عُرف المُفكِّر المصري -السوداني الأصل- “دوس محمد علي” (1866- 1945م) بلعب أدوار بالغة التنوع والتأثير في الحركة الأفريقانية في النصف الأول من القرن العشرين؛ ويرجع ذلك إلى تعدُّد مواهبه من ممثل مسرحي، وكاتب مسرحيات، وصحفي ومفكر أفريقاني رائد، أتبع أفكاره بنشاط قومي ملموس في أرجاء شتى مثل بريطانيا والولايات المتحدة ونيجيريا، وغيرها.
وقد أسهمت ظروف نشأته المبكرة، وما ورد عنه من مقتل والده (الذي كان زميلًا لكابتن فرنسي هو دوس Captain Duse في الأكاديمية العسكرية الفرنسية، والذي تعهَّد بدوره برعاية ابن زميله، لا سيما بعد وفاة علي عبد السلام)، وأخيه خلال قصف قوات الاحتلال الإنجليزي لمدينة الإسكندرية 1882م بعد وقت قصير من عودته من دراسته في إنجلترا وهو في الخامسة عشرة من عمره.
وعمل “علي” إثر عودته لإنجلترا (بعد رحيل أغلب أسرته إلى السودان، موطن أمه) ممثلًا في مسارح لندن حتى العام 1902م، دون أن ينقطع اهتمامه الواضح بهذا الفن ونقده؛ كما اتضح في أعداد متفرقة من دورية African Times and Orient Review التي تولَّى إصدارها وتحريرها في العام 1912م.
وقد مثلت هذه الدورية([1]) علامة فارقة في بَدْء صحافة أفريقانية ذات ملامح دقيقة ورؤية قومية ناضجة، على الأقل في سياقها التاريخي الراهن حينذاك.
تأسيس African Times and Orient Review (ATOR) (1912م)
عاش “دوس محمد علي” حياة حافلة عقب وصوله للمرة الأولى إلى إنجلترا (1875م)، ثم استقراره بها عقب الاحتلال البريطاني لمصر. فقد مكَّنه عمله ممثلًا من الترحال في أرجاء متفرقة مثل الولايات المتحدة ودول الكاريبي والمستعمرات البريطانية في آسيا.
وإلى جانب عمله ممثلًا؛ بدأ “علي” العمل صحفيًّا، وتركزت كتابته في الفترة المبكرة (ثمانينيات القرن 19) على “المسألة المصرية”، وهو الأمر الذي تطور لاحقًا في العام 1911م بتأليفه لعمله الأبرز In the Land of the Pharaohs: A Short History of Egypt From the Fall of Ismail Pasha to the Assassination of Boutros Pasha([2])، والذي تبع صدوره سجال كبير مع اللورد إفلين بارينج كرومر (المعتمد العام البريطاني لمصر في الفترة 1883- 1907م، والذي وصفته الصحف المصرية الموالية للاستعمار البريطاني([3]) بعد وفاته بمُصْلِح مصر الحديثة)، فصّلته أعداد متفرقة من دورية “ATOR” بما حملته من تعليقات كرومر على كتاب “عليّ”، وردود مختلفة عليها.
على أيّ حال، فقد كان تأسيس دورية ATOR حدثًا فارقًا في حدّ ذاته؛ لكونها أول دورية يُصْدرها شخص “أسود” في إنجلترا، وتُعبِّر بالأساس عن تطلُّعات الشعوب الإفريقية والآسيوية، كما تتبنَّى خطًّا واضحًا في مناهضة الاستعمار والإمبريالية. كما كانت الدورية واسطة رئيسة في مدّ “علي” صِلَاته مع عددٍ من أبرز المثقفين الأفارقة حينذاك، ومن بينهم: بوكر ت. واشنطن، ووليام دوبويس، وآلان لوك (رائد ما عُرِفَ بـ”نهضة هارلم”)، ثم ماركوس غارفي([4]).
وأبرَز “علي” في تصدير أول أعداد الدورية (يوليو 1912م) أهميتها في مجال “الأدب والسياسة الأنجلو-سكسونية”، لا سيما بعد انعقاد مؤتمر الأعراق العالمي Universal Races Congress في عاصمة العالم الأنجلو-سكسوني (لندن- 1912م)، وأظهر بكل جلاء الحاجة إلى دورية مشرقية وأفريقانية تُعبِّر عن تطلعات الشعوب الملونة وسط غلبة وسائل إعلام لا تتيح الفرصة الملائمة لهذه الشعوب لإظهار تطلعاتها أو تفهمها.
ويمكن بلورة رؤية “علي” و ATOR فيما أكَّده الأول من ملاحظة “أن الافتقار لفهم الإفريقي والمشرقي قد أدَّى إلى حالة من عدم التقدير… أدَّت بدورها إلى الاحتقار والازدراء”.
مؤكدًا، إننا كمواطنين محليين natives ورعايا موالين للإمبراطورية البريطانية نأمل منها إرساء رابطة الأخوة العالمية بين البيض والصفر والبنيين والسود تحت حماية “الراية القديمة الكبرى” Grand Old Flag التي تجعل اسم المواطن البريطاني أعظم من اسم ملك!”
وإن هذه الدورية ستضمن وجهات نظر الإنسان الملون “سواء أكان إفريقيًّا أم مشرقيًّا: من أعمدة هرقل إلى القرن الذهبي، ومن الجانجز Ganges إلى الفرات، ومن النيل إلى Patomac، ومن المسيسيبي إلى الأمازون- في الشرق أو الغرب أو الشمال أو الجنوب حيثما وُجِدَ شرقي أو إفريقي”.
ويتضح بصورة أولية، مما أورده “علي” عن هدف الدورية أنها كانت تبصيرًا توفيقيًّا لأوضاع الملونين في أرجاء الإمبراطورية البريطانية، والعمل ضمنًا على تعزيز المواطنة داخل الإمبراطورية واحترام مؤسساتها.
ويبدو أن ATOR كانت تملك خطة طموحة من البداية؛ إذ تضمَّن العدد الأول نفسه إعلانًا يطلب مراسلين محليين “في كافة أرجاء العالم”. كما عمَد “علي” إلى تكوين “الجمعية الإفريقية والشرقية” African and Oriental Society؛ حسبما جاء الإعلان عن ذلك في عدد نوفمبر 1912م من الدورية، وتولَّى منصب نائب رئيسها، بل وأعلن مباشرة عن استعداده للعمل كوكيل مشتريات وتسويق لمختلف الزعماء والقادة الغرب أفارقة؛ حيث افتتح “مكتب مشتريات” (مرتبط بالدورية) لا يفرض عمولة إلا في حدود 2.5% على جميع المبادلات([5]).
وحققت الجمعية نجاحات مهمة على الصعيد التجاري قبل غلق الدورية نهائيًّا، ثم مغادرة “علي” إنجلترا إلى الولايات المتحدة، ونموّ صِلَاته مع عدد من المفكرين الأفروأمريكيين البارزين هناك؛ بالتزامن مع بدء مرحلة ما ستعرف لاحقًا بـ”نهضة هارلم” في مطلع عشرينيات القرن الماضي.
رؤية ATOR ورسالتها: خطوة أولى في درب التحرر الأفريقاني
تكشف أعداد دورية ATOR المختلفة عن شمول تناولها لقضايا المستعمرات الإفريقية المختلفة، وعن فهمٍ أدقّ لأحوال هذه المستعمرات، أو الدول الخاضعة لهيمنة بريطانية مباشرة وغير مباشرة.
وعلى سبيل المثال، طرح العدد الأول لمحة بسيطة عن مراسلات البروفيسور و. م. فلاندرز بتري W. M. Flanders Petrie مع د. وليام دوبويس في أعمدة دورية The Crisis المعروفة حول قضايا الملونين الأمريكيين والمسألة المصرية.
وربط “علي” بين هذه المراسلات وكتابه (في أرض الفراعنة- 1911م)، وتلا هذا التناول المقتضب إشارة إلى نبأ حكم محكمة مصرية على كلٍّ مِن علي فهمي كامل وإسماعيل أفندي حافظ في جريدتي اللواء والعالم؛ لنشرهما خطابًا لمحمد فريد بك “الذي كان في أثينا ثم القسطنطينية حينذاك، وقرر عدم العودة إلى القاهرة”.
كما عُنِيَت الدورية بتغطية الأحداث الدولية المتعلقة بشؤون الزنوج، ومن بينها تغطية موسعة نسبيًّا لجلسات المؤتمر الدولي لمعهد توسكيجي الزنجي International Conference of the Negro Tuskegee الذي عُقِدَ في ألاباما (17-19 أبريل 1912م)، وعكس تناول الدورية رؤية شاملة للفكرة الأفريقانية؛ حيث غطَّى التناول أوضاع الأفارقة في غرب إفريقيا، وفي الولايات المتحدة وأمريكا الجنوبية، وغيرها. كما تنوعت القضايا لتشمل اهتمامات سياسية واقتصادية واجتماعية ودينية بشكلٍ لافت؛ مثل نقابات العمال المهرة، والإرساليات الخاصة بالملونين.
وكان من أولويات ATOR تغطية الأحداث الجارية المعنية بقضايا العِرْق واللون (وفي القلب منها المعنية بالأفارقة)؛ فقد شمل العدد الأول تقريرًا ثريًّا عن مؤتمر الأعراق العالمية الأول الذي استضافته جامعة لندن في يوليو 1911م. كما امتلكت الدورية نوعًا من “الانفتاح” الديني، الممزوج باعتبارات صِلَات معقدة ستتطور لاحقًا؛ إذ خصَّص العدد الثاني (أغسطس 1912م) مقالًا مهمًّا ومطولًا (وربما دعائيًّا) عن الحركة البهائية، كتبه إريك هاموند Eric Hammond. وبغض النظر عن تفاصيل سرد المقال للحركة البهائية؛ فإن ما يفيد هنا هو نموّ صِلَات هذه الحركة في الأعوام التالية مع شخصيات أفروأمريكية بارزة؛ جاء في مقدمتها آلان لوك Alain Locke رائد نهضة هارلم، وحركة الزنجي الجديد التي بلغت ذروتها في العقد التالي من صدور ATOR.
كما تبنّت الدورية رؤية استكتاب عدد من أبرز المثقفين الأفارقة؛ فعلى سبيل المثال كتب (بوكر ت. واشنطن) مقالًا مطولًا عن معهد توسكيجي (أغسطس 1912م). واتضح هذا التوجه أيضًا في التعاطف الأفروأمريكي البارز في ذلك الوقت مع قضية عودة اليهود إلى فلسطين برعاية الحكومة البريطانية، واتضح ذلك في مقال “Back to Zion or Mesopotamia?’ الذي كتبه إ. سكاب E. Schaap (المراسل الخاص سابقًا لجريدة Times of India في بلاد الرافدين، ومراسل رويترز في بغداد، وكاتب في العديد من الصحف الإنجليزية)، ودرس فيه هذه القضية من زوايا مختلفة تبدو موضوعية بشكل كبير، غير أنه خلص إلى نهاية صادمة، وهي أن المسلمين والمسيحيين في تركيا (الدولة العثمانية) يتحدون في كراهيتهم لليهودي، وهي كراهية لا تقوم على أُسُس اقتصادية أو اجتماعية، لكنها لا تقوم إلا على مجرد كونه يهوديًّا.
ولا يفوتنا هنا أن الدورية عمدت إلى إحداث توازن في التناول بين القضايا الإفريقية والآسيوية؛ حيث ذخرت أعدادها بمقالات متكررة عن الصين والهند واليابان والفلبين، إلى جانب تركيزها الواضح على مصر ونيجيريا وغرب إفريقيا مقارنةً ببقية الأقاليم والدول الأفريقية. كما أنها فتحت نوافذ مهمة لطرح تصورات ورؤى إفريقية بالغة التنوع، وهي تصورات تمثل في حدّ ذاتها مادة بالغة الثراء لقراءة المرحلة التكوينية في حركة الأفريقانية خلال بدايات القرن العشرين.
ويمكن من خلال إلقاء مزيد من الضوء عليها وإعادة تفسيرها منهجيًّا -ووضعها في سياقاتها التاريخية-؛ الاستدلال منها على ملامح تغيُّر الحركة الأفريقانية، وصِلاتها مثلًا بالبهائية، أو موقفها من قضية فلسطين ومن نموّ الحركة الصهيونية وارتباطاتها المعروفة بعدد من مُفكِّري الأفريقانية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، سواء بصِلات مباشرة أم عبر ديناميات الهيمنة والاستعمار الأوروبي والأمريكي في إفريقيا في ذلك الوقت.
خلاصة
قدَّمت تجربة دوس محمد عليّ، وإصداره مجلة شهرية مهمة تُعنَى بالقضايا الإفريقية والشرقية (عام 1912م) مثالًا رائدًا في نموّ الحركة الأفريقانية في العقود التالية، وإسنادها بصحافة متطورة؛ تقوم على تقديم الوعي لقاعدة كبيرة من القراء، وتكشف لهم أبعادًا مُعقَّدة من الأوضاع في كافة المستعمرات الأوروبية أو الأقاليم غير المستقلة استقلالًا كاملًا.
وبطبيعة الحال، فإن هذه التجربة تظل بحاجة لتناول مفصَّل، وربطها بمجمل تطورات الحركة الأفريقانية في الشتات، وقبيل انتقالها بعد عقود إلى القارة الإفريقية على يد عدد من القادة الشباب الذين مثَّلوا الجيل التالي مباشرةً لقادة الحركة الأفريقانية حتى بدايات الحرب العالمية الثانية.
…………………………………………………
[1]– نعتمد في التحليل الوارد هنا على مجموعة الأعداد الكاملة من الدورية في أول عامين لصدورها 1912-1913م كنموذج مكثَّف ودالّ وفَّرته مكتبة الكونجرس الأمريكية رقميًّا، مع ملاحظة أن الدورية استمرت في الصدور في العام 1914م قبل توقف ذلك مع اندلاع الحرب العالمية الأولى لفترة وجيزة، ثم استئناف الصدور للمرة الأخيرة في أكتوبر 1918م، وبلغ عدد إجمالي الأعداد التي صدرت منها 55 عددًا، جاءت مجتمعة في قرابة ألفي صفحة.
[2] -Adi, Hakim, African and Caribbean People in Britain, Penguin Books, London, 2023, pp. 224.
[3] – مثل العنوان الرئيس لصحيفة “اللطائف المصورة” بتاريخ 5 فبراير 1917م، العدد 104، السنة الثالثة.
[4] -Chalrles L. Chavis, Duse Mohamad Ali (1866-1945) Black Past, November 18, 2012 https://www.blackpast.org/global-african-history/ali-duse-mohamad-1866-1945/
[5] -Duffield, Ian, The Business Activities of Duse Mohammed Ali: An Example of the Economic Dimension of Pan- Africanism, 1912-1945, Journal of the Historical Society of Nigeria , June 1969, Vol. 4, No. 4 (June 1969), p. 576.