الناشر: المجلس الروسي للشؤون الدولية
المؤلفان: فاسيل كوستانيان و ألكسندر تشيكاشيف
ترجمة: مروة أحمد عبد العليم- باحثة في الشأن الروسي
مقدمة:
شهد النصف الأول من عشرينيات القرن الحادي والعشرين تغييرًا جذريًّا في الوضع في منطقة الساحل؛ فقد أدَّت الانقلابات العسكرية في مالي (2021م)، وبوركينا فاسو (2022م)، والنيجر (2023م) إلى وصول الجيش إلى السلطة في هذه الدول الثلاث.
ففي النيجر، وَاجَه المجلس العسكري الذي وصل إلى السلطة؛ “المجلس الوطني للدفاع عن الوطن”، بقيادة عبد الرحمن تشياني؛ انتقادات شديدة وعقوبات وحصارًا اقتصاديًّا فعليًّا للبلاد من جانب المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا (إيكواس)، وبالإضافة إلى ذلك، هدَّدت المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا بالتدخل العسكري، وكان الهدف المُعلَن آنذاك هو إعادة الرئيس المخلوع محمد بازوم إلى السلطة، بالإضافة إلى دَفْع خطر وقوع أيّ انقلابات عسكرية جديدة في بلدان المنطقة.
كما أن هذه الانقلابات العسكرية في المنطقة أثارت قلقًا خاصًّا في نيجيريا، في ذلك الوقت؛ حيث تتمتع “أبوجا” بمكانة كبيرة في المنطقة، وهي رئيسة المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا (الإيكواس)، لذا كان من المهم بالنسبة لنيجيريا أن تعمل على الحفاظ على سلامة المنظمة والوضع الراهن في البلدان المجاورة. لكن كان للضغط الفرنسي، تأثير كبير؛ حيث تتمتع باريس بمصالح اقتصادية كبيرة في النيجر؛ بسبب احتياطيات اليورانيوم الكبيرة التي تمتلكها البلاد، والتي تُعدّ ضرورية لتشغيل محطات الطاقة النووية الفرنسية.
ونتيجة لذلك، بدأت بوركينا فاسو ومالي والنيجر خطوات عملية لإنشاء تحالف عسكري بينهم، يهدف إلى الدفاع المشترك عن البلدان الثلاثة، بما في ذلك مكافحة الإرهاب ومواجهة الحركات الانفصالية. ونتيجة لذلك، تم إنشاء “تحالف دول الساحل” في 16 سبتمبر 2023م، والذي تحول إلى اتحاد كونفدرالي في 6 يوليو 2024م، وقد أدَّى ذلك إلى توسيع نطاق التعاون بين البلدان الثلاثة؛ فهو لا يغطي الآن المجالات العسكرية والسياسية فحسب، بل يشمل أيضًا المجالات الاجتماعية والاقتصادية.
كما أعلنت دول الساحل في وقت مبكر من 28 يناير 2024م، عن نيتها مغادرة المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا (الإيكواس)، ولكن بما أن الانسحاب الفوري من المنظمة كان مستحيلًا، فقد بقيت رسميًّا في المنظمة لمدة عام آخر، وخلال هذه الفترة حاولت الدول الأعضاء في المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا إيجاد حلّ وسط مع تحالف دول الساحل. وفي 28 يناير 2025م، أعلنت بوركينا فاسو ومالي والنيجر رسميًّا انسحابها من المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا، وأثَّرت هذه التحركات السياسية في منطقة الساحل بشكل كبير على موازين القوى في المنطقة.
لماذا انسحبت دول الساحل من المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا؟
تعود أسباب انسحاب دول الساحل من المنظمة إلى كثرة المشكلات وأعمال العنف والإرهاب في المنطقة. ففي أوائل عام 2012م، شكَّل الطوارق “الحركة الوطنية لتحرير أزواد”، وتمردوا ضد الحكومة بهدف إنشاء دولة طوارق مستقلة، وفي أعقاب الانقلاب العسكري في مالي في مارس 2012م، استغل المتمردون الوضع لإعلان “دولة أزواد المستقلة” في شمال البلاد، وقد ساندهم في ذلك مسلحون من تنظيم أنصار الدين؛ الذين كانوا على اتصال بتنظيم القاعدة. لكن بعد إعلان استقلال “أزواد”، لم يَقبل الإسلاميون الوضع العلماني لهذه الدولة غير المُعتَرف بها، مما أدَّى إلى تناقضات مع الحركة الوطنية لتحرير أزواد ونتيجة للمعارك بين الإسلاميين والمتمردين العلمانيين، هُزم هؤلاء واختفوا عن الأنظار، وأصبحت كامل أراضي أزواد تحت سيطرة الإسلاميين.
لقد أدَّى أسلمة الحركة، فضلًا عن الهجمات التي شنَّها المسلحون على المناطق الجنوبية من مالي، إلى إجبار فرنسا على التدخل؛ لأن ذلك من شأنه أن يؤدي إلى زعزعة استقرار الوضع في المنطقة، وتم الإعلان عن بدء عملية “سيرفال”. وكانت المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا، بموجب المادة 3 من بروتوكول المساعدة المتبادلة في الدفاع الموقع في فريتاون في 3 مايو 1981م، ملزمة بتقديم المساعدة إلى مالي في العمليات المضادة للإرهاب.
وفي هذا الإطار، وفي إشارة إلى قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة رقم 2085، أعلنت المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا عن إطلاق بعثة الدعم الإفريقية الدولية في مالي (AFISMA)، ونتيجة لذلك، تمكنت فرنسا والمجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا من تحرير جميع المدن التي سيطر عليها المسلحون بحلول فبراير 2013م، وبعد ذلك تم نقل بعثة المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا تحت رعاية الأمم المتحدة، وأطلق على عملية الأمم المتحدة اسم بعثة الأمم المتحدة المتكاملة متعددة الأبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي (MINUSMA)، وكانت تهدف إلى حفظ السلام.
ولكن هذه الجهود لم تكن كافية للقضاء على الجماعات المسلحة في مالي، وبدأ المسلحون في استخدام أساليب حرب العصابات، وبدأت موجة من العنف تجتاح البلاد، ولم تتمكن بعثة الأمم المتحدة ولا العملية الفرنسية الجديدة “برخان” (2014- 2021م) من وقف أعمال العنف في البلاد، وتفاقم الوضع بعد ظهور جماعة مسلحة جديدة، هي جماعة نصرة الإسلام والمسلمين، وهي فرع إقليمي لتنظيم القاعدة، على الساحة في عام 2017م، ولم تعمل هذه الجماعة في مالي فحسب، بل أيضًا في بوركينا فاسو والنيجر.
وعلى مدى السنوات القليلة الماضية، كان الانفصاليون من جبهة تحرير أزواد يتواصلون مع جماعة نصرة الإسلام والمسلمين، وهو ما قد يؤدي إلى تعزيز القوات المناهضة للحكومة، وبالتالي إلى تعزيز مواقع الإرهابيين في البلاد بشكل أكبر، وبحسب مؤشر الإرهاب العالمي 2025م، فإذا كان عدد القتلى في منطقة الساحل سنويًّا بسبب الصراعات في عام 2017م حوالي 5400 شخص، فإنه قد يصل في السنوات المقبلة إلى 25 ألف شخص.
ولم تكن كلّ من المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا وفرنسا قادرة على مواجهة هذا التهديد، كما أن القتال ضد المتمردين، الذين كانوا يستخدمون أساليب حرب العصابات، تطلَّب تكتيكات خاصة وجهودًا كبيرة، وبدأت فرنسا تحثّ المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا، التي كانت تمتلك موارد كبيرة في ذلك الوقت، على إرسال قواتها مرارًا وتكرارًا إلى البلدان التي مزَّقتها الحروب (على سبيل المثال: ليبيريا، وسيراليون، وغيرهما)، لأن فرنسا لم تكن تمتلك أيّ خبرات عملية في مكافحة الإرهاب.
وفي منطقة الساحل، اشتبكت قوات الإيكواس مع المسلحين، رغم أن المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا هي، في المقام الأول، منظمة تهدف إلى حل المشكلات الاقتصادية، وبالتالي فإن الغالبية العظمى من مواردها تُستخدَم لحل المشكلات الاقتصادية، وليس العسكرية.
ومع ذلك، كانت بوركينا فاسو ومالي والنيجر، تهدف بشكل أساسي إلى القضاء على الجماعات الانفصالية والمسلحة، ولذا فإن هذه البلدان تعطي الأولوية للتعاون الأمني داخل المنظمة، وبما أن المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا لم تقدم المساعدة الكافية بسبب عدم قدرتها على تنفيذ المهمات القتالية (لم تُنفِّذ المجموعة أيّ عمليات لمكافحة الإرهاب في بوركينا فاسو والنيجر)، ولذا فضَّلت الدول الثلاث إنشاء تحالف عسكري خاص بها، يركز على مكافحة الحركات الانفصالية والعنف، ويأخذ في الاعتبار جميع تفاصيل مكافحة حرب العصابات ويتوافق مع المصالح المشتركة للدول الثلاث. وهذا هو السبب بالتحديد وراء انسحاب مجموعة اتحاد دول الساحل من المجموعة الاقتصادية لغرب إفريقيا.
وقد أشار رئيس وزراء بوركينا فاسو “أبولينير يواكيم كيل دي تامبيلا” في بيان يوم 30 يناير 2024م، إلى أن الدول الثلاث واجهت منذ ما يقرب من عقد من الزمان جماعات إجرامية مدعومة ومموَّلة ومجهزة مِن قِبَل شركائها، في ظل لامبالاة بعض الدول المجاورة والمنظمات دون الإقليمية، بما في ذلك المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا. ويمكن استنتاج أن دول الساحل تشعر بخيبة أمل تجاه سياسة المجموعة الاقتصادية لتحالف دول الساحل فيما يتعلق بقضايا الأمن في المنطقة.
ماذا يحمل المستقبل لترويكا الساحل؟
في نهاية شهر يناير 2025م، أعلن تحالف دول الساحل عن إنشاء قوة مشتركة قوامها 5000 جندي لمكافحة الإرهاب، وبالتالي العمل المباشر على تحقيق المهمة الرئيسية للتحالف العسكري، والتنظيم المنسق بينهم لمكافحة الإرهاب في المنطقة، وقد أدى ذلك إلى زيادة سلطة العسكر في السلطة في البلدان الثلاثة.
وقد وجد المسار الذي اتخذته حكومات بوركينا فاسو ومالي والنيجر استجابة وقبولاً في المجتمع؛ ففي 29 يناير 2025م، وعقب الإعلان الرسمي مِن قِبَل رئيس مفوضية المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا بشأن انسحاب مجموعة تحالف دول الساحل، خرج سكان بوركينا فاسو ومالي والنيجر إلى الشوارع بأعداد كبيرة للاحتفال بهذا الحدث، وفي حال نجاح العمليات المضادة للإرهاب في المنطقة، فإن الدعم من السكان سيزداد، مما سيُسهم في تعزيز القوة العسكرية، وبالتالي استقرار الوضع السياسي في هذه البلدان على الأقل في الأمد المتوسط. ومع ذلك، ومن أجل تحقيق الاستقرار النهائي للوضع في المنطقة، من الضروري القضاء على التهديد الإرهابي وإنشاء قوات مسلحة قوية وجاهزة للقتال ولا يعتمد على هذا استقرار الوضع السياسي فحسب، بل يعتمد أيضًا على الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي في بلدان الساحل.
وعلى النقيض من المجال العسكري السياسي، فإن العلاقات في المجال الاجتماعي والاقتصادي مع المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا لا تزال قائمة، رغم أن بلدان الساحل انسحبت من المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا، إلا أن بعض الأحكام الرئيسية للمنظمة لا تزال سارية المفعول. وبناء على ذلك، ووفقًا للبيان الرسمي الصادر عن المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا بشأن انسحاب دول المجموعة اعتبارًا من 29 يناير 2025م، يتم الاحتفاظ بجوازات السفر وبطاقات الهوية التي تحمل شعار المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا، وتتمتع السلع والخدمات من دول المجموعة بالقدرة على الوصول إلى سوق المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا في ظل نفس الظروف، ويتم الحفاظ على نظام الإعفاء من التأشيرة، ويتلقى الموظفون المدنيون من دول المجموعة العاملون في مؤسسات المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا الدعم ويبقون في مناصبهم. ومع ذلك، تشير الوثيقة نفسها إلى أن هذه الظروف مؤقتة وسيتم اعتماد شروط التعاون الدائمة مع الدول الثلاث في وقت لاحق خلال مؤتمر رؤساء الدول.
إن الوضع الاجتماعي والاقتصادي في تحالف دول الساحل صعب للغاية، وبحسب تقرير “مراجعة سكان العالم”، فإن نسبة السكان الذين يعيشون تحت خط الفقر في النيجر تبلغ 45.5%، وفي مالي 44.6%، وفي بوركينا فاسو 43.2%. وعلى الرغم من أن هذه البلدان غنية بالموارد الطبيعية، إلا أنها لا تستطيع تحقيق كامل إمكاناتها بسبب البنية التحتية غير المتطورة، كما أن الاستثمار المستمر في اقتصادات البلدان الثلاثة أمر ضروري، إلا أن مناخ الاستثمار يتدهور بسبب تهديدات أعمال العنف.
هذا، ويمكن التغلب على الصعوبات الاقتصادية من خلال الجهود المشتركة؛ حيث إن المبادئ الكونفدرالية لمنطقة تحالف دول الساحل تُوفّر فرصة لبدء عملية التكامل الاقتصادي؛ حيث تسعى دول الساحل إلى إنشاء اتحاد اقتصادي ونقدي، مما سيؤدي إلى إنشاء عملة جديدة تسمى “الساحل”، والاستمرار المنطقي لهذه الإجراءات قد يكون في الخروج من منطقة الفرنك.
وبالتالي، فإن خروج بوركينا فاسو ومالي والنيجر من المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا قد يؤدي إلى استقرار الوضع السياسي في دول الساحل؛ بسبب الدعم الهائل لسعر صرف الدولار الأمريكي، كما أن خطط إنشاء عملة موحدة والخروج من منطقة الفرنك قد تُعزّز الاستقلال الاقتصادي للدول الثلاث.
تغيير النظام الإقليمي في غرب إفريقيا:
لقد كانت غرب إفريقيا جزءًا من منطقة النفوذ الفرنسي لمدة قرن ونصف تقريبًا، ومنذ أن سيطرت القوات الفرنسية على هذه الأراضي، كانت كافة العمليات السياسية والاجتماعية والاقتصادية في المنطقة تجري بمشاركة مباشرة من فرنسا، لكن فرنسا فقدت نفوذها بشكل كبير في غرب إفريقيا خلال السنوات الأخيرة وكانت نقطة التحول في هذا الصدد هي فشل عملية “برخان” لمكافحة الإرهاب في مالي، مما اضطر فرنسا إلى سحب قواتها من البلاد.
وفي أعقاب سلسلة من الانقلابات العسكرية في منطقة الساحل، والتي كانت في معظمها معادية لفرنسا، ضعف موقف باريس بشكل أكبر، لقد غادرت القوات الفرنسية بوركينا فاسو ومالي والنيجر وتشاد والسنغال، وكانت الضربة النهائية هي انسحاب بوركينا فاسو ومالي والنيجر من المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا وإنشاء اتحاد دول الساحل، وهذا أمر خطير بشكل خاص بالنسبة لفرنسا؛ حيث أظهر نظام تحالف دول الساحل تطورًا بديلًا بالنسبة لدول غرب إفريقيا.
والآن في غرب إفريقيا، لا تعمل منظمة الإيكواس المؤيدة لفرنسا فقط كجمعية تكامل، بل تعمل أيضًا رابطة دول جنوب الصحراء الإفريقية، وتبذل تشاد بالفعل محاولات للتقرب من بلدان الساحل. وفي الفترة من 21 إلى 22 فبراير 2025م، حضر الرئيس التشادي “محمد ديبي” مهرجان فيسباكو للتلفزيون والسينما الإفريقية في واجادوجو، كما التقى رئيس دولة إفريقيا الوسطى بنظيره من بوركينا فاسو الكابتن إبراهيم تراوري، وناقش الطرفان خلال الحوار مكافحة الاستعمار الجديد وقضايا الأمن في المنطقة، واعتبرت صحيفة لوموند الفرنسية هذا الأمر بمثابة تقارب محتمل بين تشاد ودول الساحل الإفريقي.
وعلى الرغم من أن غانا تتوسط في المفاوضات بين مجموعة دول إفريقيا والجماعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا، إلا أنها بذلت هي الأخرى محاولات للتقرب من دول مجموعة دول إفريقيا والجماعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا. وهكذا، في الفترة من 8 إلى 10 مارس 2025م، قام الرئيس جون دراماني ماهاما بزيارة بلدان مجموعة الـ17، وناقش خلال زيارته مع رؤساء الدول قضايا تعزيز التعاون الثنائي وقضايا الأمن في منطقة الساحل.
في حين تتزايد تدريجيًّا سلطة اتحاد الكونفدرالية الإفريقية في إفريقيا، وهو ما قد يدفع بعض دول المنطقة إلى الاقتراب من التحالف. ففي 29 يناير 2025م، تم تقديم جوازات سفر تحالف دول الساحل الجديدة، وفي 22 فبراير تمت الموافقة على عَلَم اتحاد دول الساحل، ومن شأن كل هذه التدابير أن تساعد في تعزيز مكانة المنظمة في المنطقة.
ومن جهة أرى؛ فإنه ليس فرنسا فقط هي التي تخسر مواقعها الإقليمية السابقة، بل الولايات المتحدة أيضًا. ففي عام 2012م، تم إرسال قوات أمريكية إلى النيجر لمحاربة الإرهاب، ولكن بعد الانقلاب الذي وقع في النيجر في عام 2023م، طالب الجيش الذي وصل إلى السلطة واشنطن بسحب قواتها العسكرية من البلاد، وأُجبرت الولايات المتحدة على تقديم تنازلات وبحلول أوائل أغسطس 2024، وتم سحب جميع القوات الأمريكية من النيجر، وتم تسليم القواعد العسكرية للقوات العسكرية المحلية.
على جانب آخر، روسيا هي إحدى تلك الجهات الفاعلة التي تتعزز مكانتها الإقليمية، وتُبْدِي موسكو نشاطًا خاصًّا في التعاون مع مالي، فمنذ حصولها على الاستقلال في عام 1960م، وقَّعت حكومة مالي عددًا من الاتفاقيات الاقتصادية المُهمَّة مع الاتحاد السوفييتي، وبعد انهياره في عام 1991م، مع روسيا، وفي المرحلة الحالية من العلاقات الروسية المالية، تم توسيع نطاق التعاون بشكل كبير؛ فهو يشمل أيضًا المجال العسكري والسياسي، وفي عام 2003م، تم توقيع اتفاقية للتعاون العسكري التقني، وفي عام 2009م، مذكرة تفاهم بشأن التعاون في مكافحة الإرهاب والجريمة المنظمة العابرة للحدود الوطنية، وفي عام 2019م، وقعت اتفاقية حكومية دولية بشأن التعاون العسكري.
ويمكن وصف روسيا بأنها الشريك الرئيسي لـ”ترويكا الساحل”؛ ولذلك دعمت مبادرة إنشاء تحالف دول الساحل، وفي نهاية ديسمبر 2024م، صرَّح السفير الروسي لدى مالي “إيجور جروميكو” بأن روسيا تؤكد عزمها على مواصلة تقديم الدعم اللازم لدول تحالف دول الساحل، بما في ذلك المساعدة في زيادة القدرات القتالية للقوات المسلحة الوطنية، وتدريب العسكريين وضباط إنفاذ القانون، فضلًا عن تطوير التعاون التجاري والاقتصادي ذي المنفعة المتبادلة مع هذه الدول.
وأضاف: إن إنشاء تحالف دول الساحل هو خطوة مهمة في مكافحة الإرهاب في المنطقة، ومن أجل تنفيذ هذه المهام على وجه التحديد، تم في نهاية عام 2023م إنشاء الفيلق الإفريقي التابع لوزارة الدفاع الروسية على أساس شركة “فاجنر” العسكرية الخاصة، والتي تهدف إلى مكافحة الإرهاب في المنطقة، وهذه خطوة مهمة نحو تعزيز مكانة روسيا في غرب إفريقيا.
كما تعمل روسيا على دفع فرنسا تدريجيًّا خارج منطقة الساحل، وهذا لا يتجلَّى في المجال العسكري والسياسي فحسب، بل وفي المجال الاقتصادي أيضًا؛ حيث وقَّعت روسيا عددًا من الاتفاقيات الاقتصادية والتجارية مع دول منطقة الساحل، مما أثَّر بشكل خطير على الشركات والأعمال الفرنسية في منطقة الساحل، ولعل الضربة الأكثر إيلامًا كانت حظر استخراج اليورانيوم لشركة أورانو الفرنسية في النيجر، وهي واحدة من أكبر منتجي اليورانيوم في العالم.
بالنسبة لفرنسا، كان خام اليورانيوم من النيجر يوفر الوقود لعدد من محطات الطاقة النووية. وفي أعقاب ذلك، تلقت الشركات الروسية دعوة لاستخراج المعادن في النيجر، بما في ذلك اليورانيوم. وفي نهاية فبراير 2025م، وقَّعت الدولتان مذكرة تفاهم في مجال استكشاف وإنتاج المعادن، والتي تنص على تطوير التعاون الثنائي لتعزيز قدرة النيجر في مجال استكشاف وإنتاج المعادن.
بالإضافة إلى ذلك، تعمل الصين أيضًا على زيادة نفوذها في المنطقة، وبحسب مؤشر الصين العالمي للاستثمار، بلغ الاستثمار المباشر الصيني في مالي في الفترة 2023-2024م نحو 600 مليون دولار، وفي النيجر 700 مليون دولار، وكانت هذه الاستثمارات مُوجَّهة بشكل رئيسي إلى قطاعَي المعادن والنفط، فضلًا عن الطاقة النووية، ويحتل التعاون العسكري مكانةً مهمةً في علاقات الصين مع دول الساحل.
وفي شهر يوليو 2023م، تم توقيع عقد لتوريد أسلحة صينية إلى النيجر بقيمة 4.2 مليون دولار، ورغم أننا نتحدث بشكل رئيسي عن الأسلحة الخفيفة (البنادق والرشاشات وقاذفات القنابل والأنظمة الصاروخية وغيرها)؛ إلا أن حقيقة وجود اتفاقية دفاعية تزيد إلى حدّ كبير من نفوذ الصين في المنطقة.
وهناك جهة أخرى زادت من نفوذها في منطقة الساحل، وهي تركيا، وتؤكد أنقرة على التعاون العسكري مع دول منطقة الساحل. ففي عام 2022م، استلمت القوات المسلحة المالية طائرات بدون طيار من طراز Bayraktar TB2، والتي يتم استخدامها في مكافحة الإرهاب في المنطقة.
كما تم تناول مشكلات منطقة الساحل على نطاق واسع في المنتدى الدبلوماسي في أنطاليا في الفترة من 1 إلى 3 مارس 2024م، وشارك في هذا المنتدى ممثلون عن دول مجموعة الساحل الإفريقية، التي انتقدت المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا.
وقد صرَّح وزير خارجية مالي “عبد الله ديوب” بأن المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا لا تعالج القضايا الإقليمية بشكل مناسب، وأنها لم تستجب للأزمات في المنطقة، بل عارضت السياسة الخارجية الجديدة لدول الساحل. وأشار الوزير إلى أن العقوبات الصارمة المفروضة على دول الساحل ليس لها أساس قانوني، ويبدو أن التعاون داخل الرابطة هو الحل الأفضل للمشكلات الإقليمية.
من جهة أخرى، أدى انسحاب مجموعة تحالف دول الساحل من المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا (الإيكواس) إلى تحول في النظام الإقليمي في غرب إفريقيا؛ فقد نشأ بديل للمجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا في شكل تحالف دول الساحل. واليوم، لا تتمتع قدرات قوات التحالف بقدر واسع من قدرات قوات المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا، ولكنها تتطور بسرعة. وهناك بالفعل دُوَل تُبدي اهتمامها بتحالف دول الساحل، كما أن خطط التكامل الاقتصادي لن تؤدي إلا إلى تعزيز مكانة هذه المنظمة، الأمر الذي سيؤدي إلى بدء دول الساحل في التنافس مع المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا، ويبقى أن نرى ما إذا كانت هذه المنافسة ستتحول إلى مواجهة.
وروسيا، بدورها، تدعم العسكريين الذين وصلوا إلى السلطة نتيجة للانقلابات، وتدفع فرنسا تدريجيًّا إلى خارج المنطقة، وهذا يُشكِّل تحديًا خطيرًا للسياسة الخارجية الفرنسية، وسوف يكون من الصعب للغاية التغلب عليه، على الأقل في الأمد المتوسط، كما أن الفراغ السياسي الناجم عن انسحاب فرنسا والولايات المتحدة من منطقة الساحل لم تملأه روسيا فحسب، بل أيضًا الصين وتركيا، وتعمل هذه الدول على تعزيز نفوذها في المنطقة بشكل متزايد، وتسعى إلى الوصول إلى الموارد.
كما تشهد القوات المسلحة في البلدان الثلاثة اليوم هجمات منتظمة مِن قِبَل المسلحين والانفصاليين، بينما يتزايد التهديد الذي تُشكّله الجماعات المسلحة، ولتحقيق الاستقرار النهائي للنظام الإقليمي المتشكل حديثًا، من الضروري تدمير الخلايا المسلحة والانفصالية التي تُهدِّد الأنظمة الحالية في بلدان مجموعة دول جنوب شرق آسيا، والتي سيعتمد عليها الاستقرار السياسي في الدول الثلاث، وتنمية المشاريع الاجتماعية والاقتصادية. ومن المرجح أن تواصل دول الساحل التعاون في مكافحة العنف وتوسيع أنشطة التعاون الدفاعي مع روسيا وتركيا والصين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
رابط التقرير: