يظل سؤال التنمية في إفريقيا عالقًا بين بُطْء محاولات الحكومات الإفريقية تحقيق اختراقات حقيقية في معضلات وعوائق التنمية نحو نقلة تنموية ملموسة للمواطن الإفريقي، ومتغيرات العوامل الخارجية بالغة التأثير في هذا السؤال ومساعي إجابته. بالإضافة إلى الشكوك المتعلقة بجدية عمل المؤسسات المالية والنقدية الدولية في دعم إفريقيا تنمويًّا بشكل مستدام وحقيقي.
ومع كثرة المتغيرات الخارجية يتزايد يومًا بعد آخر تساؤل جادّ حول توجُّهات الحكومات الإفريقية الحقيقية إزاء مسألة التنمية وخدمة المصالح الشاملة للمجتمعات الإفريقية من زاوية وطنية، وليس وفق بنود الأجندات الدولية (دعم التنمية مقابل الاستيلاء على الموارد والعائدات) والمنظماتية العالمية.
وعلى هامش هذه التساؤلات يتناول المقال الأول محورية قطاع الزراعة في تحقيق نموّ إفريقي ملموس في العام المقبل 2025م في ضوء اهتمام قمة الاتحاد الإفريقي المقبلة بهذه المسألة.
أما المقال الثاني فيُلقي الضوء على مشكلة تلوث الهواء في القارة الإفريقية مقارنة ببقية أقاليم العالم، رغم أن القارة تُصنَّف بكونها الأقل في التقدم الصناعي في العالم، والمسؤولة عن أقل نسبة ملوثات هواء في العالم بالفعل؛ الأمر الذي يثير تساؤلات حول عدالة توزيع الأعباء والأضرار الناتجة عن التلوث العالمي المصحوب بتغيرات مناخية حادة.
ويتناول المقال الثالث والأخير جانبًا من مسألة التمويل اللازم لتحقيق التنمية في إفريقيا، وهو تمويل يظلّ أقل بكثير من الحدود الدنيا المطلوبة لمساعدة القارة في القفز من قاع التخلف إلى عتبة بدء تنمية حقيقية وملموسة النتائج للمواطن الإفريقي.
2025م عام محوري للزراعة المستدامة في إفريقيا([1]):
يتوقع أن يكون العام 2025م عامًا محوريًّا للتحول الزراعي في إفريقيا. ومع وفرة أُطُر العمل والتكنولوجيات المتطورة؛ فإن القارة ستكون في وضع جيد لقيادة تغيير نحو نُظُم غذائية مستدامة ومرنة وشاملة. وتقع إفريقيا على مشارف عصر تحوُّلي يقود إلى إعادة تشكيل نظمها الغذائية.
وستلعب قمة الاتحاد الإفريقي غير العادية المقبلة (9-11 يناير 2025م) دورًا مهمًّا في هذه الرحلة مع اتفاق القادة الأفارقة على تبنّي برنامج التنمية الزراعية الشاملة الإفريقية” Comprehensive Africa Agriculture Development Programme, (CAADP) (وهي الإستراتيجية وخطة العمل المتضمّنة في أجندة إفريقيا 2063م عن الفترة 2026-2035م)، ويهدف هذا الحدث المهمّ إلى إطلاق أجندة مدّتها عشرة أعوام لبناء نُظُم غذائية زراعية مَرِنَة تقود النمو والتحول الزراعيين، وتُحسِّن مستويات المعيشة في أرجاء القارة.
كما سيكون العام المقبل محوريًّا في ترجمة الأُطر القائمة إلى مناهج عمل؛ مِن قبيل الالتزامات التي تم التعهد بها في قمة مناخ إفريقيا 2023م. وقد ركَّزت القمة على الحاجة إلى شراكات، والتمويل المناخي، والاستثمارات وتجسيد أصوات الشباب في عمليات صنع القرار المناخي، وتعزيز الأنشطة المناخية المحلية من أجل تلبية حاجات الأفارقة على مستوى القاعدة.
ومن أجل تحقيق جميع هذه الالتزامات؛ فإن ثمة حاجة لحشد جهود التدخل الوطنية والإقليمية والدولية لدعم صمود صغار ملاك الأراضي. الأمر الذي سيُقوي ويُعزّز أسواق الغذاء المحلية النامية في إفريقيا، وتعزيز تمويل الاستثمار لأجندة تحويل نُظُم الغذاء في إفريقيا.
توازن الإنتاجية والاستدامة:
تلعب الحكومات دورًا حيويًّا في تمكين التكيُّف المناخي لدى صغار مُلاك الأراضي الزراعية الذين يمثلون بدورهم العمود الفقري لنظم الغذاء الإفريقية. وبتطبيق السياسات التي تُولي الاهتمام الأكبر بزراعة صامدة في وجه التغيرات المناخية، يمكن للدول دعم المزارعين في تبنّي سياسات مستدامة والوصول إلى موارد مهمة.
إنَّ أُطُر عمل (مثل: إعلان مالابو بشأن النمو الزراعي المتسارع (2014) Malabo Declaration on Accelerated Agricultural Growth، الذي قارب على نقطة نهايته، وإعلان كمبالا الوزاري بشأن الهجرة والبيئة وتغير المناخKampala Ministerial Declaration on Migration, Environment and Climate Change)؛ تهدف إلى تحسين الإنتاجية الزراعية واستدامتها عبر التأكيد على الزراعة بتكنولوجيا المناخ الذكية. وتتسق هذه الجهود مع مبادرات أكبر مثل خطط التكيف الوطنية، ومبادرة السور الأخضر الكبير Great Green Wall؛ التي تركز على استصلاح الأراضي المتدهورة، ونشر ممارسات الزراعة المستدامة من أجل مواجهة آثار التغير المناخي.
التجارة الإقليمية:
تُقدّم منطقة التجارة الحرة القارية الإفريقية African Continental Free Trade Area (AfCFTA) إمكانات تحوُّل نظم الغذاء الإفريقية عبر زيادة الوصول للأسواق، وخفض العوائق التجارية، وتعزيز سلاسل القيمة الإقليمية. ويعتمد نجاحها على تجاوز تحديات من قبيل توزيع الربح غير المتكافئ، وتباين البنية الأساسية للتجارة، والحاجة إلى قدرة مؤسساتية والتزام سياسي كبيرين.
ولقد شهدنا بالفعل، على نحو مُشجّع للغاية، جهودًا تتم لمعالجة مثل هذه التحديات. وهناك مبادرات بنية أساسية -مثل برنامج تنمية البنية الأساسية في إفريقيا Programme for Infrastructure Development in Africa- لعبت دورًا مهمًّا في معالجة فجوات الترابط، عبر مشروعات من قبيل الممر الشمالي الجنوبي لتعزيز طرق التجارة في جنوبي إفريقيا وشرقها، ويمكننا أن نشهد توسُّع هذه الطرق مستقبلًا.
إنّ أُطُر عمل إقليمية مثل الجماعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا “إيكواس”، تُطبّق اتفاقية التجارة القارية الإفريقية بتقوية الأمن الغذائي عبر نظام احتياطي مقسَّم إلى مستويات محلية ووطنية وإقليمية مع وضع المعونات الدولية كدعم لهذه المستويات.
وعلى نحوٍ مُشابهٍ؛ فإن منطقة التجارة الحرة الثلاثية Tripartite Free Trade Area (TFTA) تُعزّز التكامل عبر تنسيق السياسات التجارية، وتيسير التجارة الزراعية. وتضع كلّ من اتفاقية التجارة الحرة القارية ومنطقة التجارة الحرة الثلاثية الأساس لصمود النظم الغذائية وترابطها في أرجاء إفريقيا.
التكامل الرقمي الإفريقي:
تؤكد أجندة 2063 الصادرة عن الاتحاد الإفريقي على الحاجة إلى بناء اقتصاديات رقمية كخطوة مهمة نحو التكامل والاستدامة والتنمية الشاملة القارية. ويمكن للتكنولوجيا الرقمية لعب دور تحوُّلي في نظم الغذاء عبر تحسين وصول المزارعين إلى المعلومات والأسواق والموارد.
وعلى سبيل المثال، فإنه يمكن لتطبيقات ومنصات الهواتف المحمولة أن تُقدّم بيانات آنية عن الطقس، وأسعار السوق، والإرشاد الزراعية، وتمكين المزارعين أصحاب الملكيات الزراعية الصغيرة من اتخاذ قرارات صائبة والتكيُّف مع التغير المناخي. إضافةً إلى ذلك يمكن للتكنولوجيا أن تُيسِّر الوصول إلى الخدمات المالية، وتمكين المزارعين من الاستثمار في ممارسات زراعة أكثر مرونة.
ويُوفِّر دمج حلول رقمية في نُظُم غذاء إفريقيا فرصة لتحسين الإنتاجية، وخفض الفاقد، وتحسين سلاسل الإمداد وضمان وصول متكافئ للغذاء. ويأمل الخبراء أن يشهد العام 2025م استمرار القارة في بناء اقتصادها الرقمي، وأن يتضح التداخل الفعَّال بين التكنولوجيا ونظم الغذاء بشكل متزايد في معالجة تحديات الأمن الغذائي الإفريقي وتعزيز تنمية زراعية مستدامة.
التلوث في إفريقيا: هل نعرف عمق المأساة؟([2])
يُسهم تلوث الهواء كلّ عام في وفاة مفاجئة لأكثر من 8 ملايين فرد في العالم. ويتداخل هذا الإحصاء الكارثي عن كثب مع أزمة المناخ، ورغم ذلك فإنه يندر الحديث عن تلوث الهواء في المناقشات الجارية حول التغير المناخي. وتواجه إفريقيا، كقارة، تحديات متنوّعة بخصوص جودة الهواء.
إن الاستخدام المُوسَّع للوقود الحيوي في أغراض الطبخ والتدفئة مع الحرق المفتوح للمخلفات الزراعية ينتج كميات ضخمة من الملوثات. وفي الوقت نفسه فإن التحول العمراني المتسارع، وزيادة استخدام وسائل النقل الحديثة قاد إلى نمو سريع للانبعاثات الناتجة عن حركة النقل، والتي تمثل الآن نحو 40% من مصادر تلوث الهواء في القارة. وقد زاد سوء هذا الوضع بسبب الأحوال المناخية الأكثر جفافًا وحرارة بفضل التغير المناخي، والذي يزيد بدوره من التراب المحمول جوًّا وانتقاله من الأراضي الجافة، ووقوع الحرائق في المناطق البرية.
إن انبعاثات الكربون التي تقود إلى تلوث الهواء تُسرِّع من وطأة الأزمة المناخية، كما تزيد من الآثار المميتة الفورية. ويرى The 2024 World Heart Report أن تلوث الهواء يسهم في وفاة 1.9 مليون نسمة جراء أمراض قلبية وأقل من مليون نسمة تقريبًا من الجلطات كل عام.
ويمثل هذا التهديد تحديًا عالميًّا، ولا سيما في إفريقيا جنوب الصحراء التي سجَّلت أكثر من مليون حالة وفاة جراء الأمراض القلبية في العام 2021م. كما أن تفاعل العواصف الترابية الطبيعية مع مصادر التلوث البشرية يمكن أن يجعل مراقبة جودة الهواء أمرًا بالغ التعقيد بشكل كبير. كما يفتقر الإقليم بشكل واضح للبنية الأساسية لمراقبة تلوث الهواء، مما يجعل من الصعوبة بمكان تحرُّك صاحب القرار على وجه السرعة وبالفعالية الضرورية.
تلوث الهواء في إفريقيا:
أجرينا، بدعم من اتحاد القلب العالمي World Heart Federation وصندوق الهواء النظيف Clean Air Fund، مراجعة للوصول إلى صورة البحوث المتاحة حول تلوث الهواء وأمراض القلب في إفريقيا. وللمفاجأة وجدنا ست دراسات فقط تستخدم بيانات مستشفيات للنظر في الصلات بين هاتين الظاهرتين، وأغلبها في جنوب إفريقيا. ورغم محدودية عددها ونطاق تناولها؛ فإن هذه الدراسات نجحت في تناول الصلة بين العديد من مُلوّثات الهواء والوفيات الناتجة عن أمراض القلب والإصابة بها.
ومن أجل الوصول لصورة أكثر اكتمالًا وعمل تدخلات قائمة على شواهد تلائم التجمعات الإفريقية؛ فإن ثمة حاجة لتفعيل المراقبة الملائمة لملوثات الهواء المختلفة. وبدون هذه الخطوة فإن فهمنا لتلوث الهواء المحلي سيظل محدودًا؛ مما سيقود إلى مخرجات صحية أكثر رداءة لمن يتعرَّضون لهذه الملوثات. إن فهم مستوى تلوث الهواء في إقليم ما مُهِمّ لخفض الضرر الناتج عنه، وكذلك في تحسين الوعي بالمحددات البيئية للصحة، وتشكيل إجراءات جودة هواء كافية في إستراتيجيات الصحة العامة.
وهناك حاجة لمحطات مراقبة أرضية تقوم بتقديم وصف مفصل لموارد تلوث الهواء في الأقاليم المختلفة. وفي إفريقيا لا تقوم سوى 24 دولة، من بين 54 دولة في القارة، حاليًّا بتشغيل إجراءات قياس جودة الهواء بقدرات مختلفة. وحتى في تلك الحالات المذكورة فإنه يوجد فشل في تغطية جميع ملوثات الهواء الرئيسة المعروف أنها تسبب أضرارًا صحية. علاوة على ذلك فإن الاختبار غير موزع بالتساوي ويركز على المناطق الحضرية.
كما يثير القلق أن 30% فقط من الدول الإفريقية تتطلب حاليًّا بشكل قانوني مراقبة جودة الهواء، وأن 18% فقط من الدول تلتزم بتعميم نشر هذه البيانات. وعلى النقيض من ذلك تلتزم 95% من الدول الأوروبية باختبارات جودة الهواء. كما أن اللوائح في أوروبا والولايات المتحدة تضمن الوصول العام لمثل هذه المعلومات مع تقديم الكثير من الحكومات بيانات لحظية حول جودة الهواء.
على أيّ حال فإن هذا الخلل يثير قلقًا خاصًّا في ضوء التقديرات التي تشير إلى ارتفاع تلوث الهواء في الفترة 2010-2019م في 60% من الدول الإفريقية. وهو الأمر الذي يختلف عن الحال في أوروبا ودول جنوب شرق آسيا التي شهدت جميعها تراجعًا في ملوثات الهواء.
تمويل مستقبل إفريقيا([3]):
ترتفع ديون إفريقيا بمعدل أربعة أضعاف نموّها الاقتصادي، لتقفز من 10% من الناتج المحلي الإجمالي في العام 2010م إلى 29% في العام 2022م. ويتطلب هذا المثار المقلق إعادة تفكير في كيف يمكن للشراكات الدولية تقديم دعم أفضل لتقدم القارة نحو تحقيق أهداف التنمية المستدامة للأمم المتحدة SDGs بحلول العام 2030. ومع تغيرات التوازن العالمي، فإن العائد الديمغرافي الإفريقي وثروة مواردها يضعاها كمركز مهمّ في تشكيل عالم متعدّد الأقطاب أكثر نزاهة وشمولًا.
وتقول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية Organisation for Economic Co-operation and Development (OECD) إن متوسط عتبة الديون بين 70-90% مناسب لدول الدخل المرتفع مثل الولايات المتحدة واليابان، ونسبة 30-50% تلائم الاقتصادات الصاعدة بما فيها 46 دولة إفريقية ذات اقتصاد منخفض ومنخفض متوسط الدخل. وتقول المنظمة: إن هدف الدَّيْن يجب أن يكون عند 15% أقل من عتبة الدين بالنظر للأحداث الاستثنائية مثل كوفيد-19 أو الغزو الروسي لأوكرانيا، مما سيرفع معدلات الفائدة. لذا فإن أغلب الدول الإفريقية لا يمكنها سوى استدامة مستويات الدين فيما بين 15-35% من الناتج المحلي الإجمالي.
وقد تجاوزت الكثير من الدول الإفريقية باستمرار هذه المستويات بسبب تكاليف الاقتراض المرتفعة، وهشاشة العملة والنمو البطيء. وتقول الأمم المتحدة: إن الدول الإفريقية تُواجه أعباء تمويل تتراوح حول متوسط 8.5% أعلى من متوسط الولايات المتحدة. وهناك بعض الدول مثل تونس ونيجيريا قد خرجت من الأسواق المالية بسبب أعباء مفرطة.
وتوجد فجوة تمويل بنية أساسية هائلة في إفريقيا، مع نموّ الطلب على المدارس والمستشفيات ونظم النقل. كما أن نسبة الضرائب إلى الناتج المحلي الإجمالي تقف عند 16.5% وهو أقل من نسبته في أقاليم أخرى مثل الباسيفيك (19.1%)، وأمريكا اللاتينية والكاريبي (21.9%). ويصل إلى 33.5% في أقاليم أخرى.
ويغلب على النفقات الحكومية (في إفريقيا) سمة عدم الإنتاجية، الأمر الذي انعكس في تدني مقياس كفاءة الحكومة الذي يُجريه البنك الدولي، ومستويات الفساد المرتفعة، كما تظهر في بيانات الشفافية الدولية، وغيرها.
وإلى حدّ ما فإنه يمكن استخدام الهندسة المالية “لاحتواء الارتفاع في تكاليف الاقتراض دون الحصول على مزيد من الديون من المقرضين الرسميين”؛ حسبما أوردت صحيفة فاينانشيال تايمز.
وعلى سبيل المثال، أعلن البنك الدولي مؤخرًا أنه سيُعِدّ قرضًا لكوت ديفوار ليحل محل السندات المكلفة.
ومن خلال صيغة “الديون من أجل التنمية” debt for development ستستخدم البلاد تمويلًا رخيصًا لدعم ما يقرب من 400 مليون يورو في السندات التي يجب تسديدها في الأعوام القليلة المقبلة، ووضع المدخرات في أوجه إنفاق عامّ.
……………………………………..
[1] Agnes Kalibata, 2025, a year for Africa’s pivot to sustainable agriculture, Devex, December 16, 2024 https://www.devex.com/news/opinion-2025-a-year-for-africa-s-pivot-to-sustainable-agriculture-108874?skip_optional_steps=true
[2] Karim Miller and Mariachiara, How bad is air pollution in Africa? If only we knew, African Arguments, December 17, 2024 https://africanarguments.org/2024/12/how-bad-is-air-pollution-in-africa-if-only-we-knew/
[3] Jakkie Cilliers, Financing Africa’s future, ISS, December 18, 2024 https://issafrica.org/iss-today/financing-africa-s-future