الكاتب: داريا لابوتينا، رئيس مكتب وكالة TASS في جمهورية كينيا
الناشر: وكالة تاس الروسية
ترجمة: مروة أحمد عبد العليم
في الصيف الماضي، تم افتتاح أول مقهى آلي في شرق إفريقيا في كينيا؛ حيث يتم تسليم الطلبات إلى الطاولات بواسطة الروبوتات. صحيح أنه يتم التحكم فيها بواسطة أشخاص من جهاز لوحي، ولا يزال يتعين على النوادل الحقيقيين تلقّي الطلبات، ولكنّ هذا المثال يدل على أن إفريقيا لن تظل بمعزل عن التقدم التكنولوجي. والآن، حتى في جنوب السودان الذي مزَّقته الحرب الأهلية، يفكرون في شراء امتياز لمقهى للروبوتات.
ومن الواضح أن موضوعًا شائعًا في جميع أنحاء العالم مثل الذكاء الاصطناعي لم يتجاوز إفريقيا، كما أُثيرت مسألة أهمية تطوير هذا المجال من التكنولوجيا في قمة البريكس في كازان مِن قِبَل رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد؛ حيث يوجد في هذا البلد الإفريقي معهد للذكاء الاصطناعي، يقومون فيه بتدريب المتخصصين الشباب في مجال تكنولوجيا المعلومات الذين يمكنهم العمل مع تقنيات الذكاء الاصطناعي، كما يوجد مركز مماثل في جنوب إفريقيا.
خطوات تمهيدية محلية:
يرى الخبراء فوائد وتهديدات محتملة في رواج الذكاء الاصطناعي في إفريقيا. بالطبع، ينطبق هذا على العالم كله، لكنّ بلدان القارة الإفريقية لديها معدلات تنمية مختلفة جدًّا؛ سواء في الاقتصاد أو في مجال التعليم، وحتى الآن، لا يتمكَّن سوى ما يزيد قليلاً عن ثلث الأفارقة من الوصول إلى الإنترنت، ناهيك عن محو الأمية الحاسوبية والأمن السيبراني؛ فلا تزال الوكالات الحكومية والمؤسسات المالية في البلدان الإفريقية مُعرَّضة للخطر للغاية، ويمكن أن يساعد الذكاء الاصطناعي في الحماية من الهجمات السيبرانية، وفي زيادة توافر التعليم والطب.
يتمثل التهديد الرئيسي، كقاعدة عامة، في حقيقة أن الذكاء الاصطناعي وأتمتة العمليات سيحلان ببساطة محل العمال ذوي المهارات المنخفضة في سوق العمل، والذين غالبيتهم في إفريقيا من الفلاحين والمزارعين، وكذلك الأمر بالنسبة للموظفين في قطاع الخدمات… وهذا على الرغم من حقيقة أن نسبة السكان العاطلين عن العمل في البلدان الإفريقية -ومعظمهم من الشباب- تزيد من سنة إلى أخرى، مما يُزعزع استقرار الوضع السياسي في بلدان مثل كينيا ونيجيريا وجنوب إفريقيا ومصر وغانا وأوغندا.
ومع ذلك، فقد أشار خبير التحوُّل الرقمي الغاني دانييل كوابينا أوسو، إلى أنّ تقنيات الأتمتة والتعلم الآلي والروبوتات في المستقبل ستساعد البلدان الإفريقية على تعزيز اقتصاداتها وتطوير الإنتاج الصناعي؛ من خلال خفض التكاليف وزيادة الإنتاجية. ووفقًا له، فإن استخدام الذكاء الاصطناعي في الزراعة يمكن أن يُحسِّن الإنتاجية وكفاءة سلاسل التوريد، ويقلل من تكاليف العمالة.
ولعلّ الزراعة هي أحد المجالات الرئيسية لتطبيق الذكاء الاصطناعي في إفريقيا، ولا شك أن الفرصة المحتملة لزيادة العائدات وخفض نسبة المنتجات الفاسدة أثناء التوزيع اللاحق تخلق التفاؤل بين المسؤولين الحكوميين وسكان البلدان التي تُواجه الجفاف والمجاعات بانتظام.
جَعْل التعليم والطب في متناول الجميع:
مجال آخر مُهِمّ لتطبيق الذكاء الاصطناعي هو الطب. بالمناسبة، تمَّت مناقشة هذا الأمر في قمة تقنيات الرعاية الصحية التي عُقِدَت في العاصمة الرواندية كيجالي في 31 أكتوبر 2024م.
ووفقًا لمخرجات تلك القمة، يمكن استخدام الأنظمة القائمة على الذكاء الاصطناعي لتحسين دقة وكفاءة التشخيص وإعداد خطط العلاج.
وفي الوقت نفسه، يضطر العديد من الأشخاص حاليًّا إلى قطع عدة كيلو مترات للوصول إلى أقرب مستشفى، ويمكن للتطبيب عن بُعْد مع زيادة الوصول إلى الإنترنت أن يحل هذه المشكلة. الأمر نفسه ينطبق على التعليم؛ حيث تقع المؤسسات التعليمية على مسافة كبيرة، وسيساعد التعلُّم عبر الإنترنت في حلّ مشكلة زيادة عدد الطبقة المتعلمة من السكان.
وقد أكَّد فلاديمير دوجين -الشريك في صندوق الاستثمار E3 Capital- أن الخبراء يقدرون أنه تم استثمار أكثر من 2 مليار دولار في الشركات التي تستخدم الحلول القائمة على الذكاء الاصطناعي في إفريقيا (قطاعات الاقتصاد الرئيسية بالنسبة لهم في القارة هي: الطب والزراعة والتعليم).
وفي الوقت نفسه، تظل الدول ذات الاقتصادات الأكثر تطورًا هي الدول الرائدة في تنفيذ الذكاء الاصطناعي؛ وهي جنوب إفريقيا وكينيا ونيجيريا ومصر.
وعلى الرغم من أن دول القارة الأخرى بدأت تدريجيًّا في إدخال تقنيات الذكاء الاصطناعي، ووفقًا لتقديرات مختلفة، يمكن للشركات التي تُنفّذ مشاريع في مجال الذكاء الاصطناعي أن تُولّد أكثر من 1.5 تريليون دولار للناتج المحلي الإجمالي للدول الإفريقية بحلول عام 2030م إذا وصلت الشركات المحلية إلى حصة 10٪ من سوق الذكاء الاصطناعي العالمي”.
واستشهد بمثال منظمة Aerobotics في جنوب إفريقيا، التي تَستخدم الذكاء الاصطناعي لتحديد مناطق المشكلات في تحليل خرائط المزارع لتحسين غلات المحاصيل مثل القمح والمكاديميا والحمضيات وقصب السكر.
وهناك مثال ناجح لاستخدام الذكاء الاصطناعي في صناعة الأدوية، وهي شركة RxALL، وهي تستخدم التكنولوجيا لمكافحة الأدوية المزيفة، وهي مشكلة كبيرة في نيجيريا وإفريقيا بشكل عام. على وجه التحديد، تستخدم المنصة التصوير الفائق الطيفي، وهي تقنية تحلل البنية الضوئية الفريدة للأشياء للتحقق من صحة المستحضرات الصيدلانية في الوقت الفعلي.
وفي الوقت نفسه، وعلى الرغم من كلّ الفرص المتاحة لاستخدام الذكاء الاصطناعي، تظل إفريقيا خارج نطاق مؤشر الاستعداد لتطبيق هذه التقنيات، وأكد دوجين أنها متخلفة أيضًا عن دول أمريكا اللاتينية ووسط وجنوب شرق آسيا. ووفقًا له، فإن العوائق الرئيسية أمام استخدام الذكاء الاصطناعي هي عدم الوصول إلى البيانات، وضعف البنية التحتية، ومحدودية التمويل، وعدم وجود إطار تنظيمي مناسب.
كما أشارت رئيس مجلس إدارة الوكالة الإستراتيجية لتنمية العلاقات مع الدول الإفريقية (ساروسا)، ليوبوف ديميدوفا، في اتصال هاتفي إلى أن قيادة الدول الإفريقية، بمساعدة الذكاء الاصطناعي، من بين أمور أخرى، تتوقع القضاء على العديد من المشكلات الاجتماعية والاقتصادية، فضلاً عن تحسين العمليات الصناعية.
وأضافت: “ومع ذلك، لكي تستغل الدول الإفريقية إمكانات الذكاء الاصطناعي بشكل كامل، فإنها تحتاج إلى النظر بعناية في الآثار الأخلاقية والاجتماعية والاقتصادية المترتبة على تطوره”، وقالت: “يجب أن يشمل ذلك مجموعة من الإجراءات، بما في ذلك: إنشاء هياكل قوية لإدارة البيانات لحماية الخصوصية، وتحسين الأمن السيبراني، ووضع معايير الشفافية، وأكثر من ذلك بكثير”.
في رأيها، هناك بالفعل تفاهُم بين مجتمع الخبراء في إفريقيا على أن الذكاء الاصطناعي يمكن أن يُسبِّب عددًا من المشكلات، و”لهذا السبب فإن الدول الإفريقية مستعدة للعمل بنشاط مع الشركات الروسية في تنفيذ تقنيات الذكاء الاصطناعي”، وأضافت: “تتمتع الشركات الروسية بالفعل بخبرةٍ هائلةٍ في هذا الاتجاه، وهناك عدد من الشركات الروسية في مرحلة التطوير التفصيلي للتعاون، وقد بدأ بعضها بالفعل ذلك”.
التطبيقات في الطبيعة ومكافحة الفساد والتكنولوجيا المالية:
من بين التطبيقات غير المتوقعة للذكاء الاصطناعي في إفريقيا، أودّ أن أذكر إدارة الموارد الطبيعية، ويمكن استخدام الأنظمة القائمة على الذكاء الاصطناعي لرصد وتحليل البيانات مثل المياه والتربة، وتحسين كفاءة أنظمة إدارة الموارد مثل الري وتحديد الفرص الجديدة للتنمية المستدامة، وكذلك إجراء البحوث العلمية.
على سبيل المثال، في تنزانيا، في منطقة بحيرة مانيارا، يتم استخدام الذكاء الاصطناعي لتحليل التفاعلات بين الزرافات، ويُطلق على مشروع Microsoft هذا اسم AI for Good lab؛ حيث يتعرف الذكاء الاصطناعي على زرافات معينة من الصور لتتبُّع تحركاتها عبر السافانا.
وربما لا يقل أهمية بالنسبة لإفريقيا: استخدام الذكاء الاصطناعي في تحصيل الضرائب؛ للحدّ من الفساد، وزيادة شفافية المؤسسات الحكومية، وهذا من شأنه أن يحلّ مشكلة دائمة في السياسة والاقتصاد الإفريقي، وتتمثل ميزة الذكاء الاصطناعي هنا في القدرة على تحليل كميات كبيرة من البيانات بسرعة، الأمر الذي قد يستغرق جهود مجموعة كبيرة من الأشخاص أيامًا طويلة أو عدة أشهر.
كما يمكن أن تساعد هذه التقنيات أيضًا في توفير معلومات قيِّمة لاتخاذ قرارات مستنيرة وتحسين كفاءة العمليات التجارية. على سبيل المثال، يمكن استخدام الأنظمة القائمة على الذكاء الاصطناعي لتحليل سلوك المستهلك وتفضيلاته، مما يسمح للشركات باستهداف منتجاتها وخدماتها بشكل أفضل للجمهور المناسب.
وكما أشار لي أنطون كورينيتس، خبير تكنولوجيا المعلومات والتمويل الذي يعيش في كينيا، فإن التكنولوجيا المالية في إفريقيا تشهد تغيرات ثورية بفضل إدخال الذكاء الاصطناعي، وقال: “إن إفريقيا لديها القدرة على أن تُصبح واحدة من المناطق الرائدة في مجال التكنولوجيا المالية من خلال الابتكار واعتماد الذكاء الاصطناعي”.
على سبيل المثال، في تقييم الجدارة الائتمانية للعملاء، مما يسمح لعدد أكبر من الناس بالحصول على القروض في البلدان ذات البنية التحتية المصرفية المحدودة.. ويساعد الذكاء الاصطناعي أيضًا في مكافحة الاحتيال في تطبيقات التكنولوجيا المالية؛ من خلال أتمتة عمليات اكتشاف مثل هذه المحاولات، وقد قامت شركة Flutterwave الأمريكية، وهي منصة لمعالجة الدفع، بتطبيق حلول الذكاء الاصطناعي لتحليل بيانات المعاملات في الوقت الفعلي، مما يجعل من الممكن تحديد الأنشطة المشبوهة؛ حيث يمكن لشركات التكنولوجيا المالية تحليل أنماط المعاملات وتنبيه العملاء إلى عمليات الاحتيال المحتملة وحماية أموالهم.
وهناك أمثلة إفريقية بحتة في هذا المجال؛ فقد قامت شركة التكنولوجيا المالية النيجيرية “جوميا” بإدخال الذكاء الاصطناعي في خدمة التجارة الإلكترونية “جوميا باي”؛ لتحليل سلوك المستخدم وتحسين عملية الدفع، الأمر الذي أدَّى بالفعل إلى زيادة في التحويل بنسبة 30٪، وتستخدم منصة دفع نيجيرية أخرى Paystack، الذكاء الاصطناعي لأتمتة المحاسبة وخفض التكاليف. وقامت شركة Palmpay، ومقرها غانا، بدمج حلول الذكاء الاصطناعي للتنبؤ باتجاهات المستهلكين، مما يسمح لها بتصميم عروضها وتحسين مشاركة العملاء.
وتُعدّ كينيا أحد مراكز التكنولوجيا المالية الرائدة في إفريقيا، وذلك بفضل نظامها البيئي المبتكَر والمستوى العالي من التبني الرقمي؛ حيث تستخدم منصات مثل M-Pesa، المملوكة لشركة Safaricom (أكبر مُزوّد للاتصالات في البلاد)، الذكاء الاصطناعي لتحليل بيانات المستخدمين، وتحديد كيفية تصميم عروض القروض والمنتجات المالية الأخرى بشكل أفضل.
كما تستخدم شركة Tanda الكينية الناشئة الذكاء الاصطناعي لمعرفة الجدارة الائتمانية للعملاء؛ استنادًا إلى البيانات البديلة، بما في ذلك سجل الدفع عبر الهاتف المحمول، وسلوك وسائل التواصل الاجتماعي، وهذا يجعل من الممكن تقديم الخدمات الائتمانية لأولئك الذين ليس لديهم تاريخ ائتماني تقليدي، وهو أمر شائع جدًّا في إفريقيا بسبب تخلُّف القطاع المصرفي (معظم الناس ليس لديهم حسابات مصرفية).
هذا ويشير أنطون كورينيتس أيضًا إلى أنه على الرغم من الفرص الواعدة، فإن تنفيذ الذكاء الاصطناعي في التكنولوجيا المالية الإفريقية يواجه عدة تحديات؛ من أهمها: الوصول المحدود إلى التكنولوجيا، وعدم كفاية البنية التحتية، ونقص الموظفين المؤهلين، وهذه هي أهم العقبات الرئيسية. ومع ذلك، ومع تطور البنية التحتية للشبكة والبرامج التعليمية، تتضاءل هذه العوائق تدريجيًّا.
وأضاف الخبير: “لقد أصبح الذكاء الاصطناعي أداة قوية في أيدي شركات التكنولوجيا المالية الإفريقية، مما يفتح فرصًا جديدة لتحسين الخدمات المالية والوصول إليها، ويمكن للمستثمرين ورجال الأعمال الذين يدركون إمكانات الذكاء الاصطناعي في مجال التكنولوجيا المالية أن يلعبوا دورًا رئيسيًّا في تحويل المشهد المالي في إفريقيا، قمن خلال الاستثمارات الصحيحة والنهج الصحيح لتطبيق التكنولوجيا، يمكن لهذه القارة أن تحتلّ أحد الأماكن الرائدة في صناعة التكنولوجيا المالية العالمية”.
ووفقًا لـ”أوسو”، لتحقيق الإمكانات الكاملة للذكاء الاصطناعي للاقتصادات الإفريقية، من المهم أن تتعاون الحكومات والشركات والمنظمات مع بعضها البعض ويضيف: “يمكن أن يشمل ذلك الاستثمار في البحث والتطوير، والشراكات بين القطاعين العام والخاص، وتوفير التدريب الوظيفي”.
التحدي الآخر الذي يواجه التحول الرقمي في إفريقيا هو الافتقار إلى نظام مركز البيانات، ولكن هنا أيضًا يتنافس لاعبون مختلفون ليصبحوا الأوائل في هذا المجال، وتنشط الإمارات العربية المتحدة والصين والولايات المتحدة الأمريكية في مجال مراكز البيانات. فالصين من خلال إستراتيجيتها لنشر التكنولوجيا في إفريقيا، أو ما يسمى طريق الحرير الرقمي، وبمساعدة شركة Huawei Technologies؛ تقوم بتطوير شبكات الاتصالات والإنترنت، بالإضافة إلى نظام واسع من كاميرات الدوائر التلفزيونية المغلقة. ففي عام 2020م، خصصت الولايات المتحدة، من خلال مؤسسة التنمية الدولية 300 مليون دولار لمراكز البيانات الإفريقية من جوهانسبرج لمشاريع في كينيا وجنوب إفريقيا.
ومنذ ذلك الحين، استثمرت الشركة 11 مليار دولار في إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى وفي مايو من هذا العام، أعلنت مايكروسوفت وشركة G42 (شركة ذكاء اصطناعي مقرّها الإمارات العربية المتحدة) عن استثمار بقيمة مليار دولار في التقنيات الرقمية في كينيا، سيذهب جزء منه لإنشاء مركز بيانات (سيتم تشغيله بالطاقة الحرارية الأرضية).
وبالتالي، يمكننا أن نقول بكل ثقة: إن الذكاء الاصطناعي (بفهمه الحديث وطريقة عرضه) موجود في إفريقيا، ومع القدر المناسب من الاستثمار والخبرة، فضلاً عن الإرادة السياسية لقيادة البلدان الإفريقية، فإن القارة لديها كل الفرص لتنفيذ حلول الذكاء الاصطناعي على نطاق أوسع.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
رابط التقرير: https://tass.ru/opinions/22462559