لا تزال إشكالية الوصول البحري الإثيوبي والسيادة الوطنية للبلدان الساحلية المجاورة، واحدةً من أكثر القضايا حساسيةً وتعقيدًا في إقليم القرن الإفريقي، لا سيما في ظل المتغيرات الجيوسياسية المتسارعة، والتنافس الإقليمي والدولي على النفوذ في خليج عدن والبحر الأحمر.
وزاد من زخم هذه الإشكالية، تعالي أصوات قرع طبول الحرب في الآونة الأخيرة، مدفوعة بدرجة كبيرة بـ”اندفاع” النخبة الإثيوبية نحو فكرة امتلاك منفذ بحري، مع تصاعد الخطاب التحريضي، بل والعدائي في بعض الأحيان، بشأن هذا الطموح الجيوسياسي؛ مما زاد من حدة التوترات في المنطقة، وأعاد صياغة تحالفات وموازين قوى في ظل سياق إقليمي ودولي متغير.
وقد امتدت التوترات المرتبطة بالطموحات الإثيوبية البحرية من ساحات السياسة والدبلوماسية إلى مجالات الفكر والتحليل الأكاديمي والإستراتيجي؛ حيث بدأ يتشكل خطاب مضادّ يسعى إلى تفنيد المبررات الإثيوبية من منظور تاريخي وقانوني وجيوسياسي.
أحدث تجليات هذا الخطاب ورقة دراسات بحثية بعنوان: “السيادة الإريترية ومسعى إثيوبيا للوصول إلى البحر([1])“(Eritrean Sovereignty And Ethiopia’s Quest For Sea Access) ، والتي أصدرها مجموعة من الباحثين والمفكرين الإريتريين، أواخر مارس الماضي (2025م) تناولوا فيها ما اعتبروه محاولات إثيوبية لإعادة تشكيل واقع المنطقة، من خلال استدعاء سرديات تاريخية منتقاة، وتوظيف اعتبارات اقتصادية وأمنية لتبرير الطموحات نحو الوصول إلى البحر.
هذه الورقة، تأتي بعد قرابة عام من إصدار معهد الشؤون الخارجية الإثيوبي (يتبع وزارة الخارجية) كتابًا باللغة الأمهرية بعنوان “የሁለት ውኃዎች ዐቢይ ስትራቴጂ”، ويُترجم إلى العربية: “الإستراتيجية الرئيسية للجسمين المائيين (حوض النيل والبحر الأحمر)”، تزامن صدوره هو الآخر مع مناقشات واسعة النطاق حول طموحات إثيوبيا “الحبيسة” في الوصول “التجاري” و”العسكري” المباشر إلى البحر الأحمر، ومع عدم التوصل إلى اتفاق حول ملء وتشغيل سد النهضة، الذي تتخوَّف من تداعياته مصر على حصتها المائية([2]).
يتناول هذا المقال، قراءة في مسوغات إثيوبيا في مسألة الوصول إلى البحر الأحمر، من منظور ورقة الدراسات الإريترية، ويسعى إلى تفكيك منطقها وتقييم توازنها في طرح الحجج وتوظيف المعطيات، على أن يُعرّج قليلًا على ما جاء في “الإستراتيجية الإثيوبية”؛ نظرًا لدلالاتها المرتبطة هي الأخرى بكيفية فهم وتشكيل وإعادة صياغة العلاقات الإثيوبية الإريترية وتوازنات الإقليم، خصوصًا تلك المرتبطة بإشكالية المنفذ البحري.
حول المؤلفين وورقة الدراسات الإريترية:
تقع ورقة الدراسات، بين جنبات 86 صفحة تشمل الغلاف، وهي من تأليف مشترك لمجموعة باحثين ومفكرين إريتريين، يعرفون أنفسهم بـ””فريق العمل المعني بالبحر الأحمر” كهيئة مستقلة، ولديهم مساهمات واهتمامات أكاديمية متنوعة تدور حول شؤون إريتريا والقرن الإفريقي، وصياغة الدساتير، وحلّ النزاعات، والمساعي الدبلوماسية الحميدة، والديمقراطية وحقوق الإنسان، والقانون الدولي بما في ذلك قانون البحار، إلى جانب قيام بعضهم بأدوار شعبية ودبلوماسية ووزارية في مراحل زمنية مختلفة من عمر الدولة الإريترية قبل وبعد الاستقلال عن إثيوبيا 1991م.
ويتكون الفريق من تسعة أكاديميين، يقيم خمسة منهم في الولايات المتحدة، وثلاثة في أوروبا، وواحد في كندا، وهم: يوهانس هايلي، وجبري تسفاجيورغيس، ومحمد خير عمر، وميبراهتو أتووبرهان، وبولس تسفاجيورغيس، وتيامي تيوولد برهان، وكيداني منغستيب، وسينغال وولديتنساي، ومنغستيب تسفاي يوهانس.
وتنقسم هذه الورقة -إلى جانب المقدمة والملخص والخاتمة والاستنتاجات والتوصيات- إلى أربعة فصول؛ الأول يتناول السياق التاريخي للوصول الإثيوبي إلى البحر الأحمر، والثاني يناقش قضايا الجغرافيا والديموغرافيا المتعلقة بالوصول البحري، أما الثالث فيتناول المسوغات القانونية الدولية، في حين يتناول الفصل الرابع الآثار الاقتصادية والأمنية لمسعى إثيوبيا للوصول إلى البحر.
ويشير الملخص التنفيذي إلى أن تشكيل فريق العمل المعني بالبحر الأحمر؛ جاء استجابة لخطاب رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد أمام برلمان بلاده في 13 أكتوبر 2023م، حين قال: إن البحر الأحمر هو “الحد الطبيعي لإثيوبيا”، وأن الوصول إلى البحر “مسألة وجودية”، ومنذ ذلك الحين، استهدف الفريق الإريتري إجراء دراسات موضوعية وتحليلات معمقة لمختلف جوانب مطالبة إثيوبيا بملكية البحر الأحمر أو الوصول إليه.
الأفكار الرئيسية لورقة الدراسات الإريترية:
تصنف ورقة الدراسات الإريترية، المسوغات التي تستند إليها إثيوبيا في “ادعاءات ملكية البحر الأحمر أو حق الوصول إليه” ضمن أربعة محاور رئيسية: (1) التاريخ، (2) الجغرافيا والديموغرافيا والإثنية، (3) القانون الدولي، (4) الاقتصاد.
المحور الأول: المسوغات التاريخية
استعرضت الورقة، التاريخ القديم لإريتريا والمناطق المحيطة بها، بما في ذلك مملكة أكسوم الحبشية (50 ق.م، و700م)، وتوصلت إلى أن المجتمعات المتنوعة التي تسكن المنطقة حاليًّا لديها تراث مشترك، يجب توجيهه نحو التعاون الاقتصادي والتعايش السلمي، بدلاً من استخدامه في تبرير مطالبات إقليمية على أراضي الدول المجاورة.
وبالانتقال إلى التاريخ الحديث، أوضحت الورقة كيف قامت إيطاليا الاستعمارية بإنشاء مستعمرتها في إريتريا عام 1890م، بعد سلسلة من المعاهدات مع السلاطين العفريين المحليين، وقد ساعد الحكم الاستعماري الإيطالي، الذي دام أكثر من ستين عامًا، في توحيد المجموعات العرقية الإريترية المختلفة (المعترف بها كـ 9 قوميات)، في نضال مشترك ضد الاستعمار الغربي والإثيوبي لإريتريا، مما أدى إلى نشوء الهوية الوطنية الإريترية.
وقد تعزّز هذا الحسّ القومي الإريتري أثناء الإدارة العسكرية البريطانية بعد هزيمة إيطاليا عام 1941م، ثم تصاعد خلال فترة الاتحاد الفيدرالي مع إثيوبيا (1953: 1962م)، وما تلاها من ضم إثيوبيا إريتريا إلى أراضيها قسريًّا، ما أدَّى إلى كفاح مسلح أسفر عن استقلال إريتريا فعليًّا عام 1991م، ورسميًّا بعد استفتاء عام 1993م، لتنضم بذلك إلى المجتمع الدولي كدولة مستقلة ذات سيادة في 28 مايو 1993م.
وتشدد الورقة على أن الحدود المعترف بها دوليًّا بين إريتريا وإثيوبيا تعود في أصلها إلى الحقبة الاستعمارية، كما هو حال معظم دول إفريقيا الحديثة، وفي هذه الحالة، فهي نتيجة لسلسلة من المعاهدات بين إيطاليا (المستعمر لإريتريا) والإمبراطور الإثيوبي منليك الثاني في أوائل تسعينيات القرن 19، وقد أقر اتفاق الجزائر عام 2000م، بعد نزاع عسكري بين البلدين (حول مثلث بادمي الحدودي)، الحدود الاستعمارية، لكنها عادت لتواجه تهديدات من جديد بسبب “الخطاب العدواني” لرئيس الوزراء الإثيوبي وسعيه لامتلاك منفذ على البحر الأحمر على حساب سيادة جيرانه.
هذا التناول التاريخي من المنظور الإريتري، يُحيلنا إلى ما جاء في الإستراتيجية الإثيوبية للمياهين (البحر الأحمر ونهر النيل)، التي تقول: إن “الحكومات الإثيوبية المتعاقبة خاضت مسيرة نضالية للحصول على منفذ بحري والوصول إلى ساحل البحر الأحمر، كان محورها ينطلق من موقف: لإثيوبيا ملكية قديمة وإطلالة على البحر الأحمر، وهي صاحبة الحقوق الكاملة والحيازة التامة، وأن الحدود الطبيعية لإثيوبيا هي البحر الأحمر والمحيط الهندي”.
وقد نبعت هذه الرؤية من تفسيرات إثيوبية تقول: إن سقوط ممالك أكسوم وزاغو والأباطرة السليمانيين في إثيوبيا؛ كان بسبب فقدان ميزة الوصول البحري وإضعاف قواتهم البحرية، وأن سيطرة مصر في عهد أسرة محمد علي (1805- 1952م) على مناطق البحر الأحمر، مثَّل تهديدًا مباشرًا لإثيوبيًا وخطرًا على أمنها القومي.
المحور الثاني: المسوغات الجغرافية والديموغرافية والإثنية
تشير ورقة الدراسات الإريترية إلى أن “الحجة الجغرافية” الإثيوبية تفترض أن كونها دولة حبيسة؛ جعلها “أسيرة الجغرافيا”، الأمر الذي حدَّ من قدرتها على التفاعل الإقليمي والدولي، في حين تتمثل الحجة الديموغرافية، في “ادعاء” إثيوبيا -التي يتجاوز عدد سكانها 120 مليون نسمة- أنها تواجه ضغطًا ديموغرافيًّا شديدًا، وأن افتقارها لمنفذ بحري يزيد من تفاقم هذا العبء السكاني.
وتمتد هذه الحجة الديموغرافية إلى حجة إثنية، تستند فيها إثيوبيا على أن قومية العفر -التي تمتد بين دول جيبوتي وإريتريا وإثيوبيا- يعيش معظم أفرادها في الجانب الإثيوبي، ما يجعل من إثيوبيا “الموطن الحقيقي” لشعب العفر.
واعتبرت كذلك أن بعض تفاصيل هذه الحجة تنطوي على انتهاك لسيادة الدول المجاورة، وأن هناك سرديات تاريخية “مزيفة” تُستخدم للتلاعب بمواقف المجتمعات الحدودية المشتركة، ومن هذا المنطلق، تعتقد إثيوبيا أن سواحل البحر الأحمر -خاصة مدينة عصب ومحيطها-، يجب أن تكون جزءًا من أراضيها.
وبيّنت الورقة أن هناك عزلة اجتماعية سياسية واقتصادية بين بلدان القرن الإفريقي عامة، وداخل إثيوبيا خاصة، ثلاثة تطورات تاريخية متداخلة ساهمت في تعميق هذه العزلة:
أولاً: التباعد الاجتماعي الناتج عن انتشار الإسلام في المناطق الساحلية والمنخفضة، ما دفع بالإمبراطورية الحبشية القديمة نحو الجنوب والغرب.
ثانيًا: احتلال الأوروبيين للمناطق الساحلية في القرن 19، وتشكيل كيانات سياسية وحدود جديدة.
ثالثًا: السياسات التنموية الخاطئة بعد الاستعمار، بما في ذلك التفاعل غير المدروس مع العولمة.
وبناءً على ذلك، من وجهة النظر الإريترية، فإن الزعم بأن كون إثيوبيا دولة حبيسة يُشكّل تهديدًا وجوديًّا لها يُعدّ “استنتاجًا خاطئًا ومبالغة غير مبررة”، ويتجاهل أبعادًا متعددة أخرى، مثل الثروة، والاستقرار، والعوامل المرتبطة بهما، إلى جانب المقارنة التبسيطية بين الدول الحبيسة وتلك الساحلية.
وبشأن “ادعاء” إثيوبيا “الحق” في البحر استنادًا إلى الوجود العفري في إريتريا، فمن المنظور الإريتري، لعب العفر الإريتريين أدوارًا محورية في النضال ضد الاستعمار وفي الكفاح من أجل استقلال بلادهم.
كما أن “الادعاء” بأن الأراضي المأهولة بالعفر في إريتريا يجب أن تتبع إثيوبيا فقط –بدعوى أن غالبية العفر يعيشون في إثيوبيا-؛ يعد انتقائيًّا ويناقض واقع تعدد الأعراق العابرة للحدود في المنطقة، كما ينتهك سيادة وسلامة أراضي كلٍّ من إريتريا وجيبوتي، ويخالف سياسات الاتحاد الإفريقي والأعراف الدولية.
علاوةً على ذلك، فإن جميع الدول الساحلية في المنطقة تضم على الأقل مجموعة عرقية واحدة مشتركة مع إثيوبيا، على سبيل المثال، يوجد كل من العفر، والكناما، والساهو، والتيجراي (الناطقين بالتجرينية) في كل من إثيوبيا وإريتريا.
وتاريخيًّا، تركز البعد العرقي في الجدل حول الوصول إلى البحر على مجموعتي العفر والتيجراي، اللتان كانتا في صميم العلاقة الإثيوبية-الإريترية، وفي لحظتين تاريخيتين بارزتين: الأولى في نقاشات الأربعينيات التي أدَّت إلى الترتيب الفيدرالي، والثانية في السعي الإثيوبي الحالي للوصول إلى البحر بعد استقلال إريتريا، ومع استثناء بعض الأصوات المحدودة داخل التيجراي الكبرى، فإن الخطاب القائم على “التيجرينية” لا يحظى حاليًّا بأيّ دعم ملموس، وفق وجهة النظر الإريترية.
المحور الثالث: المسوغات القانونية
تطرح الورقة في هذه الجزئية تساؤلاً: هل يمنح القانون الدولي إثيوبيا الحق في الوصول إلى البحر؟ لتجيب: نعم؛ يقر قانون الأمم المتحدة للبحار على أن للدول الحبيسة مثل إثيوبيا “حق الوصول من وإلى البحر”، لكنها شدَّدت على أن هذا الحق ليس مطلقًا؛ إذ يشترط نفس القانون اتفاقًا مع دولة العبور واحترام سيادتها وسلامة أراضيها.
كما أن إريتريا وبقية بلدان ساحل القرن الإفريقي، تعترف بحق إثيوبيا في الوصول إلى البحر، في حين تكمن المشكلة حين تطالب إثيوبيا بامتلاك أراضٍ ساحلية، مثل ميناء عصب، كما أن القادة الإثيوبيين “مهووسون” بمسألة “الامتلاك” في سعيهم للوصول إلى البحر.
هذا الامتلاك، من المنظور الإريتري، إلى جانب تعارضه مع القانون الدولي للبحار، يتعارض أيضًا مع المبدأ الإفريقي “عدم المساس بالحدود الموروثة من الاحتلال”، وكذلك مع ميثاق الأمم المتحدة الخاص بحظر “التهديد أو استخدام القوة ضد السلامة الإقليمية أو الاستقلال السياسي لأي دولة”.
المحور الرابع: المسوغات الاقتصادية والأمنية
من الناحية الاقتصادية، لم تواجه إثيوبيا تهديدًا وجوديًّا بسبب كونها دولة حبيسة، بل على العكس، حققت نموًّا اقتصاديًّا بين عامي 1998 و2018م دون استخدام الموانئ الإريترية، وقد استفادت من قربها الجغرافي من عدة موانئ في الدول المجاورة، مثل ميناء جيبوتي.
كما لا تهيمن القيود الجغرافية في منطقة القرن الإفريقي، على الأداء الاقتصادي بقدر ما تفعل عوامل أخرى، مثل: سوء الإدارة، والصراعات العرقية، وهشاشة الدولة، وجميع دول المنطقة تعاني من هذه العوامل بدرجات متفاوتة، ورغم أن إثيوبيا ليست من بين أفقر دول المنطقة، إلا أنها كجيرانها تُواجه هكذا التحديات.
وفي ظل هذه الظروف، تتوصل ورقة الدراسات الإريترية، إلى أنه يصعب الاقتناع بأن المشكلة الأساسية في الاقتصاد الإثيوبي تكمن في عدم امتلاكه منفذًا على البحر، أو أن رسوم خدمات الموانئ المرتفعة المزعومة هي السبب الجوهري لأزماته.
ومن الناحية الأمنية، لم يشكل غياب قاعدة بحرية خطرًا على التجارة البحرية الإثيوبية، وإنما تأتي التهديدات الأمنية الحقيقية من الداخل، لا من الخارج؛ حيث تُعدّ تحديات بناء الدولة المزمنة مصدر التهديد الأكبر لوحدة إثيوبيا واستقرارها؛ لذا فإن معالجة هذه المشكلات الداخلية لتحقيق التنمية المستدامة، ينبغي أن تكون أكثر إلحاحًا لإثيوبيا من السعي نحو السيطرة على البحر الأحمر.
وفي هذا الصدد، تحذر ورقة الدراسات الإريترية، من تداعيات ظهور حملة في إثيوبيا تطالب باستعادة ميناء عصب؛ استنادًا إلى دعاوى تاريخية وقانونية، على غرار انتقاد لجنة ترسيم الحدود بين البلدين، بحجة أنها لم تضع “حق إثيوبيا في الوصول إلى البحر” في الحسبان.
وفي المقابل، ترى في هذه المطالب تهديدًا مباشرًا لإريتريا، وتعقد فرص المصالحة بين البلدين، ومع تصاعد الخطاب القومي في إثيوبيا، ترتفع حدة التوتر بين الطرفين، وسط مخاوف من أن تتحول المسألة إلى صراع مفتوح.
التداعيات الاقتصادية والأمنية لمطالب إثيوبيا في الوصول البحري:
من المنظور الإريتري؛ إذا نجحت إثيوبيا في الحصول على منفذ بحري خاص بها، فإن الديناميات الإقليمية ستتغير.
- بالنسبة إلى جيبوتي: قد تخسر جزءًا كبيرًا من عائداتها الناتجة عن خدمات الميناء التي تقدمها لإثيوبيا، ما قد يؤثر على اقتصادها الهشّ.
- في حين أن إريتريا لن تتضرر مباشرة ما دامت إثيوبيا لا تستخدم موانئها، لكن السماح لإثيوبيا ببناء قاعدة بحرية على أراضيها يُعدّ مستبعدًا في ظل العداء طويل الأمد بين البلدين، كما أن أيّ تدخل عسكري أو ضغط سياسي على أسمرة من أجل السيطرة على ميناء عصب سيزيد من حدة التوتر في ظل هذه البيئة العدائية.
- وفيما يتعلق بأرض الصومال، فقد وقَّع “الإقليم الانفصالي” مذكرة تفاهم تمنح إثيوبيا شريطًا ساحليًّا مقابل اعترافها باستقلاله، ما قُوبِلَ برفض شديد من الصومال، وأدى إلى تجميد الاتفاق، وإذا تحققت الصفقة، فإنها قد تضر بمصالح جيبوتي أيضًا.
- أما بالنسبة لإثيوبيا، فإن إنشاء ميناء جديد أو قاعد بحرية يتطلب استثمارات ضخمة، وقد لا يكون مجديًا على المدى القريب، وبالإضافة إلى تكاليف البناء والتشغيل، ستواجه تحديات جيوسياسية في حال تغيُّر ميزان القوى الإقليمي بسبب ذلك.
عطفًا على ما سبق، تعتقد ورقة الدراسات الإريترية، أن السعي الإثيوبي للحصول على منفذ بحري، رغم أهميته الإستراتيجية لأديس أبابا، يحمل في طياته مخاطر اقتصادية وسياسية وأمنية لكل من إثيوبيا والدول الساحلية المجاورة.
حل معضلة الوصول البحري لإثيوبيا من منظور إريتري:
ولتحقيق أغراض إثيوبيا في الوصول البحري بطريقة سلمية ومستدامة، تشدد الورقة على ضرورة الالتزام بـما يلي:
- الشفافية والتعاون والمفاوضات الدقيقة والمدروسة.
- التركيز على التعاون الإقليمي بدلاً من التحركات الأحادية، باعتباره الطريق الأمثل نحو ترسيخ السلام المستدام، وتعزيز التكامل الاقتصادي، وتحقيق منافع مشتركة لجميع الأطراف المعنية.
- استكشاف دول الإقليم بدائل ترتكز على تحقيق الرخاء الاقتصادي لجميع الأطراف، وبناء الثقة والسلام الإقليمي.
- التفكير في إستراتيجيات طويلة الأمد، تشمل حلولاً ثنائية وإقليمية، أو مقاربات تجمع بينهما.
وفيما يخص طرح الحلول الثنائية، تطرح الورقة رؤية إريترية تقوم على أن العلاقات الثنائية بين إريتريا وإثيوبيا ستتطلب أولًا اتفاقًا رسميًّا حول كيفية منح إثيوبيا حق الوصول إلى البحر الأحمر، دون المساس بسيادة ووحدة أراضي إريتريا.
وبناء على هذه الرؤية؛ فإن عقد اتفاق ثنائي سلمي بين إريتريا وإثيوبيا، وفقًا لقانون البحار، قد يتيح ما يلي:
- وصول إثيوبيا إلى موانئ عصب ومصوع الإريترية -بشروط- تعود بالنفع على الطرفين.
- إعادة بناء التعاون الاقتصادي والتجاري بين البلدين، والتعامل بالعملات المحلية (البِر الإثيوبي أو الناكفا الإريترية)، مما يُقلّل الحاجة إلى العملات الصعبة.
- تمكين إثيوبيا من الاستثمار في تطوير الموانئ والبنية التحتية اللازمة.
- تمكين إريتريا من تنشيط موانئها اقتصاديًّا وجني فوائد مالية، مع تجنُّب التهديدات المستمرة من جانب إثيوبيا بشأن الوصول إلى البحر.
كما أن الاندماج الإقليمي الشامل والفعَّال، بحسب هذه الرؤية الإريترية، له أهمية بالغة، ورغم ضعف فعالية الهيئة الحكومية للتنمية (IGAD) حاليًّا بسبب النزاعات المتكررة بين أعضائها، إلا أنها لا تزال تُشكّل إطارًا مناسبًا لهذا النوع من التكامل.
ومن هذا المنظور، قد يتيح التكامل الإقليمي الفعال ما يلي:
- تعزيز التعاون بين الدول وتحقيق نمو اقتصادي مشترك.
- منع الإجراءات الأحادية الضارة من قبل أيّ دولة عضو.
- ستستفيد إثيوبيا بشكل خاص من هذا التكامل؛ لأنه يوفر لها وسيلة اقتصادية أكثر فعالية في الوصول البحري.
خاتمة واستنتاجات عامة:
تتوصل ورقة الدراسات الإريترية إلى خلاصة مفادها أن امتلاك إثيوبيا ميناءً خاصًّا بها قد يعود عليها ببعض الفوائد، إلا أن غيابه لا يُشكِّل تهديدًا وجوديًّا، كما يدّعي آبي أحمد والنخبة الإثيوبية؛ فخلافًا للعديد من الدول الحبيسة، تتمتع إثيوبيا بقرب -جغرافي- نِسْبي من موانئ جيرانها الساحليين، مما يساعدها في إبقاء تكاليف العبور منخفضة نسبيًّا.
كما أن جيران إثيوبيا الساحليين لم ينكروا عليها مطلقًا حق الوصول إلى البحر؛ حيث إنهم يعترفون بحقها في ذلك، وإلا فإن منعها سيكون ضد مصالحهم الخاصة أيضًا.
الأمر ذاته ينطبق على مسألة امتلاك إثيوبيا قاعدة بحرية؛ حيث تتوصل الورقة إلى أن عدم امتلاك إثيوبيا لهكذا قاعدة، لم يسبب أيّ تهديد أمني لتجارتها البحرية، في حين أنه تُرجّح أن يقوم أحد جيران إثيوبيا بتأجيرها شريطًا ساحليًّا لإنشاء قاعدة بحرية، شريطة ألا تُشكّل البحرية الإثيوبية تهديدًا لأمنه، وأن تكون رسوم الإيجار مجزية.
وبالنظر إلى التحديات الداخلية التي تواجهها، فإن طموحات إثيوبيا في أن تصبح قوة إقليمية كبيرة، قد تبقى مشروعًا طويل الأمد، أما على المدى القصير، فهي تُواجه عقبات أكثر أهمية من مجرد عدم امتلاك منفذ بحري؛ حيث تُعدّ أزمة بناء الدولة من بين أبرز العقبات؛ إذ إنها تُغذّي نزاعات داخلية مزمنة تُهدّد وحدة البلاد وسلامة أراضيها.
لذلك؛ فإن معالجة هذه المشكلات الجذرية يُعدّ أمرًا أساسيًّا لتحقيق طموحاتها الكبرى، في وقت من الممكن أن تساعد العلاقات الإقليمية الجيدة إثيوبيا في تجاوز أزمتها الوطنية، بينما العلاقات المتوترة مع الجوار قد تزيد من تعقيد جهود بناء الدولة فيها.
ويختتم الباحثون والمفكرون الإريتريون مشروعهم البحثي بمجموعة توصيات، تدعو إثيوبيا إلى التخلّي عن “النهج العدائي” في حلّ الخلافات، والتركيز بدلاً من ذلك على المفاوضات السلمية والتعاون بين الدول، سواء على المستوى الثنائي أو الإقليمي، مما يُعزّز السلام والاستقرار والتنمية ليس فقط بين إريتريا وإثيوبيا، ولكن في عموم إقليم القرن الإفريقي.
وتشمل هذه التوصيات:
- على إثيوبيا التصالح مع استقلال وسيادة إريتريا، والتخلّي عن مساعيها لامتلاك أيّ جزء من الأراضي الإريترية، سواء كانت عصب أو غيرها.
- يجب على دول القرن الإفريقي الساحلية، الاعتراف بالحق القانوني لإثيوبيا في الوصول البحري.
- ضرورة دخول أديس أبابا وأسمرة في مفاوضات رسمية، بحسن نية؛ من أجل التوصل إلى اتفاق ثنائي يمنح إثيوبيا حق الوصول البحري وحرية العبور لبضائعها، بطريقة لا تنتهك سيادة وسلامة الأراضي الإريترية، وفقًا لما ينص عليه القانون الدولي (قانون البحار).
- يجب على دول المنطقة استكشاف إمكانية التفاوض على اتفاقيات متعددة الأطراف؛ من شأنها أن تؤدي إلى تكامل إقليمي، يُعزّز التعاون الاقتصادي والتنمية والسلام والأمن الإقليمي.
- على إثيوبيا التوقف عن استخدام ورقة العِرق العفري، أي الادعاء بأن عفر إريتريا وأراضيهم يجب أن تكون تابعة لإثيوبيا.
- يجب على إثيوبيا التوقف عن أيّ مواقف عسكرية أو عدوانية في سعيها للوصول البحري.
رؤية تقييمية للمنظور الإريتري في إشكالية الوصول البحري:
إجمالاً، يتميز المنظور الإريتري “الأكاديمي” حول إشكاليتي السيادة الإريترية ووصول إثيوبيا البحري، بطرح متماسك نسبيًّا، قدّم تفنيدًا للحجج الإثيوبية التي ركَّزت عليها محاور الورقة في فصولها الأربعة، كما عبَّر عن “قلق مشروع” من طموحات إثيوبيا “التوسعية” على حساب السيادة الوطنية لجيرانها وبالتحديد إريتريا؛ وذلك في إطار مقارن مع ذات المحاور والأفكار والإستراتيجيات الإثيوبية، التي سبق أن ترجمتها خطابات سابقة لآبي أحمد، أو النخب في بلاده.
كما لم تَنْفِ ورقة الدراسات الإريترية، أحقية إثيوبيا في مطالبتها بالوصول البحري، “انطلاقًا من مبادئ القانون الدولي للبحار”، مع تمسكها في الوقت ذاته بمسألة السيادة الوطنية.
ويُحسب للمفكرين والباحثين الإريتريين، تقديمهم مقاربات سياسية ودبلوماسية واقتصادية تستهدف تعزيز التعاون الثنائي والإقليمي المتكافئ وتحقيق الأمن والسلم في المنطقة، وإن كانت في مجملها مقاربات لا ترقى إلى الواقعية، في ظل تجاوزها أزمات الاندماج الوطني، والصراعات الإثنية، والحروب الأهلية، وهشاشة النظم الحاكمة، والخلافات المتأصلة بين بلدان الإقليم.
يعزز ذلك؛ تعمق المفكرين والباحثين الإريتريين، في تحليل جذور المشكلات والأزمات البنيوية المزمنة التي تعيق بناء الدولة في إثيوبيا -وكذلك بقية جيرانها- وتوصلهم إلى نتيجة مفادها أن “قضية الوصول إلى البحر نتيجة وليست سببًا”.
علاوةً على ذلك، ثمة إشكاليات نقدية أخرى، يأتي على رأسها تركيز الورقة بدرجة كبيرة على سَرْد وتفنيد وجهات النظر الإثيوبية في مسألة الوصول البحري والسيادة الإريترية فحسب، مع عدم تناولها أيّ طرح لديناميات هذه المسألة على المستوى الوطني الإريتري، خاصةً تلك المرتبطة بمواقف وأدوار نظام الرئيس أسياس أفورقي، الذي يحكم منذ الاستقلال، ولم يثبت أن قدَّم مشروعًا وطنيًّا أو رؤية إستراتيجية واضحة لدور بلاده الإقليمي ومصالحها في البحر الأحمر، على غرار نظيره الإثيوبي على سبيل المثال.
كذلك، اتسم تناول مسألتي السيادة والوصول البحري، بتركيز محدود على مواقف دول الجوار الأخرى -خاصة الصومال وجيبوتي- التي تشارك إريتريا نفس المخاوف الجيوسياسية والاقتصادية والأمنية من الطموحات البحرية الإثيوبية.
يقودنا ما سبق طرحه، إلى القول: إن ورقة الدراسات، لم تتعامل مع إشكالية السيادة والوصول البحري، باعتبارها جزءًا رئيسيًّا من تفاعلات وتحولات القوى الإقليمية أو في سياق التنافس بين القوى الكبرى والناشئة في البحر الأحمر وخليج عدن، وبالتالي أسقطت كثيرًا من المعطيات الجيوسياسية المعتبرة التي قد تعيد صياغة العلاقات والمحاور الإقليمية والدولية بشكل جديد، رغم تزامن صياغة مضامين هذه الرؤية البحثية الإريترية مع هذه التطورات، حسبما جاء في مقدمتها.
في الأخير، وعلى الرغم من التحفظات السابقة، فإن ورقة الدراسات قدمت من منظور أكاديمي إريتري، تصورات “براغماتية” وحلولاً تفاوضية خلّاقة، لمآلات مستقبلية محتملة لإشكالية السيادة الوطنية والوصول البحري، يمكن البناء عليها حال توفرت الظروف الإقليمية والدولية الملائمة، إلى جانب توافر حسن النية، واحترام السيادة الوطنية، وجدية الرغبة في المساعي التعاونية والتكاملية بين بلدان القرن الإفريقي، بدلاً من تبنّي الأساليب والوسائل الصراعية.
………………….
[1] -Yohannes Haile (et al), Eritrean Sovereignty And Ethiopia’s Quest For Sea Access, Association of Eritrean Studies, Mars 2025.
https://eritreanstudies.org/wp-content/uploads/2025/03/Red-Sea-Task-Force-Final-Report-1.pdf
[2]– ربيع محمد محمود، تحليل إستراتيجي لوثيقة معهد الشؤون الخارجية الإثيوبي: إدارة نهر النيل والبحر الأحمر في السياسة الإثيوبية، قراءات إفريقية، 9 سبتمبر 2024م