نِهاد محمود
باحثة دكتوراه بكلية الدراسات الإفريقية العليا- جامعة القاهرة
مُقَدِّمَة:
لا تزال الدوائر الأكاديميّة وغير الأكاديميّة (صانعو السياسات ومُتَخذو القرار والجهات الفاعلة من دون الدولة) تشتبك مع ظاهرة الهجرة على مستويات عدّة؛ سواء فيما يتعلق بمُحَفِّزات الظاهرة أو طرق مجابهتها والتعاطي معها.
وفي هذا السياق تُشير تقديرات الأمم المتحدة الأحدث إلى أن حوالي 281 مليون شخص يمكن تصنيفهم الآن كمهاجرين مُوزّعين عبر أجزاء متباينة من أنحاء العالم، يمثلون حوالي 3.6% من سكان العالم (وفقًا لبيانات الأمم المتحدة لعام 2020م)، والذين يهاجرون بحثًا عن حياة أفضل، أو هربًا من الصراعات وبحثًا عن الأمان، وبعيدًا عن الحروب بكل ويلاتها، أو ببساطة للعثور على فرص أفضل لكسب العيش. لكن قد يُفاجَأ البعض بأن النِّسب الأغلب من الهجرة هي لأنماط منظّمة وآمنة، كما أنها غالبًا ما ترتبط بالعمل. وما يلفت الانتباه في العناوين الرئيسية (حول الهجرة غير الشرعيّة) التي يتم تصديرها بوتيرة متصاعدة، ليست كل شيء عن الهجرة.
بمعنى آخر نودّ القول: إن الهجرة غير النظاميّة ليست سوى جزء بسيط من ملف الهجرة متعدد الجوانب. لذا ترى الجهات والهيئات المنوطة بالهجرة (وبخاصة التابعة للأمم المتحدة) أن هذه القضية تأثرت بشدة بالمعلومات المُضَلِّلَة والتسييس، وابتعدت الروايات السائدة كثيرًا عن التوازن والدقة.
وفي ظل هذه الأجواء غير الدقيقة (المُضَلِّلَة) تأتي أهمية تقارير (مؤشرات) الهجرة العالمية الصادرة عن المنظمة الدولية للهجرة التابعة للأمم المتحدة، والتي تُعتَبر رائدة في ملف الهجرة، وعليه نسعى للتركيز على إحداها في هذا المقال، وهو مؤشِّر الهجرة العالمي الصادر في مايو 2024م (World Migration Report 2024). والذي يهدف إلى الوقوف على التغيُّرات التي تطرأ على ظاهرة الهجرة والتنقل البشري بشكل عام على مستوى العالم، وذلك بعبارات واضحة ودقيقة؛ حتى يتمكن القراء من فَهم هذا المشهد بشكل أفضل.
وبالنظر إلى أن منظمة الهجرة التابعة للأمم المتحدة هي الجهة المعنية بإصدار التقرير؛ فإنها ستكون الأكثر قدرة على إزالة الغموض بشأن ظاهرة التنقل البشري من مكان لآخر عبر بياناتها القائمة على الأدلة الرصينة والبحث والتحليل.
واستنادًا لما تقدَّم، يحاول هذا المقال قراءة مؤشِّر الهجرة العالميّ 2024م، من خلال المحاور الرئيسيّة التالية:
- المحور الأول: حول مؤشِّر الهجرة العالمي لعام 2024م.
- المحور الثاني: مؤشِّر الهجرة العالمي 2024م: نظرة عالميّة.
- المحور الثالث: موقع إفريقيا جنوب الصحراء في ضوء مؤشِّر الهجرة العالمي 2024م.
- خُلاصات واستنتاجات.
المحور الأول:
حول مؤشِّر الهجرة العالمي لعام 2024م
في البداية، وعلى صعيد العمل بمشروع تقرير الهجرة العالمية الخاص بعام 2024م، فقد بدأ العمل عليه منذ مايو 2022م وحتى إطلاقه في مايو 2024م. مع التأكيد كما يشير واضعوه على أن نسخة التقرير الصادرة في مايو 2024م لا تشمل البيانات أو الأحداث التي وقعت بعد أكتوبر 2023م.
يعتمد هذا الإصدار على التقارير الثلاثة السابقة للهجرة (إصدارات 2018 و2020 و2022م) من خلال تقديم إحصاءات مُحدَّثة بشأن الهجرة على المستويين العالمي والإقليمي، بالإضافة إلى تحليلات وصفيّة لقضايا الهجرة المعقدة.
يتضمَّن الجزء الأول “البيانات والمعلومات الرئيسية عن الهجرة”، وبخاصة حول اتجاهات وأنماط الهجرة العالمية والأبعاد والتطورات الإقليمية. علمًا بأن هذا الجزء قد تمَّ إنتاجه مِن قِبَل المنظمة الدولية للهجرة، مستفيدين في المقام الأول من التحليلات التي أجراها خبراء المنظمة الدولية للهجرة والممارسين والمسؤولين في جميع أنحاء العالم، بناءً على بيانات من مجموعة واسعة من المنظمات ذات الصلة.
من جهة أخرى تم تأليف الفصول الستة في الجزء الثاني مِن قِبَل باحثين وأكاديميين يعملون في مجال الهجرة، بما في ذلك باحثو المنظمة الدولية للهجرة. وهي تغطي مجموعة من “قضايا الهجرة المعقَّدة والناشئة”، بما في ذلك تضييق خيارات التنقل للأشخاص من البلدان النامية منذ عام 1995م، والحاجة إلى مسارات للهجرة أكثر انتظامًا؛ كما شملت هذه الفصول: الأمن الإنساني للهجرة، الأبعاد الجنسانية للهجرة، تغيُّر المناخ وانعدام الأمن الغذائي والهجرة، الحوكمة العالمية للهجرة، وأخيرًا، الهجرة والتنقل في عالم ما بعد كوفيد-19.
أما فيما يتعلق بأهميّة المؤشِّر؛ فقد تمثلت في سعيه، في المقام الأول، إلى تركيز الاهتمام على الواقع الحقيقي للمهاجرين؛ في محاولة لدحض السرديّات المُضَلِّلَة التي تحظى باهتمام إعلامي لافت، وغالبًا ما يتم استخدامها بغرض تحقيق مكاسب سياسية قصيرة الأجل، إضافةً لرغبة البعض في تقويض الثقة في حُكّام بعض البلدان التي يتورط مواطنوها بهذا النمط من الهجرة غير الشرعيّة.
لذا تأتي أهمية هذا المؤشر (الهجرة العالمي 2024م) الذي يحاول تأسيس خطاب محايد حول الهجرة لرفع الوعي الجَمْعي لدى المواطنين (والجهات ذات الصلة) حول العالم ومَدّهم بكافة المعلومات الحقيقية حول مشهد الهجرة، بما يساعد في تبديد الخرافات حول هذا الملف الشائك، وتقديم معرفة جديدة ودقيقة بشأنه. بما يضمن الاستفادة الفعَّالة من الهجرة كحل للتنمية والسلام والازدهار في جميع أنحاء العالم، وليس كأداة لتقويض استقرار البلاد والشعوب، كما يتم الترويج.
المحور الثاني:
مؤشِّر الهجرة العالمي 2024م: نظرة عالميّة
قبل التطرق إلى حالة العالم بتقرير الهجرة العالمي لعام 2024م، نوضِّح أولًا مفهوم المُهاجِر والذي تُعرِّفه وكالة الهجرة التابعة للأمم المتحدة(IOM) بأنه: “أيّ شخص ينتقل أو انتقل عبر حدود دوليّة أو داخل دولة بعيدًا عن مكان إقامته المعتاد؛ بغضّ النظر عن الوضع القانوني للشخص، وما إذا كانت هذه الحركة طوعيّة أو غير طوعيّة، وكذلك بغضّ النظر عن أسباب هذا التنقل، ومدة إقامته”.([1])
أما بخصوص ما وَرد بالمؤشر فيما يتعلق بقراءة حالة الهجرة في العالم؛ فيمكننا تقسيمه لأربعة محاور رئيسة تتمثل في: تأثُّر الهجرة بالكوارث الطبيعية والاضطرابات السياسية، الهجرة كمحرك للتنمية البشرية وتحقيق الازدهار، حالة الهجرة منذ إصدار أول نسخة للمؤشر قبل حوالي ربع قرن مقارنة بحالته الآن وفقًا لإصدار عام 2024م، وفي الأخير نتطرق إلى مسارات الهجرة المحفوفة بالمخاطر.
أولًا: الهجرة وتأثُّرها بالكوارث الطبيعيّة والاضطرابات السياسيّة
في البداية يمكننا القول: إنه قد حدث الكثير في هذا الملف منذ صدور آخر تقرير -للهجرة العالمي- في أواخر عام 2021م؛ حيث شهد العالم منذ هذه الفترة أحداث هجرة وعمليات نزوح كبرى تسبّبت في مصاعب كبيرة، فضلًا عن خسائر كبيرة في الأرواح. وبالإضافة إلى الصراعات في أوكرانيا وغزة؛ نزح الملايين من الأشخاص من عدة بلدان تُمزّقها الصراعات والاضطرابات كسوريا واليمن وجمهورية إفريقيا الوسطى وجمهورية الكونغو الديمقراطية والسودان وإثيوبيا وميانمار. كما حدثت عمليات نزوح واسعة النطاق ناجمة عن الكوارث المرتبطة بالمناخ والطقس في العديد من أنحاء العالم في عامي 2022 و2023م، بما في ذلك باكستان والفلبين والصين والهند وبنجلاديش والبرازيل وكولومبيا.
وعلاوة على ذلك، ففي فبراير 2023م، شهدت مناطق كجنوب شرق تركيا وشمال سوريا زلازل قوية أسفرت عن مقتل أكثر من 50 ألف شخص. وبحلول شهر مارس من العام ذاته نزح ما يُقدّر بنحو 2.7 مليون شخص في تركيا، وأصبح العديد منهم بلا مأوى في سوريا.
ثانيًا: الهجرة كمُحَرِّك للتنمية البشريّة
على الرغم من بعض السرديات السياسية ذات الصلة بالهجرة، والتي تعتمد على ربطها برؤًى تؤدّي إلى الكراهية والانقسام، فقد خدمت الهجرة منذ فترة طويلة عدة ملايين من الأشخاص في جميع أنحاء العالم بشكل جيد -سواء في البلد الأم أو العبور أو الوجهة-؛ حيث وفَّرت لهم الفرص والمستقبل المزدهر. وبالتوازي مع ذلك يكاد لا يمر يوم دون تقارير إعلامية تركز على الجوانب السلبية للهجرة. بالإضافة إلى ذلك، يتم استخدام بعض المعلومات المضللة من قبل بعض الجهات الفاعلة من أجل إضفاء تأثيرات سلبية على الخطاب العام المنوط بالهجرة، وبخاصة عبر وسائل التواصل الاجتماعي.
ولا يمكن أن يغطي ذلك بأيّ حال من الأحوال على المنافع التي ترتبط بالهجرة؛ وهو ما تخبرنا به الأبحاث والتحليلات طويلة الأجل، التي تؤكد بشكل لا لبس فيه أن الهجرة تُعَدّ محركًا للتنمية البشرية، ويمكن أن تولِّد مكاسب كبيرة للمهاجرين وأُسرهم وبلدانهم الأصلية. وبخاصة في حال كانت الأجور التي يتحصَّل عليها المهاجرون في الخارج أضعافًا مضاعفة لما يمكنهم كسبه من القيام بوظائف مماثلة في وطنهم. ويؤكد ذلك ارتفاع التحويلات المالية الدولية من 128 مليار دولار في عام 2000م إلى 831 مليار دولار في عام 2022م، كما أنها الآن تفوق بكثير المساعدات الإنمائية الرسمية للدول النامية والاستثمار الأجنبي المباشر.
ثالثًا: الهجرة العالميّة خلال حوالي ربع قرن
نحاول في هذا الإطار عَقْد مقارنة موجزة بين واقع الهجرة منذ صدور أول نسخة من تقرير الهجرة العالمي قبل أربعة وعشرين عامًا، والذي كان في البداية تقريرًا منفردًا يهدف إلى زيادة فهم صُنَّاع السياسات والعامة من الأشخاص حول الهجرة، وحتى التقرير الأخير الصادر في مايو 2024م.
ويقدم الجدول أدناه ملخصًا للإحصاءات الرئيسية الواردة في الإصدار الأول (مؤشر الهجرة العالمي 2000م)، مقارنة بالإصدار الحالي (2024م). وهو يوضّح أنه في حين ظلت بعض الجوانب ثابتة إلى حدّ ما، فإن جوانب أخرى تغيَّرت بشكل كبير. على سبيل المثال، ارتفعت التحويلات المالية الدولية (بزيادة 650%)، وهو ما يؤكد أهمية الهجرة الدولية كمُحَرِّك للتنمية.
ومن الجدير بالملاحظة أيضًا في الجدول التالي: ارتفاع أعداد المهاجرين على مستوى العالم (بزيادة بنحو 87%)، ولكن الأمر الأكثر إثارة للدهشة هو ارتفاع أعداد اللاجئين (بزيادة بنحو 250%) والنازحين داخليًّا (بزيادة بنحو 340%)، لكن تظل هذه النسب ضئيلة من سكان العالم.
جدول رقم (1)
بيانات وإحصاءات حول الهجرة (على مستوى العالم) بين عاميّ (2000-2024م)
المصدر: تقرير الهجرة العالمي في نسخته الإنجليزية لعام 2024م، ص 8.
وبخصوص بعض البيانات الأخرى حول الهجرة الواردة في التقرير الحالي (2024م) من حيث عدد (الذكور- الإناث- الأطفال) من المهاجرين أو عدد المهاجرين بغرض العمل (الهجرة العاملة) أو نسبة الوفيات والمفقودين خلال عمليات الهجرة فيوضحها الجدول التالي:
جدول رقم (2)
تقديرات وبيانات حول الهجرة ببعض السنوات المُختارة وفقًا لتقرير الهجرة العالمي 2024م
الجدول من تصميم الباحثة استنادًا لتقرير الهجرة العالمي في نسخته الإنجليزيّة لعام 2024م، ص4.
رابعًا: الهجرة العالميّة.. مسارات محفوفة بالمخاطر
تُشَكِّل بعض طرق الهجرة تحديات أكبر بكثير من غيرها، سواء بالنسبة للمهاجرين أو للسلطات الرسميّة في البلد الأصلية للمهاجرين أو بلد العبور أو بلد الوصول (الوجهة النهائية). لذا لن يكون مستغربًا أن تتسم رحلات المهاجرين أحيانًا بنتائج غير آمِنة وحتى مميتة، وغالبًا ما تكون مرتبطة بمجموعة من العوامل السياسية والاقتصادية والاجتماعية والبيئية التي يمكن أن تؤثر بشكل بالغ على الطريقة التي يهاجر بها الأشخاص.
على سبيل المثال في أعقاب الحادثة المأساوية التي وقعت في أكتوبر2013م، والتي لقي خلالها أكثر من 360 شخصًا حتفهم في غرق قاربين بالقرب من جزيرة لامبيدوزا الإيطالية، بدأت المنظمة الدولية للهجرة في تجميع المعلومات عن المهاجرين الذين لقوا حتفهم أو اختفوا عبر طرق الهجرة في جميع أنحاء العالم، كجزء من مشروع المهاجرين المفقودين.
وشملت مصادر البيانات السجلات الرسمية لخفر السواحل والفحص الطبي، وما تمّ نشره إعلاميًّا، والتقارير الصادرة من المنظمات غير الحكومية ووكالات الأمم المتحدة، إضافة للمقابلات مع المهاجرين. وكان عدد الوفيات المسجلة في عام 2023م (أكثر من 8500) هو الأعلى منذ عام 2016م وبزيادة كبيرة عن السنوات الثلاث السابقة، وخاصة عام 2020م، عندما أدت جائحة كوفيد-19 والقيود المفروضة على التنقل ذات الصلة إلى انخفاض إجمالي عدد الوفيات (كما سيوضح الشكل التالي).
وفي الفترة ما بين عام 2014م ونهاية عام 2023م، سجَّل مشروع المهاجرين المفقودين التابع للمنظمة الدولية للهجرة أكثر من 63 ألف حالة وفاة واختفاء على طرق الهجرة. وعلى أساس سنوي، شهد عام 2023م زيادة في الوفيات عبر البحر الأبيض المتوسط وإفريقيا وآسيا، مع عدد غير مسبوق من الأرواح المفقودة في المنطقتين الأخيرتين (كما يوضح الشكل التالي).
شكل رقم (1)
الوفيات من المهاجرين، بحسب المنطقة (2014-2023م)
علمًا بأن اللون الأحمر الغامق يشير إلى الوفيات بمنطقة إفريقيا، بينما يشير اللون الأزرق بدرجاته الثلاث إلى الوفيات بمناطق (الأمريكيتيّن وأوروبا والبحر المتوسط)، فيما يشير اللون الأخضر إلى الوفيات بمنطقة آسيا.
المصدر: مؤشر الهجرة العالمي في نسخته الإنجليزيّة لعام 2024م، ص 32.
المحور الثالث:
إفريقيا جنوب الصحراء في ضوء مؤشِّر الهجرة العالمي 2024م
في هذا الإطار يناقش المؤشر وضعيّة إفريقيا جنوب الصحراء فيما يتعلق بالهجرة وفقًا إلى عدة تقسيمات؛ يدور الأول حول واقع الهجرة في شرق وجنوب القارة الإفريقيّة، فيما يركز الثاني على الهجرة بغرب ووسط إفريقيا، أما الثالث فيناقش ثنائية الهجرة وكرة القدم في إفريقيا، ونعرضهم كما يلي:
أولًا: واقع الهجرة بشرق وجنوب القارة الإفريقيّة
فيما يتعلق بمنطقة شرق إفريقيا؛ فقد شهدت زيادة كبيرة في المهاجرين، ويرجع ذلك جزئيًّا إلى تسهيل الترتيبات التي تتصل بحُريّة التنقل؛ حيث بلغ عدد العمال المهاجرين المقيمين داخل بلدان جماعة شرق إفريقيا (EAC) ما يقرب من 3 ملايين في عام 2019م، بعد أن كان أقل من 1.5 مليون في عام 2010م. وفي إطار الهيئة الحكومية الدولية المعنية بالتنمية (IGAD)، ارتفع العدد إلى أكثر من 3 ملايين، وتضاعف منذ عام 2010م على وجه التحديد. وكانت الجهود المبذولة لتعزيز التكامل في المنطقة الفرعية -بما في ذلك من خلال بروتوكول السوق المشتركة لشرق إفريقيا الذي دخل حيّز النفاذ في عام 2010م، ويهدف إلى حرية تنقل الأشخاص والعمالة ورأس المال والخدمات والسلع- حيوية لإزالة الحواجز أمام التوظيف. وعلى الرغم من عدم تنفيذه بالكامل في جميع البلدان، يتمتع العديد من مواطني مجموعة شرق إفريقيا بالحق في الدخول والعمل داخل هذه المنطقة والوصول إلى الاتمام المجاني لتصاريح العمل.
وفي حين سهَّلت مثل هذه البروتوكولات من حرية التنقل عبر الحدود، فإن الهجرة غير النظامية -سواء داخل شرق إفريقيا أو منها لمناطق أخرى داخل وخارج القارة- كانت ولا تزال تُشَكِّل تحديًا كبيرًا. وفي شرق إفريقيا، غالبًا ما تحدث الهجرة غير النظامية على طول أربعة طرق رئيسية وهم: الطريق الجنوبي، نحو جنوب إفريقيا (أساسًا إلى جنوب إفريقيا)؛ وطريق القرن الإفريقي؛ والطريق الشمالي (نحو شمال إفريقيا وأوروبا)؛ والطريق الشرقي نحو شبه الجزيرة العربية (بشكل أساسي إلى المملكة العربية السعودية). وكل هذه الطرق غالبًا ما تكون محفوفة بالمخاطر. على طول الطريق الجنوبي إلى جنوب إفريقيا، على سبيل المثال، يواجه المهاجرون تحديات ومخاطر متعددة، بما في ذلك الاضطرار إلى دفع أموال غير متوقعة للوسطاء؛ في وقتٍ يفتقرون فيه إلى الأموال الكافية للأساسيات مثل الغذاء؛ ناهيك عن تعرُّض البعض للانتهاكات الجسدية والجنسية والنفسية، وغيرها.
من جهة أخرى، أدَّت الكوارث الناجمة عن تغيُّر المناخ مثل الجفاف والأعاصير والفيضانات إلى تدمير سُبل العيش في شرق وجنوب إفريقيا، كما أدت إلى نزوح الملايين من المنطقة. وبحلول مارس 2023م، كانت منطقة شرق إفريقيا والقرن الإفريقي تشهد جفافًا قياسيًّا، كان الأسوأ منذ أكثر من 40 عامًا. وكانت إثيوبيا وكينيا والصومال الأكثر تضررًا، حيث جاء الجفاف في أعقاب سنوات من انعدام الأمن والصراع، وخاصة في الصومال وإثيوبيا.
وبحلول مايو 2023م، نزح أكثر من مليوني شخص داخليًّا بسبب الجفاف في إثيوبيا والصومال (مجتمعين)، بينما كان أكثر من 866 ألف لاجئ وطالب لجوء في كينيا وإثيوبيا والصومال يعيشون في مناطق متضررة من الجفاف في بداية العام.
واستجابةً للآثار السلبية لتغيُّر المناخ ونطاقه الجغرافي الممتد للهجرة الناجم عن المناخ، اجتمعت أكثر من 10 دول من منطقة شرق إفريقيا والقرن الإفريقي، بدعم من الهيئة الحكومية الدولية المعنية بالتنمية وجماعة شرق إفريقيا، في سبتمبر 2022م بالعاصمة الأوغندية “كمبالا”، ووقَّعت على إعلان تاريخي جديد: إعلان كمبالا الوزاري بشأن الهجرة والبيئة وتغير المناخ. في إطار تعاوني يعالج بشكل ملموس التنقل الناجم عن المناخ، مع دفع التنمية المستدامة للدول إلى الأمام.
أما في جنوب القارة الإفريقية، فقد أصبحت الكوارث المرتبطة بتغير المناخ، بما في ذلك الأعاصير، أكثر تواترًا وكثافة. على سبيل المثال، أحدث إعصار فريدي”Cyclone Freddy” دمارًا في مالاوي وموزمبيق ومدغشقر في أوائل عام 2023م، وكان أحد أطول الأعاصير المدارية المسجَّلة على الإطلاق. وقد أودى الإعصار بحياة أكثر من 500 شخص، وشَرَّد أكثر من 500.000 شخص في مالاوي وحدها.
ورجوعًا لشرق إفريقيا؛ تظل الصراعات المسلحة الناشئة حديثًا والقائمة منذ فترة طويلة من الأسباب الرئيسية للنزوح لديها؛ فقد عانت المنطقة من الصراعات لعقودٍ من الزمان، ولا تزال واحدة من أكثر المناطق الفرعية تضررًا بالصراع في العالم. على سبيل المثال جعلت الحرب الأهلية التي استمرت عقودًا في الصومال، وهجمات حركة الشباب المتزايدة، فضلًا عن عمليات مكافحة التمرد الحكومية ردًّا على ذلك، عام 2022م العام الأكثر دموية في البلاد منذ عام 2018م، مع التسبُّب أيضًا في نزوح جماعي. وتشير التقديرات إلى أن 3.9 مليون شخص كانوا يعيشون في نزوح داخلي في الصومال في نهاية عام 2022م، بزيادة قدرها مليون شخص تقريبًا عن العام السابق.
شكل رقم (2)
الدول الإفريقية الـ20 الأكثر معاناة من حيث تحركات النزوح الداخلي (بسبب الكوارث والصراعات) خلال عام 2022م
(بالمليون شخص والنسبة المئوية من السكان)
علمًا بأن المقصود هنا حركات النزوح التي حدثت خلال عام 2022م فقط، وليس إجمالي النازحين داخل كل بلد.
المصدر: تقرير الهجرة العالمي في نسخته الإنجليزيّة لعام 2024م، ص 60.
وفي جنوب السودان، على الرغم من اتفاق السلام لعام 2018م، لا يزال العنف منتشرًا على نطاق واسع في البلاد، كما أدى إلى نزوح داخلي وعبر الحدود بشكل كبير؛ حيث وقعت معظم حالات النزوح الداخلي في عام 2022م في ولايات جونقلي وأعالي النيل والوحدة. وظلت البلاد بين أكبر بلدان لديها لاجئين في إفريقيا (أكثر من 2 مليون)؛ حيث يقيم معظمهم في أوغندا والسودان وإثيوبيا.
وفي الوقت نفسه، خاضت إثيوبيا حربًا أهلية وحشية في شمال البلاد، مما أسفر عن خسائر كبيرة في الأرواح وتدمير الممتلكات وتشريد الملايين من المواطنين. كما أدَّى النزاع المسلح الذي اندلع في السودان في أبريل 2023م إلى نزوح أعداد كبيرة داخليًّا وعبر الحدود، مما أجبر العديد من السودانيين على البحث عن مناطق آمِنَة بديلة في دول شرق إفريقيا مثل جنوب السودان وإثيوبيا. وبحلول نهاية يوليو 2023م، استقبلت جنوب السودان وحدها ما يقرب من 200 ألف لاجئ جديد من السودان. كما أدى الصراع في السودان إلى فرار العديد من اللاجئين الذين استضافتهم السودان، بما في ذلك من دول مثل إثيوبيا، إلى دول مجاورة أو عادوا إلى ديارهم.
شكل رقم (3)
الدول الإفريقية العشرة الأعلى من حيث عدد اللاجئين وطالبي اللجوء خلال عام 2022م
يشير مصطلح “المُستضافون- Hosted” باللون الأزرق إلى اللاجئين وطالبي اللجوء المقيمين في البلد المستقبِل (الجانب الأيمن من الشكل)؛ ويشير مصطلح “في الخارجAbroad –“ باللون الأحمر إلى اللاجئين وطالبي اللجوء القادمين من ذلك البلد والذين هم خارج بلدهم الأصلي.
المصدر: تقرير الهجرة العالمي في نسخته الإنجليزيّة لعام 2024م، ص 59.
من ناحية أخرى مثَّلت دول الخليج واحدة من الوجهات الرئيسية للعمال المهاجرين الأفارقة، وخاصة أولئك القادمين من شرق إفريقيا. على سبيل المثال: تُعدّ إثيوبيا وكينيا وأوغندا الدول الرئيسة التي ينحدر منها العمال المهاجرون إلى دول مجلس التعاون الخليجي؛ ويعمل معظمهم في قطاعات الضيافة والأمن والبناء والتجزئة. وفي ظل ارتفاع معدلات البطالة ونقص التشغيل، فضلًا عن احتمالات الحصول على أجور أعلى، يسعى العديد من الشباب إلى الحصول على فرص عمل في الخليج.
وقد أدَّى القرب الشديد من الخليج، إلى جانب الصعوبة المتزايدة في الدخول إلى بلدان كالمملكة المتحدة والولايات المتحدة، إلى جعل دول مجلس التعاون الخليجي خيارات جذابة لهجرة العمالة من هذه البلدان. كما أسهم انتشار شركات التوظيف في جميع أنحاء شرق إفريقيا، فضلًا عن العديد من اتفاقيات العمل الثنائية، في الزيادة الكبيرة في هجرة هذه العمالة إلى الخليج. وقد أدى ذلك إلى زيادة كبيرة في التحويلات المالية، وخاصة إلى دول مثل كينيا وأوغندا. وقد ارتفعت التحويلات المالية في هاتين الدولتين إلى أكثر من 4 مليارات دولار وأكثر من 1.2 مليار دولار على الترتيب. وفي هذا الإطار (على صعيد كينيا) نشير إلى أن المملكة العربية السعودية تحتل الآن المرتبة الثالثة بعد المملكة المتحدة والولايات المتحدة باعتبارها المصدر الثالث الأكبر للتحويلات المالية إلى كينيا.
ثانيًا: واقع الهجرة بغرب ووسط القارة الإفريقيّة
تظل أجزاء من هذه الأقاليم الفرعية بؤرًا ساخنة للصراع وانعدام الأمن والجماعات المسلحة، مع استمرار منطقة الساحل في كونها الأكثر تقلبًا. ولطالما كانت منطقة الساحل في إفريقيا، التي تمتد من المحيط الأطلسي في الغرب إلى البحر الأحمر في الشرق، منطقة لتدفقات متصاعدة من الهجرة. وتواجه المنطقة أزمات مستمرة بما في ذلك التدهور المناخي والبيئي والتصحر وعدم الاستقرار السياسي والمؤسسي ونقص الخدمات الأساسية والصراعات بين المجتمعات المحلية بين الرعاة الُرحَّل والمزارعين والارتفاع السريع لهجمات الجماعات المسلحة العنيفة. وتُعدّ منطقة الساحل الأوسط هي الأكثر تضررًا من العنف؛ حيث قُتل العديد من المدنيين في عام 2022م وحده. وقد انزلقت إلى مزيد من الاضطرابات في عام 2021م بعد الانقلابات العسكرية في بوركينا فاسو ومالي، مما أدَّى إلى تعليق عضويتهما في الجماعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا (إيكواس) -قبل إعلان انسحابهم لاحقًا- والاتحاد الإفريقي. وفي عام 2022م، كان هناك أكثر من 2.9 مليون لاجئ ونازح داخليًّا في مالي وبوركينا فاسو والنيجر وحدهم. علاوةً على ذلك، استهدفت الجماعات المسلحة الأطفال في مالي وبوركينا فاسو والنيجر، كما اختطفت المئات منهم، وكان كثير منهم فتيات.
بالإضافة إلى الصراع المستمر وانعدام الأمن، تأثرت منطقة غرب ووسط إفريقيا بعوامل أخرى، كتغيُّر المناخ وانعدام الأمن الغذائي. على سبيل المثال، انخفض معدل هطول الأمطار في منطقة الساحل بأكثر من 20% منذ سبعينيات القرن العشرين، ما جعل هذا الجزء من إفريقيا أحد أكثر المناطق عُرضة للجفاف. وفي الوقت نفسه، شهدت أجزاء من المنطقة كوارث مفاجئة كبيرة، مما أدى إلى نزوح الملايين من الأشخاص. على سبيل المثال، سجّلت نيجيريا أكبر عدد من حالات النزوح الداخلي بسبب الكوارث في إفريقيا جنوب الصحراء في عام 2022م (أكثر من 2.4 مليون نازح). وكان هذا أيضًا أعلى رقم مسجل في نيجيريا منذ عشر سنوات. وكانت حالات النزوح نتيجة إلى حد كبير للفيضانات بين يونيو ونوفمبر 2022م.
وبخصوص مسارات الهجرة غير الشرعيّة؛ فغالبًا ما تحدث بغرب ووسط إفريقيا على طول طريق البحر الأبيض المتوسط المركزي (من خلال عبور البحر من دول شمال إفريقيا والشرق الأوسط بشكل أساسي إلى إيطاليا)؛ وطريق غرب البحر المتوسط (المكون من عدة طرق فرعية تربط المغرب والجزائر بإسبانيا)؛ وطريق غرب إفريقيا الأطلسي (من دول ساحل غرب إفريقيا والمغرب إلى جزر الكناري في إسبانيا).
وفي عام 2022م وحده، تم تسجيل ما يقرب من 2800 حالة وفاة واختفاء على طول طريق وسط البحر المتوسط، وطريق غرب إفريقيا الأطلسي، وطريق غرب البحر المتوسط وطرق أخرى في غرب ووسط إفريقيا. ونظرًا لعمليات البحث والإنقاذ المحدودة، فمن المرجح جدًّا أن تكون هذه الأرقام أقل من التقديرات الحقيقية.
ويعتبر طريق غرب إفريقيا عبر المحيط الأطلسي خطيرًا للغاية بسبب طول الرحلة؛ حيث غالبًا ما يعلق المهاجرون في البحر لفترات طويلة على قوارب غير مناسبة في مناطق المحيط الأطلسي التي تفتقر إلى عمليات الإنقاذ المخصصة.
جدير بالذكر أنه في عام 2022م وصل أكثر من 29.000 مواطن من غرب ووسط إفريقيا إلى أوروبا عبر هذه الطرق المختلفة؛ حيث وصل معظمهم (58٪ منهم) إلى إيطاليا، و17٪ إلى إسبانيا، و21٪ إلى قبرص ومالطا، و4٪ إلى اليونان.
من جهة أخرى لعب بروتوكول حرية التنقل التابع للمجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا دورًا رئيسيًّا في تسهيل تنقُّل العمالة بشكل قانوني في المنطقة. وفي حين قطعت المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا خطوات كبيرة عندما تعلق الأمر بتمكين حرية التنقل، فإن التنفيذ الكامل لبروتوكولها لم يتحقق بعد. ولا يزال البروتوكول يتعرض للتقويض من خلال مجموعة من التحديات، بما في ذلك تلك المتعلقة بالمصالح الوطنية المتنوعة والبنية التحتية الرديئة، وغيرها.
وتمتلك المجموعة الاقتصادية لدول وسط إفريقيا أيضًا بروتوكولًا لحرية التنقل؛ ومع ذلك، كان التقدم في تنفيذه بطيئًا ولم يكن من أولويات دول وسط إفريقيا، التي لا يزال العديد منها يعاني من عدم الاستقرار السياسي. ومع ذلك، تجتذب دول مثل غينيا الاستوائية والجابون -مع صناعات الأخشاب والنفط الكبيرة- عددًا كبيرًا من العمال المهاجرين من المنطقة (وسط إفريقيا).
ثالثًا: ثنائية الهجرة وكرة القدم في إفريقيا
نشير في هذا الإطار إلى ما ذكرناه في بداية المقال، من أن الهجرة لا يترتب عليها الضرر في كل الأحوال، بل تحمل في طياتها عددًا من العوائد الإيجابية سواء للمهاجرين أو للدول المُضيفة لهم أو للبلدان الأم من خلال التحويلات المالية المرتفعة. وفي هذا السياق سلَّطت بطولة كأس العالم لكرة القدم 2022م الضوء على بعض تأثيرات الهجرة الإيجابية بفضل العديد من اللاعبين من أصل غرب إفريقيا، الذين أثبتوا أهميتهم للمنتخبات الوطنية الأوروبية التي لعبوا في صفوفها. وتضم المنتخبات الوطنية في جميع أنحاء العالم لاعبين من خلفيات متنوعة، بما في ذلك اللاعبين الذين يمثلون بلدانًا لم يولدوا فيها.
ورجوعًا لبطولة كأس العالم 2022م التي استضافتها قطر، فقد تميَّزت بوجود أكبر عدد من اللاعبين المولودين خارج أراضي المنتخبات الوطنية التي لعبوا لها، في تاريخ البطولة، حيث مثَّل 137 من أصل 830 لاعبًا (17٪) بلدانًا لم يولدوا فيها. وكان لدى دول مثل المغرب وقطر أكبر عدد من اللاعبين المولودين في الخارج.
ومن بين اللاعبين الذين لم يولدوا في الخارج في الفرق الوطنية الأوروبية، كان العديد منهم من أصل إفريقي. على سبيل المثال، كان العديد من اللاعبين النجوم في الفريق الفرنسي، بما في ذلك كيليان مبابي وبول بوجبا، لديهم روابط عائلية بالقارة الإفريقية.
وبالرغم من ذلك، من المهم التأكيد على أنه بالنسبة للغالبية العظمى من الشباب في إفريقيا الذين يرغبون في احتراف كرة القدم بأوروبا، فإن فرص الهجرة والانضمام بنجاح إلى أندية كرة القدم هناك تُعدّ محدودة للغاية. وبالنسبة لهم، غالبًا ما تكون المسارات غير النظاميّة المتاحة أمامهم لتحقيق هذه التطلعات محفوفة بمخاطر كبيرة للغاية، تصل إلى حد الموت.
وفي ظل هذه الآمال والتطلعات ينجح مُهَرِّبو المهاجرين والمتاجرين بهم في استغلال أحلامهم للعب في إحدى الدوريات الأوروبية الكبرى، فيجتذبون الآلاف منهم بآمال كاذبة في أن يصبحوا لاعبي كرة قدم محترفين. وكثيرًا ما يتنكرون في هيئة وكلاء كرة قدم، ويتقاضون مبالغ كبيرة من المال لتسهيل رحلاتهم إلى أوروبا، ثم يتخلون عنهم عند وصولهم (هذا في حال نجاح وصولهم إلى مقصدهم من الأساس)؛ وينتهي المطاف بهم كضحايا للعمل القسري أو الاستغلال الجنسي، من بين انتهاكات وإساءات أخرى عديدة.
خُلاصات واستنتاجات:
عقب الاطلاع على أبرز ما تعلَّق بمؤشر الهجرة العالمي لعام 2024م، من حيث القراءة العالميّة له أو استكشاف حالة إفريقيا جنوب الصحراء به، يمكن الإشارة إلى ما يلي:
نستطيع التأكيد عبر ما وَرد في المؤشر على أن الهجرة لا تحمل نمطًا واحدًا في جميع أنحاء العالم، بل إنها تتنوع وفقًا لسياقات سياسية واقتصادية وجغرافية وديموغرافية، ومناخية، وغيرها. كما أنها لا ترتبط فقط بالسياق الداخلي، بل بالسياقين الإقليمي والدولي، مما يؤدي إلى أنماط مختلفة من الهجرة، كما وجدنا على سبيل المثال أنماط الهجرة الساعية لاحتراف كرة القدم في الملاعب الأوروبية، المتدفقة من غرب إفريقيا وغيرها من بلدان إفريقيا جنوب الصحراء.
على صعيد آخر يربط المؤشر بين التدهور البيئي الناتج عن السلوك الإنساني وتغُّير المناخ وارتفاع معدلات الهجرة؛ خاصة أن النشاط البشري السلبي تجاه البيئة يشهد تفاقمًا كثيرًا الآن؛ فالإفراط في الاستهلاك والإنتاج المرتبط بالنمو الاقتصادي غير المستدام، واستنزاف الموارد وانهيار التنوع البيولوجي -بما في ذلك: تغيُّر المناخ المستمر، وارتباطه بانعدام الأمن الغذائي، والتنقل البشري من مكان لآخر- لا يزال يسيطر على العالم، كما أنه يحمل الكثير من العواقب؛ أبرزها: تصاعد معدلات الهجرة، لا سيما مع تنامي الوعي العالمي حول توقع المزيد من التدهور للأنظمة البيئية، على نحوٍ لا يمكن إخفاءه. يؤكد ذلك أن النزوح القسري الآن بات الأعلى على الإطلاق في العصر الحديث. ويتفاقم الوضع بسبب التأثيرات البيئية وتغيُّرات المناخ (سالفة البيان)، والذي يتوقع بعض العلماء أن هذه التغيرات ستُجبر أكثر من 216 مليون شخص عبر ست قارات على التنقل داخل بلدانهم بحلول عام 2050م.
ختامًا؛ يؤكد واضعو مؤشِّر الهجرة العالمي أن هدفهم الأساسي من إعداد وإصدار هذا التقرير كان ولا يزال يتمثل في نشر المعرفة الحقيقيّة حول الهجرة، تحت شعار “المعرفة هي القوة” (Knowledge is Power)، كما يقول الفلاسفة أمثال “ميشيل فوكو” و”فرانسيس بيكون” و”توماس هوبز”؛ تلك العبارة التي استُخدِمَت لأول مرة من قِبَل الفلاسفة في القرن السادس عشر.
وفي عصر الأخبار السريعة والسرديات المُوَجّهة التي يتم دسّها عبر شبكة الإنترنت عمومًا ووسائل التواصل الاجتماعي بشكل أكثر تحديدًا، لا تزال هذه العبارة تحمل أهمية كبيرة، كما كانت دائمًا. ومن خلال هذه النسخة من تقرير الهجرة العالمي (2024م)، يؤكد واضعوه على ضرورة تشكيل رؤية حقيقية قائمة على الإحصاءات والبيانات والمعلومات الدقيقة حول الهجرة، فبهذه الطريقة، يمكننا أن نروي القصة كاملة بشأن هذا الملف المُعَقَّد شديد الأهمية، بعيدًا عن الرؤى الأخرى، المُوَجّهة غير الدقيقة.
………………………………
“World Migration Report 2024”, International Organization for Migration, (UN Migration, May 7, 2024). Retrieved from: https://publications.iom.int/books/world-migration-report-2024
([1]) “الهجرة”، موقع الأمم المتحدة، متاح على الرابط: https://www.un.org/ar/global-issues/migration