نعمان حسن عيديد
باحث صومالي – طالب ماجستير في كلية الدراسات الإفريقية العليا- جامعة القاهرة
ملخص:
تعكس العملية الانتخابية في أرض الصومال تفاعلًا فريدًا بين الهياكل التقليدية القائمة على العشائر والأنظمة الديمقراطية الحديثة. يستكشف هذا المقال السياق التاريخي للانتخابات في أرض الصومال، كما يعرض التأثيرات التي تُخلِّفها الانقسامات السياسية والعشائرية على الانتخابات في أرض الصومال.
ويُسلِّط الضوء على كيفية تأثير الولاءات العشائرية على السلوك السياسي، وعواقب مثل هذه الانقسامات على الحكم، وآفاق عملية انتخابية أكثر شمولًا، كما يناقش الأوضاع الاقتصادية وتطلعات المواطنين.
وعلى الرغم من التحديات، حافظت أرض الصومال على الاستقرار النسبي والممارسات الديمقراطية في منطقة متقلِّبة. إن تعزيز التعليم المدني، ومعالجة التفاوتات القائمة على العشائر، وتعزيز الشمولية السياسية أمر بالغ الأهمية للديمقراطية المستدامة في أرض الصومال.
مقدمة:
لطالما كانت مسيرة الانتخابات في أرض الصومال حافلة بتأجيلات متكررة؛ لأسباب لوجستية، سياسية، وأمنية؛ حيث كان من المقرر إجراء الانتخابات الأخيرة في شهر نوفمبر 2022م، لكنَّها تأجلت بسبب النزاعات الداخلية، خاصةً النزاع المستمر في منطقة “لاس عانود”، والذي يُعدّ من أبرز مصادر عدم الاستقرار الأمني والسياسي في البلاد.
وفي أعقاب الانتخابات الرئاسية التي جرت في أرض الصومال في 13 نوفمبر 2024م، تقف هذه المنطقة أمام مرحلة جديدة تجمع بين آمال الإصلاح وطموحات التغيير، وبين تحديات ضخمة تستهدف استقرارها وأمنها الاقتصادي والسياسي، بعد إبرام مذكرة تفاهم مع جارتها إثيوبيا، ممَّا يُعقِّد الأمر ويؤدي إلى تدخلات الخارجية.
تأتي هذه الانتخابات في ظل أوضاع اقتصادية صعبة؛ حيث يعاني السكان من معدلات تضخم مرتفعة وغلاء في الأسعار، مما أدى إلى زيادة المطالب الشعبية بإجراء إصلاحات شاملة لمعالجة قضايا المعيشة وتوفير فرص العمل.
أضف إلى ذلك، أن الانقسامات العشائرية -التي تلعب دورًا بارزًا في المشهد السياسي المحلي- تؤثر بشدة على توجيه أصوات الناخبين وتحديد مواقفهم؛ حيث تستند الأحزاب، مثل كلمية ووداني، إلى تحالفات عشائرية قوية لاستقطاب الدعم، ما يُضيف بُعدًا معقَّدًا للمنافسة السياسية، ويزيد من صعوبة تحقيق الاستقرار الاجتماعي بعد الانتخابات.
وفي الوقت الذي تتطلع فيه أرض الصومال إلى تحقيق الاعتراف الدولي كدولة مستقلة، يتعين على الحكومة القادمة مواجهة تحديات سياسية وأمنية كبيرة. فالاعتراف الدولي، الذي يُمثّل طموحًا إستراتيجيًّا طويل الأمد، يعتمد على قدرة القيادة الجديدة على تحقيق الاستقرار الداخلي وتعزيز الديمقراطية.
وإن نجاح هذه الانتخابات يُعدّ خطوة نحو تعزيز الديمقراطية، وإظهار استعداد أرض الصومال لتكون نموذجًا للاستقرار في منطقة القرن الإفريقي؛ إلا أن المسار نحو الاستقرار والتنمية المستدامة يظلّ محفوفًا بالتحديات الاقتصادية والأمنية التي تحتاج إلى استجابات فورية وجهود مشتركة للتغلُّب عليها.
أولًا: خلفية الانتخابات في أرض الصومال
1- خلفية عن الانتخابات
بعد إعلان الاستقلال شرعت أرض الصومال -التي أعلنت انفصالها من جانب واحد عن الصومال في عام 1991م- في إعادة بناء الدولة، ووضع أُسُس جديدة للحكم، وتمت الموافقة على دستور يؤكد الاستقلال، ويُدْخِل نظام التعددية الحزبية في استفتاء عام 2001م. ومنذ ذلك الحين، قامت أرض الصومال بإجراء سلسلة من الانتخابات منذ عام 2002م؛ حيث تُعدّ الانتخابات الجارية حاليًّا في شهر نوفمبر 2024م هي الانتخابات الثامنة، مما جعلها واحدة من النماذج النادرة للديمقراطية في منطقة القرن الإفريقي. ورغم التحديات الداخلية والخارجية؛ سعت أرض الصومال إلى إجراء انتخابات دورية لتكريس مبدأ التداول السلمي للسلطة([1]).
وفيما يلي الخلفية التاريخية للانتخابات التي أُجريت منذ عام 2002م:
بدأت تاريخ الانتخابات في أرض الصومال الانتخابات البلدية 2002م؛ حيث كانت أول انتخابات تعددية منذ إعلان الانفصال، وشاركت فيها ستة أحزاب سياسية. أُجريت الانتخابات بنجاحٍ، وأسفرت عن تأهيل ثلاثة أحزاب فقط للعمل السياسي: حزب kULMIYE (التضامن)، حزب UCID (العدالة والتنمية)، وحزب UDUB (الوحدة والتنمية الديمقراطية).
ويليها الانتخابات الرئاسية عام 2003م([2])، وتنبع أهمية هذه الانتخابات من كونها أول انتخابات رئاسية مباشرة في أرض الصومال؛ حيث فاز حزب الحاكم ومرشحه الرئيس dahir Rayaale Kaahin بفارق ضئيل للغاية عن مُنافِسه من حزب Kulmiye المعارضة.
ثم بعد ذلك عُقِدَتْ الانتخابات البرلمانية والبلدية في عام 2005م([3]). وتنبع أهمية هذه الانتخابات من كونها ثاني انتخابات بلدية؛ حيث تهدف إلى تعزيز الحكم المحلي، كما تم انتخاب أول برلمان متعدد الأحزاب في أرض الصومال منذ الاستقلال، وكان خطوة مهمة نحو تعزيز دور المؤسسات التشريعية.
وفي 2010م عُقِدَت الانتخابات الرئاسية، والتي من المفترض أن تُجْرَى في 2008م، ولكن شهدت تأجيلاً لأسباب تتعلق مشكلات لوجستية وأمنية، لكنها أُجريت في النهاية بنجاح؛ حيث تنافس فيها رئيس الحزب الحاكم Dahir Riyale ومنافسه Ahmed Siiranyoمن حربKulmiye ، وفاز أحمد محمد محمود سيلانيو، ممثل حزب Kulmiye. وعلى الرغم من أن هذه الانتخابات هي أول انتخابات حصل فيها تأجيل في تاريخ انتخابات أرض الصومال؛ إلا أنها كانت أول انتخابات حصل فيها التداول السلمي للسلطة من الحزب الحاكم إلى حزب المعارضة([4])، وهذا يُبيِّن مدى ديمقراطية أرض الصومال.
ثم تم إجراء الانتخابات البلدية عام 2012م، وهي ثالث مرة يتم فيها عقد انتخابات بلدية لاختيار مجالس بلدية جديدة لضمان استمرارية العمل المحلي، رغم أن موعدها كانت 2010م؛ إلا أنها تأخرت لمدة سنتين.
الانتخابات الرئاسية 2017م شهدت تنافسًا قويًّا بين ثلاثة مرشحين رئيسيين؛ مرشح حرب الحاكم Kulmiye موسى بيحي عبدي، ومرشح حرب Wadani عبدالرحمن عبدالله عيرو، ومرشح حرب العدالة والتنمية فيصل علي، وفاز موسى بيحي عبدي من حزب(Kulmiye ([5] هذه الانتخابات تأخرت لمدة سنتين بسبب الجفاف والمشاكل اللوجستية.
الانتخابات البرلمانية والبلدية في عام 2021م أُجريت بعد سنوات من التأخير، وكانت علامة فارقة في الديمقراطية؛ حيث تم انتخاب برلمان جديد ومجالس بلدية. وتأخرت هذه الانتخابات بشكل كبير بسبب الخلافات السياسية والمشكلات الإدارية.( ([6]
أما الانتخابات الرئاسية في عام 2024م فقد كان من المتوقع أن يتم إجراؤها في شهر نوفمبر من العام 2022م، لكنّها تأجلت بسبب خلافات سياسية وتجاذبات حول ترتيب أولويات الانتخابات الرئاسية والمحلية.
2- نماذج من تأجيل الانتخابات في أرض الصومال:
- تم تأجيل انتخابات المجالس المحلية التي كان من المفترض أن تُعقَد في عام 2007م، حتى عام 2012م.([7])
- مدَّد الرئيس داهر ريالي كاهين، -الذي انتُخِبَ في عام 2003م- فترة ولايته لمدة خمس سنوات، حتى هزمه منافس المعارضة أحمد سيلانيو في الانتخابات الرئاسية لعام 2010م([8]).
- ظل الرئيس سيلانيو في منصبه بعد انتهاء فترة ولايته التي استمرت خمس سنوات، حتى أجريت الانتخابات الرئاسية في نوفمبر 2017م.( ([9]
- تأخرت الانتخابات البرلمانية مرارًا وتكرارًا؛ حيث ظل الأعضاء المنتخبون في انتخابات عام 2005م في مناصبهم حتى إجراء انتخابات جديدة لمجلس النواب في مايو 2021م.
يقول مركز تحليل السياسات، ومقره أرض الصومال: “إن الجمود السياسي الحالي بشأن ترخيص الأحزاب السياسية هو نتيجة للتمديد المتكرر لفترات الولاية، والتأخير في إجراء الانتخابات. التأجيلات التي حدثت في بعض الانتخابات كانت غالبًا نتيجة أزمات لوجستية أو سياسية أو أمنية. ورغم هذه التأجيلات، استطاعت أرض الصومال أن تحافظ على مسار ديمقراطي نِسْبي في منطقةٍ تشهد اضطرابات كبيرة؛ حيث أثبتت الانتخابات أن أرض الصومال تسعى جاهدةً لإرساء تقاليد ديمقراطية رغم الاعتراف الدولي المحدود.
ثانيًا: الانقسام السياسي والعشائري وأثره على الانتخابات
إن الهوية العشائرية في السياسة الصومالية هي مؤشر على تخلُّف الصومال وركودها السياسي، كما تعكس مشاكل بنيوية أكبر بكثير([10]). فقبل الحقبة الاستعمارية، كان مجتمع الصومال قائمًا على مفاهيم الهوية، مثل الأسرة والعشيرة. واستخدم الحكم الاستعماري نفس الهياكل وشجَّع على زيادة استخدام الهياكل العشائرية التي ساهمت إلى حد كبير في الوضع الموجود اليوم في هيكل الحكم في الصومال بشكلٍ عامّ.
1- الانقسام السياسي وأثره على الانتخابات
في كل الدول الديمقراطية حول العالم، يجب أن تُقام انتخابات وطنية ومحلية كل أربع أو خمس سنوات. وقد تتسبَّب هذه الانتخابات في بعض الأحيان في صراعات سياسية بين الأحزاب المتنافسة، وقد يكون لها أيضًا تأثير سلبي على العلاقات بين العشائر أو القبائل الموجودة في نفس البلد.
الانتخابات في النظم الديمقراطية مبررة بمبدأ أن الحُكّام يجب أن يحظوا بقبول المحكومين، وهذا القبول يعتمد على اختيار واعٍ من الشعب، وليس مجرد استسلام. لذلك، أصبح من المتَّفق عليه أن يتمكن المحكومون من انتخاب حكامهم وتجديد سلطتهم دوريًّا.( ([11]
أما في المجتمعات النامية متعددة الأعراق مثل الدول الإفريقية، فالوضع يختلف؛ حيث تُعتَبر الانتخابات فرصة للتنافس على السيطرة على الدولة، بسبب استخدام السلطة التمييز لصالح المجموعة الحاكمة. إن الانتخابات في هذه المجتمعات تصبح أداة للصراع العرقي؛ إذ تعزز الهيمنة الاقتصادية والثقافية لقسم من الطبقة المهيمنة على حساب الأقسام الأخرى.( ([12]
الانقسام السياسي والعشائري في أرض الصومال يمثل أحد أبرز التحديات التي تؤثر على العملية الانتخابية وتشكيل النظام السياسي بشكل عام. وتعود جذور هذا الانقسام إلى البنية الاجتماعية القائمة على نظام العشائر؛ حيث تحتفظ العشائر بنفوذ قوي في الحياة السياسية والاجتماعية. يتمثل هذا النفوذ في تشكيل التحالفات السياسية، اختيار المرشحين، وتوجيه أصوات الناخبين.( ([13]
إن العلاقة بين سياسات الهوية والديمقراطية تُؤسّس لسمة معقَّدة من سمات الواقع الانتخابي في أرض الصومال. وينبع جزء من هذا التعقيد من المنافسة العشائرية، إن لم يكن الصراع المباشر. فضلًا عن ذلك، هناك العديد من العوامل الأخرى التي تحتاج إلى النظر فيها؛ لفهم دور الهوية في السياسة في أرض الصومال بشكل أفضل. وتشمل هذه العوامل نهج الدولة في التعامل مع السياسة الشاملة، بما في ذلك مكانة قادتها، وتنظيم الأحزاب السياسية، وبنية الأنظمة الانتخابية.([14])
في حين كانت جهود بناء الدولة في أرض الصومال ناجحة نسبيًّا، وخاصةً بالمقارنة بجنوب الصومال، ولا يزال هناك عدد من الديناميكيات التي تدفع إلى الهشاشة وتُشكّل خطرًا في المستقبل مثل “جورتي” التي هي المجلس الأعلى أو مجلس الشيوخ؛ حيث تضاءلت استقلاليته وشرعيته؛ حيث لم يَعُد يُنْتَخب ولا يُعيَّن مِن قِبَل هيئة أخرى، ومع ذلك له صلاحية كبرى في تمديد ولاية الرئيس، وحل النزاعات، والوساطة بين كيانات سياسية.
وفي أرض الصومال، أسهمت الأحزاب السياسية والسياسات القائمة على العشائر في تأسيس ما يقال جمهورية أرض الصومال الحالية، ففي النضال من أجل إعادة استقلال أرض الصومال عن الصومال، لعبت العشائر دورًا مهمًّا حيث استخدم زعماء الحركة الوطنية الصومالية العشائر لتعبئة الجماعات المقاتلة ضد النظام الصومالي الدي تزعمه “سياد بري” في ذلك الوقت. وكانت هذه إستراتيجية مضادة لإستراتيجية “سياد بري” عندما استهدف عشائر محددة اعتبرها مجموعات معارضة لزعامته. وانعكاسًا لهذا الرأي عندما تبنت أرض الصومال نظام التعددية الحزبية، تُصوّت الجماعات العشائرية على أُسُس عشائرية، معتقدة أن أعضاء العشيرة يمكنهم أن يعملوا بشكل أفضل كحراس لحماية مصالح عشائرهم إذا تم انتخابهم لدور قيادي، وتعيش كل عشيرة في منطقة جغرافية واحدة من المدن الحضرية والمستوطنات الريفية، مما يسهل على السياسيين حشد الناخبين العشائريين.([15])
وهكذا كانت الهوية العشائرية مُحرِّكًا حاسمًا في انتخابات أرض الصومال تاريخيًّا؛ حيث قام زعماء الأحزاب السياسية بإثارة المشاعر العشائرية بين أفراد العشيرة كنوع من التلميح للنزاعات المحتملة. هذا الوضع ليس حصريًّا في أرض الصومال. في الواقع، إنها مشكلة واسعة النطاق في إفريقيا؛ حيث شهدت كينيا والكاميرون ونيجيريا وليبيريا وغانا وسيراليون وأوغندا والسودان وغيرها صراعات عشائرية وعرقية عنيفة مرتبطة بالانتخابات. إحدى السمات المشتركة لهذه الصراعات الانتخابية هي محاولة عشيرة أو مجموعة عرقية مهيمنة استخدام موارد الدولة وسلطتها لعرقلة الأحزاب السياسية المعارضة.([16])
ينتمي أغلب الصوماليين إلى عشائر رعوية تتنقل باستمرار طوال العام بحثًا عن المراعي والمياه. وعلى هذا فإن أعضاء العشيرة يستمدون هويتهم من أصلهم الأبوي المشترك، وليس من الشعور بالانتماء الإقليمي. لذلك نستطيع أن نقول: إن العشيرة كوحدة سياسية كانت موجودة في السياق الثقافي للصوماليين قبل الاستعمار، في حين أن العشائرية هي الشكل الجديد للهوية السياسية في السياسة الصومالية المعاصرة.([17])
2- الانقسام السياسي وأثره بعد الانتخابات
الأحزاب السياسية الرئيسية، مثل حزب الحاكم السابق كلمي (KULMIYE)، وحرب المعارضة السابق وداني (Waddani)، تعتمدان بشكل كبير على تحالفات عشائرية قوية. في انتخابات عام 2017م، كان الدعم العشائري مُحدِّدًا رئيسيًّا لأداء المرشحين؛ حيث سعت الأحزاب للحصول على تأييد زعماء العشائر لضمان أصواتهم، وفعلاً حصل حزب الحاكم السابق كلمي (KULMIYE) على تأييد أغلب زعماء العشائر مما أدَّى إلى فوزه في الانتخابات عكس انتخابات 2024م؛ حيث حصل حرب المعارضة السابق وداني (Waddani) على تأييد الزعماء وفاز في الانتخابات، ولكن تأثير تسييس العشائر ليست مقصورة على الفوز في الانتخابات فقط، بل تؤدي إلى التنافس الداخلي والانقسام السياسي بعد الانتخابات، مثل اشتعال التوترات بين العشائر المختلفة، وأحيانًا داخل العشيرة نفسها مثل ما حدث بعد الانتخابات 2017م.([18]) هذا الانقسام يُضْعِف الوحدة الوطنية ويؤدي إلى تحديات في تشكيل تحالفات سياسية مستقرة بعد الانتخابات.
كما يؤثر على الاستقرار السياسي؛ حيث تتحول التنافسات العشائرية إلى نزاعات إذا لم تُدار بشكل سليم، خاصة في ظل شعور بعض العشائر بالتهميش أو عدم تمثيلها في الحكومة. هذا التحدي قد يُعقِّد جهود تعزيز الاستقرار السياسي في أرض الصومال. كما تؤثر هذه الانقسامات على قدرة الحكومة الجديدة على تحقيق الإصلاحات المطلوبة وإدارة التحديات الأمنية والاقتصادية.
ثالثًا: الأوضاع الاقتصادية وتطلعات المواطنين
اقتصاديًّا، تُعدّ الصومال بشكل عام واحدة من أفقر دول العالم؛ حيث يعتمد اقتصادها إلى حدّ كبير على المساعدات الدولية والتحويلات المالية من المغتربين الصوماليين. ومع ذلك، هناك بعض القطاعات التي تظهر إمكانات كبيرة للنمو، مثل قطاع الصيد والزراعة، وقطاع الموانئ، الذي يُشكِّل حلقة وصل إستراتيجية بين منطقة القرن الإفريقي والعالم الخارجي. ويُعتَبر ميناء بربرة في أرض الصومال ميناء حيويًّا يُسهم في تحريك الاقتصاد الإقليمي.([19])
أما في أرض الصومال فالأوضاع الاقتصادية تُشكِّل أحد أبرز التحديات التي تُواجه الحكومة الجديدة؛ حيث تُعاني المنطقة من مشكلات هيكلية أثَّرت على حياة المواطنين، وأثارت استياءً شعبيًّا متزايدًا. فالاقتصاد يعتمد بشكل أساسي على الزراعة والثروة الحيوانية، بالإضافة إلى إيرادات ميناء بربرة الإستراتيجي، إلا أن هذه القطاعات تُواجه تحديات عدة، بما في ذلك ضعف البنية التحتية، والتغيرات المناخية، وارتفاع التكاليف التشغيلية.
1- أبرز التحديات الاقتصادية
أ- التضخم وارتفاع الأسعار:
يعاني المواطنون من زيادات متواصلة في أسعار السلع الأساسية، ما أدَّى إلى تآكل قدرتهم الشرائية. وتضخم الأسعار أصبح مصدر قلق للناخبين الذين طالبوا بسياسات اقتصادية تُخفِّف العبء عن كاهلهم كما يُوضِّح الشكل التالي:
مصدر الشكل: الإدارة المركزية للإحصاء بوزارة التخطيط والتنمية الوطنية في أرض الصومال.
إن تحليل التضخم إلى المكونات الثلاثة المعروضة في الشكل الأول يسمح لنا برؤية التأثيرات على الأسعار من خلال حركة المكونات الأكثر تقلبًا في مؤشر أسعار المستهلك؛ حيث ارتفعت أسعار المحاصيل الغذائية وارتفعت أسعار الطاقة والوقود والمرافق. كما يسمح لنا بحساب “التضخم الأساسي” من خلال طرح هذه المكونات المتقلبة، وهو ما يعكس بشكل أكثر دقة التغير في الأسعار على مستوى الاقتصاد بالكامل، والذي تأثر بتطورات الطلب الكلي والعرض.([20])
على مدى الأشهر الستة الماضية، تباطأ معدل التضخم الشهري قليلًا قبل أن يتوقف تقريبًا. في أبريل 2024م ارتفع معدل التضخم بنسبة 0.6٪، بينما ارتفع معدل التضخم في مايو بنسبة 0.7٪، كما ارتفع معدل التضخم في يونيو 2024م بنسبة 0.8٪، بينما ارتفع في يوليو بنسبة 0.9٪، وأخيرًا انخفض معدل التضخم في أغسطس بنسبة 0.5٪، وظل التضخم في سبتمبر 2024م ثابتًا عند 0.5٪.([21])
ب- البطالة وضعف فرص العمل:
لا توجد بيانات إحصائية رسمية بشأن نسبة البطالة الحالية في أرض الصومال، لكنّ بعض الإحصائيات تشير إلى أن معدل البطالة يصل 75٪ يعني ذلك أن غالبية سكان أرض الصومال عاطلون عن العمل. ووفقًا لهذه البيانات، فإن 30٪ من العاطلين عن العمل هم من الإناث، بينما 20٪ من الذكور الشباب، ولكنّ النسبة المتبقية البالغة 15٪ هم من البالغين. وأشار التقييم إلى أن “هرجيسا”، عاصمة أرض الصومال، تعاني من ارتفاع مستويات عالية من الشباب العاطلين عن العمل، وخاصةً خريجي الجامعات.([22]) ومع غياب استثمارات كبيرة في القطاعات الإنتاجية، تظل البطالة مرتفعة خاصة بين الشباب. لذلك يجب إجراء تعديلات على السياسات الاقتصادية، وتنويع مصادر الدخل لتحقيق الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي.
ج- الأمن الغذائي:
يعاني السكان في أرض الصومال من انعدام الأمن الغذائي الحادّ بشكل متكرر (المرحلة 3 وما فوق من التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي)، وغالبًا ما تكون منطقتا سول وسناج هما الأكثر تضررًا. ويوضح تكرار معاناة السكان من حالات انعدام الأمن الغذائي في أرض الصومال، أن قدرتهم على الصمود ومرونة نظامهم الغذائي منخفضة، مما يدل على أن التدخلات الإنسانية ليست كافية. ويُعْزَى جزء كبير من النمو الاقتصادي في أرض الصومال إلى إنتاج وتجارة الماشية، وهو نظام الإنتاج السائد في البلاد.
وتُعدّ الثروة الحيوانية أهم مصدر للعملة الأجنبية في أرض الصومال، التي تحصل على حوالي 200 مليون دولار أمريكي من تصدير الماشية بشكل رئيسي إلى المملكة العربية السعودية. ومع ذلك، تؤدي موجات الجفاف والرعي الجائر وتدهور الأراضي وسلسلة قيمة الأعلاف غير المتطورة إلى نقص متكرر. نتيجة لاعتماد البلاد على استيراد نسبة كبيرة من احتياجاتها الغذائية، فإن أسعار الغذاء تتأثر مباشرة بتغيرات الأسواق العالمية، مما يزيد من هشاشة الأمن الغذائي.
2- تطلعات المواطنين
أ- تعزيز الاقتصاد المحلي:
يطالب المواطنون بسياسات تُشجّع الإنتاج المحلي في الزراعة والصناعات الصغيرة، لتقليل الاعتماد على الاستيراد وتحقيق نمو اقتصادي مستدام.
ب- الاستثمار في البنية التحتية:
تحسين البنية التحتية، خاصة في المناطق الريفية، يُعدّ ضرورة لتسهيل التجارة وتحفيز النشاط الاقتصادي.
ج- خلق فرص عمل:
يُتوقع من الحكومة المقبلة أن تضع برامج مُبتكَرة لخلق فرص عمل، خصوصًا للشباب الذين يُشكّلون أغلبية السكان.
د- مكافحة الفساد وتعزيز الحوكمة:
الشفافية في إدارة الموارد والإيرادات، خاصة من ميناء بربرة، مطلب أساسي لضمان توجيه الأموال نحو مشروعات تنموية تعود بالنفع على المواطنين.
تحقيق تطلعات المواطنين الاقتصادية يتطلب من الحكومة الجديدة تبنّي سياسات أكثر شمولًا وابتكارًا، مع التركيز على معالجة الأسباب الجذرية للأزمات الاقتصادية، بالإضافة إلى تعزيز الشراكات الدولية ودعم القطاعات الإنتاجية، حيث يمكن أن يساعد ذلك في تحسين الاقتصاد بشكل مستدام، وهو أمر ضروري لخلق استقرار داخلي يعزّز من طموحات أرض الصومال في الحصول على الاعتراف الدولي.
رابعًا: مستقبل الديمقراطية في أرض الصومال
تمثل أرض الصومال نموذجًا فريدًا للديمقراطية في منطقة القرن الإفريقي؛ حيث نجحت في إجراء انتخابات دورية منذ إعلان استقلالها في عام 1991م. على الرغم من عدم الاعتراف الدولي بها، فقد تمكَّنت من ترسيخ أُسُس نظام ديمقراطي يُعدّ استثنائيًّا مقارنةً بمحيطها الإقليمي. ومع ذلك، يُواجه هذا النموذج تحديات وفرصًا تُحدِّد مستقبل الديمقراطية في المنطقة.
- الإنجازات الديمقراطي
- انتخابات دورية وحرة
الانتخابات الرئاسية الأخيرة في نوفمبر 2024م، والتي شهدت تنافسًا قويًّا وفوز الحزب المعارض، تُؤكّد على قوة النظام الديمقراطي في أرض الصومال. ويُعدّ هذا التغيير السلمي في السلطة دليلًا على نضوج العملية الديمقراطية.
- التعددية الحزبية
وجود أحزاب متعددة مثل “كلمية” و”وداني” يعكس تنوعًا سياسيًّا، مما يُسهم في تعزيز الحوار الوطني، وتقديم خيارات سياسية للمواطنين.
- التداول السلمي للسلطة
انتقال السلطة بطريقة سلمية يُعزّز ثقة المواطنين في النظام السياسي، ويثبت استعداد أرض الصومال لمواصلة مسار الديمقراطية.
- التحديات التي تُواجه الديمقراطية
- النزاعات الداخلية
استمرار النزاعات في مناطق مثل “لاس عانود” يُشكِّل تهديدًا لاستقرار العملية الديمقراطية ويعوق التنمية السياسية.
- الضغوط العشائرية
يلعب النظام العشائري دورًا مهيمنًا في السياسة، مما قد يَحُدّ من استقلالية الأحزاب السياسية ويؤثر على نزاهة الانتخابات.
- الاعتراف الدولي
غياب الاعتراف الدولي يُعيق قدرة أرض الصومال على تعزيز مؤسساتها الديمقراطية من خلال دعم دولي مباشر.
- آفاق تعزيز الديمقراطية
- تعزيز الهوية الوطنية
التركيز على بناء هوية وطنية تتجاوز الانقسامات العشائرية أمر ضروري لتحقيق استقرار سياسي وديمقراطي مستدام.
- إصلاح النظام الانتخابي
تطوير قوانين الانتخابات لتقليل تأثير العشائرية وزيادة مشاركة الشباب والنساء في العملية السياسية.
- الاستثمار في التعليم المدني
نشر الوعي السياسي بين المواطنين يُسهم في تعزيز المشاركة الواعية والمسؤولة في العملية الانتخابية.
- العمل على الاعتراف الدولي
الحصول على اعتراف دولي يدعم استقرار الديمقراطية في أرض الصومال من خلال تعزيز الاستثمارات والدعم السياسي.
الخلاصة:
بينما تُواجه أرض الصومال تحديات جمَّة، فإن التزامها بمسار الديمقراطية يمثل قاعدة قوية لبناء مستقبل مستدام. نجاحها في التغلب على التحديات الداخلية وتطوير نظام سياسي شامل سيعزز من فرص تحقيق تطلعاتها الوطنية، بما في ذلك الاعتراف الدولي كدولة مستقلة وديمقراطية.
إن التقاطع بين الانقسامات السياسية والعشائرية يفرض تحديات وفرصًا في الوقت نفسه على العملية الديمقراطية في أرض الصومال. وفي حين تُشكّل الولاءات العشائرية عقبات كبيرة أمام الشمول والاستقرار، فإنها تُوفِّر أيضًا إطارًا للمشاركة والتعبئة المحلية. ومن خلال تعزيز الشمولية السياسية، وتعزيز التعليم المدني، ومعالجة التفاوتات البنيوية، تستطيع أرض الصومال أن تبني على نجاحاتها الديمقراطية لتحقيق مستقبل سياسي أكثر توحدًا واستدامة.
………………………………….
[1]. Louisa Brooke-Holland, “Political developments in Somaliland”, house of commons library, 7 March 2023. Available at: https://researchbriefings.files.parliament.uk/documents/CBP-9733/CBP-9733.pdf
[2]. Muhammad Yâsir Okumuş, “Somaliland: An Overview of the 2021 Parliamentary and Local Council Elections”, Institute for Strategic Insights and Research, 2021. available at: https://www.academia.edu/45535554/Somaliland_An_Overview_of_the_2021_Parliamentary_and_Local_Council_Elections
[3]. Louisa Brooke-Holland, OP.CIT.
[4]. Muhammad Yâsir Okumuş, OP.CIT.
[5]. daily nation, “Somaliland elections: What’s at stake for shifting power dynamics in the Horn of Africa”, October 29, 2024. available at : https://nation.africa/africa/news/somaliland-elections-what-s-at-stake-for-shifting-power-dynamics-in-the-horn-of-africa-4804604
[6]. Muhammad Yâsir Okumuş, OP.CIT.
[7]. [7]. Louisa Brooke-Holland, OP.CIT.
[8]. Idem.
[9]. Idem.
[10]. Mohamed Haji Ingiriis, ‘Clan Politics and the 2017 Presidential Election in Somaliland’, Journal of Somali Studies, Vol. 4, Nos. 1-2, 2017. available in: https://www.academia.edu/34657307/Clan_Politics_and_the_2017_Presidential_Election_in_Somaliland_Journal_of_Somali_Studies_Vol_4_Nos_1_2_2017_117_133
[11]. MUBARAK M. ALI, “IMPACT OF POLITICS ON CLAN AND COMMUNAL CONFLICT IN SOMALILAND”, master thesis, EELO UNIVERSITY, BORAMA SOMALILAND, JAN 2018. available in: https://www.academia.edu/70600272/IMPACT_OF_POLITICS_ON_CLAN_AND_COMMUNAL_CONFLICT_IN_SOMALILAND
[12]. Idem.
[13]. Mohamed Haji Ingiriis, Op.Cit.
[14]. Idem.
[15]. Hamdi I. Abdulahi, “ELECTIONS AND ELECTORAL PROCESSES IN SOMALILAND: A Fading Democracy”, Journal of african Elections, Volume 21, No 2, 2022. available in: https://r.search.yahoo.com/_ylt=AwrFYqMaDkVnjsAPHvpXNyoA;_ylu=Y29sbwNiZjEEcG9zAzMEdnRpZAMEc2VjA3Ny/RV=2/RE=1733788442/RO=10/RU=https%3a%2f%2fwww.eisa.org%2fwp-content%2fuploads%2f2023%2f05%2f2022-journal-of-african-elections-v21n2-elections-electoral-processes-somaliland-fading-democracy-eisa.pdf/RK=2/RS=iBhSMdxDxuGnwWr91dzhSUrFauo-
[16]. Idem.
[17]. Mohamed Haji Ingiriis, Op.Cit.
[18]. Idem.
[19] . محمد عرب، “الصومال: تحديات مستمرة وآفاق التغيير”، إيلاف: العدد 8614 الثلاثاء 26 نوفمبر 2024. متوفر في: https://elaph.com/Web/ElaphWriter/2024/10/1551278.html
[20]. Central Statistics Department (CSD) at the Ministry of Planning and National Development (MoPND), MONTHLY CONSUMER PRICE INDEX (CPI) report, September 2024. available in:https://r.search.yahoo.com/_ylt=AwrEm4deNUVn5wEAn7tXNyoA;_ylu=Y29sbwNiZjEEcG9zAzQEdnRpZAMEc2VjA3Ny/RV=2/RE=1733798495/RO=10/RU=https%3a%2f%2fmopnd.govsomaliland.org%2farticles%2fcpi-1/RK=2/RS=PljXhgaQNe.SnrlWVQwHBgMeQYY-
[21]. Idem.
[22]. Muse Abdillahi Muhumed, “Somaliland:Youth Unemployment and Security in Hargeisa”, horn diplomat, February 12, 2019. available in: https://www.horndiplomat.com/2019/02/12/somalilandyouth-unemployment-and-security-in-hargeisa/