تُعدّ بوتسوانا من أقدم الديمقراطيات في إفريقيا، وأكثرها استقرارًا، ولولا ديمومة السلطة في يد حزب واحد، وعدم تداولها منذ ما قبل الاستقلال، لعُدَّت بتسوانا في مصافّ الديمقراطيات الغربية المتقدمة، ولصحَّت تسميتها بواحة الديمقراطية في إفريقيا؛ فقد وثَّقَت جُلّ التقارير أن الانتخابات في بتسوانا، تنعقد منذ الاستقلال وحتى الآن بانتظام ودون انقطاع، وتجري بقَدْر كبير من الحرية والنزاهة والشفافية.
ومؤخرًا جرت الانتخابات العامة البتسوانية لعام 2024م، وللمرة الأولى يَفقد الحزب الحاكم السلطة، ليتحقق أول تناوب ديمقراطي للسلطة في بتسوانا، لتدخل التجربة البتسوانية المرحلة الأخيرة، من مراحل تعزيز الديمقراطية، ويُشكّل ما جرى في انتخابات بوتسوانا هذه المرة، ظاهرة جديدة على البيئة السياسية الإفريقية، ألا وهي ظاهرة فقدان بعض الأحزاب الراسخة لأمد طويل في السلطة لسلطتها، أو لأغلبيتها في البرلمان في انتخابات ديمقراطية، وهو ما حدَث مؤخرًا مع حزب “المؤتمر الوطني الإفريقي” African National Congress “ANC”، الذي حكم جنوب إفريقيا لثلاثين عامًا، ثم فقد أغلبيته البرلمانية، لكنّ خسارته لم تكن كبيرة فاحتفظ بمنصب الرئاسة، غير أن خسارة “حزب بوتسوانا الديمقراطي” Botswana Democratic Party “BDP” لأغلبيته البرلمانية، كانت كبيرة لدرجة أفقدته منصب الرئاسة أيضًا.
وتثير هذه الخسارة الكبيرة لـ”حزب بوتسوانا الديمقراطي”، تساؤلات عدة عن أسبابها، وعن مآل منصب الرئيس، وعن طبيعة تشكيل الحكومة الجديدة، وهو ما تجيب عنه هذه الورقة في المحاور التالية:
أولاً: كيف احتفظ “حزب بوتسوانا الديمقراطي” بالسلطة لمدة نصف قرن؟
أُجريت في 1 مارس 1965م أول انتخابات عامة مباشرة، وفيها فاز “حزب بوتسوانا الديمقراطي” بالأغلبية البرلمانية، منفردًا دون تحالفات أو ائتلافات، ومِن ثَم احتفظ بمنصب بالرئاسة، وظل يفوز على نفس المنوال، في كل الانتخابات التي تلتها، حتى حل موعد الانتخابات الأخيرة، والتي عُقِدَت في 31 أكتوبر 2024م.
ويُوضّح الجدول رقم (1) كيف فاز “حزب بتسوانا الديمقراطي بالأغلبية البرلمانية، في جميع العمليات الانتخابية، وكيف مُنِيَ بخسارة فادحة، في الانتخابات الأخيرة لعام 2024م.
جدول رقم (1): نتائج الانتخابات البرلمانية في بوتسوانا للأعوام بدءًا من عام 1965 حتى عام 2024م
مفاتيح الجدول:
= الخلايا والأرقام باللون البرتقالي تشكّل ائتلاف “مظلة للتغيير الديمقراطي” Umbrella for Democratic Change الفائز بالأغلبية البرلمانية بقيادة حزب “الجبهة الوطنية البتسوانية” Botswana National Front “BNF”، ومعه حزب “تحالف التقدميين” Alliance for Progressives “AP”، و”حزب الشعب البتسواني” Botswana People’s Party “BPP”، و(3) أعضاء من المستقلين.
الجدول من إعداد الباحث استنادًا إلى:
– The Parliamentary Research Service, The Road to Botswana Parliament (Gaborone: Parliament of Botswana, 4th Ed., 2016), Pp. 3-70.
– International Foundation for Electoral Systems “IFES” Website, Last Visit at 1:00 pm, 5 Nov. 2024, at Link: http://www.electionguide.org/countries/id/29/
ثانيًا: نظام الحكم والنظام الانتخابي في بتسوانا
يُصنَّف نظام الحكم في بوتسوانا على أنه شبه رئاسي، ويتم تعيين رئيس الجمهورية، الذي يُرشّحه الحزب الأكثر تمثيلاً في البرلمان، ويترأس رئيس الجمهورية مجلس الوزراء، ويكون أيضًا عضوًا في البرلمان بحكم منصبه، وتتبنَّى بتسوانا نمط البرلمان الأحادي، ويسمى بـ”الجمعية الوطنية” National Assembly، ويتألف من (69) عضوًا، يتم انتخاب (61) عضوًا منهم، بالاقتراع العام السري المباشر كل خمس سنوات، ويعين رئيس الجمهورية (6) أعضاء، ويكتسب (2) عضو عضويتهما بحكم منصبهما، وهما رئيس الدولة، والنائب العام.([1])
وتستخدم بتسوانا نمطًا انتخابيًّا، من أبسط أنماط العائلة التعددية، وهو نمط الفائز الأول، وتنقسم الدولة إلى (61) دائرة انتخابية فردية، ويتنافس في الانتخابات مرشحون أفراد، سواء كانوا منتمين إلى أحزاب سياسية أو مستقلين، وللناخب صوت واحد في دائرته المسجَّل فيها، يمنحه لمرشَّحه المفضل بشكل حاسم، ويتطلب الفوز الحصول على الأكثرية، أي أنه يفوز المرشح الذي يحصل على أكبر عدد من الأصوات الصحيحة، ولو لم يحصل على الأغلبية المطلقة.([2])
ثالثًا: لماذا خسر “حزب بوتسوانا الديمقراطي” في انتخابات 2024م؟
حتى ولو كانت خسارة “حزب بتسوانا الوطني” محتملة، فلم يكن يتوقع أيّ من المحللين أن تكون بهذه القسوة، ذلك بخسارة الحزب الحاكم لـ(34) مقعدًا، والحصول بالكاد على (4) مقاعد، بعد أن استمر في السلطة لمدة (59) سنة، منفردًا ودون تحالفات أو ائتلافات. وهذا ينبئ بلا شك عن وجود أسباب قوية، أثَّرت سلبًا على أداء الحزب، وعلى رضا ناخبيه، ومن جهة أخرى ينبئ عن تغيير إيجابي في تشكيل المعارضة ومضمون خطابها السياسي.
وبمراجعة سياسات الحزب الحاكم، وبخاصة تحت قيادة الرئيس المنتهية ولايته “مكوجويتسي ماسيسي” Mokgweetsi Masisi، نجد أن إخفاق الحزب في الخروج من الأزمة الاقتصادية، كان من أبرز عوامل خسارته، وذلك بعد أن تفاقمت عدة مشكلات اقتصادية، في مقدمتها: تزايد الديون الخارجية لصندوق النقد الدولي والبنك الدولي، وارتفاع نِسَب البطالة، وتدني الأجور، والتضخم، ونقص السلع، وبخاصة الأدوية، والتأخر في أداء المدفوعات الحكومية لرجال الأعمال. أضف إلى ذلك ما أُثير من شبهات فساد؛ بسبب استثمار حكومة الرئيس “ماسيسي” لمبلغ (65) مليون دولار، في شركة “إتش بي أنتويرب” HB Antwerp لتجارة الماس، على الرغم من كونها شركة ناشئة بلا تاريخ تجاري، وهو ما حدا بـ”حزب بتسوانا الديمقراطي”، إلى إصدار بيان بعد الانتخابات، يُعلن فيه أنه سوف يُحقّق في هذه القضية، وأنه سوف يُلاحق المتورطين فيها.([3])
من ناحية أخرى كان للانقسامات والصراعات داخل الحزب الحاكم، تأثير بالغ في فقدانه أصوات ناخبيه، من أنصار الرئيس السابق “إيان خاما”، الذي ينتمي إلى قبيلة “بانجواتو” Bangwato، وهي أكبر القبائل الفرعية لمجموعة الـ”تسوانا” Tswana الإثنية، والتي تمثل حوالي 79% من الشعب البتسواني، وذلك بعد أن استصدر “ماسيسي” مذكرة اعتقال بحق “خاما”، الذي اضطر إلى الذهاب إلى المنفى في جنوب إفريقيا.([4])
وتُصنّف بتسوانا بأنها ثاني أكبر دولة مُنتِجَة للألماس في العالم بعد روسيا، ويُعدّ استخراج وتصدير الألماس عماد الاقتصاد البتسواني، وتأثرًا بما أصاب أسواق الألماس العالمية من ركود، فقدت الحكومة قدرتها على تدبير العملة الصعبة، وهو ما انعكس سلبًا على الأداء الاقتصادي للحكومة، وأثَّر تأثيرًا كبيرًا على نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي، وانخفضت القوة الشرائية للمواطنين، وانتشرت البطالة، وبخاصة في أوساط الشباب، فصوَّتوا لصالح المعارضة.([5])
هذا وقد استغلت المعارضة هذه الأزمة، وأعادت تنظيم صفوفها، وانخرطت في تحالف نال رضا الجماهير، وبخاصة بعد أن أطلق زعيمها (الرئيس الجديد) “دوما بوكو” Duma Boko، تعهدات ووعود طموحة، تعطي الأولوية لخلق فرص العمل، والحدّ من معدل البطالة الهائل بين الشباب، وزيادة الحد الأدنى للأجور، وإصلاح خدمات ومؤسسات الرعاية الصحية، والاستثمار على نطاق واسع في التعليم.([6])
رابعًا: نتائج الانتخابات وانتقال السلطة وتشكيل الحكومة الجديدة
أحدثت نتائج الانتخابات سالفة البيان، تغييرًا جذريًّا في المشهد السياسي البتسواني، المستقر لأكثر من (6) عقود؛ حيث انتقلت السلطة إلى تحالف ائتلاف انتخابي، يقوده حزب “الجبهة الوطنية البتسوانية”، ليتولَّى هذا التحالف الرئاسة وتشكيل الحكومة، ومن هنا فاز “بوكو” رئيس حزب “الجبهة الوطنية البتسوانية” بالرئاسة، باعتباره مرشح الحزب صاحب أكبر عدد من المقاعد في البرلمان، أما عن تشكيل الحكومة فمن المؤكد، أنها ستمثل تحالفًا حكوميًّا لن يخرج عن الائتلاف الانتخابي، ذلك بأنه وفقًا للمقاعد التي يحوزها هذا الائتلاف في البرلمان، وهم (36) مقعدًا بما فيهم مقاعد المستقلين المنضوين ضمن الائتلاف، بالإضافة إلى مقاعد الأعضاء الـ(6) المعينين مِن قِبَل رئيس الجمهورية، ومقعد رئيس الجمهورية، ومقعد النائب العام، يصبح لهذا التحالف عدد (44) مقعدًا، من جملة (69) مقعدًا هم كل مقاعد البرلمان، وتمنح هذه المقاعد التحالف الحكومي، أغلبية مريحة تُمكِّنه من العمل، دون الحاجة إلى أصوات من خارج التحالف.
خاتمة:
كشفت التحولات السياسية، التي شهدتها الكثير من البيئات السياسية في الدول الإفريقية مؤخرًا، عن بالغ الأثر الذي خلّفته الأزمة الاقتصادية العالمية، على أداء الحكومات الاقتصادي، ما أدَّى إلى فقدان أحزاب كبيرة راسخة في السلطة، لعقود طويلة لسلطتها، أو إلى اضطرارها للدخول في تحالفات حكومية، من أجل البقاء المنقوص في السلطة، وهو ما يحمل رسالة واضحة للحكومات، بضرورة إيلاء البُعْد الاقتصادي، اهتمامًا كبيرًا وعناية فائقة، من أجل تجنُّب شبح السقوط، كما حدث مع حكومة جنوب إفريقيا، وحكومة بتسوانا.
……………………………………..
([1]) د. سعيد ندا، دور النظام الانتخابي في إدارة التعددية الإثنية في إفريقيا (لندن: مركز أبحاث جنوب الصحراء، 2023م) ص ص 115-116.
([2]) Goswin Baumhögger, “Botswana” in Dieter Nohlen, Michael Krennerich, Bernhard Thibaut (eds.), Elections in Africa: A Data Handbook (New York: Oxford University Press Inc., 1999), Pp. 107-108.
– Republic of Botswana, Electoral Act No. 38 of 1968, Chapter 02:09. Amended.
– Mpho Molomo, “Electoral systems and democracy in Botswana”, in Zibani Maundeni (ed.), 40 Years of Democracy in Botswana: 1965-2005 (Gaborone: Mmegi Publishing House, 2005), Pp. 29-47.
([3]) Peter Dube , “How Masisi’s party misread Botswana mood and lost ‘massively’ Saturday”, on The East African Website, Last Visit at 1:05 pm, 5 Nov. 2024, at Link:
https://www.theeastafrican.co.ke/tea/news/southern-africa/how-masisi-s-party-misread-botswana-mood-and-lost-massively-4808618
([4]) Anthony Carroll, Masisi’s Shock Defeat in Botswana Heralds Big Changes, Difficult Turnaround”, on Daily Maverick Website, Last Visit at 1:10 pm, 5 Nov. 2024, at Link:
https://www.dailymaverick.co.za/article/2024-11-03-masisis-shock-defeat-in-botswana-heralds-big-changes-difficult-turnaround/
([5]) حواش منتصر، “مملكة الألماس في إفريقيا… بوتسوانا من الفقر المدقع إلى الثروة”، على موقع العين الإخبارية، تحققت آخر زيارة بتاريخ 5 نوفمبر 2024م، الساعة 1:15م، على الرابط التالي:
https://al-ain.com/article/diamonds-africa-botswana-poverty-wealth
([6]) CNN, “Botswana’s Ruling Party Concedes Defeat After 60 Years”, on CNN Website, Last Visit at 1:20 pm, 5 Nov. 2024, at Link
https://edition.cnn.com/2024/11/01/africa/botswana-party-loses-election-masisi-boko-intl/index.html