لينا بن عبد الله
ترجمة: حسناء بهاء رشاد
باحثة دكتوراه تخصص تاريخ حديث ومعاصر- مصر
مقدمة:
هل يُعدّ التعاون بين دول الجنوب مسارًا للتغيير في دول الجنوب العالمي، أم أنه مُحاصَر في منافسة استغلالية على الموارد والأسواق؟ وهل تُعزّز المشاركة الصينية في الجنوب العالمي من قدرة الدول الإفريقية على اتخاذ القرار؟ وهل تتعارض أو تُضعف معايير النظام الدولي الليبرالي الذي يهيمن عليه الغرب؟
هناك الآن اهتمام أكاديمي متزايد يستكشف إخفاقات ومخاوف النظام الدولي الليبرالي، خاصةً من منظور الجنوب العالمي. وتركز هذه الدراسات على التهديدات التي قد تُشكّلها القوى الناشئة المُشارِكة في التعاون بين دول الجنوب على النظام القائم.
ومع ذلك، ورغم القلق بشأن التعاون بين دول الجنوب كبديل للنظام الليبرالي، يبقى السؤال حول جوهر ونتائج هذا التعاون: هل يتعرّض النظام العالمي كما نعرفه للتحدي أم التعزيز مِن قِبَل القوى الناشئة؟ وتدعو هذه المقالة إلى ضرورة النظر إلى ما هو أبعد من الدولة كمحور رئيسي للتحليل، واستكشاف الآليات والعمليات والإستراتيجيات التي تتبنَّاها مجموعة متنوّعة من الفاعلين المشاركين في التعاون بين دول الجنوب.
وتستعرض المقالة دراسات حول الشؤون الإفريقية؛ حيث تُقدِّم تحليلًا شاملًا لهذه الديناميكيات على أرض الواقع من منظور الشركات والوكلاء والمشاريع التجارية الخاصة من الصين والهند والبرازيل، بالإضافة إلى كيفية تعاملهم مع شراكاتهم مع نظرائهم الأفارقة.
وقد شهد العقد الماضي تغييرات جذرية أثَّرت على النظام الدولي الليبرالي بطرق غير مسبوقة؛ بدايةً من جائحة كوفيد-19، إلى الاضطرابات في سلاسل التوريد العالمية، والمخاوف من الركود المالي؛ ولذا أصبح النظام العالمي الذي تقوده الولايات المتحدة موضع تدقيق أكبر من أيّ وقت مضى. وعلى الرغم من أن الأمر قد يرتبط بشكل رئيسي بالقوى الناشئة (أو المُعَاد ظهورها) من الجنوب العالمي ونفوذها المتزايد، فإنه يعكس أيضًا مصدر قلق إضافي للنظام الدولي الليبرالي.
من وجهة نظر دول الجنوب العالمي؛ كان النظام العالمي في القرن التاسع عشر مشروعًا عنيفًا؛ حيث انخرطت القوى الإمبريالية الأوروبية في عمليات الغزو والاستغلال والاستعمار. وقد أسفرت هذه المغامرات الإمبريالية عن تقديم نسخة مركزية أوروبية من الحداثة والتحديث كطموح عالمي يُفترض أن ينطبق على الجميع.
إن الوحدة في النظام العالمي تتمثل في الدولة (الدولة القومية ذات السيادة) التي تشكَّلت بناءً على تجارب أوروبا الخاصة. وتخضع جميع الدول الأخرى لمعايير مركزية أوروبية، ويتم تقييمها وفقًا لمعايير نشأت في أوروبا، وانتشرت إلى جميع أنحاء العالم، دون مراعاة السياقات المحلية أو الظروف الثقافية. وقد أدَّى هذا الفرض المعرفي والوجودي المؤلم على السياسات العالمية، التي كانت منظمة بشكل مختلف عن الدولة القومية الغربية، إلى تصنيفها بشكل مزمن على أنها غير طبيعية. ولا تزال هذه المعايير القاسية تُشكّل تحديًا حاليًّا في إستراتيجيات ومخططات مؤسسات International Labour Organization (منظمة العمل الدولية) لمكافحة الفقر في الدول النامية. وغالبًا ما يؤدي أيّ انحراف عن معايير البنك الدولي وصندوق النقد الدولي إلى فرض عقوبات وإجراءات تأديبية، وهي أمور شائعة جدًّا في التعامل مع الاقتصادات “المتعثرة” و”المفلسة” في الجنوب العالمي.
تستند الطبيعة الإمبريالية لمنظمة العمل الدولية، وخصوصًا في السياق القانوني الأوروبي، إلى فرضية قائمة منذ زمن طويل؛ حيث تعتبر بعض الدول وشعوبها متحضرة بما يكفي لتكون جزءًا من عملية صُنع القرار في المؤسسات النخبوية، بينما يتم استبعاد الآخرين. إن الممارسة المزدوجة لمنظمة العمل الدولية، التي تتمثل في دعم حقوق الإنسان والديمقراطية والحريات والازدهار لمؤيديها، في حين تُحمّل آثار تغيُّر المناخ واستغلال الموارد الطبيعية، ونقص الصحة وضعف التعليم إلى الدول النامية، تخلق نظامين متوازيين يتطلبان العمل معًا. وبالتالي، لا تقتصر أنشطة منظمة العمل الدولية على العمل فحسب، بل تعتمد أيضًا بالضرورة على إنتاج نظام غير عادل وغير متساوٍ؛ حيث لا تُمنَح الكيانات المستعمَرة والمضطهدة والمُهمَّشة نفس الحقوق الإنسانية والكرامة والوكالة التي يتمتع بها الآخرون من الدول الغربية الذين يُعدّون أنفسهم متفوقين.
يمكننا أن نجد الطعن في عدم المساواة والظلم الذي تعاني منه منظمة العمال الأفارقة الآسيويين في التقليد الطويل من الممارسات المناهضة للاستعمار والإمبريالية. فقد تم تنظيم عدد من المؤتمرات الإفريقية في أوائل القرن العشرين بهدف زيادة الوعي حول الاستعمار الذاتي وإعلام الناس بالنضال ضد الاستعمار وما يترتب عليه من تدمير للمدن الكبرى. كما يوضح أدوم جيتاشو في كتابه “صنع العالم بعد الإمبراطورية”، فإن “إنهاء الاستعمار كان مشروعًا لإعادة تشكيل العالم، يسعى إلى إنشاء نظام دولي خالٍ من الهيمنة ومتساوٍ”. ويُعدّ غيتاشو أن التضامن الأفروآسيوي المناهض للاستعمار يجب أن يُفهَم ليس كحالة عابرة من تقارب المصالح، بل كمشروع يهدف إلى بناء عالم جديد بعد الاستعمار.
وبحلول عام 1955م، أصبح مؤتمر باندونغ رمزًا للتصحيح المناهض للاستعمار في النظام العالمي، واعتُبر بمثابة “الاستقلال الرسمي” للدول الإفريقية والآسيوية، ويمثل “المسيرة التي لا رجعة فيها نحو إنهاء الاستعمار”، التي كانت تسير فيها الدول المستعمَرة.
ويمكن القول: إن التعاون بين بلدان الجنوب، الذي يُعدّ مشروعًا سياسيًّا جذريًّا ومناهضًا للاستعمار، قد تأسس في مؤتمر باندونغ. وقد ظهرت في الخمسينيات تجارب مبكّرة للتعاون بين بلدان الجنوب، التي بدأت كتضامن إفريقي آسيوي مناهض للاستعمار، وكانت تحمل أيديولوجية واضحة ومعادية للهيمنة، تعكس أخلاقًا مناهضة للإمبريالية.
وكما أشار كريستوفر لي؛ فإن الأفروآسيوية “كانت مدفوعة بطموح لإعادة التفكير في تاريخ ومستقبل ما بعد الاستعمار في أعقاب الإمبراطوريات السابقة”. بالنسبة له، بدأ مؤتمر باندونغ كمرجع أساسي لنظام عالمي إقليمي ناشئ؛ حيث تمثل منطقة إفريقية آسيوية بين القارات التي كانت تعارض الإمبريالية وتوجهاتها الغربية، مما أشار إلى إمكانيات سياسية جديدة بدت قريبة، ولكن لم تتحقق بعد. كما سيتم توضيحه لاحقًا، فقد شهد التعاون بين بلدان الجنوب (SSC) في العقود الأخيرة تحولًا بعيدًا عن بعض المبادئ الأساسية التي أُسست عليها، واعتمد صيغًا جديدة. كما أشارت إيما مودسلي، فإن التعاون بين بلدان الجنوب (SSC) يشمل بشكل عام “نقل وتبادل الموارد والتكنولوجيا والمعرفة، في سياق التجارب والهويات الاستعمارية وما بعد الاستعمارية المشتركة، مع تعزيز القوة الجماعية وتنمية الجنوب العالمي في إطار أوسع”.
باندونغ كخيار بديل: خمسة مبادئ للتعاون بين إفريقيا وآسيا
استندت مبادئ باندونغ الخمسة للتعايش إلى مسار بديل؛ تتضمن هذه المبادئ الاحترام المتبادل لسيادة جميع الدول وسلامة أراضيها، وعدم الاعتداء، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية، والمساواة والمنفعة المتبادلة، بالإضافة إلى التعايش السلمي.
تشكَّلت هذه المبادئ الأساسية كمعيار للتضامن الأفروآسيوي في بداياته، ثم توسَّعت لتشمل أمريكا اللاتينية وأسَّست لاحقًا حركة عدم الانحياز. فيما يتعلق بالمبدأ الأول، الذي ينص على الاحترام المتبادل لجميع الدول في ما يخص السيادة والسلامة الإقليمية؛ سعى مؤتمر باندونغ إلى تعزيز قانون دولي يعترف بحقوق كل دولة وقدرتها على التصرف. كان الهدف من هذا المبدأ هو تقويض التسلسلات الهرمية السائدة التي “تُخضع” مفهوم السيادة. وعلى الرغم من أن لغة باندونغ لم تتوافق تمامًا مع المفهوم الغربي للسيادة “الوستفالية”؛ إلا أنها سعت إلى توسيع نطاق هذا المفهوم ليشمل الشعوب المستعمَرة في الجنوب العالمي.
يشير المبدآن الثاني والثالث، المتعلقان بعدم الاعتداء وعدم التدخل، إلى المشاعر المناهضة للإمبريالية التي كانت جوهرية في نظريات باندونغ المعرفية. كانت هذه المبادئ تهدف إلى التصدي للديناميكيات الإمبراطورية التي أدت إلى هيمنة الغرب على الواقع المادي. كما توقعت العسكرة التي كانت جزءًا كبيرًا من النظام العالمي، ودافعت بشكل استباقي ضد إعادة إنتاج الديناميكيات الإمبريالية. وبنفس السياق تقريبًا، قدم مبدأ المساواة والمنفعة المتبادلة رؤية أفقية للنظام الدولي التي تُجسّدها مقررات مؤتمر باندونغ. سعى هذا المبدأ إلى تحدي العلاقات الهرمية التي ميزت النظام العالمي، وأدخل مفهوم “المنفعة المتبادلة” لضمان عدم وجود “عدم المساواة أو الانحياز في التعاون بين دول الجنوب”.
في النهاية، تحدى مبدأ التعايش السلمي بشكل جذري النظام العالمي الذي شهد العنف المادي والمعرفي في العلاقات بين الشمال والجنوب. وقفت روح باندونغ لتعارض المنطق الذي شكَّل المفاهيم الغربية للوجود في الساحة الدولية. إن “التعايش” الذي يتم التأكيد عليه بطرق سلمية يُضْعِف التعايش العنيف الذي تؤمن به الدول الغربية. وتُشكّل هذه المبادئ مجتمعةً روح باندونغ والممارسة النظرية للتعاون بين دول الجنوب في الوقت الراهن. وعملت باندونغ، كمنظمة تسعى لصياغة عالَم ما بعد الاستعمار، على تقويض أنظمة المعرفة الغربية؛ من خلال التأكيد على حق الدول غير الغربية في العمل وفق نظرياتها المعرفية الخاصة. وأصبحت باندونغ رمزًا للاعتراض النشط على الوضع الراهن الذي هو نتاج الاستعمار الغربي. وقد أرست باندونغ الأساس لـ “تضامن العالم الثالث”، الذي قدَّم بديلًا للمؤسسات والعلاقات التي تهيمن عليها القوى الغربية.
وعد “تضامن العالم الثالث” برفض العلاقات التقليدية بين المستعمرات والعواصم، والعمل على إعادة تشكيل النظام الدولي بشكل أُفقي. وكانت قمة باندونغ لحظة فاصلة أضاءت على إمكانيات التغيير. وقد اتفق البيان الختامي للاجتماع على عدة نقاط، منها: (أ) ضرورة إنهاء الاستعمار بجميع أشكاله بشكل عاجل، (ب) أن الاستعباد والهيمنة والاستغلال يمثلون انتهاكًا لحقوق الإنسان الأساسية، ويتعارضون مع ميثاق الأمم المتحدة، ويُشكِّلون عائقًا أمام تعزيز السلام والتعاون العالمي، (ج) التأكيد على دعم قضية الحرية والاستقلال لجميع الشعوب، و(د) دعوة القوى المعنية إلى منح هذه الشعوب حريتها واستقلالها. ومع ذلك، كما أشار مودسلي وداي وآخرون، فإن العقود التي تلت إعلان باندونغ شهدت تحوُّلات حادة في اتجاه التعاون بين دول الجنوب، مبتعدةً عن جذورها الأيديولوجية والسياسية في باندونغ نحو نموذج أكثر تركيزًا على الأعمال التجارية.
التضامن الذابل: التعاون بين بلدان الجنوب والنظام النيوليبرالي
مع مرور الوقت، تحوَّل التعاون بين بلدان الجنوب من كونه مضادًّا للهيمنة وجذريًّا في التزامه بالتغيير إلى التركيز تدريجيًّا على النتائج والتعاون الفني والعلاقات المعاملاتية البراجماتية. حتى إن بعض الخبراء يشتكون من قلة التعاون بين بلدان الجنوب في سياق السياسات الحالية، مشيرين إلى أن روح باندونغ لا توجد إلا كصدى ظل لتجسيدها الأصلي.
كما أن أحد الأسباب الرئيسية وراء تآكل روح التعاون بين بلدان الجنوب المضادة للهيمنة هو عملية دمجها كجزء من مفردات الأمم المتحدة والتنظيم المؤسسي. في الواقع، يتم تمثيل التعاون بين بلدان الجنوب بشكل إيجابي إلى حد كبير باستخدام لغة مدعومة من الأمم المتحدة إلى حد ما، أو لا يتم اعتباره بديلًا جادًّا لأنماط صنع العالم الأوروبية المركزية في العلاقات الدولية. وهذا التناقض يخلق تجريدات تُمكِّن الجهات الفاعلة مثل الأمم المتحدة من وصف التعاون بين بلدان الجنوب بأنه مجرد تعزيز لتبادل المعرفة والخبرة بين بلدان الجنوب العالمي. والواقع أن قيام مؤسسة مثل الأمم المتحدة، التي تهيمن عليها الجهات الفاعلة الغربية وسياسات القوة النيوليبرالية، بتعريف التعاون بين بلدان الجنوب دون ذِكْر توجهاتها المناهضة للغرب وجذورها الناشطة المناهضة للاستعمار، من شأنه ببساطة أن يحجب ويسكت الدوافع والنضالات التي من المفترض أن تُغذِّي وتُنظِّم التعاون بين بلدان الجنوب.
إن تأسيس مؤسسة مثل الأمم المتحدة، التي تسيطر عليها القوى الغربية وتتبنَّى سياسات القوة النيوليبرالية، لتعريف التعاون بين دول الجنوب دون الإشارة إلى توجهاتها المعادية للغرب وجذورها النشطة المناهضة للاستعمار، قد يؤدي ببساطة إلى إخفاء وإسكات الدوافع والنضالات التي ينبغي أن تُغذِّي وتُنظِّم هذا التعاون.
لقد أعادت الخطابات التي تُروّج لها الأمم المتحدة بشأن التعاون بين بلدان الجنوب توجيه الأُسُس التي يقوم عليها هذا التعاون، مما أدَّى إلى تقليل طابعه الراديكالي الأصلي ووضع المؤسسات الغربية في مركز الشرعية لهذا التعاون. إن هيمنة مؤسسات مثل البنك الدولي على هذه الخطابات قد خفَّفت من الحماسة الثورية التي كانت تُحَرِّك لحظة باندونغ. كما أن استيعاب هذه الخطابات تحت مظلة المؤسسية النيوليبرالية قد قلّل من أهمية الرؤية الراديكالية للاختلاف، وتجاهل بشكل صارخ التناقضات التي تُكرّسها المؤسسات العالمية، والتي تُعزّز الواقع غير المتكافئ والاستعماري الجديد في العلاقات بين الشمال والجنوب. وقد أدَّى هذا الاستيعاب إلى تغيير مفهوم التعاون بين بلدان الجنوب.
في تقييم حالة التعاون بين بلدان الجنوب في عصر الإصلاحات النيوليبرالية؛ تباينت آراء العلماء حول فوائد هذا التعاون باعتباره مجالًا للاختلاف. فبينما يرى البعض أنه -رغم عيوبه- لا يزال يوفر خيارات متعددة، يؤكد آخرون أن التعاون بين بلدان الجنوب، في أفضل الأحوال، يُمثّل نوعًا من التبعية الجديدة؛ حيث أصبح اللاعبون الذين كانوا في السابق جزءًا من المحيط هم الآن النواة الجديدة، بينما تظل الدول في إفريقيا وأجزاء أخرى من العالم النامي في وضع هامشي دائم. وعلى النقيض من ذلك، يَعتبر البعض أن هذا التعاون يُشكِّل فضاءً يُسهِّل التعاون المناهض للتنمية ويُعزِّز المصالح الذاتية. ومع ذلك، يتفق الجميع على أن زخم باندونغ قد تراجع في ظل الإصلاحات السوقية النيوليبرالية. وسأستعرض هذا النقاش بشكل أعمق في القسم التالي.
التعاون بين دول الجنوب: تباين وتنافس في ظل النظام الدولي الليبرالي
أدت المناقشات الجارية حول فعالية التعاون بين دول الجنوب في تقديم بدائل تنموية قابلة للتطبيق إلى ظهور دراسات علمية متعمقة. ويطرح بعض الباحثين مجموعة من الأسئلة المحورية، مثل: ما هي أهداف الصين؟ هل تتبنى الصين نهجًا مختلفًا عن القوى الغربية الكبرى؟ هل يمكن أن يُعدّ التعاون بين دول الجنوب بديلًا فعّالًا للقوى التقليدية؟ هل توفر مجموعة البريكس إطارًا مؤسسيًّا لدول الجنوب للبحث عن بدائل للنظام الدولي الليبرالي؟ هل تُعزّز المشاركة الصينية في الجنوب العالمي من قدرة الدول الإفريقية على اتخاذ القرار؟ هل تتنافس أو تتعارض مع المعايير والقواعد التي يَفرضها النظام الدولي الليبرالي الغربي؟ وكيف يؤثر المانحون الجدد على المشهد مقارنة بالمانحين التقليديين؟ وغيرها من الأسئلة المهمة.
في النهاية، يوجد خيط مشترك بين هذه الاستفسارات، وهو التحقيق في ما إذا كانت هيمنة النظام الليبرالي مُهدّدة نتيجة التعاون بين دول الجنوب والنمو المتزايد للاقتصادات الناشئة (أو المُعَاد ظهورها) في الجنوب العالمي، ومدى تأثير ذلك.
رغم اختلاف الأساليب المتبعة في تناول هذه المناقشة، يمكن تصنيف الاستجابات ضمن طيف يتراوح بين الدراسات التي تؤكد أن التعاون بين دول الجنوب يضيف قيمة لوكالة الجنوب العالمي (مما يؤدي إلى التنوع) إلى الجانب الآخر من الطيف؛ حيث تؤكد الدراسات أن هذا التعاون قد جلب سلبيات تفوق الإيجابيات، مع وجود علاقات تتسم بفخاخ الديون، واختلال التوازن التجاري، واستغلال الموارد، وغيرها. ولتوضيح هذا الطيف، قمت بتحديد ثلاث فئات لتحليل الدراسات ذات الصلة. ومن خلال ذلك، أتناول مجموعة من خمسة مقالات تتناول هذه الأسئلة بشكل ما.
تقدم المقالة التي كتبها سيزني وويثال تحليلًا شاملًا للاستثمارات الصينية والبرازيلية في المشاريع الكبرى في موزمبيق، موضحة كيف تؤثر هذه الاستثمارات بشكل معقّد على العمالة والسياسة الوطنية وآفاق التنمية للموزمبيقيين. من خلال دراسة مشاريع بناء البنية التحتية الهندية في رواندا، ويُسلّط داي الضوء على النقاشات المتعلقة بالوكالة والاعتماد في التعاون بين دول الجنوب. وتتناول المقالات التي كتبها ألدين وأوتيلي، ولارج، وتشو استثمارات الصين وتعاونها مع الدول الإفريقية. بينما تُقدِّم مقالة لارج تحليلًا متعدد الأطراف لدبلوماسية المنتدى الصينية في إفريقيا من خلال منتدى التعاون الصيني الإفريقي (FOCAC)، ويركز تشو وأوتيلي على السياقات الثنائية التي تتناول مشاريع البناء في أوغندا وكينيا على التوالي.
وتُسهم المقالات الخمس مجتمعة في تعزيز فهمنا لكيفية نشوء التعاون بين دول الجنوب وتطوره وتكييفه بناءً على مجموعة متنوعة من الاختلافات السياقية. وفيما يلي، سأستعرض حجج كل فئة، وأقدم تحليلًا نقديًّا على مدار النص.
رفاق أم قوى مهيمنة متخفية؟
تَعتبر إحدى وجهات النظر في النقاش حول التعاون بين دول الجنوب أن الاقتصادات الناشئة، وعلى رأسها الصين، تحمل نوايا خبيثة في استثماراتها ومشاركاتها في إفريقيا. يظهر هذا الاتجاه في تحليلات السياسات، وروايات وسائل الإعلام، بالإضافة إلى الأبحاث الأكاديمية التي تُصوِّر الدول الإفريقية كضحايا أو ضعفاء أو مُستغَلين، أو ببساطة ساذجين في تعاملهم مع الصين وغيرها من الاقتصادات الناشئة.
على سبيل المثال، يتم استخدام تمثيلات بصرية ومجازية تصف الصين كـ”تنين شرس”، وهو ما يتكرر في المنشورات الأكاديمية، وكذلك في المصادر الإعلامية العامة والشعبية. إن استعارة التنين تُستخدم بشكل غير نقدي تقريبًا في عناوين الأبحاث، وأيضًا على أغلفة مجلة الإيكونوميست، وغالبًا ما تُرفق بتعليقات توضيحية حول شهية الصين للموارد الطبيعية أو إستراتيجياتها الغامضة للاستيلاء على ثروات إفريقيا.
مثال آخر هو سرد “فخّ الديون”؛ ففي مقال بعنوان “نظرة نقدية على دبلوماسية فخّ الديون الصينية: صعود الميم”، تشرح الأستاذة ديبورا براوتيجام كيف تم صياغة “سرد فخّ الديون” لأول مرة في مؤسسة بحثية ما. على الرغم من أن براوتيجام وعلماء آخرين لم يقدموا أيّ دليل يدعم رواية فخ الديون، إلا أن هذه الرواية لا تزال تُستخدَم بشكل واسع، خاصة عند مناقشة دور الصين في سريلانكا وجيبوتي وزامبيا.
تستند مجموعة أخرى من الحجج في هذا السياق إلى فكرة أن القادة الأفارقة يميلون إلى الاستبداد، وأن المساعدات الأجنبية غير المشروطة قد تؤدي إلى سلوك غير مسؤول. تشير دراسة نُشرت في عام 2015م مِن قِبَل مشروع بيانات موقع وأحداث الصراع المسلح (ACLED) بعنوان “المساعدات الصينية والعنف في إفريقيا” إلى أن المساعدات الصينية قد جعلت الدول الإفريقية “منبوذة”. وتُوضّح الدراسة أن القادة الأفارقة عُرضة للفساد بشكل طبيعي، وأن المساعدات الخارجية الصينية تهيئ الظروف الملائمة للفساد في غياب المساعدات الغربية، التي تضع -من خلال آليات الاشتراط- “الإرشادات الضرورية للدول الإفريقية لتجنب أن تصبح منبوذة”.
بالمثل، يستخدم بعض العلماء مفهوم “القوة الحادة” لوصف كيفية عمل دول مثل الصين وروسيا على تقويض المعايير الديمقراطية الليبرالية والمصالح الغربية في الدول الإفريقية، من خلال تعزيز الممارسات الاستبدادية مثل نشر المعلومات المضللة. من منظور “القوة الحادة”، تُعتبر القوى الناشئة أو أي دول غير غربية أو غير ديمقراطية موضع شكّ؛ حيث يُنظَر إليها على أنها تسعى لتقويض النظام الدولي الليبرالي. وتظهر الفروقات في هذه السرديات المثيرة للقلق التعاون بين دول الجنوب كنوع من الاستغلال والاستعمار الجديد والتخريب.
ومع ذلك، يُعدّ أحد أوجه القصور في هذا النهج أنه يتجاهل تمامًا دور الأفارقة ويقدمهم في إطار أبويّ؛ حيث يُنظَر إليهم على أنهم ضعفاء وخاضعين للإقراض الاستغلالي والإستراتيجيات السياسية الأجنبية المشبوهة مِن قِبَل القوى الناشئة غير الغربية وغير الديمقراطية.
وقد أشار الباحثون إلى أن هذا النهج يُعيد إنتاج العقليات الاستعمارية التي كانت ترى الأفارقة بشكل عام من خلال ما وصفته روكسان دوتي بعلاقة الوالدين بالطفل. يُفترض أن تكون الأنظمة السياسية الإفريقية في وضعِ يتطلب -مثل الأطفال-، الحماية والتوجيه والنصائح التحذيرية من نظيراتها الغربية. وفي سعيهم للحصول على تحليلات أكثر دقة، لجأ الباحثون إلى دراسة التفاصيل الدقيقة لتأثيرات الاستثمارات من الصين وغيرها من البلدان الناشئة، من خلال العمل الميداني الغني وتحليلات دراسات الحالة. وتتمتع هذه التحليلات الدقيقة بميزة الكشف عن الآليات المعقَّدة التي يتفاعل من خلالها الفاعلون من الصين أو الهند أو البرازيل أو غيرها من دول الجنوب العالمي مع النخب الإفريقية ومنظمات المجتمع المدني وجماعات المعارضة والقطاع الخاص والنقابات العمالية، وغيرها.
تُتيح فحوصات دراسات الحالة إبراز أصوات الجهات الفاعلة المحلية ومصالحها وأسبابها من خلال المقابلات والاستطلاعات وغيرها من الوسائل. كما تُسهم في تعقيد قصص التفاعل بين دول الجنوب بدلًا من تبسيطها عبر إعادة استخدام المجازات الاستعمارية الجديدة والعنصرية. العديد من هذه الدراسات التي تتناول التعاون بين بلدان الجنوب، والتي تعتمد على دراسات الحالة وأبحاث العمل الميداني، تُنظّم حول مفهومي البنية والوكالة، ويمكن اعتبارها جزءًا من أحد المعسكرين الرئيسيين المتبقيين في النقاش، والذي سأستعرضه في الأقسام القادمة.
من راديكالية باندونغ إلى حراس الوضع الراهن؟
في كتابه الشهير “صعود إفريقيا؟”، طرح الباحث الراحل إيان تايلور تساؤلات حول ما إذا كانت رواية صعود إفريقيا تستحق كل هذه الضجة، أم أن الدول الإفريقية كانت تسعى إلى تنويع اعتمادها من خلال استبدال القوى التقليدية بجهات فاعلة جديدة. وأشار تايلور إلى أنه على الرغم من أن الصين قد أصبحت أكبر شريك تجاري لإفريقيا لعدة سنوات، فإن العجز التجاري الذي تعاني منه القارة نتيجة لاستيراد السلع الصينية مقارنة بتصدير المنتجات الإفريقية إلى الصين يعكس وجود تفاوت كبير.
بالإضافة إلى ذلك، يرى الكاتب أن الدول الإفريقية الغنية بالموارد والمعادن لا تحقق أرباحًا أفضل أو أكبر من أصولها عند بيعها إلى الاقتصادات الناشئة أو دول الجنوب العالمي، مقارنة بتصديرها إلى القوى التقليدية أو الغربية. من خلال تحليل هذا التباين في القوة الاقتصادية، يقدم تايلور حجة قوية تفيد بأن السبب الرئيسي وراء فشل رواية صعود إفريقيا هو عدم وجود إصلاحات هيكلية أو أساسية في القارة، مما يمنع تحقيق مساواة أفضل، وصفقات أكثر عدالة، وعجز أقل، ليس فقط مع الصين أو البرازيل أو الهند، بل مع جميع شركاء إفريقيا، سواء القدامى أو الجدد. ومن هذا المنطلق، فإن التعاون بين دول الجنوب، سواء من خلال مجموعة البريكس أو غيرها من المجموعات، من المحتمل أن يُعيد إنتاج نفس الظلم وعدم المساواة في النظام الدولي الليبرالي، ما لم تُجرَ إصلاحات هيكلية تتيح تغييرات أكثر فعالية ونوعية في هذه العلاقات.
ومع ذلك، لا يبدو أن التحليل الميداني يشير إلى وجود تغيير ملحوظ في اعتماد إفريقيا على القوى الخارجية، سواء كانت قديمة أو جديدة، فيما يتعلق بوارداتها من الأسلحة، وعمليات حفظ السلام، وتدريبات بناء القدرات لضباطها، بالإضافة إلى الدعم اللوجستي الآخر. على الرغم من أن الصين قد زادت من وجودها الأمني في جميع أنحاء الجنوب العالمي خلال العقد الماضي، بما في ذلك الدول الإفريقية، من حيث التكنولوجيا وإمدادات الأسلحة، ودعم جهود السلام والأمن في الاتحاد الإفريقي، وتمويل المبادرات الإقليمية مثل مجموعة دول الساحل الخمس، إلا أن النتيجة النهائية تشير إلى استمرار وجود مستويات مرتفعة نسبيًّا من عدم التوازن في القوة العسكرية بين بلدان الجنوب، مما يُعيق تقديم بدائل ملموسة للوضع الراهن (النظام الدولي الليبرالي).
تنظر مجموعة أخرى من العلماء إلى مسألة عدم التوازن من زاوية القوة السياسية؛ حيث يرون أن قدرة النخب الإفريقية على التعاون بين بلدان الجنوب والتفاعل مع القوى الناشئة تظل محدودة بقوة مساومة هامشية. من هذا المنطلق، فإن دخول الاقتصادات الناشئة مجال المنافسة، يُعزّز من القوة التفاوضية الإفريقية أمام القوى الغربية التقليدية، إلا أن ذلك لا يؤدي إلى تحقيق تغييرات هيكلية كبيرة. وفي هذا السياق، ورغم أن النخب الإفريقية قد يكون لها دور في تحديد ما يمكن أن تُقدّمه الشركات الخاصة من عروض لبناء مشاريع البنية التحتية، إلا أن الواقع يظل أن القارة تعتمد بشكل كبير على القروض والتمويل الأجنبي لتحقيق هذه المشاريع. ويؤكد مؤيدو هذا الرأي أن الاحتفاء بالوكالة الإفريقية في إطار التعاون بين بلدان الجنوب يغفل القيود التي يفرضها هيكل النظام الدولي على هذه الوكالة. وبالتالي، قد يخطئ العلماء في فصل الدول عن سياقها ضمن الرأسمالية العابرة للحدود وغيرها من الهياكل التي تَحُدّ من خيارات النُّخَب الإفريقية.
ونظرًا لهذه الفجوات، يدّعي نَهْج التبعية الجديدة أن التعاون بين دول الجنوب لا يعدو كونه استمرارًا للتفاوتات الهيكلية العالمية، وأنه لا يمثل تغييرًا حقيقيًّا لقواعد اللعبة بالنسبة لدول الجنوب العالمي. وبالتالي، فإن هذا التعاون لا يفعل أكثر من إعادة إنتاج أنماط الاستغلال والرأسمالية، مما يؤدي إلى ظهور طبقات جديدة من التبعية فوق الطبقات الاستعمارية القديمة، ويمنح قوة هامشية في المفاوضات، في حين ينبغي على الأفارقة السعي نحو إصلاحات هيكلية أعمق. على سبيل المثال، في دراسة أجراها إريك سيزن وأولريكي ويذال حول مشاريع البنية التحتية الكبرى في موزمبيق، توصَّل المؤلفان إلى أنّ “العمال الموزمبيقيين وصفوا تجاربهم مع نظرائهم الصينيين والبرازيليين في مواقع العمل من خلال تصورات عنصرية وتمييز”، مما يتحدَّى “ادعاءات الأُفقية في العلاقات الصينية الإفريقية”، ويطمس الفروق بين العلاقات الشمالية والجنوبية والعلاقات الجنوبية فيما بينها.
يرى هؤلاء الباحثون أن “الأنماط التي تميزت بها لقاءات إفريقيا مع الاستثمارات الأجنبية الكبيرة تتكرر، حتى في ظل الهياكل التنموية التحويلية والمُمكِّنة في دول الجنوب”. وبالمثل، يشير جون فيليبس إلى أن “تطوير البنية التحتية للغاز الممولة من الصين لم يكن مسارًا تنمويًّا مختلفًا بشكلٍ ملحوظ عن المسار الذي اعتمده صندوق النقد الدولي أو البنك الدولي”. في الواقع، يُؤكّد هؤلاء الباحثون أن أوجه التشابه تفوق الاختلافات في النتائج عندما يتعلق الأمر باللاعبين التقليديين أو الناشئين في السياق الأوسع.
كوسيلة للتعامل مع الأسباب التي جعلت التعاون بين بلدان الجنوب أكثر توافقًا مع الحفاظ على الوضع الراهن بدلًا من النشاط الراديكالي في عصر باندونغ، ويشير داي إلى أن التحوُّل في توجُّه التعاون بين بلدان الجنوب من التضامن الراديكالي المناهض للاستعمار في القرن العشرين إلى التعاون غير المُسيَّس في القرن الحادي والعشرين يمثل جوهر المشكلة. فقد أدى هذا التحول إلى تركيز الجهات الفاعلة في التعاون بين بلدان الجنوب على المنطق الرأسمالي بدلًا من الروح الثورية. ويؤكد باحثون -مثل داي- على هذا التراجع عن المسؤولية. ويشير “داي” بذكاء إلى أن التعاون بين بلدان الجنوب كان في بداياته مرتبطًا بأخلاقيات راديكالية مناهضة للاستعمار، بالإضافة إلى أهدافه المادية التي تشمل التعاون الفني وتبادل المعرفة بين دول الجنوب العالمي.
ومع ذلك، في صيغته الحديثة في القرن الحادي والعشرين؛ حيث فقد التعاون بين بلدان الجنوب تقليده المتمثل في نقد القوة العالمية ووجهة النظر المناهضة للهيمنة. ويشير “داي” إلى أنه في غياب الجانب السياسي، يمكن أن يؤدي التعاون بين بلدان الجنوب إلى “تفاقم نقاط الضعف الهيكلية للحكومات المستفيدة من حيث قدرتها على تنظيم المشاريع”، مما قد “يؤدي بدوره إلى زيادة التكلفة الاجتماعية والبيئية والاقتصادية للمهام التنموية التي تقوم بها الحكومة”.
وتشير التكرارات السابقة للتعاون بين بلدان الجنوب -كما يوضح داي- إلى أن التركيز كان في الغالب على التعليم وبرامج بناء القدرات وتبادل التكنولوجيا. ومع ذلك، يشهد القرن الحادي والعشرون تحولًا كبيرًا في هذا التعاون؛ حيث أصبح التركيز الآن أكثر على التمويل المؤسسي للبنية التحتية؛ فقد أصبحت مشاريع البنية التحتية عنصرًا أساسيًّا في التعاون بين بلدان الجنوب، ولكن وفقًا لداي، فإن هذا التحول قد أدى أيضًا إلى توجيه التعاون بعيدًا عن التعليم ونقل المهارات نحو نموذج عمل يعتمد بشكل أكبر على تقديم العطاءات والفوز بعقود لبناء البنية التحتية، دون وجود إطار أيديولوجي أوسع يفسِّر الدوافع وراء ذلك.
يمكن أن تكون الحجة المتعلقة بتغيير الأولويات أكثر ملاءمة للعلاقات بين الهند وإفريقيا مقارنة بالاتجاهات السابقة والحالية للصين تجاه القارة الإفريقية. في الواقع، شهدت الاستثمارات في رأس المال البشري، مثل المنح الدراسية، وندوات التدريب المهني، وبرامج تبادل المهارات، زيادة ملحوظة في العلاقات بين الصين وإفريقيا، على عكس الاتجاه المتناقص للمنح الدراسية التي تقدمها الحكومة الهندية للأفارقة. فعلى سبيل المثال، لم يتجاوز عدد الطلاب الأفارقة في الصين ألف طالب خلال الخمسينيات، بينما ارتفع هذا العدد إلى ثمانين ألف طالب في عام 2018م.
وبشكلٍ مُشابه، حتى في أحدث منتدى للتعاون بين الصين وإفريقيا (FOCAC) الذي أُقيم في داكار عام 2021م، ورغم تراجع معظم التعهدات المالية الصينية تجاه إفريقيا؛ إلا أن عدد المنح الدراسية ومبادرات بناء القدرات الأخرى قد شهد زيادة.
وفي الختام، يمكن تلخيص هذا الجانب من النقاش بالقول: إنه في سياق التبعية الجديدة، “لا يتم نفي قدرة النُّخَب الحاكمة على صُنْع السياسات، بل يُفْهَم أنها مُقيّدة بشدة ضمن نطاق ضيّق من صنع القرار بفعل العوامل الهيكلية”.
في هذا السياق، يُعدّ التعاون بين دول الجنوب في صورته الحالية استمرارًا للوضع القائم وليس انفصالًا عنه. ويتمثل العيب الرئيسي في هذا النهج في أن التركيز على قوة البنية قد يُوحي بشكل معياري بأن الجهات الفاعلة، سواء كانت تقليدية أو جديدة، معفاة من المسؤولية والوكالة في إطار هذا التركيز. وهناك خطر حقيقي يتمثل في أن هذا النهج قد يؤدي إلى تبرير الطبيعة القمعية والاستعمارية والعنصرية والإمبريالية للعلاقات بين القوى الأوروبية والأفارقة، من خلال الادعاء بأن ما تقوم به الصين والدول الناشئة في إفريقيا اليوم لا يختلف عن تلك العلاقات التاريخية.
وعلى الرغم من عدم إصلاح البنية العامة والعلاقات المتعلقة بالتبعية في إطار التعاون بين دول الجنوب، فإن العلاقات بين هذه الدول تختلف عن العلاقات بين الشمال والجنوب بطرق مهمة، وهو ما سأناقشه في قسم لاحق. إن تطبيع السرد حول الوضع الراهن قد يؤدي بسرعة إلى إعفاء القوى الغربية من المسؤولية عن البنية غير المتكافئة وغير العادلة المفروضة على إفريقيا في إطار النظام الدولي الليبرالي. ويُعدّ التعاون بين دول الجنوب فرصة حقيقية لتبادل الخبرات والتجارب الناجحة. فهل يمكن أن يكون هذا التعاون وسيلة للتغيير رغم القيود الهيكلية الموجودة؟
في النهاية، يتبنّى النهج الثالث في تحليل التعاون بين دول الجنوب منظورًا يركز على الوكالة؛ حيث يبرز كيف أن إشراك مجموعة متنوعة من الفاعلين يزيد من الخيارات المتاحة للأفارقة. من هذا المنطلق، يمتلك التعاون بين دول الجنوب إمكانيات تحررية؛ حيث يمثل بداية “عصر الاختيار” من خلال توفير تمويل إنمائي جديد يعزز “القوة التفاوضية لبعض الدول النامية أمام المانحين التقليديين”، ويفتح آفاقًا وأساليب جديدة للتعاون تتجاوز النماذج الأوروبية التقليدية. وقد ساهمت الصين في تعزيز دبلوماسية القمة في العقود الأخيرة من خلال منتدى التعاون الصيني الإفريقي، كما استضافت الهند وكوريا الجنوبية وروسيا وتركيا نسخًا من دبلوماسية القمة مع الدول الإفريقية. وقد أتاح هذا النوع من الدبلوماسية للأفارقة مساحة “للحوار والعمل والفرص” لممارسة سلطتهم فيما بينهم.
ويُعدّ مقدمو التمويل التنموي الجدد جذابين؛ نظرًا لتسهيلهم بناء مشاريع البنية التحتية التي تلعب دورًا حيويًّا في تنقل المواطنين والسلع والأفكار. ويمكن اعتبار مشاريع البنية التحتية بمثابة وسيلة لتعزيز آفاق التنمية والرفاهية للنخب والمجتمعات النائية عن مراكز القوة. وقد أظهرت الأبحاث أن مبادرة الحزام والطريق أسفرت عن زيادة ملحوظة في حجم تمويل التنمية والسيولة في دول الجنوب العالمي؛ حيث يرتبط تمويل البنية التحتية في إطار هذه المبادرة بارتفاع كبير في الصادرات نتيجة لانخفاض تكاليف التجارة. علاوة على ذلك، يظهر أن التمويل الخارجي من الصين له تأثير إيجابي على النتائج الاقتصادية في الدول المستفيدة، مما يُعزّز النمو الاقتصادي على المدى القصير.
في الحقيقة، بينما تركز بنوك التنمية متعددة الأطراف التقليدية، مثل البنك الدولي، جهودها في الإقراض على تحسين البنية التحتية الناعمة المتعلقة بالإدارة العامة؛ فإن الصين توجّه قوتها الإقراضية نحو تطوير البنية التحتية الصلبة في مجالات النقل والطاقة، بالإضافة إلى تعزيز التنمية الصناعية. وهذا الأمر ينطبق بشكل خاص على إفريقيا؛ حيث يُعتقد أن الشركات الصينية قد قامت ببناء أو ترقية حوالي 30,000 كيلو متر من الطرق السريعة مع نهاية العام 2018م.
كما أشارت ماريا أديل كاراي، إلى أن “بكين توفّر حلًّا شاملًا في مجالات التمويل والتأمين والبناء للدول المضيفة، وغالبًا ما تكون عملياتها أكثر كفاءة وأقل تكلفةً مقارنة بالمفاوضات مع الممولين الغربيين”.
ويُعدّ تطوير البنية التحتية أمرًا حيويًّا أيضًا للحكومات الإفريقية التي تسعى للاستفادة من التحوُّل نحو الطاقة الخضراء، ولديها طموحات لتكرير مواردها المعدنية محليًّا لزيادة حصتها في صناعة بطاريات السيارات الكهربائية. ومع فتح الاقتصادات الناشئة واللاعبين في الجنوب العالمي، مثل الصين وتركيا، لخطوط ائتمان جديدة للدول الإفريقية لتأمين التمويل والمشاريع البنية التحتية المنجزة، فإنهم يُقدّمون خيارات وبدائل ملموسة للحكومات التي تبحث عن بدائل للمانحين الغربيين. ومن المؤكد أن العلماء الذين يُركّزون على الصورة الأكبر ويشيرون إلى أن التعاون بين دول الجنوب لم يُسْفِر بعدُ عن إصلاحات جوهرية سيكونون مُحِقّين في ملاحظتهم أنه رغم وجود مصادر جديدة للتمويل، فإن الاعتماد على اللاعبين الخارجيين لا يزال قائمًا.
هذا وتُواجه القارة الإفريقية -رغم الاقتراض من عدة جهات- فجوة كبيرة في البنية التحتية؛ حيث تحتاج إلى ما يتراوح بين 130 و170 مليار دولار أمريكي سنويًّا على مدار العقد المقبل لسد هذا العجز. بالإضافة إلى دراسة كيفية ربط البنية التحتية بالوكالة، يُركّز باحثون آخرون على تحليل التعاون بين دول الجنوب من خلال استكشاف تفاصيل الصفقات وشروط العقود المتعلقة بمشاريع البنية التحتية الكبرى. على سبيل المثال، يتتبع كريس ألدين وأوسكار أوتيلي عملية بناء خط السكة الحديدية القياسي في كينيا، بدءًا من صياغة السياسات وصولًا إلى تنفيذها. ومن خلال تحليل مصالح النخب الإفريقية المتنافسة في سياق المشاريع الممولة من الصين، يزعم المؤلفان أن الوكالة الإفريقية يمكن فهمها من خلال دراسة الأدبيات المتعلقة بديناميكيات النخبة الوطنية والمحلية في الاقتصاد السياسي الإفريقي.
وتوضح دراستهما كيف تُتيح المشاريع التي تقودها الصين في مجالات الموارد والبنية التحتية “للنخب المحلية فرصة للحصول على تنازلات على مدى فترة تنفيذ هذه المشاريع، مما يؤدي إلى إنشاء صفقات جديدة للنخبة، وفي النهاية دمج المصالح الصينية بشكل أعمق في الاقتصاد السياسي الإفريقي”. ومن الواضح أن العلاقات النخبوية بين الصين وإفريقيا قد تم تحليلها مِن قِبَل العديد من الباحثين، وقد توصلوا إلى نتائج متنوعة. على سبيل المثال، تشير آنا كريستينا ألفز وسيرجيو تشيتشافا إلى أن الوكالة النخبوية الإفريقية تجاه الصين “أظهرت، في معظم الحالات، طابعًا أنانيًّا ومعاديًا للتنمية”.
وتشير النقطة التي يطرحها أوتيلي إلى أهمية التركيز ليس فقط على المرحلة الأولى من صياغة المشروع، بل أيضًا على المراحل اللاحقة من التنفيذ؛ حيث تكون المجتمعات المحلية والمساهمون جزءًا من عملية التفاوض.
هناك موضوع ذو صلة في هذا السياق، وهو الأبحاث التي تشير إلى أنه حتى إذا لم تُسهم نتائج التعاون بين بلدان الجنوب في تعزيز قوى المساومة للأفارقة بشكل كبير؛ فإن هذا التعاون لا يُضعف معايير الحوكمة التي تضعها الدول الصناعية الكبرى أو تأثيرها على بناء المؤسسات في إفريقيا. ويؤكد هانغ تشو أن تأثير المانحين التقليديين في بناء المؤسسات لم يتم استبعاده أو استبداله بشركات البناء الصينية.
تتوافق هذه الحجة مع آراء العديد من الباحثين الذين يدرسون تأثير الاستثمارات الصينية في إفريقيا على القوى التقليدية. ويتناول المقال مسألة ما إذا كانت المساعدات الصينية تؤدي إلى تآكل نفوذ الغرب ومنظمة الدول الصناعية الكبرى في مجال الحوكمة. ولتحقيق هذا الهدف، يؤكد تشو أن الجهات الفاعلة الصينية والمشاركات الصينية في التعاون بين دول الجنوب لم تسعَ إلى “التغلغل بشكل اعتيادي وعميق في نسيج المؤسسات القطاعية وعملها بنفس الطريقة التي يقوم بها نظراؤهم الغربيون”. وتدعم هذه الحجة أعمال العديد من الباحثين التي توضح الفروق بين المساعدات الخارجية الصينية وتلك التي تُعتبر تقليدية.
كما هو الحال مع جوانب أخرى من النقاش، فإن هذا الخط من الحجج يحمل عيوبه أيضًا. تتطلب قراءة الوكالة الإفريقية في سياق التعاون بين بلدان الجنوب نهجًا دقيقًا يمزج بين الاحتفاء بالمشاركة النشطة للنخب والجهات الفاعلة الإفريقية، مع ضرورة عدم تجاهل أن الوكالة قد تتَّسم أيضًا بالأنانية. وإن تحميل النخب الإفريقية كامل المسؤولية قد يؤدي إلى لعبة إلقاء اللوم السهلة، التي توحي بأن فساد هذه النخب هو السبب الرئيسي للتخلف، بدلًا من الاعتراف بالتفاوتات الهيكلية. في الواقع، هناك مجموعة متزايدة من الدراسات التي تُقدِّم تحليلات وانتقادات دقيقة للتعاون بين بلدان الجنوب، مع التركيز على قضايا مثل حقوق العمال، وتغير المناخ، وحقوق الأراضي، والأمن الغذائي، وغيرها من القضايا المهمة.
المسألة الأساسية هنا هي ضرورة أن تحظى المزيد من الدراسات العلمية باهتمام أكبر في تحليل وجهات النظر الإفريقية حول تحديات هيكل التعاون بين دول الجنوب والوكالات. حتى الآن، كانت معظم المناقشات المتعلقة بالتعاون بين دول الجنوب تُركّز على منظمة التعاون بين دول الجنوب، مع تسليط الضوء بشكل رئيسي على تأثير مشاركة الصين وتركيا والبرازيل والهند وغيرها في إفريقيا على المصالح الغربية والمؤسسات الغربية وهيمنتها. في المستقبل، يمكن أن تسهم المزيد من الدراسات العلمية في توضيح هذه القضايا من خلال وضع الأفارقة في قلب التحليل.
التاريخ المشترك وبناء العالم في علاقات بلدان الجنوب
على مر مراحل تطوره المتعددة؛ ظل التعاون بين بلدان الجنوب مرتبطًا دائمًا بسردية معينة، وبلاغة، وممارسات خطابية تهدف إلى تعزيز التواصل بين سياسات هذه البلدان استنادًا إلى تاريخ مشترك، ونضال مألوف، وأهداف متقاربة.
وتلعب هذه السرديات دورًا حيويًّا بالنسبة للقوى الناشئة؛ حيث تُعتبر وسيلة للإشارة إلى أن البلدان النامية تقترب من التنمية من منظور مختلف، بالإضافة إلى خلق شعور بالألفة بينها؛ حيث إن الألفة والارتباط تُعتبران من الآليات الأساسية في العلاقات داخل الجنوب العالمي؛ حيث تعكس أن القوى الناشئة لا تُشكّل نفس التهديد الذي تمثله القوى التقليدية (الغربية). كما أن الطلاب والباحثين في مجالات العلاقات الدولية النقدية وما بعد الاستعمارية يدركون مفهوم الآخرية في السياسة العالمية، خاصة في الخطابات والسياسات التي تصنّف البلدان النامية على أنها دول “ضعيفة” و”فاشلة” و”هشة”.
تُعزَى هذه التسميات المزدوجة عادةً إلى الدول التي تُعتبر تنميتها وحوكمتها ومعاييرها دون المستوى عند مقارنتها بمعايير القوى الأوروبية والأمريكية. وبالتالي، تعكس علاقات الآخرية الجهات الفاعلة والمؤسسات التي تدعم النظام الدولي الليبرالي؛ حيث تُعتبر حاملة للخبرة والمعايير الصحيحة للتنمية والحكم. وبالمثل، يرتبط “الآخرون” في الجنوب العالمي بمفهوم التخلف والدونية، ويُنظَر إليهم كمساحات للتدخلات والتجارب بهدف “إصلاح” المناطق التي تُعتبر ناقصة.
إن التمييز بين الدول لا يقتصر على تحديد أوجه القصور في دول الجنوب العالمي فحسب، بل يمتد أيضًا إلى تقديم وصف للحلول والأنظمة الغذائية التي يُفترض أن ترفعها إلى مصاف الدول المتقدمة والنامية. وغالبًا ما يكون الخطاب المرافق لهذا التقييم سلبيًّا؛ حيث يُركّز على الافتقار والغياب والنقص، مما يستدعي بالضرورة الاستعانة بالخبرات الغربية لإيجاد الحلول. ويشير أرتورو إسكوبار إلى هذا الأمر من خلال حالة وفد خبراء البنك الدولي الذي زار كولومبيا في عام 1949م لتقديم تقرير حول التنمية هناك وتقديم توصيات. ويشرح إسكوبار كيف أن نظرة الوفد وموقفه التصنيفي لم يقتصر على ملاحظة “الاختلالات” مثل “الأميين” و”المتخلفين” و”المعانين من سوء التغذية” و”المزارعين الصغار” أو “الفلاحين بلا أرض”، بل ساهمت أيضًا في خلق هذه الاختلالات، والتي تم التعهد بمعالجتها لاحقًا. ولا تفتقر الأمثلة إلى الأفارقة (من بين مناطق الجنوب العالمي الأخرى) الذين ينتقدون هذا النموذج الآخر باعتباره أوروبيًّا وعنصريًّا وغير فعّال.
في هذا السياق، تتبنَّى القوى الناشئة، بما في ذلك الصين، نهجًا حذرًا في تنظيم خطابها تجاه الآخرين؛ حيث تركّز بدلًا من ذلك على تعزيز قيم الإدماج والإيجابية والقرابة والصداقة في علاقاتها مع الدول الإفريقية. ومن المعروف أن بكين تُسلّط الضوء على قُربها وتشابهها مع الدول الإفريقية؛ من خلال التأكيد على التجارب المشتركة في النضال ضد الاستعمار. وتؤكد النخب الصينية بشكل متكرر أن علاقاتها مع الدول الإفريقية تستند إلى معايير التضامن والتعاون بين بلدان الجنوب، بالإضافة إلى التاريخ المشترك والتطلعات التنموية المشتركة. ويقوم الخبراء الصينيون ببناء “سرد حول تنمية الصين ورؤيتها لنظام عالمي شامل وقابل للتعامل، بدلًا من تقديم الدول النامية ككيانات أخرى”. وبالتالي، يتم إدماج دول الجنوب العالمي، بما في ذلك إفريقيا، في تجربة الصين، مُعبِّرة عن ذلك بلغة الشمول والانفتاح والصداقة والتضامن، كما يتجلَّى في عبارات مثل “المجتمع ذي المستقبل المشترك” و”العالم المتناغم”.
بالإضافة إلى ذلك، تشير النُّخَب الصينية في كثير من الأحيان إلى اللحظة التي حصلت فيها جمهورية الصين الشعبية على الدعم الدبلوماسي من الدول الإفريقية في الجمعية العامة للأمم المتحدة، مما ساعدها على استعادة مقعدها الدائم في مجلس الأمن بدلًا من جمهورية الصين (تايوان). وفي نوفمبر 2021م، تناول الرئيس الصيني “شي جين بينج” هذا الموضوع خلال خطابه في منتدى التعاون الصيني الإفريقي، مُعبِّرًا عن امتنان الصين لصداقة الدول الإفريقية.
إن تكرار الإشارة إلى تصويت الجمعية العامة للأمم المتحدة في عام 1971م يُعدّ وسيلة لبكين لتوضيح موقفها تجاه الدول الإفريقية كدولة جنوبية عالمية استفادت من دعم إفريقيا، بدلًا من التركيز على سياسة القوة العظمى أو التفوق. من خلال تسليط الضوء على التعاون بين دول الجنوب، الذي يتجذر في تجربة تاريخية مشتركة ونضال ضد الاستعمار، وتتمتع الصين والهند وتركيا والبرازيل، وغيرها من الدول، بفرصة فريدة لتعزيز التقارب مع نظرائها في إفريقيا، مما يُوفّر خيارات بديلة لمنظمة التحرير الشعبية القمعية. ومن المؤكد أن القادة الأفارقة استغلوا هذا الماضي المشترك للتأثير على نظرائهم الصينيين وصُنّاع السياسات في الصين لصالح المصالح الإفريقية.
إن تكرار النضالات المشتركة ضد الممارسات الاستعمارية والإمبريالية الأوروبية والأمريكية في الصين وإفريقيا يُتيح للأفارقة فرصة جَذْب القروض والتمويل الصيني، وذلك بفضل سَعْي بكين لتكون معترف بها كزعيمة للجنوب العالمي، بالإضافة إلى تقويضها لمنافسيها في إفريقيا. ومع ذلك، فقد نجح استحضار التاريخ المشترك من خلال التشابه؛ حيث دعا بعض المسؤولين الأفارقة بكين إلى النظر في إلغاء ديون العديد من الدول الإفريقية. وقد ساعدت هذه الخطابات التي تُبرز أوجه التشابه والتاريخ المشترك الأفارقة في الحصول على قروض صينية ودعم مالي وتعاون إنمائي، مما منحهم فترة راحة ضرورية من الصفقات العقابية التي أبرمها صندوق النقد الدولي والبنك الدولي. وبالتالي، تمكَّنت سرديات التشابه من تجاوز نقاش هيكل الوكيل، وإعادة صياغة الجانب المُعقَّد والعلاقات المتبادلة للتعاون والوكالة بين بلدان الجنوب.
ما الذي ينتظر التعاون بين دول الجنوب؟
في النهاية، يبدو أن التعاون بين دول الجنوب العالمي سيبقى، سواء تم تقييمه من منظور الشراء الخطابي أو من خلال تأثيره على تشكيل العالَم. ومن المحتمل أن يستمر هذا التعاون جزءًا من اللغة الأكاديمية والسياسات الموجهة في الجنوب العالمي.
ويُعدّ التعاون بين دول الجنوب مفهومًا واسعًا ومرنًا، وعلى الرغم من أن جذوره تعود إلى التضامن العالمي المناهض للاستعمار في الخمسينيات؛ إلا أنه قد تطوَّر منذ ذلك الحين، وتغيرت توجهاته، واكتسب زخمًا، وتوسع ليشمل مجموعة متنوعة من الفاعلين والمؤسسات. بينما كان التعاون في بداياته في العقد الأول أكثر تركيزًا على الأيديولوجيا بسبب النشاط المناهض للاستعمار في تلك الفترة، إلا أنه قد تجاوز -رغم عدم تخليه عن الرمزية- الاعتماد على التضامن البلاغي.
ويوجد عدد متزايد من الباحثين الذين يقومون بإنتاج دراسات مُعمّقة تستكشف التعاون بين دول الجنوب؛ من خلال تحليلات دقيقة لحالات دراسية وتجارب ميدانية غنية. ويمكن أن تُسهم المزيد من هذه الأبحاث في تعزيز فهمنا للتحولات التي يشهدها النظام الدولي، والتي تدفعها الرغبة في الابتعاد عن مراكز القوة التقليدية. وهناك حاجة مُلِحَّة لمزيدٍ من الدراسات التي تتناول شكل النظام في ظل النزاعات والضغوط التي تواجهها الدول في الجنوب العالمي.
…………………………
رابط الدراسة:
https://academic.oup.com/afraf/article/123/491/223/7659875