د. مصطفى عيد إبراهيم
خبير الشؤون الدولية
تمهيد:
جاء الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في فترة رئاسته الثانية مستهدفًا الأساس الذي بُنيت عليه التجارة الدولية منذ اتفاق “هافانا”، والذي وقَّعته نحو 53 دولة، ولم تُوقّع عليه الولايات المتحدة حينئذ، ثم أخذت الولايات المتحدة الجزء المتعلق منه بحُرّية التجارة لتدشين الاتفاقيات العامة للتجارة والتعريفة الجمركية (الجات) في 1947م، والتي تطوَّرت عبر عدة جولات تفاوضية بعد إضافة الخدمات حتى وصلت إلى تأسيس منظمة التجارة العالمية في عام 1995م.
وعلى الرغم من رعاية الولايات المتحدة للنظام التجاري العالمي منذ نشأة “الجات”، وحتى نهاية فترة الرئيس الأمريكي بايدن، واستفادتها من هذا النظام، وسيطرتها وهيمنة عملتها على المبادلات التجارية وأدوات الدفع، وما تلا ذلك من فصل علاقة الدولار بالذهب في 1971م؛ إلا أن الرئيس الأمريكي ترامب له سياسة مختلفة تقوم على أُسُس مغايرة لما دأبت عليه الإدارات الأمريكية المختلفة بعد الحرب العالمية الثانية؛ حيث يرى ضرورة الربط ما بين التجارة والأمن، ولا حماية أمريكية دون ثمن، وإلغاء ظاهرة “الراكب المجاني” حتى مع أقرب حلفاء الولايات المتحدة الأمريكية، وتعديل أُسس التجارة التي يرى أن دول العالم قد استفادت من الولايات المتحدة أكثر مما استفادت الولايات المتحدة ذاتها، وبدأ في فرض رسوم جمركية على دول العالم بنِسَب مختلفة، بما يشمل دول القارة الإفريقية، ومنها دولة جنوب إفريقيا، وهو ما سوف نستعرضه عبر السطور التالية.
الإدارات الأمريكية وإفريقيا:
شجّعت الإدارات الأمريكية السابقة الصادرات من الدول الإفريقية من خلال “قانون النمو والفرص في إفريقيا” (AGOA)؛ كوسيلة لدعم التنمية الاقتصادية في إفريقيا، وتم تمديد قانون النمو والفرص في إفريقيا عدة مرات حتى عام 2025م، وهو القانون الذي يمنح البلدان الإفريقية إعفاءً جمركيًّا لحوالي 6500- 7000 مُنتَج إلى الولايات المتحدة، وفي فترة جائحة كورونا، تم منح أكثر من 50 مليون جرعة من لقاحات فيروس كورونا إلى 43 دولة إفريقية؛ لمساعدة دول القارة على مواجهة تداعيات الجائحة التي اندلعت في 2020م، وتجدر الإشارة إلى أن العديد من الدول الإفريقية تُصدِّر معادنها ونفطها إلى الولايات المتحدة.([1])
ووفقًا لأحدث تقرير صادر عن مكتب الممثل التجاري الأمريكي (USTR)، فقد بلغ إجمالي واردات الولايات المتحدة (صادرات إفريقية بما يشمل صادرات قانون أجوا) بموجب قانون النمو والفرص([2]) في إفريقيا 9.7 مليار دولار أمريكي في عام 2023م. وكانت أهم الواردات: النفط الخام (4.2 مليار دولار أمريكي)، والملابس (1.1 مليار دولار أمريكي)، والزراعة (أكثر من 900 مليون دولار أمريكي).([3])
ولقد بلغت واردات الولايات المتحدة من دول قانون النمو والفرص في إفريقيا ذروتها في عام 2008م؛ حيث بلغت الواردات الأمريكية نحو 86 مليار دولار. ولكن على مدى السنوات الخمس الماضية الأخيرة، انخفضت قيمة الواردات الأمريكية بحيث بلغ متوسطها 26 مليار دولار سنويًّا.
ولقد كان أحد العوامل الرئيسية في هذا الانخفاض هو تقلُّب أسعار النفط، الذي يُشكّل الجزء الأكبر من الواردات الأمريكية، والتي وصلت إلى مستوى قياسي بلغ 147.50 دولارًا للبرميل في عام 2008م. وقد تضاءل هذا الارتباط بين أسعار النفط وحجم التجارة في السنوات الأخيرة مع تحوُّل تكوين هيكل صادرات دول قانون النمو والفرص في إفريقيا؛ خاصةً في ظل شكاوى المنتجين والمُصدّرين الأمريكيين، مثلما حدث في صادرات رواندا من المنسوجات.
ولقد أظهر تقييم أجرته مؤسسة بروكينجز لقانون النمو والفرص في إفريقيا في عام 2024م أن صادرات غير النفط الخام إلى الولايات المتحدة زادت بنسبة 241% بين عامي 2001 و2022م، بينما انخفضت صادرات النفط بنسبة 50%. وتوقَّع التقرير أن تصبح إفريقيا مركز التصنيع التالي في العالم مع الارتفاع التدريجي لتكلفة العمالة في الصين. ويُقدّر معهد بروكينجز أن الإنفاق الصناعي في إفريقيا سينمو بأكثر من 50 في المائة، ليصل إلى أكثر من 660 مليار دولار بحلول عام 2030م.
وفي عام 2021م، بدأت 54 دولة من أصل 55 دولة إفريقية تفعيل “منطقة التجارة الحرة القارية الإفريقية”، وهي اتفاقية تجارة حرة تلغي التعريفات الجمركية على 90 في المائة من السلع، مما يُتيح التدفق الحُرّ للمواد الخام الضرورية للتصنيع. وهو الأمر الذي جعل الولايات المتحدة الأمريكية تراجع سياستها وإستراتيجيتها خاصة تجاه القارة الإفريقية في عهد الرئيس الأمريكي السابق بايدن، والتي سبق وأن أوكلت معظم ملفات القارة للدول الأوروبية ذات العلاقة الاستعمارية بالعديد من الدول الإفريقية.
ولعل إعلان الانسحاب العسكري الفرنسي من مالي ومن بعده النيجر وإفريقيا الوسطي، خير شاهد على عدم قدرة تلك الدول على ملء الفراغ الإستراتيجي بالقارة الإفريقية من ناحية، ومن ناحية أخرى يزداد الوجود الروسي والصيني على نحوٍ يُهدِّد المصالح الإستراتيجية الأمريكية في القارة الإفريقية، وهو الأمر الذي استدعى قيام مسؤولين أمريكيين كبار مثل وزير الخارجية الأمريكي السابق بلينكن، بزيارات متعددة للدول الإفريقية، وعقد قمة أمريكية إفريقية. كما قدَّم وزير الخارجية الأمريكي إستراتيجية إدارة بايدن لإفريقيا. وتبرز إستراتيجية الولايات المتحدة في إفريقيا كجهد مفصل في لحظة عملت فيها الإدارة الأمريكية حينئذ على تجديد العلاقات الأمريكية في جميع أنحاء العالم، وهو ما أكَّد عليه بلينكن مرة أخرى في إستراتيجية الولايات المتحدة للتجديد، والتي أوضحها وزير الخارجية الأمريكي في مجلة فورين أفيرز في الأول من أكتوبر 2024، وتأكيده على مساعدة الدول الإفريقية على تحقيق الأمن الغذائي والصحي، والمساعدة في مواجهة تغير المناخ وغيرها من المجالات التنموي([4]).
إلا أن هذا الأمر لم يستمر كثيرًا؛ حيث بدأ الرئيس ترامب، بمجرد وصوله إلى البيت الأبيض في فترة رئاسته الثانية في وضع أُسس جديدة مفادها الأمن مقابل التجارة وفرض الرسوم الجمركية لإصلاح العجز التجاري الأمريكي مع دول العالم المختلفة، ومن خلال فرض رسوم جمركية بمعدلات مختلفة على دول العالم، ومنها دولة جنوب إفريقيا. لذا من المرجح أن يُواجه المواطن الجنوب إفريقي العادي بيئة استهلاكية صعبة بشكل متزايد في الفترات المقبلة، نتيجة التضخم، واحتمالية زيادة ضريبة القيمة المضافة بنصف نقطة مئوية، وفرض رسوم جمركية بنسبة 30% على مجموعة من صادرات جنوب إفريقيا إلى الولايات المتحدة الأمريكية، والتي أُعلن عنها مؤخرًا.
النمو الاقتصادي لجنوب إفريقيا:
لقد قطعت جنوب إفريقيا شوطًا كبيرًا في تحسين رفاهية مواطنيها منذ انتقالها إلى الديمقراطية في منتصف التسعينيات، فلقد انخفضت نسبة السكان الذين يعيشون تحت خط الفقر في البلدان ذات الدخل المتوسط الأعلى من 68% إلى 56% بين عامي 2005 و2010م، لكنها شهدت منذ ذلك الحين ارتفاعًا طفيفًا لتصل إلى 57% في عام 2015م، وفقًا للبنك الدولي فإن اقتصاد جنوب إفريقيا قد شهد ركودًا خلال العقد الماضي لأسباب عدة، ومنها سيطرة حزب المؤتمر، وحدوث ترهلات في القطاع العام وزيادة وتيرة الفساد؛ حيث لم يتجاوز متوسط نمو الناتج المحلي الإجمالي 0.7% خلال فترة العشر سنوات.
وعانى الاقتصاد الجنوب إفريقي من إشكاليات في البنية التحتية، وضعف بيئة الأعمال وانخفاض الإنتاجية والنمو الاقتصادي. كما أعاق نقص إمدادات الكهرباء نمو جنوب إفريقيا بشكل خاص لعدة سنوات. وقد بدأ تطبيق نظام انقطاع التيار الكهربائي المجدول (تخفيف الأحمال) في عام 2007م، واشتدت حدته في الفترة 2022-2023م. ورغم حدوث انقطاعات قصيرة الأمد في عام 2025م، فقد تحسنت إمدادات الطاقة بشكل كبير منذ أواخر مارس 2024م. ويُعزَى هذا التحسن في إمدادات الكهرباء إلى الإدارة الأفضل لشركة الكهرباء الوطنية “إسكوم”، والدعم السياسي رفيع المستوى من الرئيس ووزير الكهرباء. وقد شجَّع فتح سوق الكهرباء أمام شركات توليد الطاقة الخاصة على زيادة الاستثمار في هذا القطاع([5]).
واستمر انتعاش التوظيف في عام 2024م؛ حيث أُضيفت 355,000 وظيفة جديدة لسوق العمل، مما أدى إلى ارتفاع مستوى التوظيف. إلا أن وتيرة خلق فرص العمل لم تُواكب نمو القوى العاملة، مما أدى إلى ارتفاع عدد العاطلين عن العمل؛ حيث بلغ معدل البطالة 31.9% في الربع الرابع من عام 2024م، مع تأثر النساء والشباب بشكل أكبر. لا يزال عدم المساواة من بين أعلى المعدلات في العالم، وقُدِّرت نسبة الفقر بنحو 63% في عام 2023م، ولقد مددت الحكومة منحة الإغاثة الاجتماعية من أزمة كوفيد-19، التي قُدِّمت في مايو 2020م، لمدة عام آخر حتى مارس 2026م، بتخصيص ميزانية قدرها 259.3 مليار راند. وقد تُعرِّض هذه المطالبات الاجتماعية المتزايدة للدعم الحكومي استدامة المالية العامة للخطر في حال استمرارها([6]).
العلاقات التجارية الثنائية:
وقّعت الولايات المتحدة وجنوب إفريقيا اتفاقية إطارية للتجارة والاستثمار (TIFA) عام 2012، وهي تعديل وتطوير لاتفاقية إطارية بين الولايات المتحدة وجنوب إفريقيا وُقِّعت أصلاً عام 1999 بالإضافة إلى ذلك، وقّعت الولايات المتحدة والاتحاد الجمركي لجنوب إفريقيا (SACU)، الذي يضم جنوب إفريقيا، اتفاقية تعاون في التجارة والاستثمار والتنمية (TIDCA) عام 2008. تُشكّل هذه الاتفاقية منتدًى للمناقشات التشاورية، والعمل التعاوني، والاتفاقيات المحتملة بشأن مجموعة واسعة من قضايا التجارة، مع التركيز بشكل خاص على الجمارك وتسهيل التجارة، والحواجز الفنية أمام التجارة، وتدابير الصحة والصحة النباتية (SPS)، وتشجيع التجارة والاستثمار([7]).
ووفقًا لبيانات مكتب الممثل التجاري الأمريكي، فقد بلغ إجمالي تجارة السلع الأمريكية مع جنوب إفريقيا 20.5 مليار دولار أمريكي في عام 2024م. وبلغت صادرات السلع الأمريكية إلى جنوب إفريقيا 5.8 مليار دولار أمريكي في عام 2024م، بانخفاضٍ قدره 18.3% (1.3 مليار دولار أمريكي) عن عام 2023م. وبلغت واردات السلع الأمريكية من جنوب إفريقيا 14.7 مليار دولار أمريكي في عام 2024م، بزيادة قدرها 4.9% (679.4 مليون دولار أمريكي) عن عام 2023م. وبلغ عجز تجارة السلع الأمريكية مع جنوب إفريقيا 8.8 مليار دولار أمريكي في عام 2024م، بزيادة قدرها 29% (2 مليار دولار أمريكي) عن عام 2023م([8]).
وعلى نحو عام، تتمتع دولة جنوب إفريقيا بفائض تجاري مع الولايات المتحدة، لكنها تعاني من عجز تجاري مع الصين والاتحاد الأوروبي ومختلف الدول المُصدِّرة للنفط. ويُمثّل الطلب الأمريكي على المعادن معظم عجز جنوب إفريقيا التجاري مع الولايات المتحدة. وإذا استُبعدت المواد الخام المعفاة من الرسوم الجمركية الجديدة من تجارة جنوب إفريقيا مع الولايات المتحدة، فإن فائضها التجاري مع الولايات المتحدة سينخفض بمقدار الثلث. وتفترض صيغة مكتب الممثل التجاري الأمريكي أن النسبة المئوية للزيادة في الرسوم الجمركية ستُترجم بدقة إلى النسبة المئوية الناتجة عن الانخفاض في الواردات الأمريكية.
ويستمدّ تقرير مكتب الممثل التجاري الأمريكي صيغته من تقديرات فضفاضة وغير مُدعّمة إطلاقًا لمرونة الطلب السعرية على الواردات في الولايات المتحدة وحصة التعريفة الجمركية التي تُمرّر إلى المستهلكين الأمريكيين، ويتجاهل مكتب الممثل التجاري الأمريكي الخدمات، مُركّزًا فقط على تجارة السلع؛ حيث تعاني جنوب إفريقيا من عجز في تجارة الخدمات مع الولايات المتحدة. ومِن ثَم، فإنه لو أُدرجت الخدمات في صيغة مكتب الممثل التجاري الأمريكي، لبلغت التعريفة الجمركية المفروضة على جنوب إفريقيا 21٪ نظريًّا. ووفقًا لمكتب الممثل التجاري الأمريكي (USTR)، فقد صممت التعريفات الجمركية على كل شريك تجاري للولايات المتحدة، بما في ذلك جنوب إفريقيا، من خلال حساب عجز الولايات المتحدة في تجارة السلع مع جنوب إفريقيا كنسبة مئوية من صادراتها السلعية إلى الولايات المتحدة. ثم حددت التعريفة الجمركية بنصف النسبة المئوية الناتجة، على ما يبدو لأن التعريفات الجمركية التي تنطوي عليها منهجيتها الفعلية ستتجاوز في كثير من الحالات 50%. بالنسبة لجنوب إفريقيا، من المحتمل أن يصل الرقم ليكون نحو 60٪ عمليًّا وتطبيقيًّا.
على صعيد آخر، فإن تأثير الرسوم الجمركية على ارتفاع الأسعار للسلع الاستهلاكية والرأسمالية في السوق الداخلي، سوف يُولّد ضغطًا اقتصاديًّا على العملة الوطنية “الراند”، ويمثل ضغطًا إضافيًّا بجانب الضغط السياسي في البلاد؛ حيث زاد عدم الاستقرار الأخير في حكومة الوحدة الوطنية من ضعف العملة الوطنية لجنوب إفريقيا “الراند” وتداعياته على التضخم المستورد الذي يتأثر بشدة من عمليات البيع الأخيرة في أسواق الأسهم العالمية، وتذبذب الأسعار ما بين الانخفاض والارتفاع، مما يُوضّح تأثير فرض الرسوم الجمركية على التضخم والاستهلاك. خاصةً أنه من المُرجّح أن ينمو الدخل بوتيرة أبطأ من تضخم أسعار السلع، وإذا طُبِّقت الرسوم الجمركية، فإنها ستؤدي إلى تآكل متزايد في القدرة على الاستهلاك، وقد يؤدي هذا إلى مشكلات في ربحية الشركات بسبب الضغوط على الإيرادات وارتفاع التكاليف، مما قد يُشعل فتيل مشكلة البطالة.
ولقد بررت الولايات المتحدة منهجيتها في فرض الرسوم الجمركية، التي طبقتها على جميع شركائها التجاريين، بافتراضات على النحو التالي([9]): إن أيّ عجز تجاري بين بلدين يجب أن ينتج عن التعريفات الجمركية أو الحواجز غير الجمركية. لكن الأمر مختلف في الواقع؛ حيث تحقق الدول فوائض وعجزًا مع دول مختلفة بناءً على طلبها في السوق، وقدرتها على توريد سلع معينة، وليس بسبب الحواجز التجارية. ومِن ثَم فإن وضع جنوب إفريقيا قد يتفاقم بسبب تعليق العمل بقانون النمو والفرص في إفريقيا (AGOA)، وفرض رسوم جمركية. خاصةً وأن فرض الرسوم الجمركية يعني تعليقًا “ضمنيًّا” لقانون .AGOA
كما أنه من المتوقع أن يكون لهذا عواقب وخيمة على الشركات في جنوب إفريقيا في قطاعات الرسوم الجمركية المستهدَفة مثل الزراعة والسيارات، كما سيؤثر سلبًا على ديناميكيات التوظيف؛ حيث يتجاوز معدل البطالة بالفعل 30%. ومما يثير القلق بشكل خاص كيفية تأثير هذه الرسوم الجمركية المستهدفة على بطالة الشباب في هذه القطاعات.
هيكل التجارة الثنائية:
تُشكِّل المعادن الأساسية، مثل معادن مجموعة البلاتين والمنجنيز، حوالي 76% من صادرات جنوب إفريقيا إلى الولايات المتحدة، وبالتالي، يُفترض أن تكون جنوب إفريقيا بمنأى نسبيًّا عن الإجراءات السياسية الأمريكية. ومع ذلك، لا يزال التأثير السلبي للتعريفات الجمركية على النشاط الاقتصادي العالمي يؤثر على إجمالي صادرات جنوب إفريقيا من خلال آثار غير مباشرة أو ثانوية.([10])
حيث تُصدّر جنوب إفريقيا 7% من صادراتها إلى الولايات المتحدة، وهو ما يُمثّل 0.25% (ربع بالمائة) من إجمالي واردات الولايات المتحدة الأمريكية. ويتكوّن حوالي ثلاثة أرباع صادرات جنوب إفريقيا إلى الولايات المتحدة من منتجات التعدين، بما في ذلك الفولاذ والمحوّلات الحفازة التي تستخدم البلاتين. وتُشكّل السيارات النسبة السابعة. وتُعفى معادن مجموعة البلاتين والتيتانيوم وبعض سبائك الحديد من الرسوم الجمركية([11]). ونتيجةً لذلك، لا تُغطّي الرسوم الجمركية حوالي 37% من إجمالي صادرات جنوب إفريقيا إلى الولايات المتحدة. ويُعفَى الحديد والصلب من الرسوم الجمركية المفروضة على جنوب إفريقيا، ولكنه يُواجه رسومًا جمركية بنسبة 25- 30% على جميع واردات الحديد والصلب الأمريكية.
ومع أن الصناعات المتأثرة بالرسوم الجمركية الأمريكية ليست من بين القطاعات الرئيسية المُوظّفة، إلا أنها تُمثّل مصادر مهمة لإيرادات التصدير لجنوب إفريقيا. علاوةً على ذلك، تُعدّ صناعة السيارات المُصدّر الرئيسي الوحيد للمنتجات المُصنّعة في جنوب إفريقيا. وفي عام 2024م، اشترت الولايات المتحدة حوالي ربع صادرات جنوب إفريقيا من السيارات والألمنيوم الخام، وحوالي 90% من صادرات جنوب إفريقيا من الذهب والمجوهرات. كما استوردت حوالي ربع صادرات جنوب إفريقيا من معادن مجموعة البلاتين والتيتانيوم. في المقابل، شكَّلت أقل من عُشر صادرات جنوب إفريقيا من سبائك الحديد([12]).
أما عن واردات جنوب إفريقيا من الولايات المتحدة؛ فتتوزع على مجموعة واسعة من المنتجات؛ معظمها البنزين والسيارات والطائرات ومكوناتها، وأجهزة الكمبيوتر، وغيرها من الآلات والمعدات. وتُصدّر الولايات المتحدة نصف واردات جنوب إفريقيا من الطائرات ومكوناتها؛ وخُمس المعدات الدقيقة؛ وسُبع المنتجات الكيميائية؛ وعُشر كل من الأدوية والآلات والمعدات، بما في ذلك أجهزة الكمبيوتر. وتُصدّر أقل من 10% من واردات جنوب إفريقيا من تكنولوجيا المعلومات والاتصالات والسيارات والمنتجات البترولية. كما تُعدّ المواد المطبوعة من الواردات الرئيسية لجنوب إفريقيا من الولايات المتحدة الأمريكية، وتتألف بشكل أساسي من النقود الورقية والطوابع، والتي يبدو أن معظمها يُعاد تصديره.
تفاعلات البيئة السياسية الداخلية:
أفادت صحيفة صنداي تايمز أن حزب المؤتمر الوطني الإفريقي من المرجّح أن يتخلى عن إصراره على زيادة ضريبة القيمة المضافة في ميزانية هذا العام، بعد مؤشرات على أن أيًّا من الأحزاب التي كان يتفاوض معها لن يدعمها. ويُشار إلى أن حزب المؤتمر الوطني الإفريقي قد اختلف مع شريكه الرئيسي في الائتلاف، التحالف الديمقراطي، بشأن مقترح الميزانية برفع ضريبة القيمة المضافة بمقدار 0.5 نقطة مئوية في الأول من مايو للعام الجاري 2025، و0.5 نقطة أخرى العام المقبل 2026، حتى يتم تجنُّب الانخفاض في العملة الوطنية وارتفاع الأسعار على المواطن الجنوب الإفريقي.
ويُشار إلى أن التحالف الديمقراطي، المؤيد للأعمال، قد صوَّت ضد الإطار المالي للميزانية في البرلمان، ويطعن في زيادة ضريبة القيمة المضافة أمام القضاء، مما أثار مخاوف المستثمرين من احتمال انسحابه أو إجباره على مغادرة الحكومة الائتلافية. ومن المحتمل أن إلغاء زيادة ضريبة القيمة المضافة سيحافظ على بقاء الحكومة، وأن هذا الاحتمال قد يدعم أيضًا العملة الجنوب إفريقية “الراند”، وذلك في ظل ما شهده “الراند” من تقلبات في الفترة الماضية نتيجةً لتغيير الرئيس الأمريكي دونالد ترامب سياساته الجمركية والأخبار السياسية المحلية.
كما ارتفعت أسهم مؤشر “توب 40″(JTOPI) للأسهم القيادية في بورصة جوهانسبرج، وارتفع تداوله بنحو 2%، وحققت سندات جنوب إفريقيا الحكومية المرجعية لعام 2030م ارتفاعًا؛ حيث انخفض العائد بمقدار 8 نقاط أساس ليصل إلى 9.225%. لذلك حقق الراند الجنوب إفريقي مكاسب مقابل الدولار في نهاية الأسبوع الماضي، لكنّ المحللين قالوا: إنه لا يزال عُرْضة لتقلبات الحرب التجارية العالمية وخطر انقسام الحكومة الائتلافية في جنوب إفريقيا. وذلك في ضوء أن التحول نحو سياسات أكثر شعبوية في حال شراكة حزب المؤتمر الوطني الإفريقي مع الأحزاب اليسارية في حكومة وحدة وطنية جديدة من شأنه أن يُضعف الثقة، ويضع “الراند” تحت ضغوط متجددة.([13])
تداعيات واردة:
وفقًا لمرصد التعقيد الاقتصادي the observatory of economic complexity، تُشكل الصادرات ما يزيد قليلاً عن 30% من الناتج المحلي الإجمالي لجنوب إفريقيا. في جوهرها، تُعدّ الصادرات مهمة للنشاط الاقتصادي العام. في حين تُشكّل الولايات المتحدة حوالي 9% من إجمالي صادرات جنوب إفريقيا من حيث القيمة الاجمالية. لذلك، إذا أوقفت الولايات المتحدة الواردات من جنوب إفريقيا، فسيُعزى ذلك إلى حوالي 2.7% من الناتج المحلي الإجمالي، وهو رقم كبير نسبيًّا. ومع إعفاء جزء كبير من صادرات جنوب إفريقيا إلى الولايات المتحدة من الرسوم الجمركية وفرض رسوم جمركية بنسبة 30% على الباقي، فإن المخاطر المباشرة على النشاط الاقتصادي ضئيلة إذا ما قِيسَت بالتداعيات المباشرة؛ حيث تتراوح بين 0.1% و0.25% من الناتج المحلي الإجمالي.
ويُقلل التعديل اللاحق الذي أعلنته إدارة الرئيس الأمريكي ترامب على جدول الرسوم الجمركية ومواعيد تنفيذها، إلى نسبة 10%، من هذه المخاطر على الناتج المحلي الإجمالي. على الجانب الآخر، تُعدّ الصين أكبر سوق تصدير لجنوب إفريقيا (حوالي 20٪ من إجمالي صادرات جنوب إفريقيا)، وبالتالي، سيكون هناك تأثير سلبي غير مباشر محتمل على إجمالي صادرات جنوب إفريقيا خاصة في ضوء التطورات الأخيرة وردّ فِعل الإدارة الأمريكية تجاه الصين ورفع الرسوم الجمركية الأمريكية على الصين إلى 125٪. كما تؤثر أيضًا الرسوم الجمركية الأمريكية على شركاء جنوب إفريقيا التجاريين الرئيسيين الآخرين وتأثيرها غير المباشر على جنوب إفريقيا.
الاتحاد الأوروبي (حوالي 20٪ من صادرات جنوب إفريقيا) هو الآخر عُرضة للتأثر، على الرغم من أنه كان ضمن المجموعة التي خُفِّضت رسومها الجمركية إلى 10٪ لمدة 90 يومًا. في حال انخفاض الطلب على سلع وخدمات جنوب إفريقيا في الصين والاتحاد الأوروبي، فسيكون لذلك تأثير سلبي على الميزان التجاري لجنوب إفريقيا، وكذلك على ربحية شركاتها المحلية([14]).
ووفقًا لموقع نيوكاستيليان نيوز([15])؛ فإن أهم القطاعات التي ستتأثر بالرسوم الجمركية الأمريكية، هو قطاع السيارات وقِطَع الغيار، والذي يُصدِّر سنويًّا بنحو اثنين مليار دولار، وهو القطاع الذي سيخضع لرسوم تُقدَّر بنحو 25٪. أما المعادن النفسية والمنسوجات الزراعية والحديد والصلب والمنسوجات وصناعات أخرى فستخضع لنحو 30٪ رسوم جمركية.
سيناريوهات محتملة:
تتفاعل الأوضاع الاقتصادية الطارئة مع الأوضاع السياسية الهشَّة في جنوب إفريقيا، وهي ما يمكن أن تؤدي إلى احتمالية حدوث السيناريوهات التالية:
الأول: تحمُّل الأحزاب الحاكمة المتحالفة لمسؤوليتها تجاه التطورات الجديدة الناجمة عن فرض الإدارة الأمريكية لرسوم جمركية على دول العالم، وبما يخلق تداعيات مُركّبة لم تظهر آثارها في الأفق بعدُ، وتخلّي الحزب الحاكم عن فرض ضريبة القيمة المضافة وتأجيلها حتى تتضح الرؤية. وأيضًا تفعيل وتعظيم التعاون والتكامل مع مجموعة دول البريكس والتي تُعدّ جنوب إفريقيا من أهم أعضائه، والبحث عن إعادة تشكيل التحالفات بما يسمح بفتح آفاق لتحويل أو خلق التجارة لجنوب إفريقيا.
الثاني: عدم قدرة الحزب الحاكم على إدارة الأمور السياسية بحنكة وحكمة، ومِن ثَم تعرُّض العملة الوطنية للتدهور وفقد القيمة وارتفاع الأسعار وتعرُّض الشركات لتقلص الأرباح، وبما يزيد معدلات البطالة وعليه تدخل البلاد في خضم أزمة سياسية واقتصادية قد تؤثر على استقرارها وأمنها، خاصةً إذا لم يستطع الهيكل الاقتصادي لجنوب إفريقيا، امتصاص الصدمات، وإعادة التكيُّف؛ لضعف في مرونته الهيكلية.
الثالث: التواصل مع الإدارة الأمريكية لتعريفها بمزايا استمرار قانون النمو والفرص؛ حتى لا يعطي فرصة لزيادة الهيمنة الصينية والتدخلات الروسية في القارة الإفريقية جنوب الصحراء. ومِن ثَم مساعدة جنوب إفريقيا على التقاط الأنفاس، وتحقيق الاستقرار، ويتطلب ذلك فصل إدارة ترامب الملف الاقتصادي عن ملف وجود جنوب إفريقيا في الجنائية الدولية ضد إسرائيل، وهو أمر قد يكون صعبًا.
الرابع: أن يتكيَّف الهيكل الاقتصادي لجنوب إفريقيا للرسوم الجمركية الأمريكية، ويتعامل معها مع التفاوض لتطوير التعاون الاقتصادي بين البلدين حتى يتم توقيع اتفاقية تجارة حرة مُوسَّعة مع دول، وبما يسمح بتطوير قانون “أجوا” وفق سياسات ترامب الجديدة.
وأخيرًا، تُعدّ الولايات المتحدة وجهة تصديرية مهمة لجنوب إفريقيا، لكن جنوب إفريقيا ستكون في وضع أفضل لتجاوز الصدمة، بفضل اقتصادها الأكثر تنوعًا. وفيما يتعلق بقانون “أجوا”، فإن حجم تجارة قانون النمو والفرص في إفريقيا يمثل جزءًا ضئيلًا من إجمالي التجارة الأمريكية؛ حيث مثلت -على سبيل المثال- نحو 0.67% فقط في عام 2023م، لذلك ينبغي على الإدارة الأمريكية أن تكون أكثر حكمة في التعامل مع إفريقيا جنوب الصحراء، وأن يكون تمديده هو الخيار البديهي أو التفاوض السريع على توقيع اتفاقية تجارة حرة تأسيسًا على العلاقات التاريخية؛ نظرًا لفوائد البرنامج وتكلفته الضئيلة على الولايات المتحدة.
ومع ذلك، وفي ظلّ المناخ الحالي، فإن أفضل خيار متاح لإفريقيا عامة وجنوب إفريقيا خاصة هو أن يتمكن خبراء الشؤون الإفريقية في الوكالات الأمريكية بجانب حكومة جنوب إفريقيا من إقناع مُصمّمي برنامج الرسوم الجمركية بمعالجة هذا الوضع الذي يُدمّر مسيرة التجارة الحرة عالميًّا.
…………………………………………
[1] – https://www.tips.org.za/images/TIPS_Press_Release_on_US_tariffs_on_SA_-_4_April_2025.pdf
[2] – تم سن هذا القانون لأول مرة في عام 2000 على أن يستمر لمدة ثمانية أعوام، ثم تم تمديد في عام 2015 ليستمر حتى 2025 في عهد الرئيس أوباما. وكانت الدول المستهدَفة في بداية سن القانون 49 دولة وفي عام 2022 تقلصت الدول إلى 36 دولة مُؤهَّلة للاستفادة من القانون، ومنها دولة جنوب إفريقيا.
[3] –Karen Mathiasen andNico Martinez, The New US Tariff Regime Is Another Blow for Africa
https://www.cgdev.org/blog/new-us-tariff-regime-another-blow-africa
[4] – https://rcssegypt.com/18951للمزيد راجع استراتيجية الولايات المتحدة الامريكية
[5] -https://www.worldbank.org/en/country/southafrica/overview
[6] – https://www.worldbank.org/en/country/southafrica/overview
[7] – https://ustr.gov/countries-regions/africa/southern-africa/south-africa
[8] – https://ustr.gov/countries-regions/africa/southern-africa/south-africa
[9] – https://www.tips.org.za/images/TIPS_Press_Release_on_US_tariffs_on_SA_-_4_April_2025.pdf
[10] – Osagyefo Mazwai, Thematic View: How US tariffs could affect SA,9 April 2025
https://www.investec.com/en_za/focus/economy/thematic-view-how-us-tariffs-could-affect-sa.html
[11] -https://www.tips.org.za/images/TIPS_Press_Release_on_US_tariffs_on_SA_-_4_April_2025.pdf
[12] – https://www.tips.org.za/images/TIPS_Press_Release_on_US_tariffs_on_SA_-_4_April_2025.pdf
[13] – Tannur Anders and Sfundo Parakozov, South African rand recovers against weaker dollar but risks remain, 11 April,202
https://www.reuters.com/markets/currencies/south-african-rand-recovers-against-weaker-dollar-risks-remain-2025-04-11/
[14] – Olivia Le Poidevin and Philip Blenkinsop, WTO slashes 2025 trade growth forecast, warns of deeper slump, 16 April,2025
https://www.reuters.com/markets/wto-slashes-2025-trade-growth-forecast-warns-deeper-slump-2025-04-16/
[15] – https://newcastillian.com/2025/04/15/understanding-the-us-tariffs-hitting-south-africa/#google_vignette