على الرغم من الانقلابات العسكرية الكثيرة، وفترات عدم الاستقرار السياسي الطويلة، التي مرَّت بها غانا بعد استقلالها في 6 مارس 1957م؛ إلا أن الدولة الواقعة في غرب إفريقيا تعافت ديمقراطيًّا، وأصبحت مثالًا يُحتذَى من بين أنجح التجارب الديمقراطية الإفريقية، وخاصةً لكونها حالة إفريقية فريدة في مقوّماتها ودينامياتها الديمقراطية.
ولقد كان للديمقراطية جذور في الفكر والممارسة السياسية لغانا، منذ ما قبل الاستقلال، غير أن التجربة لم تستمر، بسبب التحوُّل إلى نظام الحزب الواحد، في عهد الرئيس المؤسس “كوامي نكروما” Kwame Nkrumah، ثم بسبب الانقلابات العسكرية وحكم العسكريين بعد ذلك، ومطلع التسعينيات ومع بداية الجمهورية الرابعة، بدأت رحلة عودة غانا إلى المسار الديمقراطي.
ومن ذلك الوقت، توالت العمليات الانتخابية، وتوالى التناوب على السلطة سلميًّا وديمقراطيًّا، وصولاً إلى الانتخابات الأخيرة التي عقدت في 7 ديسمبر 2024م، والتي أسفرت عن عودة المعارضة إلى مقاعد السلطة، وفي ضوء نتائج هذه الانتخابات الأخيرة، وما قبلها رجوعًا إلى مطلع التسعينيات، تسعى هذه الورقة إلى الوقوف على: ديناميات وتطورات وسمات التجربة الديمقراطية الغانية، وصولاً إلى استشراف قابل الأيام، فيما سيواجه الحكومة الجديدة من مشكلات، وما يمكن أن تؤول إليه هذه الحالة الديمقراطية الفريدة، وذلك عبر المحاور التالية:
أولاً: الجذور الديمقراطية… التجربة الغانية وخروجها عن المسار الديمقراطي
أُجريت أول انتخابات برلمانية موسعة في عام 1951م، وشارك فيها ثلاثة أحزاب هي: “حزب الميثاق الشعبي” Convention People’s Party، وحزب “ميثاق ساحل الذهب المتحد” United Gold Coast Convention، و”الحزب الوطني الديمقراطي” National Democratic Party، وفاز بها “حزب الميثاق الشعبي”، وفاز “كوامي نكروما (Kwame Nkrumah) زعيم الحزب وهو في السجن، بمقعد عن منطقة “أكرا” Accra المركزية، ثم أُفْرِجَ عنه لاحقًا، وأصبح رئيسًا للوزراء، بعد ذلك أُجريت الانتخابات البرلمانية في أعوام 1954 و1956م، ونالت غانا استقلالها في 6 مارس 1957م.
في 31 يناير 1964م أجرى “نكروما” وحزبه تعديلاً دستوريًّا، تَضَمَّن تبنّي نظام الحزب الواحد، وحَظْر كل الأحزاب السياسية، وأبقى فقط على حزبه “حزب الميثاق الشعبي”، وعيَّن “نكروما” نفسه رئيسًا مدى الحياة، ومنحته تلك التعديلات الدستورية سلطات مُوسَّعة، يمكنه بموجبها عزل أعضاء المحكمة العليا كيفما شاء، لدرجة أن كثيرًا من المحللين اعتبر نظام “نكروما” نظامًا ديكتاتوريًّا، وكان من المقرر إجراء انتخابات برلمانية عام 1965م، في إطار الحزب الواحد، وفقًا للتعديلات الدستورية، إلا أن “نكروما” ألغاها ومدَّد ولاية أعضاء البرلمان لولاية جديدة. وفي ظل هذا الاحتقان السياسي، أُطِيحَ بـ”نكروما” في انقلاب عسكري في 24 فبراير 1966م، وتم حلّ “حزب الميثاق الشعبي”، وتعليق العمل بالدستور، بعدها تمت استعادة التعددية السياسية، بحلول عام 1969م، وهنا بدأت الجمهورية الثانية، وأُجريت الانتخابات تحت نظام حكم برلماني، ورئيس شرفي، وبعد أقل من عام ونصف وقع انقلاب آخر، وتوالت الانقلابات العسكرية حتى عام 1979م.
مع بداية الجمهورية الثالثة، في 18 يونيو 1979م، عادت الحياة السياسية التعددية، لتدبّ في أروقة السياسة في غانا؛ حيث فاز بالأغلبية البرلمانية حزب الشعب الوطني People’s National Party، وفاز مرشحه “هيللا ليمان” Hilla Limann بالرئاسة، غير أنه بنهاية عام 1981م، قاد الملازم في الطيران “جيري راولينجز” Jerry Rawlings، انقلابًا أطاح بالرئيس “ليمان” وحكومته، وقام بحل البرلمان وجميع الأحزاب السياسية، وظل على رأس السلطة حتى أواخر عام 1992م.
ثانيًا: العودة إلى المسار الديمقراطي والثبات عليه
خضع “رولينجز” لضغوط دولية من أجل العودة إلى المسار الديمقراطي، وتم وضع دستور جديد، وتم الاستفتاء عليه وإقراره، في أبريل عام 1992م، وبموجبه أُجريت أولى انتخابات الجمهورية الرابعة، وترشح فيها “رولينجز” للرئاسة عن “التحالف التقدمي”، الذي يتزعمه حزب “المؤتمر الوطني الديمقراطي” National Democratic Congress، وفاز “رولنجز”، بالرئاسة وحزبه وائتلافه بالأغلبية في البرلمان، وانتظمت من حينها الانتخابات البرلمانية والرئاسية، دون انقطاع؛ حيث عُقدت (8) عمليات انتخابية ديمقراطية، أدَّت إلى التناوب سلميًّا (4) مرات على السلطة، بين الحزبين الكبيرين: “المؤتمر الوطني الديمقراطي” National Democratic Congress، و”الحزب الوطني الجديد” New Patriotic Party، في ظاهرة إفريقية فريدة من نوعها، لم تشهدها أيّ دولة إفريقية بهذا القدر وهذه الكيفية.([1])
وفي الجدول التالي بيان بالعمليات الانتخابية المتتالية، التي أُجريت بانتظام، وعمليات التناوب المتكررة على السلطة، منذ عام 1992م وحتى الآن 2024م.
الجدول من إعداد الباحث استنادًا إلى البيانات الواردة على موقع المؤسسة الدولية للأنظمة الانتخابية “IFES”، وفي انتخابات عام 2024م لا يزال هناك (9) مقاعد لم تُحسم بعد، لكنها لن تُغيِّر في النتائج، تحققت آخر زيارة بتاريخ 16 ديسمبر 2024 الساعة 1:05م، على الرابط: https://electionguide.org/countries/id/83/
ومن خلال استعراض نتائج الانتخابات الرئاسية والبرلمانية، التي أُجريت بانتظام في غانا، منذ بدأت تجربة التحول الديمقراطي، التي انطلقت مع بداية الجمهورية الرابعة، أوائل تسعينيات القرن الماضي، نجد أن غانا تفردت من بين التجارب الديمقراطية الإفريقية، بانتظام إسناد السلطة عبر انتخابات تعددية دورية، تتمتع بقدر كبير من النزاهة والحرية والشفافية، في تنافسية شديدة مستندة إلى الأداء السياسي، لا إلى الانتماء القبلي والمال السياسي، مع تحقيق شرط التناوب السلمي على السلطة الذي افترضه “صمويل هنتنجتون”، بل وتحقيقه حتى الآن لـ(5) مرات، وهو ما يضعها على أعتاب مرحلة الترسُّخ الديمقراطي، ضمن الديمقراطيات الأكثر تقدمًا إفريقيًّا وعالميًّا.([2])
ثالثًا: ملفات شائكة تنتظر الحكومة الجديدة
لم تَعُد ممارسة الحقوق المدنية والسياسية، وحرية الرأي والتعبير وغير ذلك من حقوق الإنسان، تشغل بال الغانيين بدرجة كبيرة، بعدما قطعت غانا شوطًا كبيرًا على المسار الديمقراطي، وتكاد تنحصر مشكلات وهموم الغانيين، في البعدين الاقتصادي والاجتماعي. وتُعدّ أزمات الديون الخارجية، والبطالة، وارتفاع الأسعار، وضعف الأجور، وقلة الاستثمارات التصنيعية، والاعتماد بشكل كبير على المواد الخام، كمصدر دخل رئيسي للبلاد، من أكثر القضايا التي يتعين على الحكومة الجديدة معالجتها، وبخاصة وأن الحملة الانتخابية لكلا الطرفين “الفائز والخاسر”، كانت مُنصبَّة وبشكل رئيسي، على طرح حلول عاجلة وناجعة، للمشكلات الاقتصادية التي يعاني منها الجميع.
سابقة حكم الحزب الرئيس:
من أهم القضايا التي تؤرق الرئيس والحكومة الجديدة، سابقة توليهما السلطة، فالرئيس المنتخب الجديد “ماهاما”، سبق له حكم البلاد في دورة سابقة، في الفترة من يوليو 2012م إلى يناير 2017م، وحزبه “المؤتمر الوطني الديمقراطي”، سبق له تولي السلطة لـ(4) دورات سابقة، موزعة على مرتين بالتناوب (انظر الجدول أعلاه)، فالإتيان بهما مرة أخرى من صفوف المعارضة إلى سدة السلطة، وإن كان يُحسَب لهما، إلا أنه يرفع سقف تطلعات ومطالب الناخب الغاني، الملقاة على عاتق الرئيس والحكومة الجديدين؛ حيث يُنتظر منهما الوفاء بوعودهما الانتخابية، وإجراء معالجة سريعة للإخفاق الاقتصادي، الذي حقّقه رئيس وحكومة “الحزب الوطني الجديد” المنتهية ولايتهما، وهو لا شك عنصر ضغط شديد، سوف يُثقل كاهل الرئيس الجديد وحكوماته.
الديون الخارجية:
تمثل الديون الخارجية أزمة مستحكمة للحكومات الغانية، وبخاصة بعد عمليات الاقتراض المفرط، التي أوصلت الدين الخارجي إلى أكثر من (31) مليار دولار، وعلى الرغم من أن حكومة “الحزب الوطني الجديد” المنتهية ولايتها، حصلت على خطة إنقاذ بقيمة 3 مليارات دولار، من صندوق النقد الدولي العام الماضي، إلا أن ذلك لم يشفع لها لدى الناخب الغاني؛ لأن ذلك ضمن الحلول التي تعتمد على الاقتراض أيضًا، مما قد يتسبب في زيادة التعثر الاقتصادي مستقبلاً، كما أنه لم يظهر لهذه الخطة أثر في حياة المواطن الغاني، فلا تزال أزماته الاقتصادية تتفاقم.([3])
التضخم:
يُعدّ التضخم من أبرز القضايا الاقتصادية، التي تؤثر سريعًا في الرأي العام؛ لأنها تمسّ الحياة اليومية للناس، وهي بذلك تشغل حيزًا كبيرًا من اهتمامات الحكومات، وفي غانا زادت معدلات التضخم بدرجة كبيرة، وبخاصة مع تفاقم الأزمة الاقتصادية العالمية، وتعاصرها مع أزمة “كوفيد-19″، فضلاً عن احتدام الصراع العالمي، والحرب الروسية الأوكرانية، التي كان لها تأثير قوي ومباشر، على حركة تجارة، وارتفاع تكاليف الغذاء حول العالم. وتشير الإحصاءات الرسمية، إلى أن معدل التضخم السنوي في غانا، تسارع إلى 21.5% في سبتمبر2024م، وقد شعر المواطن الغاني بموجات متتابعة من غلاء الأسعار، وهو ما أثَّر من دون شك على اختياراته الانتخابية، ويزيد هذا الوضع من ضغوط وأعباء الحكومة الجديدة.([4])
البطالة وتدني الأجور:
زاد معدل البطالة في غانا، إلى ما يقترب من حوالى ثلاثة أضعاف، خلال الـ(10) أعوام الماضية؛ حيث قفز معدل البطالة إلى أكثر من 14% من قوة العمل، وقد أثارت هذه القضية سخط الناخب الغاني بدرجة كبيرة، وبخاصة في أوساط الشباب وصغار السن، الذين لا يجدون فرصًا للعمل، أو يجدون أعمالاً بأجور زهيدة، لا تفي في الغالب بمتطلبات المعيشة، وقد اختبرت عدة مؤسسات متخصصة في استطلاع الرأي، أهمية قضية البطالة لدى الناخب الغاني، فانتهى تقرير صادر عن مؤسسة “جلوبال إنفو أناليتكس” Global Info Analytics، إلى أن 68% من العينة يعتبرون البطالة قضية رئيسية، وأكَّد تقرير صادر عن مؤسسة “أفرو باروميتر” Afro Barometer، أن 41% من العينة يطالبون الحكومة، باتخاذ إجراءات فورية بشأن خلق فرص العمل، وهو ما يؤكد أن قضية البطالة، سوف تمثل عبئًا كبيرًا، يثقل كاهل الحكومة الجديدة.([5])
البنية التحتية والخدمات الحكومية:
هناك عدة مشكلات، يتعين على الرئيس والحكومة الجديدة، التصدي لها، ولئن لم تكن بنفس مقدار الأهمية والأولوية، التي للقضايا سالفة البيان، إلا أنه يجب عدم إهمالها، مثل: التوسع في إنشاء وتطوير البنية التحتية، وتطوير خدمات الرعاية الصحية، وتطوير التعليم، وغير ذلك من القضايا([6]).
خاتمة:
في ضوء التحليل السابق، يمكننا التأكيد على نضوج تجربة التحوُّل الديمقراطي الغانية، بما يضع غانا في مصاف الدول المتقدمة ديمقراطيًّا؛ حيث توافرت لها كافة المقومات والعناصر والمتطلبات، التي تنقل التجربة إلى مرحلة الترسخ الديمقراطي، ويتبقى فقط الاهتمام بجودة هذه المقومات والعناصر، وقد انعكس هذا النضوج الديمقراطي، على سلوك واهتمامات واختيارات الناخب الغاني، وليس أدل على ذلك من حالة التناوب المتكررة على السلطة، ونقل السلطة سلميًّا من الحكومة إلى المعارضة بإرادة الناخبين، تأثرًا بالبرامج والإدارة والنتائج، بعيدًا عن المؤثرات الشائعة في البيئة السياسية الإفريقية، وفي مقدمتها الإثنية والمال السياسي، وغير ذلك من مؤثرات غير ديمقراطية.
………………………..
([1]) د. أحمد الزروق الرشيد، “التعددية الحزبية والانتخابات في الدول المتخلفة: دراسة مقارنة بين غانا وأوغندا وزيمبابوي”، في ﻣﺠﻠﺔ القراءة والمعرفة (القاهرة: ﺍﻟﺠﻤﻌﻴﺔ ﺍﻟﻤﺼرﻳﺔ ﻟﻠﻘرﺍءﺓ ﻭﺍﻟمعرﻓﺔ، ﻛﻠﻴﺔ ﺍﻟﺘرﺑﻴﺔ، ﺟﺎﻣﻌﺔ عين شمس، المجلد ١٣، العدد ١٤٣، ٢٠١٣) ص ص ٦٣-٦٦.
([2]) صامويل هانتنجتون، د. عبد الوهاب علوب (ترجمة)، الموجة الثالثة: التحول الديمقراطي في أواخر القرن العشرين (الكويت: دار سعاد الصباح، 1993) ص ص 64-75.
([3]) Trading Economics, Ghana, External Debt, on Trading Economics Website, Last Visit at 1:05 pm, 16 Dec. 2024, at Link: https://ar.tradingeconomics.com/ghana/external-debt
([4]) ناتاشيا إنجليكا، “غانا تشهد ارتفاعًا في التضخم مع زيادة أسعار الغذاء”، على موقع إنفستنج دوت كوم، تحققت آخر زيارة بتاريخ 16 ديسمبر 2024 الساعة 1:10 م، على الرابط: https://sa.investing.com/news/economic-indicators/article-93CH-2695182
([5]) Alfred Kwadzo Torsu, Gildfred Boateng, “Youth priorities in Ghana: Economy and employment take center stage” (: Afrobarometer, Dispatch No. 694, 25 August 2023), Pp. 1-14.
([6]) ريهام عبد الله، “5 قضايا رئيسية تشغل بال مواطني غانا قبل الانتخابات”، على موقع اليوم السابع، تحققت آخر زيارة بتاريخ 16 ديسمبر 2024 الساعة 1:15 م، على الرابط: https://tinyurl.com/2s538mbw