نشرت صحيفة “تاجه بلات/ Tageblatt” اللكسمبورجية الناطقة بالألمانية مقال رأي بقلم “شتيفان كونتسمان/ Stefan Kunzmann” تطرق إلى الأهمية السياسية والاجتماعية والثقافية التي باتت تُشكّلها منطقة جنوب الصحراء الكبرى في إفريقيا، والتي أخذت تبعث بإشارات متباينة؛ فمن ناحية، أدَّت العديد من الانقلابات والصراعات المسلحة إلى إعادة تشكيل المنطقة خلال السنوات الأخيرة، ومن ناحية أخرى، راح يلوح الأمل، في بعض البلدان، في إحداث تغيير ديمقراطي، مُبشِّرًا بميلاد “نموذج سياسي جديد”ـ كما هو الحال في السنغال. وأخيرًا، يمكن ملاحظة الزخم الواضح في المناقشات الفكرية حول مستقبل المنطقة.
بقلم: شتيفان كونتسمان
عرض وترجمة: شيرين ماهر
الشمس الساطعة، والشواطئ الرملية مترامية الأطراف، وقوارب الصيد الملونة… ربما كان هذا هو المشهد السائد، للوهلة الأولى، على ساحل السنغال الأطلسي باعتباره وجهة سياحية مثالية. لكنَّ هذه الصورة المثالية تبدو خادعة بعض الشيء، وتُخْفي وراءَها الكثير من الاضطرابات المثيرة للقلق؛ حيث تنطلق القوارب من شواطئ الدولة الواقعة في غرب إفريقيا كل أسبوع أو حتى كل يوم، فيما يتعرَّض عدد لا بأس به منها لخطر الهلاك في البحر. ويَغرق عدد لا حَصْر له مِن البشر كل أسبوع.
وفي الواقع، يُعدّ طريق الهجرة عبر الأطلسي أحد أخطر الطرق في العالم. وعلى الرغم من أن معدل البطالة في السنغال لا يتجاوز ثلاثة في المائة. لكن العديد من الموظفين يعملون في أجواء محفوفة بالمخاطر. كما يعيش ما يقرب من نصف السكان في فقر مدقع. وليس من المستغرب أن يجد الشباب رغبة مُلِحَّة، على وجه الخصوص، في مغادرة البلاد، وتجربة حظوظهم في أوروبا. فمنذ أن بدأت أساطيل الصيد من أوروبا الغربية وروسيا والصين في صيد الأسماك قُبالة الساحل السنغالي، لم يتبقَّ أيّ شيء تقريبًا للصيادين المحليين من أجل كَسْب ما يكفي من المال لسدّ احتياجاتهم اليومية.
إن البلاد تعاني اقتصاديًّا من الوضع المتردي، ولكنَّها تُعيد توجيه دفة نفسها سياسيًّا. فقد فاز “باشيرو ديوماي فاي” البالغ من العمر 44 عامًا من حزب المعارضة اليساري “الوطنيون الأفارقة في السنغال من أجل العمل والأخلاق والأخوة” (باستيف) بالانتخابات الرئاسية في مارس الماضي، قاطعًا وعوده بخلق فُرص العمل ومكافحة الفقر والحَدّ من هجرة الشباب. ولكن، لم يكن لحزبه أغلبية في البرلمان. ومع حصوله على حوالي ثُلث المقاعد، لم تتمكن حكومة رئيس الوزراء ومؤسس حزب باستيف “عثمان سونكو” بَعدُ من الشروع في الإصلاحات المُعلنة.
وبعد أن أُجريت انتخابات برلمانية مُبكرة -إذ جرى النظر إلى التصويت باعتباره حدثًا بارزًا، تمامًا كما أرسل انتقال السلطة السلمي إلى فاي “إشارة قوية في المنطقة”-، وبعد الانقلابات في مالي وبوركينا فاسو والنيجر والنفور الواضح من القوة الاستعمارية السابقة فرنسا نحو اعتمادات سياسية واقتصادية جديدة تميل بشكل واضح إلى الصين وروسيا؛ بدأ الحديث بالفعل عن البحث عن “نموذج جديد”، كما أطلقت عليه الصحفية الفرنسية السنغالية “كومبا كين”، مؤخرًا، في صحيفة لوموند الفرنسية.
نهاية “الارتباط الفرنسي”:
لقد نجحت بالفعل الانتخابات التي جرت في مارس في نزع فتيل الأزمة بعد أشهر من الاحتجاجات والاضطرابات الخطيرة التي أجبرت الرئيس “ماكي سال” على الاستقالة من منصبه. وكان “سال” يرغب في تأجيل الانتخابات. وطبقًا للدستور، لم يُسمَح له بالترشح مرة أخرى. وبحصوله على 54% من الأصوات في الجولة الأولى، كان “فاي” متقدمًا بوضوح على خصمه “أمادو با”، الذي كان رئيسًا للحكومة في ذلك الوقت، والذي ظل حزبه “التحالف من أجل الجمهورية” يحتفظ بالأغلبية البرلمانية.
ولكن الشباب، الذين يبلغ متوسط أعمارهم نحو 19 عامًا، هم الذين يعتمدون على حزب “باستيف”، الذي تستند شعبيته إلى رفضه العميق للظلم والفساد.
ومنذ استقلال السنغال عن فرنسا في عام 1960م، كانت السنغال أكثر استقرارًا من أيّ دولة أخرى تقريبًا في غرب إفريقيا.
وتشمل الإصلاحات التي تسعى الحكومة إلى تحقيقها، والتي تُوصَف بأنها “إفريقية يسارية”، “تحوُّلًا منهجيًّا للسنغال” نحو دور أقوى للدولة، مثل التدخُّل الحكومي الأكبر في قطاعات الصيد والغاز والنفط. وتشمل عناصر الإصلاح الأخرى إنشاء محكمة دستورية، والحدّ من سلطة الرئيس، والتغلُّب على قانون الأسرة الأبوي.
وأخيرًا، لا بد من إعادة تنظيم العلاقات مع فرنسا. ففي بعض دول الساحل، وجد الغضب المكبوت، منذ فترة طويلة، ضد القوة الاستعمارية السابقة مُتنفسًا له. ويقول عالم السياسة الألماني “كلاوس ليجيفي”: “إن فرنسا مكروهة بشدة في إفريقيا، والآن تُطرَد حرفيًّا من النطاق الإفريقي، مما يُفسِح المجال أمام قوى استعمارية أخرى أشد نفوذًا: روسيا والصين”.
وأضاف: “وبدلًا من العَلم ذي الخطوط الأفقية الثلاثة، يُلوِّح المتظاهرون في باماكو ونيامي بالعَلَم ذي الخطوط العمودية للاتحاد الروسي، الذي كان مرتزقته (فاجنر) حاضرين هناك منذ فترة طويلة. ويُصاحب طرد فرنسا عملية سريعة لإلغاء الديمقراطية في المنطقة مع ترسيخ الأنظمة العسكرية وطبقات الدولة الاستبدادية نفسها التي استخدمت منذ فترة طويلة “الارتباط الفرنسي” لإثراء نفسها وقمع شعوبها”.
وفي السنغال أيضًا، أصبحت الديمقراطية المستقرة التي كانت محل إشادة كبيرة، ذات يوم، على وشك الانهيار بعد الحُكم على زعيم المعارضة آنذاك “سونكو” بالسجن، الأمر الذي أشعل شرارة أسوأ اضطرابات شهدتها البلاد منذ عقود، وأسفرت عن مقتل 23 شخصًا على الأقل.
وعندما أراد “سال” تأجيل الانتخابات الرئاسية، اندلعت احتجاجات على مستوى البلاد، كما لاحظ “فيلوين سار”، أحد أهم مُثقفي السنغال، قائلًا: “لقد طرح المجتمع المدني والصحافيون والمثقفون والمواطنون، والسجناء السياسيون من زنزاناتهم، الحجج السياسية والأسانيد القانونية قبل كل شيء، وأثبتوا أنهم يمتلكون القدرة على العمل وحشد الوسائل اللازمة لإيصال أصواتهم. فالجماهير هي التي تصنع التاريخ؛ فهي قادرة على تحقيق الانتصارات الاجتماعية، وفي هذه الحالة تصنع أيضًا الانتصارات الديمقراطية”.
“أفروتوبيا” في مقابل الصور النمطية:
في مقالته “أفروتوبيا”، التي نُشِرَتْ في كتاب عام 2016م؛ قدَّم “سار” مساهمة مهمة ضمن المناقشات الدائرة حول حقبة ما بعد الاستعمار. وفي هذه المقالة، يدعو الخبير الاقتصادي والموسيقار السنغالي “فيلوين سار” إلى إنهاء الاستعمار الحقيقي في إفريقيا من خلال العودة إلى مواردها الفكرية المنسية والمقموعة دون فقدان الاتصال بالحداثة.
ويشير إلى أنه وفقًا لبعض التقديرات؛ فقد فقدت القارة 225 مليون شخص بسبب تجارة الرقيق، ولا تزال القارة هشَّة بالفعل؛ بسبب عواقب الاستعمار. وإلى يومنا هذا، تفقد إفريقيا قدرًا لا يمكن حَصْره من الوظائف والموارد الطبيعية لصالح المستغلين من الغرب والشركات الأجنبية.
ولا تزال الصور النمطية -التي تُصوِّر إفريقيا كمنطقة كارثية لا تَصلُح لإقامة أيّ مشروعات، وكذلك تصوير الأفارقة على أنهم أشخاص أقل شأنًا- مُتداولة وشائعة على نطاق واسع.
ويُوجّه “سار” في كتابه دعوته وأفكاره إلى الأفارقة أنفسهم، الذين يعيشون حالة أشبه ما تكون بأزمة دائمة، وليس إلى الأوروبيين. ويرى أنه قد حان الوقت منذ فترة طويلة لكي يناضلوا من أجل استقلالهم الفكري بعد استقلالهم السياسي. ويتعين على الأفارقة التغلُّب على الذرائع التي غرسها الغرب في وعيهم بحُجَّة كونهم الأقل مهارة واحترافية والأضعف إنتاجية وكفاءة. بل عليهم تطوير ممارساتهم الاقتصادية والمعيشية الخاصة التي ترتبط بالتقاليد الإفريقية، إلى جانب الاستفادة من التقنيات والتكنولوجيا الغربية.
التاريخ الإفريقي لإفريقيا:
كما أشار “سار” إلى الطبيب النفسي والفيلسوف ومُفكّر حقبة ما بعد الاستعمار “فرانز فانون”، الذي قاد نضالًا طويلًا من أجل وحدة الشعوب الإفريقية، مؤمنًا بأن “إفريقيا” قارة تضم 54 دولة تتبع مسارات تاريخية مختلفة، مستشهدًا برؤية “فانون” أن العنف الاستعماري لا يمكن مواجهته إلا بعنف ثوري.
ففي حين تزدهر الآمال في السنغال، على سبيل المثال، تشتعل حرب في السودان بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع شبه العسكرية، والتي بدأت في العاصمة الخرطوم في أبريل 2023م، وانتشرت في جميع أنحاء البلاد. وقد توقع برنامج الغذاء العالمي التابع للأمم المتحدة أن تستمر الحرب في السودان حتى نهاية عام 2023م، ولكن انتهى كذلك عام 2024م ولم تنطفئ نيران الحرب، بل تستعر هنا وهناك.
وربما في ظل هذا الجدل فاجأت الكاتبة السودانية “زينب بدوي” الجميع في أبريل 2024م بصدور كتابها “التاريخ الإفريقي لإفريقيا/An African History of Africa ” الصادر باللغة الإنجليزية، والذي وثَّقت خلاله رحلتها على مدار سبع سنوات من السفر والترحال عبر أكثر من 30 دولة إفريقية، والتي خلصت فيه إلى أن كل شخص في الأصل إفريقي، وبالتالي فإن كتابها إنما هو كتاب موسوعي ودليل شامل للجميع، يضع الأمور في نصابها الصحيح حول تاريخ القارة السمراء.
هذا وتُقدّم الكاتبة والإعلامية البارزة “زينب بدوي” رواية جديدة ومثيرة عن قارة إفريقيا؛ إذ تروي قصة ملحمية شاملة عن أقدم قارة مأهولة بالسكان عرفها التاريخ على وجه الأرض؛ حيث استخدمت أصوات سردية حقيقية من أبناء القارة أنفسهم. ويتضمن الكتاب خمس حلقات تُوثّق هذا التاريخ الملحمي؛ إذ يُعدّ كتاب “التاريخ الإفريقي لإفريقيا” مرجعًا مُهِمًّا؛ نظرًا لما يُقدّمه من وجهة نظر داخلية للقارة، مُصحِّحًا بذلك الروايات الغربية المهيمنة على تاريخ إفريقيا الذي ظل مُهملًا لفترة طويلة، والتي غالبًا ما تُركّز على سرديات تتعلق بتجارة الرقيق والاستعمار، متجاهلًا بذلك تاريخ القارة العريق.
كما تأخذنا “بدوي” في رحلة عبر الزمن، بدءًا من أصول البشرية، مرورًا بالحضارات القديمة والإمبراطوريات العريقة التي حكمتها شخصيات استثنائية من ملوك وملكات، وصولًا إلى مآسي الاستعمار وبشائر الاستقلال.
وقد أجرت الكاتبة مقابلات ولقاءات حية مع عددٍ لا يُحْصَى من المؤرخين والسياسيين وعلماء الأنثروبولوجيا وعلماء الآثار ورواة القصص المحليين.
ربما القيمة الأهم التي نجحت “بدوي” في إيصالها أنها استطاعت تقديم التاريخ الإفريقي من منظور إفريقي بَحْت، وجعل هذا التاريخ في متناول جمهور واسع، وإثبات أن إفريقيا تمتلك تاريخًا، وأنه جزء أساسي من تاريخنا ككل، بل ويستحق اهتمامًا واحترامًا أكبر مما ناله حتى الآن.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
رابط المقال: https://www.tageblatt.lu/headlines/der-schlafende-riese-zwischen-aufbruch-und-neuen-abhaengigkeiten/