرةً على مسؤولي حكومة الفصل العنصري بين عامي 1987 و1989م، بهدف التخلص من مخزونهم من الأسلحة النوويَّة، وهو ما تحقق في نهاية الأمر برضوخهم لمطالبها([16]).
خاتمة: الدروس المُستفادة
على ضوء ما تم عرضه في هذا المقال، يُمكن القول: إنَّ التجربة النوويَّة التي خاضتها جنوب إفريقيا يُمكن أنْ تقدم لنا الكثير من الدروس التي ينبغي الإحاطة بها جيدًا في تعامل المُجتمع الدولي والقوى الفاعلة فيه مع الجهات والأطراف التي تتملكها نزعة قوية في حيازة السلاح النووي، ولعل أهم درسين يُمكن استخلاصهما والوقوف عليهما يتمثلان فيما يلي:
أولًا، إنَّ حيازة جنوب إفريقيا لقنبلة نوويَّة جاهزة ومُعَدَّة للاستخدام الميداني في غضون عدة سنوات، رغم العزلة الإجباريَّة والعقوبات الدوليَّة المُشددة، وعلى الرغم مما تحتاجه الأنشطة والبرامج النوويَّة العسكريَّة من تقنيات معقدة وتكنولوجيا متطورة للغاية؛ هذا الأمر يستوجب تطوير آليات دوليَّة أكثر فعالية لرصد ومراقبة عمليات النقل المُحتملة لتلك التكنولوجيا النوويَّة عبر الحدود السياسيَّة المفتوحة، تحسبًا لامتلاكها مِن قِبَل دول هشَّة أو كيانات مسلحة غير دوليَّة قد لا تتوانى عن التهديد بها لخدمة أهدافها المتطرفة.
أما الدرس الثاني، فيتعلق بالفعالية المرجوة من تطبيق العقوبات الدوليَّة على دولة معينة يرغب المُجتمع الدولي في تغيير سلوكها وإجبارها على الإذعان لمطالبه بشأن أنشطتها النوويَّة، وتوضّح تجربة جنوب إفريقيا أنَّ العقوبات الدوليَّة قد تكون عديمة الجدوى، وتتسبب فقط في معاناة الشعوب وتزيد من تصلب وديكتاتورية النظام الحاكم المُستهدف بالعقوبات، بل إنها قد تأتي بنتائج معاكسة تتمثل في دفع هذا النظام وتحفيزه على تسريع وتيرة برامج الأسلحة النوويَّة، وبالتالي من الضروري أحيانًا رفع العقوبات، أو تخفيفها جزئيًّا، وتفعيل خيار الدبلوماسية والمُفاوضات بما يتيح فهمًا أوسع لنوايا الدولة المعنية بالعقوبات، وربما إزالة مخاوفها الأمنيَّة في نهاية المطاف.
……………………………………………………………
([1]) هشام قدري، الدائمون الخمسة: مجلس الأمن بين هيمنة القوى الكبرى وفرص الإصلاح (القاهرة، دار الفجر للنشر والتوزيع، 2025م)، ص71.
([2]) علي صبح، العلاقات الدوليَّة: النزاعات الإقليميَّة في نصف قرن 1945- 1995م، ط2 (بيروت، دار المنهل اللبناني، 2006م)، ص225.
([3]) Ximena Vásquez, Matthew Richards, and Jade Konig, Latest Plans to Increase Nuclear Energy in South Africa, Published in 20 March 2024, Available on: https://2u.pw/rwhla
([4]) روبرت هندي، وجوزيف رتبلات، أوقفوا الحرب: إزالة النزاع في العصر النووي (بيروت، شركة الحوار الثقافي، 2005م)، ص210.
([5]) South Africa: Why Countries Acquire and Abandon Nuclear Bombs, Council on Foreign Relations, Published in 27 July, 2023, Available on: https://2u.pw/PbHwe
([6]) Frank V. Pabian , South Africa’s Nuclear Weapons Program: Lessons for U.S. Nonproliferation Policy, The Nonproliferation Review, 1995, PP. 5-6. Available on: https://2u.pw/NVDqy
([7]) Proliferation Watch: U.S. Intelligence Assessments of Potential Nuclear Powers, 1977-2001, National Security Archive, Published in 16 December, 2013, Available on: https://2u.pw/nLdyN
([8]) Ruchita Beri, South Africa’s Nuclear Policy, Strategic Analysis, A Monthly Journal of the IDSA, Published in October 1998, Available on: https://2u.pw/voBAi
([9]) David Albright, South Africa’s Secret Nuclear Weapons, ISIS report, May 1994, Available on: https://2u.pw/cNjbf
([10]) South Africa’s Nuclear Weapons Program: Putting Down the Sword, Published in 7 September 2001, Available on: https://2u.pw/vBEGG
([11]) Frank V. Pabian, Op. cit, P. 1.
([12]) South Africa: from nuclear armed state to disarmament hero, ICAN website, Published in 25 February, 2019, Available on: https://2u.pw/S0EVT
([13]) William Bittner, Lessons from South Africa: A New Strategy for Iran’s Nuclear Threat, Center for Arms Control and Non- Proliferation, Published in 7 January, 2025, Available on: https://2u.pw/kkFAV
([14]) David Albright, and Andrea Stricker, Revisiting South Africa’s Nuclear Weapons Program: Its History, Dismantling, and Lessons for Today (Institute for Science and International Security, Washington D.C, 2016), P. 183.
([16]) Maria Babbage, White Elephants: Why South Africa Gave up the Bomb and the Implications for Nonproliferation Policy, Journal of Public and International Affairs, Volume 15, 2004, P. 12. Available on: https://2u.pw/rPoeO