تحتضن القارة الإفريقيَّة بين حدودها أكبر عدد من الدول الحبيسة (غير الساحلية) في العالم، وتخلق تلك الظاهرة الجيوبوليتيكية الكثير من التحديات السياسيَّة والاقتصاديَّة، وتُعدّ سببًا أساسيًّا في اشتعال النزاعات وانخفاض حجم التجارة وتباطؤ معدلات نموّها بالنسبة للدول الحبيسة مقارنةً بالبلدان الساحليَّة داخل القارة.
من هنا، يسعى هذا المقال إلى تسليط الضوء على ظاهرة الدولة الحبيسة في إفريقيا، وبيان أهم الأعباء والتحديات الإستراتيجيَّة التي تفرضها تلك الظاهرة على الدول الحبيسة سياسيًّا أو اقتصاديًّا.
وأخيرًا يُناقش المقال أهم الحقوق التي أقرَّها القانون الدولي للدول الإفريقيَّة الحبيسة والمُتضمّنة تفصيلاً في اتفاقية الأمم المُتحدة لقانون البحار لعام 1982م، وما تحتاجه تلك الدول لضمان مُمارسة هذه الحقوق بصورةٍ أفضل.
أولًا: خريطة توزيع الدول الإفريقيَّة الحبيسة
تُعرف الدولة الحبيسة Landlocked stateبأنها تلك الدولة التي لا تمتلك ساحلًا بحريًّا، أو هي الدولة المُحاطة باليابسة بالكامل؛ فيتعذر وصولها إلى البحر؛ لذلك تُسمَّى أيضًا بالدولة المُغلقة أو الداخلية.
وتضم إفريقيا بين حدودها أكبر عدد من الدول الحبيسة مقارنةً بغيرها من القارات الأخرى، فمن بين 43 دولةً حبيسةً في العالم، توجد 16 دولةً منها في إفريقيا، أي ما يُمثِّل نحو 29.6% من مجموع الدول الإفريقيَّة المُعترَف بها من الأمم المُتحدة، والبالغ عددها 54 دولةً. ويُعزَى السبب الرئيس في تلك الظاهرة إلى السياسة التي اتبعتها القوى الاستعماريَّة في إفريقيا واتفاقيات التقسيم التي كانت تستهدف مصالح الدول دون الالتفات إلى أيّ اعتبارات أخرى.
شكل-1: نسبة القارة الإفريقيَّة من إجمالي الدول الحبيسة في العالم مقارنةً بالقارات الأخرى
المصدر: هشام قدري أحمد، العلاقات الدوليَّة: موضوعات وقضايا مختارة، الإسكندرية، مكتبة الوفاء القانونيَّة، 2024، ص44.
وعند مطالعة الخريطة السياسيَّة لإفريقيا (انظر شكل-2)، نجد أنَّ الدول غير الساحليَّة فيها تتوزع جغرافيًّا في أربعة أقاليم؛ ففي شرق إفريقيا والقرن الإفريقي هناك خمس دول، وهي: إثيوبيا، جنوب السودان، أوغندا، رواندا، وبوروندي، وثلاث دول أخرى في الغرب تضم، بالإضافة إلى النيجر، كلًا من مالي وبوركينا فاسو، وفي وسط إفريقيا توجد دولتان هما تشاد وإفريقيا الوسطى، أما إقليم إفريقيا الجنوبيَّة فيضم ست دول حبيسة؛ وهي: ملاوي، زامبيا، زيمبابوي، بوتسوانا، بالإضافة إلى ليسوتو، وإسواتيني.
ويمكن أن نُميّز بين ثلاثة أنواع أو تصنيفات للبلدان الحبيسة في إفريقيا؛ يُشار إلى النوع الأول بالدول الحبيسة المُستحاطة، ويقصد بها تلك الدول التي تحيط بها أو تجاورها دولتان فقط، والمثال الوحيد لهذا النوع ينطبق على دولة إسواتيني (سوازيلاند سابقًا)؛ حيث تحدّها جنوب إفريقيا من ناحية الشمال والغرب والجنوب، وتحيط بها موزمبيق من الشرق. أما النوع الثاني فيُسمَّى بالدول الحبيسة المطوّقة ويشمل الدول غير الساحليَّة التي تقع بأكملها داخل حدود دولة واحدة، وهناك أيضًا نموذج واحد لهذه الدول في إفريقيا، والحديث هنا عن مملكة ليسوتو التي تقع أراضيها بالكامل داخل جنوب إفريقيا. فيما يضم التصنيف الثالث الدول الحبيسة التي تشترك حدودها مع ثلاث دول أو أكثر، ويشمل هذا النوع 14 دولةً إفريقيَّة، فعلى سبيل المثال تشترك جمهورية ملاوي مع 3 دول؛ تنزانيا وزامبيا وموزمبيق، وهناك إثيوبيا التي تجاورها 6 دول، وهي: جيبوتي، إريتريا، الصومال، كينيا، السودان، وجنوب السودان، أما جمهورية مالي فتحدّها 7 دول هي الجزائر، النيجر، بوركينا فاسو، كوت ديفوار، غينيا، السنغال، وموريتانيا.
شكل-2: خريطة توضح توزيع الدول الحبيسة في إفريقيا
وتُغطي الدول الإفريقيَّة الحبيسة مساحةً قدرها 8,631,544 كيلو مترًا مربعًا، أي ما نسبته 28,5% من إجمالي المساحة الكلية للقارة، ويبلغ التعداد السكاني لهذه الدول نحو 385 مليون نسمة، أي ما يوازي 27,5% من مجموع سكان القارة. وتتصدر دولة إثيوبيا قائمة هذه الدول من ناحيتي المساحة والسكان؛ حيث تصل مساحتها إلى 1,112,000 كم2، ويقطنها نحو 132 مليون نسمة، أما أصغر تلك الدول مساحة فهي إسواتيني (17,363 كم2) تليها رواندا بـ26,338 كم2، ومن حيث الناتج المحلي الإجمالي GDP تأتي إثيوبيا أولًا بـ118 مليار دولار أمريكي، متبوعة بأوغندا بنحو 48,2 مليار دولار (انظر الجدول أدناه).
الجدول من إعداد الباحث بالاعتماد على البيانات الواردة في:
World Statistics Pocketbook 2024 edition, United Nations: Department of Economic and Social Affairs, New York, 2024.
ثانيًا: التحديات الإستراتيجيَّة التي تواجه الدول الإفريقيَّة الحبيسة
يفرض الموقع الحبيس للدول الإفريقيَّة المُشار إليها عددًا من التحديات السياسيَّة والاقتصاديَّة التي من شأنها تهديد الاستقرار وتقويض فرص التنمية. فالحدود المُغلَقة لهذه الدول غير الساحليَّة تُعيق حركة التبادل التجاري وتضطرها إلى عقد اتفاقيات تبادل، قد يكون لها انعكاساتها السلبية على موازناتها العامة، سيَّما بالنسبة للدول التي تعاني أزمات ماليَّة واقتصاديَّة، فضلاً عن ذلك، قد تلجأ الدول الحبيسة إلى محاولة التوسُّع الإقليمي على حساب الدول الأخرى وما يرتبه ذلك من نزاعات وحروب([1])، ونلاحظ أنَّ الدول الإفريقيَّة النامية غير الساحليَّة هي أفقر الدول الحبيسة في العالم، علاوةً على كونها دولاً ضعيفة ومثقلةً بالديون الخارجيَّة.
فتشير بعض الدراسات إلى أنَّ الدول الإفريقيَّة غير الساحلية، بسبب عُزلتها وبُعد المسافة عن الموانئ البحريَّة، تعاني من التكاليف المرتفعة لتجارتها وعجز صادراتها عن المنافسة في الأسواق العالميَّة؛ حيث تبلغ تكاليف النقل في تلك الدول أكثر من 77% من حجم صادراتها باستثناء دول بوتسوانا وأوغندا وإسواتيني (سوزازيلاند سابقًا)([2]). كما تعاني البلدان الإفريقيَّة الحبيسة من ضعف البنية التحتية وتأخر وصول شحناتها إلى موانئ الدول المُجاورة، ما يزيد بالتالي من تكلفة النقل؛ إذ تؤكد دراسة عالمية أجراها البنك الدولي أنَّ الدول الحبيسة تنفق ما مقداره 3,204 دولار أمريكي لتصدير حاوية البضائع، مقابل 1,268 دولارًا فقط لدول العبور، و3,884 دولارًا لاستيرادها، مقارنةً بـ 1,434 دولارًا لدول العبور([3]).
ويزداد الأمر سوءًا عندما ترفض دول العبور السماح لشحنات الدول الحبيسة بالمرور، فعلى سبيل المثال لا تسمح جمهورية كوت ديفوار لشاحنات النقل التابعة لمالي، أحيانًا، بالدخول بغرض الوصول إلى ميناء أبيدجان، مما يجبر تلك الشاحنات على أن تعود فارغة في كثيرٍ من الأحيان([4]).
يُضاف إلى ذلك أنَّ السلع والصادرات المتجهة إلى بلدان إفريقيا غير الساحليَّة تمكث بالموانئ لفترات أطول من السلع المتجهة إلى أسواق الدول الساحليَّة، كما أنها تخضع لأنظمة تخليص متعددة ومطولة على معظم ممرات النقل، فالسلع المتَّجهة إلى أوغندا ورواندا وبوروندي تمكث بميناء دار السلام في جمهورية تنزانيا خمسة أيام إضافية في المتوسط عن تلك السلع المتجهة للداخل([5]).
أحد التحديات الأخرى التي تواجه البلدان الإفريقيَّة الحبيسة هو قلة المنافذ أو الخيارات البحريَّة التي يمكن الوصول إليها عبر دول الجوار، كما هو الحال بالنسبة لجمهورية إفريقيا الوسطى. في المقابل، نجد أنَّ بلدانًا أخرى في الجنوب الإفريقي، وتحديدًا بوتسوانا، وملاوي، وزامبيا، وزيمبابوي، تتمتع بمجموعة فريدة من الخيارات والمنافذ البحريَّة فيما يتعلق بأنشطتها التجاريَّة؛ فإلى الغرب توجد موانئ أنغولا وناميبيا، وإلى الشرق توجد تنزانيا وموزمبيق، وفي الجنوب هناك موانئ جنوب إفريقيا. ولأن الصين والهند هما الشريكان التجاريان الرئيسيان في المنطقة؛ فإنَّ الموانئ البحريَّة الشرقيَّة مفضَّلة بشكل عام على تلك الموجودة على الساحل الغربي؛ حيث يتم تصدير المعادن مثل النحاس والكوبالت المُستخرَجة من المنطقة الممتدة بين شمال زامبيا وجنوب جمهورية الكونغو الديمقراطيَّة، والتي تُعرَف بالحزام النحاسي([6]).
كما يَفرض الموقع الجغرافي الحبيس على الدول الإفريقيَّة نمطًا معينًا في علاقاتها تجاه دول الجوار، فالعلاقات الإقليميَّة لدولة النيجر، على سبيل المثال، تتَّسم بالتسامح والطابع الوُدّي نتيجة لموقعها السياسي الضعيف؛ لذا تسعى دائمًا إلى تطوير علاقات طيبة مع الدول الساحليَّة، فالسياسة الخارجيَّة للنيجر تجاه ليبيا يسودها التعاون والاستقرار بالرغم من الخلاف الحدودي بين الدولتين حول منطقة (تومو)، كما تحتفظ النيجر بعلاقات ودية مع كلٍّ من نيجيريا وبنين؛ حيث تعتمد في تجارتها على ميناء (لاجوس) التابع للأولى وميناء (كوتونو) التابع للدولة الثانية، وذلك بالرغم من النزاع الحدودي بين النيجر وبنين حول أكثر من ثلاثين جزيرةً في نهر النيجر. أما الجزائر التي تَحُدّ النيجر من ناحية الشمال والشمال الغربي؛ فإنَّ العلاقات بين الدولتين جيدة؛ حيث تنظر نيامي إلى الجزائر باعتبارها دولة عبور لنقل احتياطاتها من الغاز إلى أوروبا([7]).
وبشكلٍ عام؛ يمكن أن نُميِّز بين نوعين من السلوك السياسي للدول الإفريقيَّة غير الساحليَّة تجاه دول الجوار الجغرافي؛ فالدول الصغيرة تميل دائمًا إلى تطوير علاقات سلمية وتعاونية بدول العبور، وتتحاشى الانخراط في علاقات سياسيَّة أو تحالفات عسكريَّة تعتبرها هذه الأخيرة عدائية أو مُوجَّهة ضدّها؛ حتى تتمكن من نَقْل بضائعها عبر أراضيها إلى الدول الأخرى داخل القارة أو خارجها، وما يُرتّبه ذلك من تبعية سياسيَّة للدولة الحبيسة لصالح دولة الممر. وتُعدّ دولتا ليسوتو وإسواتيني مثالاً واضحًا على ذلك؛ حيث تعتمد الدولتان الصغيرتان بصورة كبيرة على جنوب إفريقيا في شؤونهما الاقتصاديَّة والتجاريَّة، وتتناغم سياستهما الخارجيَّة دائمًا مع السياسة الخارجيَّة لبريتوريا.
أما بالنسبة للدول الحبيسة غير الصغيرة، فهي على النقيض من ذلك، تتطلَّع للوصول إلى البحر لتحقيق أهداف سياستها الخارجيَّة، فيبدو سلوكها تجاه دول الجوار عدائيًّا في بعض الأحيان. وكمثال على ذلك، نشير إلى إثيوبيا باعتبارها النموذج الأبرز بين الدول الإفريقيَّة غير الساحليَّة الساعية إلى التمرد على واقعها الجغرافي الحبيس وتحقيق طموحاتها بامتلاك منفذ بحري دائم.
فمنذ انفصال إريتريا عنها، والتي كانت تُشكّل منفذًا لها للوصول إلى البحر الأحمر حتى عام 1993م، أخذ نفوذ إثيوبيا في شرق إفريقيا بالتراجع بصورةٍ تُناقض ثقلها التاريخي ووزنها الديمغرافي، وأصبحت تعتمد على الموانئ الأجنبية في تجارتها الخارجيَّة، ولا سيَّما ميناء جيبوتي، ولكن منذ وصول حكومة “آبي أحمد” إلى السُلطة عام 2018م، أصبح الولوج إلى المياه المفتوحة هدفًا إستراتيجيًّا والشاغل الرئيس للحكومة الإثيوبيَّة، لتأمين اتصالها بالعالم الخارجي، وتعزيز دورها كقوةٍ إقليميَّة فاعلة، حتى وإن اضطرها ذلك إلى استعمال القوة كما صرَّح بذلك “آبي أحمد” في أحد خطاباته.
ولقد كشف الاتفاق الذي أبرمته إثيوبيا مع حكومة إقليم “أرض الصومال” الانفصالي في الأول من يناير 2024م والذي يسمح لها باستئجار قاعدة للأغراض العسكريَّة والتجاريَّة لمدة 50 عامًا، عن حقيقة أطماع أديس أبابا التوسعيَّة في دول الجوار، وأثار الكثير من الشكوك وعدم اليقين إزاء طموحات إثيوبيا البحريَّة، وما يمكن أن تُفضي إليه من تداعيات وعواقب وخيمة من شأنها أن تزيد من حالة الفوضى والاضطرابات السياسيَّة والأمنيَّة في منطقة القرن الإفريقي([8]).
شكل-3: موقع إثيوبيا الحبيس ودول الجوار الجغرافي في القرن الإفريقي
Source: Short Historical & Natural Profile of Ethiopia, Learning & Development Centre, https://2u.pw/nUmJ8d02
يتضح مما تقدم أنَّ الدول الإفريقيَّة الحبيسة تعاني جراء عدم امتلاك واجهات بحريَّة، فمن ناحية تضطر هذه الدول إلى الاعتماد على الموانئ الأجنبية في تصدير أو استيراد البضائع، وما يعنيه ذلك من ارتفاع تكاليف الشحن، وعدم القدرة على المنافسة في الأسواق العالميَّة، ومن ناحية أخرى تضطر الدول الحبيسة إلى تطوير علاقات إيجابية مع دول العبور واتباع سياسات خارجيَّة متناغمة معها، والأهم من ذلك، قد يُشكّل الموقع الحبيس حافزًا لبعض الدول الإفريقيَّة للتوسُّع على حساب الدول الأخرى بغرض الوصول إلى البحر، وما يمكن أن تُفضي إليه هذه السياسات التوسعية من حروب ونزاعات حدودية.
ثالثًا: حقوق الدول الإفريقية الحبيسة في القانون الدولي المعاصر
لم يغفل القانون الدولي عن مأساة الدول غير الساحليَّة، ومشكلاتها الناجمة عن عزلتها وعدم قدرتها على تأمين الوصول إلى الموانئ البحريَّة، وما يترتب عليه ذلك من إعاقة التنمية الاقتصاديَّة لهذه البلدان، فكان لا بد من منح تلك الدول حق الوصول إلى البحر، والمشاركة في استغلال الموارد البحريَّة الحية للدول الساحليَّة المجاورة، والاعتراف بذلك كحق قانوني لا يمكن إنكاره أو تقييده، ولقد أسفرت المساعي الدوليَّة في هذا الصدد، وبخاصة جهود البلدان الإفريقيَّة بعد استقلالها وتحررها من نير الاستعمار، عن التوصل إلى اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار التي أبرمت عام 1982م، وأصبحت نافذةً بحلول 1996م، باعتبارها الاتفاقية الدوليَّة الشاملة لتنظيم قواعد القانون الدولي للبحار.
وهناك ثلاث دول إفريقيَّة حبيسة وقَّعت على تلك الاتفاقية، لكن لم تُصدّق عليها حتى الآن، وهذه الدول هي إثيوبيا وبورندي وإفريقيا الوسطى، أما جنوب السودان فلم توقع الاتفاقية، ولم تصدق عليها كذلك.
بموجب المادة (125) من الاتفاقية المذكورة، يحق للدول الإفريقيَّة غير الساحليَّة الوصول إلى البحر ومنه لغرض ممارسة الحقوق المختلفة التي أقرتها الاتفاقية، وتحقيقًا لهذه الغاية، تتمتع تلك الدول بحرية المرور العابر عبر أراضي دول العبور بكافة وسائل النقل، ودولة العبور هي دولة ذات ساحل بحري أو بدونه تحجز الدولة غير الساحليَّة عن الوصول للبحر، وتمر عبر أراضيها حركة المرور العابر. على أن يتم الاتفاق على أحكام وصور ممارسة حرية المرور العابر بين الدول غير الساحليَّة ودول المرور العابر المعنية عن طريق اتفاقات ثنائية أو إقليميَّة.
ومما تجدُر الإشارة إليه أنَّ حركة المرور العابر للبلدان الإفريقيَّة الحبيسة لا تخضع لأيّ رسم جمركي أو ضريبة باستثناء تلك الرسوم التي تُفرض مقابل تقديم خدمات معينة بصدد هذا المرور العابر([9])، وتتمتع السفن التي ترفع أعلام الدول غير الساحليَّة بمعاملة مساوية لتلك التي تمنح للسفن الأجنبية الأخرى في الموانئ البحريَّة([10]).
أما فيما يتعلق بالوصول إلى البحر العام أو المياه الدوليَّة، وهي المنطقة التي تبدأ بعد 200 ميل بحري من خط الساحل، ولا يجوز لأيّ دولة ممارسة السيادة عليها، فقد أكَّدت اتفاقية قانون البحار لعام 1982م أنَّ تلك المنطقة مفتوحةً أمام جميع الدول، سواء كانت ساحليَّة أم غير ساحليَّة، ولقد أشارت الاتفاقية إلى عددٍ من الحقوق التي يمكن للبلدان الإفريقيَّة الحبيسة الاستفادة منها في هذه المنطقة، من أهمها حرية الملاحة، وحرية التحليق، وحرية وضع الكابلات البحريَّة ومد خطوط الأنابيب، فضلاً عن حرية إنشاء وإقامة الجزر الاصطناعيَّة، والحق في الصيد، والبحث العلمي.
علاوةً على ذلك، تتمتع تلك الدول الإفريقيَّة غير الساحليَّة، بموجب أحكام الاتفاقية المذكورة، بالحق في المُشاركة على أساس منصف في استغلال جزء مناسب من فائض الموارد الحية للمناطق الاقتصاديَّة الخالصة للدول الساحليَّة الواقعة في نفس المنطقة دون الإقليميَّة أو الإقليميَّة، مع مراعاة ما يتصل بذلك من الظروف الاقتصاديَّة والجغرافيَّة لجميع الدول المعنية، على أن تُحدّد الدول المعنية أحكام وصور هذه المُشاركة عن طريق اتفاقات ثنائيَّة أو إقليميَّة([11]).
جدير بالذكر أنَّ الإستراتيجية البحريَّة المتكاملة لإفريقيا (AIMS)، قد تضمنت رؤية إفريقيا المتكاملة للبيئة المائية، واستخدمت مصطلح “الدول المرتبطة باليابسة” بدلاً من “غير الساحليَّة”، وهو ما يؤكد حقيقة أنَّ هذه الدول، على الرغم من عدم وجود سواحل لديها، إلا أنها مرتبطة بالبحر، ولكن بطريقة مختلفة عن الدول الساحليَّة والجزريَّة، وبدون التفاوض والدخول في اتفاقيات ثنائية أو شبه إقليميَّة أو إقليميَّة فعَّالة ومفيدة للطرفين، فإنَّ حقوق وواجبات الدول الإفريقيَّة “المتصلة بريًّا” فيما يتعلق بالمجال البحري ستكون بلا قيمة عملية([12]).
مما تقدم، يتبين أنَّ القانون الدولي للبحار قد منح الدول الإفريقيَّة غير الساحليَّة عديدًا من الحقوق لتأمين وصولها إلى البحر ومنه، والمشاركة في استغلال الموارد الحية للدول الساحليَّة، فضلاً عن منحها بعض التسهيلات الجمركيَّة؛ إلا أنَّ تفعيل هذه الحقوق والاستفادة منها بشكل عملي من جانب الدول الإفريقيَّة غير الساحليَّة يقتضي التفاوض ضمن اتفاقيات ثنائية أو متعددة الأطراف بين الدولة غير الساحليَّة المعنية ودول العبور.
ختامًا:
على الرغم من الحقوق التي أقرتها اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار لعام 1982م بالنسبة للدول الإفريقيَّة الحبيسة للتغلب على التحديات السياسيَّة والاقتصاديَّة الناجمة عن عدم امتلاكها ساحلًا بحريًّا تطل منه على البحر، بما في ذلك حق الوصول إلى البحار ومنها، وحرية المرور العابر؛ إلا أنَّ القانون الدولي يرهن تنفيذ هذه الحقوق بالاتفاقيات التي تعقدها الدول غير الساحليَّة ودول العبور، ومن ثَمّ فإنَّ نجاح تلك الاتفاقيات يعتمد بدوره على طبيعة العلاقات السائدة بين الدول المعنية؛ فإذا لم تكن هذه العلاقات إيجابية ومرنة فإنَّ دول العبور قد لا تكون على استعداد للتفاوض، وبالتالي تعوق حرية العبور للدول الإفريقيَّة الحبيسة. ومن هنا، ينبغي طرح مبادرات جديدة مِن قِبَل الأمم المتحدة أو الهيئات الإقليميَّة الأخرى كالاتحاد الإفريقي بغرض تمكين الدول الإفريقيَّة غير الساحليَّة من ممارسة هذه الحقوق بصورة أفضل.
………………………………
([1]) السيد علي أبو فرحة، العوامل المؤثرة على وضع إفريقيا في المؤشرات الدوليَّة “دراسة تحليلية”، المجلة العلمية لكلية الدراسات الاقتصاديَّة والعلوم السياسيَّة، جامعة الإسكندرية، مجلد 6، عدد 11، 2021م، ص79.
([2]) عطا لله سليمان الحديثي، وهبة عادل مطرود، الدول الحبيسة الإفريقيَّة: مشكلاتها ومنافذها وتصنيفها: دراسة في الجغرافية السياسيَّة، مجلة كلية التربية للبنات، جامعة بغداد، المجلد 26 (2)، 2015، ص542.
([3]) محنة الدول الحبيسة تنذر بنشوب صراع، منبر الدفاع الإفريقي، منشور في 30 أبريل 2024، متاح على https://2u.pw/1L1qvts0
([4]) عطا لله سليمان الحديثي، مرجع سابق. ص542.
([5]) البلدان غير الساحلية: ارتفاع تكلفة النقل والتأخير وانخفاض حجم التجارة، موقع مجموعة البنك الدولي، متاح على https://2u.pw/IUjUIHKY
([6]) Tomoya Kawasak, Masaya Kobayashi, and Ryuichi Shibasaki, Southern Africa: Overcoming corridor and border challenges for landlocked countries, Global Logistics Network Modelling and Policy, 2021, at: https://2u.pw/UhT5LxAg
([7]) عدنان عبدالله حمادي، مشكلات الموقع الحبيس لدولة النيجر وأثره في علاقاتها الإقليميَّة والدوليَّة: دراسة في الجغرافيا السياسيَّة، مجلة الآداب، العدد 113، 2015، ص497- 501.
([8]) هشام قدري أحمد، التمرد على الجغرافيا… طموحات إثيوبيا البحريَّة وتداعياتها على استقرار القرن الإفريقي، المركز العربي للبحوث والدراسات، منشور في 10 يناير 2025، متاح على: https://www.acrseg.org/44382
([9]) المادة 127 من اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار لعام 1982م.
([10]) المادة 131 من اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار لعام 1982م.
([11]) هشام قدري أحمد، النظام القانوني للبحار على ضوء اتفاقية الأمم المتحدة لعام 1982، القاهرة، دار مصر للنشر والتوزيع، 2024م، ص172- 173.
([12]) Ernesta Swanepoel, The law of the sea and landlocked states, Policy Briefing, Posted in 20 Aug 2020, at: https://2u.pw/S10bZr7B