تترقب كندا انتخابت عامة في نهاية ابريل المقبل وسط تغيرات دولية تضرب باستقرارها بشكل واضح في سياق التهديدات التي أطلقتها إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ضد كندا والتي وصلت إلى حد الدعوة لضم الدولة الكندية للولايات المتحدة الأمريكية وتجريدها من استقلالها وسيادتها حسب رؤية ترامب.
وفي هذا المخاض السياسي الصعب أصدرت كندا بشكل خجول للغاية ما عرفت باستراتيجية كندا الإفريقية (6 مارس) مما يثير علامات استفهام مبدئية حول جدية تبني كندا مقاربة جديدة للقارة الإفريقية، ربما تتغير بشكل كامل حسب مخردات الانتخابات العامة المزمع عقدها في 28 أبريل المقبل.
يتناول المقال الأول استراتيجية كندا الإفريقية كمن مقاربة عرض الفرص والتهديدات. أما المقال الثاني فيتناول حالة محددة لإسهامات كندا التنموية في إفريقيا والتي يمكن توقع ان تكون نموذجًا لمزيد من المساهمات الكندية في دعم التنمية المستدامة في إفريقيا.
وتناول المقال الثالث والأخير مسألة هامة دالة على هشاشة الوضع السياسي الكندي في المرحلة الحالية مع وجود تهديدات بتدخل صيني وهندي (وبدرجة أقل روسي وباكستاني) في العملية السياسية الجارية في كندا، دون إغفال احتمالات تورط الولايات المتحدة بقوة في الشئون السياسية الداخلية في كندا في المرحلة المقبلة وهو الأمر الذي يثير تساؤلات حول قدرة أوتاوا على تبني مقاربة افريقية مستقلة وناجعة في المستقبل المنظور.
استراتيجية كندا الإفريقية: لحظة فارقة لا تزال بحاجة للعمل([1])
كشفت كندا، للمرة الأولى في تاريخها، عن استراتيجية إفريقية شاملة تمثل خطوة مفصلية هامة في مقاربة كندا مع القارة الإفريقية. وقد كشف الاستراتيجية النائب الليبرالي روب أوليفانت Rob Oliphant، السكرتير البرلماني لوزير الشئون الخارجية، في 6 مارس الجاري. وتمثل الاستراتيجية خطوة هامة نحو علاقة أكثر تماسكًا وتحديدًا. ويستحق هذا التوجه التقدير لأسباب متعددة.
نقاط قوة الاستراتيجية:
أولها أنها تظهر تقدير كندا لأهمية إفريقيا المتصاعدة في الساحة العالمية. كما أنها تقر بحاجة كندا للعمل عن كثب مع الدول والمنظمات الإفريقية في منتديات دولية مثل الأمم المتحدة ومجموعة العشرين والفرانكفونية. كما تضع الاستراتيجية كندا ليس فحسب كشريك في تعزيز صوت إفريقيا في الشئون العالمية، لكن أيضًا كحليف في تعميق المصالح الاستراتيجية للحكومة الكندية في الخارج.
كما كانت عملية تطوير الاستراتيجية شاملة بشكل ملحوظ، مع مساهمات لأكثر من 600 معني بالملف. ولم تضمن مثل هذه العملية التشاورية تنوع وجهات النظر فحسب، بل كانت تعزز المحاسبية في تطبيق الاستراتيجية. وأخيرًا فإن نطاق الاستراتيجية الواسع يضيف لأهميتها. وبتعمد شمول الاستراتيجية مجموعة واسعة من الشركاء الأفارقة- من الاتحاد الإفريقي إلى مجموعات الشتات في كندا- فإن الحكومة الكندية خلقت إطارًا يسمح لدول ومنظمات إفريقية متنوعة الحضور بقوة في هذه الشراكة.
أسئلة عالقة:
بأي حال، كما في أي تطور سياسي مهم، فإنه لا تزال هناك مجالات لتحسين الاستراتيجية وتساؤلات بحاجة للإجابة عليها؛ وتشمل:
تخصيص الموارد: إذ بينما تضع الاستراتيجية أهدافًا طموحة، فإنه ليس واضحًا كيف يمكن تحقيق مثل هذه الأهداف دون ضخ مخصصات جديدة. ورغم إمكانية الرد على ذلك بأنه ثمة خيار للحكومة بإعادة هيكلة التخصيص القائم للتوافق مع التغيرات السياسية الأوسع نطاقًا، فإن ذلك سيترك فجوات في البرمجة التنموية الراهنة. وعلى الحكومة الكندية تقديم تفاصيل أكثر تحديدًا عن التمويل وقياسات التطبيق ومراحله.
البيئة التنافسية: لا تحدد الاستراتيجية على نحو كامل موقف كندا الراهن في إفريقيا. وفيما تحدد المنافسة المتزايدة من لاعبين معروفين في القارة مثل الصين والاتحاد الأوروبي وروسيا، وكذلك عدد من المنافسين الصاعدين مثل البرازيل وتركيا ودول الخليج، فإنها لا تواجه واقع الدرجة التي فقدت فيها الأرض بالفعل في إفريقيا. ويحتاج الأمر إلى ربطه بجانب سمعة كندا الراسخة في التاريخ بوصفها داعمة للانتقالات الديمقراطية في الدول الإفريقية ولاسيما خلال النضال ضد العنصرية في جنوب إفريقيا، وكذلك في عمليات حفظ السلام في أجزاء متفرقة من القارة.
ودفعت الاستثمارات في المشروعات التنموية المرتبطة بالتعليم والصحة في إفريقيا سمعة كندا لأعلى باعتبارها دولة داعمة ومستجيبة لحل القضايا الأفريقية.
الابتكار والتعليم: رغم أن الاستراتيجية المذكورة تنص على مشاركة الشباب وجماعات الشتات، فإنه من غير الواضح كيف سيتم ذلك. وثمة وسيلة هامة للارتباط مع الشباب على وجه الخصوص من اجل تحسين روابط التعليم وتوسيع الصلات بين الجامعات ومؤسسات العلوم والابتكار التكنولوجي في كندا والدول الإفريقية. ويجب أن تشهد استراتيجية كندا- إفريقيا المستدامة شراكات تعليمية وعلمية وتدريب ونشر المعرفة كأعمدة لنجاح مثل هذه الشراكة.
الاعتبارات الأخلاقية: لا تتناول الاستراتيجية بشكل ملائم القضايا المتعلقة بقطاع التعدين والحاجة لممارسات أخلاقية تتعلق به (وبكافة أنشطة استخراج الموارد الطبيعية الإفريقية). وفي ضوء انشغال كندا بقطاع التعدين في إفريقيا وكونها قوة عظمى في هذا القطاع في القارة، فغنه ثمة حاجة لالتزام كندي واضح بحقوق الإنسان واتباع سياسات تنموية لخدمة المجتمع في مناطق التعدين. وسيعزز ذلك سمعة كندا ككل في القارة.
ومن الأهمية بمكان لكندا ومستقبل انخراطها في القارة الإفريقية وعلاقاتها معها الاعتراف بتعطل النظام الحالي واعتباره أمرًا مرفوضًا تمامًا من قبل الأفارقة. وإن كانت كندا جادة بشان التعلم من إفريقيا وصياغة شراكات عادلة قائمة على الاحترام المتبادل، فإنه لا يمكن مواصلة سياسات النهب التقليدية.
الالتزام رفيع المستوى: إن إطلاق الاستراتيجية من قبل سكرتير برلماني وليس من قبل وزير الشئون الخارجية أو رئيس الوزراء يثير تساؤلات عن الأهمية المتصورة لهذه الاستراتيجية لدى أعلى مستويات الحكومة. كما ان إطلاق الاستراتيجية دون توجيه الدعوة الكافة للميديا الكندية لتغطيتها أو حتى لدى الجماعة الدبلوماسية الإفريقية في كندا قدم انطباعًا بأن الحكومة إما تنأى بنفسها عن الاستراتيجية، أو أنها قلقة إزاء إدارة التوقعات المرجوة من ورائها.
وفي ضوء تزامن إطلاق الاستراتيجية مع يوم استقلال غانا، وهي واحدة من أولى الدول الإفريقية التي أقامت كندا معها علاقات دبلوماسية رسمية، فإنه على الحكومة الكندية انتهاز هذه الفرصة التاريخية لإرسال رسالة دبلوماسية قوية للقارة الإفريقية.
نقطة انطلاق جوهرية: رغم كل هذه المخاوف، أو التساؤلات، فغن استراتيجية إفريقيا تمثل نقطة بداية هامة وواعدة. إذ توفر الاستراتيجية إطارًا متماسكًان ومتعدد الأبعاد، ومتعدد الأغراض لانخراط كندا مع إفريقيا. كما أن الاستراتيجية تتسم بانها واقعية ليس فحسب فيما يتعلق بحدود حركة كندا وحاجاتها، ولكن أيضًا بخصوص تعقيدات بناء الشراكات مع قارة كبيرة ومتنوعة. وتبرز الاستراتيجية أهمية الأولويات الإنسانية والأمنية فيما تؤكد على الفرص الاقتصادية والسياسية في القارة الإفريقية. إن جمع المخاوف الإنسانية مع المصالح الاستراتيجية يدل على تحول نحو مقاربة أكثر توازنًا واتساقًا (من قبل كندا) نحو القارة الإفريقية.
مبادرة كندية لدعم تجارة النساء في غرب إفريقيا([2]) :
قدمت كندا، عبر آلية Global Affairs Canada، نحو 20 مليون دولار في خطة مهمة لدعم تمكين التاجرات العاملات في غرب إفريقيا، لاسيما في تجارة السلع عبر الحدود. وهو مشروع مدته ستة أعوام (2024-2030) سيؤثر بشكل مباشر على نحو 80 ألف امرأة تعمل بالتجارة، وتتركز أكثر من 70% منهن في بوركينا فاسو، وغانا، وساحل العاج، وتوجو، وبنين، ونيجيريا. ويهدف المشروع، بشكل محدد، لتحسين الخدمات المالية المتاحة للنساء في الإقليم، والقضاء على العوائق التجارية القائمة على النوع عند المعابر الحدودية.
وسيواجه المشروع تحديات راسخة تواجه النساء العاملات في التجارة عبر الحدود مثل انخفاض العائدات، والخيارات المالية المحدودة، والبيروقراطية المفرطة، والمضايقات عند المعابر الحدودية. وتوصلت دراسة للبنك الدولي أجريت عند معبري تيما- واجادوجو، وأبيدجان- لاجوس، أن النساء يمثلن 38% و61% من التجار في المعبرين على الترتيب بينما لا يتحصلن إلا على 30% إلى 50% أقل من الرجل في نفس حجم التجارة.
معالجة مسألة العوائق التجارية المنتظمة:
أكد مسئولون في المبادرة، من الجانب الإفريقي، على الأثر الاقتصادي للتفاوت الجندري، مع لفت النظر إلى أن ذلك يكلف إفريقيا جنوب الصحراء نحو 95 بليون دولار سنويًا. وحسب تقديرات هؤلاء المسئولون فإن النساء يمثلن نسبة كبيرة من قوة العمل، غير أن العوائق المنتظمة تمنعهن من المشاركة الكاملة في التجارة. وسيدعم المشروع مباشرة نحو 80 ألف تاجرًا، من بينهم 70% من النساء، عبر ستة دول. وتعزيزًا لهذه الملاحظات أكدت المبعوثة الكندية السامية لغانا مريام مونترات M. Montrat التزام كندا بالتعزيز الاقتصادي للنساء وأكدت على أهمية الاستثمار في المشروعات التي تمكن النساء من النجاح في أعمالهن. مضيفة أن أولوية كندا في إفريقيا تتمثل في تمكين النساء. وشرحت مونترات أن استثمار كندا البالغ 20 مليون دولار في المشروع سيدار من قبل شريك إفريقي سيراقب كيفية استخدام المخصصات من أجل ضمان تحقيق تأثير يمكن قياسه للتاجرات الإفريقيات.
تدخلات رئيسة من قبل المشروع:
سيركز مشروع تفعيل التجارة من أجل النساء في غرب إفريقيا Making Trade Work for Women in West Africa Project على عدة مجالات رئيسة لخلق بيئة تجارة أكثر عدالة وتشمل:
- تعزيز سلامة الحدود عبر تدريب المسئولين على حماية النساء العاملات بالتجارة من المضايقات والعنف الموجه على أساس النوع.
- تقوية جمعيات النساء من أجل ضمان أن يكون لها صوت في قرارات سياسة التجارة.
- تطبيق سياسات تجارية مراعية لمسائل النوع عبر مراجعة التنظيمات والإجراءات من اجل إزالة العوائق التمييزية (ضد المرأة).
- تطوير سلاسل قيمة إقليمية شاملة تمكن النساء العاملات بالتجارة من الوصول لفرص السوق وتحسين مستويات معيشتهن.
- إضافة إلى ذلك، سيعزز المشروع الحلول المالية الرقمية، وبرامج التعليم المالي، والممارسات التجارية المستدامة من أجل تحسين مشاركة النساء في الأسواق الرسمية.
وإجمالًا، يتوقع أن يزيد المشروع من عدد النساء العاملات في التجارة باستخدام ممارسات مستدامة بنسبة 50%، وتعزيز مستويات دخلهن بنسبة 40%، وتوعية أكثر من 50 ألف فرد بخصوص النوعن والتجارة، والاستدامة البيئية.
وبدعم من الهيئات الإقليمية مثل إيكواس ومنطقة التجارة الحرة الإفريقية، وغيرهما فإن المبادرة ستقود تغييرًا دائمًا في بيئة التجارة في غرب إفريقيا، وضمان انتقال النساء من الهوامش إلى مركز النمو الاقتصادي.
كندا تقول أن الصين والهند قد تسعيان للتدخل في انتخاباتها([3]):
قال جهاز المخابرات الكندية (24 مارس الجاري) أن الصين والهند ستحاولان على الأرجح التدخل في الانتخابات الكندية العامة المقررة في 28 ابريل المقبل، فيما يحتمل قيام روسيا وباكستان بذلك الأمر أيضًا. وقدم جهاز الاستخبارات الأمنية الكندية تعليقاته في وقت تتوتر فيه علاقات اوتاو بالصين والهند. وكانت بكين ونيودلهي قد أنكرتا مثل تلك الاتهامات في مناسبات سابقة.
وقد كانت كندا بطيئة للغاية في الاستجابة لتدخل الصين والهند في انتخابات 2019، و2021 لكن نتائجهما لم تتأثر بشكل واضح بهذا التدخل الصيني والهندي، حسبما توصل تحقيق رسمي في تقرير نهائي صدر في يناير 2025.
وأكدت فانسيا ليود، مدير العمليات بحهاز الاستخبارات الكندية، في مؤتمر صحفي أن الفاعلين الدوليين المعادين (لكندا) يزيدون من استخدام التجسس الاصطناعي للتدخل في الانتخابات. وأكدت انه “من المرجح للغاية استخدام جمهورية الصين الشعبية الأدوات التي يعززها الذكاء الاصطناعي لمحاولة التدخل في العملية الديمقراطية بكندا في هذه الانتخابات المزمعة.
وفي وقت مبكر من مارس الجاري أعلنت بكين فرض رسومًا جمركية على ما قيمته 2.6 بليون دولار من المنتجات الزراعية والغذائية الكندية ردًا على فرض أوتاوا ضرائب مماثلة على السيارات الكهربائية الضينية ومنتجات الصلب والألومنيوم في العام الماضي. وقالت كندا في الأسبوع الماضي أن الصين قد أعدمت أربعة مواطنين كنديين بتهم تتعلق بالاتجار في المخدرات، وأدانت بشدة استخدام بكين لعقوبة الموت. وعلق الناطق باسم وزارة الخارجية الصينية بقوله أن الصين تلتزم بمبدأ عدم التدخل في الشئون الداخلية للدول الأخرى، وأنها “لم تكن لها أية مصلحة في التدخل في شئون كندا الداخلية”.
بينما كانت كندا قد طردت في العام الماضي ستة دبلوماسيين هنود – بمن فيهم رئيس البعثة الدبلوماسية- على خلفية اتهامات بتورطهم في مؤامرة ضد انفصاليين سيخ على الأراضي الكندية. وقالت لويد “لقد رأينا أيضًا حكومة الهند لديها عزم وقدرة على التدخل في المجتمعات والعمليات الديمقراطية الكندية”. كما يمكن أن تقوم روسيا وباكستان بأنشطة تدخل خارجي ضد كندا حسب لويد.
…………………………………
[1] David J Hornsby et al, Canada’s Africa strategy is a landmark moment for Canada-Africa relations, but still needs work, The Conversation, March 20, 2025 https://theconversation.com/canadas-africa-strategy-is-a-landmark-moment-for-canada-africa-relations-but-still-needs-work-252367