تمهيد:
أجبر المستعمِر المجتمعات الإفريقية على التخلّي عن عاداتها الثقافية فيما يتعلق بأنظمة الغذاء، مما أدَّى إلى قلة الاهتمام بها، فاندثرت أو تيتمَّت أو فُقِدَت.
ومع التحديات التي تُواجهها القارة من التقلُّبات المناخية والجفاف والصراعات والفساد والكوارث الطبيعية؛ كان هناك حاجة إلى استكشاف سُبل جديدة لتحقيق الأمن الغذائي، وإحياء المحاصيل “المنسية أو المفقودة” أو “المهملة”؛ بحثًا عن “السيادة الغذائية” التي تخلَّت عنها القارة في السابق.
تلك المحاصيل يمكن أن تعمل على تحسين الاقتصاد الريفي والعناية المستدامة بالأراضي، ولكنها لا تحظى بالاهتمام الكافي بالنظر إلى كمية العناصر الغذائية التي تحتوي عليها، وكيف يمكنها مساعدة الأُسَر في تنويع أنظمتها الغذائية. فهناك مئات من نباتات الغذاء المحلية التي يمكن أن تُعزِّز بشكل كبير قاعدة إمدادات الغذاء. ولم يتلقَّ سوى عدد قليل منها أبحاثًا علمية كافية، أو ترويجًا غذائيًّا.
وإذا ما أُتيحت الفرصة لهذه المصادر للتنافس فهي أيضًا “محاصيل الفرص”، وهي الرهانات الأفضل للفوز بمعركة إطعام قارة شاسعة؛ فهي “محاصيل عجيبة”؛ نظرًا لجميع الصفات الرائعة التي تمتلكها. وهو ما أردنا التعرف عليه في هذه المقالة، التي تحاول الإجابة عن تساؤل رئيسي وهو: “هل تملأ بذور الأجداد بطون الأحفاد في إفريقيا جنوب الصحراء؟
ونتناول الإجابة عن ذلك السؤال من خلال المحاور التالية:
- أولاً: ما هي المحاصيل المنسية في إفريقيا جنوب الصحراء؟ ولماذا أُهْمِلَت؟
- ثانيًا: أسباب الحاجة إلى المحاصيل المنسية في إفريقيا جنوب الصحراء.
- ثالثًا: الجهود المبذولة لإيحاء المحاصيل المنسية.
- خاتمة وتوصيات.
أولاً: ما هي المحاصيل المنسية في إفريقيا جنوب الصحراء؟ ولماذا أُهْمِلَت؟
لقد جلبت التجارة عبر المحيط الهندي بين ساحل شرق إفريقيا وآسيا -والتي بدأت عام 800م واستمرت حتى تراجعت في القرن السادس عشر- مصادر غذائية جديدة مثل قصب السكر والموز والأرز. ومع ذلك، ظل الأفارقة يعتمدون بشكل كبير على مصادر الغذاء الأصلية حتى عام 1441م عندما أبحر المستكشفون وتُجّار الرقيق عبر ساحل غرب إفريقيا. استمرت هذه التجارة من القرن السادس عشر وحتى القرن التاسع عشر، وانضمَّت الأمريكتان إليها.
وفي هذا الوقت تذوَّقت إفريقيا المحاصيل الغذائية الأمريكية وتبنّتها مثل الفاصوليا والقرع والفول السوداني والذرة والطماطم والفلفل الحار والبطاطا الحلوة. وحظيت هذه النباتات بقبول واسع النطاق في القارة.
ثم جاء المستوطنون البيض في القرن التاسع عشر، وحرصوا على الزراعة التجارية، واعتُبِرَت المحاصيل الجديدة -كالقهوة والشاي والكاكاو- أكثر قيمة وربحية وقابلة للتصدير وغير قابلة للتلف. ومنذ وصول الأجانب وتأثيرهم، كانت إفريقيا تعتمد على عشرين نوعًا من الطعام أو نحو ذلك، معظمها ليس أصليًّا. اليوم، لا تحتوي أطباقهم على الكثير من الخضروات الأصلية([1]).
وعلى الرغم من تضاعف سكان إفريقيا في السنوات الثلاثين الماضية؛ إلا أن إنتاج الغذاء لم يواكب هذه الزيادة، فهي أقل من المتوسط العالمي. في الوقت الذي تضم فيه إفريقيا 65% من الأراضي الصالحة للزراعة في العالم، وتضمّ بيئات زراعية متنوعة ونباتات غنية تجعل من الممكن تطوير أنظمة غذائية مستدامة.
ولطالما استخدمت المجتمعات الأصلية في إفريقيا المحاصيل المحلية في الغذاء والدواء والديكور. ومع ذلك، يتم استبدال هذه المحاصيل المحلية بأصناف مفضَّلة للزراعة الصناعية مثل الذرة والأرز والقمح. مما أدَّى إلى توحيد الأنظمة الغذائية وإهمال المحاصيل الأخرى، والتي يُشار إليها باسم “المحاصيل اليتيمة”. (أو “المحاصيل المفقودة”، أو “المحاصيل المهملة”، أو “المحاصيل المنسية”)، وهي نوع نباتي مُهِمّ للأمن الغذائي والتغذية وسُبُل العيش في مناطق معينة، ولكنه لا يحظى باهتمام كبير من البحث الزراعي والتنمية وجهود السياسات على نطاق عالمي. وغالبًا ما تكون هذه المحاصيل شديدة التكيُّف والمرونة، مع القدرة على النمو في الأراضي الهامشية بكميات قليلة من المدخلات. ومن الأمثلة على ذلك: الدخن والذرة الرفيعة([2]).
ومِن ثَم أدَّى البحث عن الكفاءة والإنتاجية إلى إحلال حفنة من المحاصيل النقدية محل مجموعة واسعة من محاصيل الكفاف؛ واختفت 75٪ من هذه المحاصيل خلال القرن العشرين. وفي عام 2020م، شكَّلت ثلاثة محاصيل نباتية فقط (الذرة والأرز والقمح) 41% من السعرات الحرارية المستهلَكة في العالم. وكما يوضح الشكل التالي، فإن النمو في مساحة إنتاج هذه المحاصيل الرئيسية الثلاثة في إفريقيا تجاوز بكثير نموّ الحبوب التقليدية مثل الذرة الرفيعة والدخن([3]).
شكل (1) منطقة إنتاج الحبوب، إفريقيا، 1961-2021م – الكمية مقدرة بالطن
Source: https://www.fao.org/faostat/en/#data/QCL
وكذلك هناك حالة من ضعف سلاسل القيمة للمحاصيل المنسية كالدخن؛ حيث تتمتع منتجات القمح والحبوب النقدية بنُظُم بيئية راسخة تبدأ في المزرعة، وتنتهي في شكل مُنتَج معبَّأ. وكذلك فإن الاستثمارات فيها أعلى بكثير من المحاصيل اليتيمة؛ حيث تستفيد من شبكات البحث العالمية، والتمويل، والابتكارات التكنولوجية، مما يُعزّز إنتاجيتها وجاذبيتها في السوق. خاصةً الذرة والأرز والقمح؛ حيث يأتي منها أكثر من 40% من السعرات الحرارية المستهلكة، بالإضافة إلى الشعير([4]).
وكذلك تم تشويه سمعة بعض المحاصيل مِن قِبَل المستعمرين باعتبارها سامة، مثل الكسافا. كما تُدْرِج بعض منظمات البحث والأرشيفات الوطنية بعض مصادر الغذاء الإفريقية على أنها أعشاب ضارة، كنبات القطيفة المغذّي في شرق إفريقيا. فيتم اقتلاعه لإفساح المجال للمحاصيل النقدية.
كما عانى نباتي البطاطا والبامية من نفس المصير، إلى جانب محاصيل أخرى. على الرغم من أن نباتي البطاطا والبامية من أكثر المحاصيل شعبية في القارة. وتنتج المنطقة 90% من جميع أنواع البطاطا في العالم. بالإضافة إلى احتلالها المرتبة الثانية بعد الكسافا في توفير النشا في القارة، ويمكن تخزين درنات البطاطا لمدة تتراوح من أربعة إلى ستة أشهر دون تبريد. أما البامية فغنية بفيتامين أ، و ب، وحمض الفوليك، والبروتين، والكالسيوم، والحديد، ومعادن أخرى([5]).
ثانيًا: أسباب الحاجة إلى المحاصيل المنسية في إفريقيا جنوب الصحراء
وفقًا لبحثٍ أصدرته منظمة أوكسفام في عام 2023م، سيموت سبعة أشخاص في جميع أنحاء إثيوبيا وكينيا والصومال وجنوب السودان لأسبابٍ تتعلق بالجوع في الوقت الذي يستغرقه القارئ العادي في قراءة مقال. أو بعبارة أخرى الجوع في شرق إفريقيا سيصل إلى ذروة جديدة مع احتمال وفاة شخص واحد كل 28 ثانية على الرغم من تعهُّد مجموعة الدول السبع بإنهاء المجاعة([6]).
وتوفر المحاصيل المنسية زيادة في خيارات الغذاء وتنويع الأسواق من أجل خلق إمدادات غذائية أكثر أمانًا في مواجهة الصدمات المتكررة؛ حيث كشفت الأزمات المتعددة في السنوات الأخيرة عن العديد من نقاط الضعف في أنظمة الغذاء؛ فقد اجتمعت الأحداث بما في ذلك الركود الاقتصادي المحلي والعالمي، والصراعات السياسية والعسكرية، والتغيرات المناخية، والأوبئة، والآفات وأمراض المحاصيل، لدفع أسعار المواد الغذائية إلى الارتفاع، وتسببت في معاناة ملايين الأشخاص من الجوع. لقد ضربت هذه الأزمات إفريقيا بشدة؛ حيث عانى أكثر من واحد من كل خمسة أفارقة، أو 278 مليون شخص، من الجوع المزمن([7])، وتجاوز تضخم أسعار المواد الغذائية في إفريقيا 20٪ في يونيو 2022م (أعلى مستوى له منذ بدء تتبُّع المؤشر قبل أكثر من 20 عامًا)([8]).
وتكتسب تأثيرات تغيُّر المناخ أهميةً خاصةً؛ فمن ناحية، تُؤثّر هذه التأثيرات بالفعل على الأمن الغذائي والتغذية، ومن المتوقع أن تستمر في خفض إنتاجية المحاصيل([9])؛ ومن ناحية أخرى، تتحمل أنظمة الغذاء مسؤولية 34% من إجمالي انبعاثات الغازات المسبِّبة للاحتباس الحراري على مستوى العالم. ومرة أخرى، تقع هذه التأثيرات بشكل كبير على إفريقيا([10]). ومن المتوقع أن تؤدي الأحداث المناخية المتطرفة في منطقة القرن الإفريقي-مثلاً- إلى تفاقم انعدام الأمن الغذائي وإعاقة التقدم نحو الحد من سوء التغذية، مما يرفع عدد الأشخاص الذين يواجهون أزمة أو ما هو أسوأ ما بين 23و26 مليون شخص إذا استمر الجفاف المستمر للموسم الخامس([11]).
وإن توسيع نطاق استخدام المحاصيل المهملة من شأنه أن يساعد في تنويع الزراعة وأنظمة الغذاء وإدخال مجموعة أكبر من الأطعمة إلى الإمدادات العالمية -بما في ذلك الحبوب الأكثر تغذية، والفواكه والخضراوات، والجذور والدرنات-، في حين يعمل على بناء القدرة على الصمود في مواجهة تغير المناخ، وتوفير فرص العمل ومصادر الدخل البديلة للمزارعين. ومن خلال التدخلات الموازية والاستثمارات المناسبة، فإن تنويع مصادر الغذاء من شأنه أن يساعد في الحد من تعرُّض المستهلكين لتقلُّب أسعار الغذاء وزيادتها. كما تقدّم تلك المحاصيل مجموعة من الخيارات لتعزيز التنوع الغذائي. فالعديد منها يتمتع بكثافة غذائية عالية نسبيًّا، بل والعديد منها أكثر تغذية من المحاصيل الأساسية السائدة. فالدخن، والفونيو، والتيف تحتوي على نسبة حديد أعلى من الذرة والأرز والقمح، كما تحتوي أيضًا على نسبة أعلى نسبيًّا من الأحماض الأمينية مقارنة بالمحاصيل السائدة([12]).
إن الفوائد الغذائية للمحاصيل المهملة مهمة في ضوء مشاكل سوء التغذية والفقر في إفريقيا. وعادة ما يرتبط انخفاض الدخول بأنظمة غذائية أقل تغذية، مما يؤدي بدَوْره إلى عدد من المخاوف الصحية العامة. وقد تكون المحاصيل المهملة متفوقة أيضًا على المواد الغذائية الأساسية السائدة بسبب تكيفها المتأصل مع البيئة الطبيعية والظروف المحلية. وتتحمل هطول الأمطار غير المنتظمة والتربة غير الخصبة بشكل أفضل، وتزدهر في الظروف الجافة وحتى الجفاف. كما تتميز بكفاءة عالية في استخدام المياه والنيتروجين، وتتطلب كميات أقل من المياه وقليل من المدخلات الكيميائية أو لا تتطلبها. وبالتالي فإن العديد منها مناسب للزراعة الهامشية، بما في ذلك المناطق القاحلة. ولأنها كانت مُهمَّشة اقتصاديًّا لفترة طويلة، فإنها تحمل إمكانات هائلة لخلق أسواق جديدة ووظائف ودَخْل مادي من الإنتاج إلى القيمة المضافة والتوزيع. فالخضروات التقليدية، مثل القطيفة والباذنجان والكرنب، تحظى بشعبية متزايدة بين الشرائح الأكثر ثراءً من سكان العالم وتشق طريقها تدريجيًّا إلى أسواق المستهلكين. كما يمكن تطوير أسواق متخصصة للحبوب التقليدية مثل الكينوا المزروعة في أمريكا اللاتينية([13]).
وبقياس قدرتها على تكييف أنظمة زراعة المحاصيل الأساسية الرئيسية في إفريقيا جنوب الصحراء من الذرة والأرز والكسافا والبطاطا مع المناخات المتغيرة في المناطق الفرعية الأربع في غرب ووسط وشرق وجنوب إفريقيا. لاستكشاف إمكاناتها لتنويع المحاصيل أو استبدال هذه المواد الغذائية الأساسية بحلول عام 2070م؛ أشارت النتائج إلى أن حوالي 10٪ من مواقع الإنتاج الحالية لهذه المواد الغذائية الأساسية الأربعة في إفريقيا جنوب الصحراء ستشهد ظروفًا مناخية جديدة في عام 2070م، تتراوح من أعلى مستوى يبلغ حوالي 18٪ في غرب إفريقيا إلى أدنى مستوى أقل من 1٪ في جنوب إفريقيا.
ومن بين قائمة أولية تضم 138 محصولاً غذائيًّا إفريقيًّا منسيًّا، بما في ذلك الخضراوات الورقية، والخضراوات الأخرى، والفواكه، والحبوب، والبقول، والبذور والمكسرات، والجذور والدرنات، تم اختيار تلك التي ساهمت بشكل أكبر في تغطية الظروف المناخية المستقبلية والمعاصرة المتوقعة لمواقع إنتاج المواد الغذائية الأساسية الرئيسية. وتم تحديد قائمة مختصرة تضم 58 محصولاً غذائيًّا منسيًّا، قادرة على التكامل مع بعضها البعض في توفير المغذيات الدقيقة، والتي غطَّت أكثر من 95٪ من مواقع الإنتاج التي تم تقييمها([14]).
ثالثًا: الجهود المبذولة لإيحاء المحاصيل المنسية
هناك العديد من الجهود المبذولة لضمان استخدام القارة للموارد المحلية لتعزيز التغذية والغذاء. فمثلاً؛ تعمل مؤسسة الغذاء البطيء للتنوع البيولوجي Slow Food Foundation for Biodiversity على إنشاء عشرة آلاف حديقة وتنشيط شبكة من القادة الشباب في إفريقيا الذين يعملون على إنقاذ التنوع البيولوجي، وتعزيز المعرفة التقليدية وفن الطهي، ودعم الزراعة الأسرية والزراعة على نطاق صغير. كما تعمل على تحديد وفهرسة المنتجات الغذائية عالية الجودة المُعرَّضة لخطر الانقراض.
كما يقدم المركز العالمي للخضروات (AVRDC) مجموعة من بنوك الجينات لتلبية الاحتياجات المحددة للراغبين في زراعة هذه المحاصيل. ولديها 438 نوعًا من الخضروات مُدْرَجة في مجموعة بنك الجينات الخاصة. ويعمل الاتحاد الدولي لمستخدمي المعايير (IFAN) على تعزيز وتوفير معلومات التغذية، وتحسين الوصول إلى الغذاء الآمِن والجيد، كما يدافع عن التغذية من أجل الصحة الجيدة في إفريقيا([15]).
كما تم إطلاق مهرجان المحاصيل المفقودة، وهو مبادرة مخصصة لإعادة اكتشاف وتثمين الكنوز الزراعية المنسية في إفريقيا؛ رغبةً في تسليط الضوء على الحبوب المنسية وإمكاناتها في الغذاء والتجارة؛ بهدف زيادة الوعي، وتشجيع التبادلات، وإنشاء شبكة لتعزيز إعادة اكتشاف الثقافات المنسية في إفريقيا وتطويرها، من أجل تعزيز الأمن الغذائي والتنمية المستدامة([16]).
وأعلنت الجمعية العامة للأمم المتحدة في دورتها الخامسة والسبعين في مارس 2021م عام 2023م السنة الدولية للدخن؛ حيث يمكن أن ينمو الدخن في الأراضي القاحلة بأقل قدر من المدخلات، وهو مقاوم للتغيرات المناخية. وبالتالي فهو الحل الأمثل للدول لزيادة الاكتفاء الذاتي والحد من الاعتماد على الحبوب المستوردة. ويتم تصنيفه باعتباره “أغذية خارقة” بسبب خصائصه المغذية للغاية. كما أن له فوائد أخرى لأنه يستخدم كمية أقل من المياه وينمو في وقت أقل من العديد من المنتجات الأخرى القائمة على الحبوب([17]).
وركَّز منتدى “أيام إفريقيا” الذي انعقد في 27 و28 يونيو 2024م في السنغال في نسخته السابعة على “المحاصيل المفقودة والفرص الجديدة: تأمين مستقبلنا بمحاصيل الماضي”. الاهتمام بتدشين “تحالف المحاصيل الإفريقي”، وهي شبكة جديدة تهدف إلى جمع مجموعة واسعة من الشركاء: المؤسسات والشركات والجهات الفاعلة المحلية، لتبادل وتعزيز الحلول المستدامة للأمن الغذائي في منطقة الساحل، وزيادة الوعي بقضايا المحاصيل المفقودة في إفريقيا، وتشجيع استهلاك المنتجات المحلية، وإنشاء مجتمع ملتزم بتحسين النظام الغذائي العالمي والاعتراف بالمحاصيل الأصلية في القارة ([18]).
وكان نبات العنكبوت الذي تم الترويج له على أنه ضارّ، وهو نبات منتشر في دول جنوب وشرق القارة حتى وقت قريب، كان محصولًا “منسيًّا”: يأكله أحيانًا سكان الريف من أجل الكفاف، فهو غنيّ بالفيتامينات والمعادن والعناصر الغذائية. ونبات العنكبوت هو واحد من 52 محصولًا تم تحديدها في دراسة أُجريت عام 2023م، وقد تناولت الدراسة المحاصيل “المنسية” التي قد تساعد في جعل أنظمة الغذاء في جنوب الصحراء أكثر مرونة وأكثر تغذية؛ حيث يجعل تغير المناخ من الصعب زراعة الذرة والأرز والكسافا والبطاطا التي تعتمد عليها المنطقة حاليًّا.
أصبح هذا العشب الضَّارّ السابق الآن مشهدًا شائعًا في أسواق المزارعين في كينيا، ويتم بيعه مباشرة للمستهلكين في بنين. ووفقًا “لفمارا دييديو”، مسؤول البرامج في تحالف السيادة الغذائية في إفريقيا (AFSA)، فإن اضطرابات سلسلة التوريد بسبب جائحة كوفيد-19، والحرب الروسية في أوكرانيا دفعت العديد من البلدان الإفريقية إلى تحويل تركيزها من الأمن الغذائي، الذي يركز على الوصول إلى الغذاء، إلى السيادة الغذائية. ويعمل التحالف مع العديد من البلدان، لتنفيذ حملة “My Food is African”، التي تُروّج للأطعمة المحلية والتقليدية. كما تدافع عن سياسة غذائية أكثر محلية وتركيز أكبر على الزراعة البيئية داخل الاتحاد الإفريقي([19]).
الفونيو نموذجًا:
تُعيد شركة Yolélé Foods إحياء الفونيو، وهو نوع من الحبوب المحصولية الأصلية في غرب إفريقيا. منذ عام 2017م، أعادت الشركة -التي تتخذ من الولايات المتحدة مقرًّا لها، وتتعاون مع المزارعين في غرب إفريقيا- تقديم الفونيو “لخلق فرصة اقتصادية لمجتمعات المزارعين الصغار؛ “لدعم أنظمتهم الزراعية المتنوعة بيولوجيًّا والمتجددة والمقاومة للمناخ؛ ومشاركة مكونات ونكهات إفريقيا مع العالم”. ووفقًا للمؤسس المشارك والرئيس التنفيذي للشركة “فيليب تيفيرو”، فإن ارتفاع أسعار القمح في أعقاب غزو روسيا لأوكرانيا أكد على “حماقة الاعتماد على الحبوب المستوردة … وحماقة عدم اللجوء إلى المحاصيل التي تم تكييفها على مدى آلاف السنين مع مناخ وتربة غرب إفريقيا”. في عام 2022م، استثمرت الشركة في مصنع لمعالجة الفونيو في مالي، عن طريق تلقي منحة قدرها 2 مليون دولار من الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية.
يتماشى هذا المشروع مع إستراتيجية الشركة المتمثلة في “بناء مرافق المعالجة في غرب إفريقيا التي يمكنها تحويل النباتات إلى طعام يُباع محليًّا وعالميًّا”، ومن المتوقع أن يخلق ما يقرب من 14000 فرصة عمل بالإضافة إلى توليد 4.5 مليون دولار من المبيعات لمزارعي الحيازات الصغيرة على مدى عامين.
إن بناء سلاسل القيمة للمحاصيل المهملة من شأنه أن يشجّع أيضًا على دمج القطاع غير الرسمي، فضلاً عن زيادة إشراك المزارعين من أصحاب الحيازات الصغيرة والنساء في المناطق الريفية. كما أن إحياء المحاصيل المهملة من شأنه أن يُعزّز دور المعرفة الأصلية في معالجة أزمتي الغذاء والمناخ([20]).
خاتمة وتوصيات:
لقد أجبرت أزمات الغذاء المتكررة في إفريقيا جنوب الصحراء إلى البحث عن حبوب الأجداد، التي أُهملت لأسباب عديدة، والقادرة على التخفيف من مشكلات الجوع ونقص التغذية في القارة، وتحقق السيادة الغذائية، غير أن تلك المحاصيل المنسية لم تجد الاهمام البحثي الكافي.
ومِن ثَم هناك حاجة إلى المزيد من البحث والابتكار لتقييم وضمان توافر العناصر الغذائية في هذه المحاصيل. وهناك حاجة أيضًا إلى المزيد من الاستثمارات والبحوث لضمان توفير القدرة على التوسع في حصادها ومعالجتها وتوزيعها.
وينبغي الترويج للصفات القيّمة الأخرى لها مثل القدرة على التكيف مع المناخ وكفاءة استخدام المياه من خلال الحوافز المالية المصمَّمة بعناية والمساعدة الفنية وخدمات الإرشاد. وسيكون جمع المزيد من البيانات أمرًا مهمًّا في دفع الاستثمارات في البحث والتطوير وتصميم البرامج والسياسات الفعّالة. كما تحتاج إلى أسواق قابلة للاستمرار، فمن المهم بناء الأسواق المحلية والإقليمية من خلال الحوافز والاستثمارات العامة، بما في ذلك تطوير البنية الأساسية، واللوائح، والإعانات للجهات الفاعلة على طول سلسلة التوريد، فضلاً عن سياسات المشتريات، والحملات التعليمية والترويجية، والتكامل التجاري الإقليمي. إن توسيع نطاق تبنّي المحاصيل المهملة سوف يعتمد أيضًا على تعزيز بيئة مُواتية من خلال تدابير مثل تحسين الوصول إلى الأراضي، ومدخلات المزارع والخدمات المالية، وتلبية تفضيلات المزارعين، ومستويات التعليم، وتوفير التمويل.
………………………..
[1] ) https://lostcropsfestival.org/
[2] ) Zoë Karl-Waithaka, “Lost Crops” Provide Unique Opportunity For Food Security In Africa, 26 June 2024.at: https://africanmediaagency.com/lost-crops-provide-unique-opportunity-for-food-security-in-africa/
[3] ) Lysiane Lefebvre, David Laborde, and Valeria Piñeiro, Bringing back neglected crops: A food and climate solution for Africa, June 5, 2023.at: https://www.ifpri.org/blog/bringing-back-neglected-crops-food-and-climate-solution-africa/
[4] ) Zoë Karl-Waithaka, “Lost Crops” Provide Unique Opportunity For Food Security In Africa, 26 June 2024.at: https://africanmediaagency.com/lost-crops-provide-unique-opportunity-for-food-security-in-africa/
[5] ) https://lostcropsfestival.org/
[6] ) oxfam, Hunger in East Africa to hit new peak with one person likely to die every 28 seconds despite G7 pledge to end famine.at: https://www.oxfam.org.uk/media/press-releases/hunger-in-east-africa-to-hit-new-peak-with-one-person-likely-to-die-every-28-seconds-despite-g7-pledge-to-end-famine/
[7] ) https://www.fao.org/interactive/state-of-food-security-nutrition/en/
[8] ) https://www.fao.org/faostat/en/#data/CP
[9] ) Cheikh Mbow and etal, Food Security.at: https://www.ipcc.ch/srccl/chapter/chapter-5/
[10] ) M. Crippa and etal, Food systems are responsible for a third of global anthropogenic GHG emissions, 2021.at: https://www.nature.com/articles/s43016-021-00225-9
[11] ) FSIN and Global Network Against Food Crises. 2022.GRFC 2022 Mid-Year Update. Rome.at: https://www.fsinplatform.org/sites/default/files/resources/files/GRFC%202022%20MYU%20Final_0.pdf
[12] ) Lysiane Lefebvre, David Laborde, and Valeria Piñeiro.Op.cit.
[13] ) Idem.
[14] ) Maarten van Zonneveld, Forgotten food crops in sub-Saharan Africa for healthy diets in a changing climate, March 27, 2023.at: https://www.pnas.org/doi/full/10.1073/pnas.2205794120
[15] ) Daniel Muraga, How Recovering African Crops Could Address Lost Cuisine.at: https://lifeandthyme.com/food/recovering-african-crops/
[16] ) https://lostcropsfestival.org/
[17] ) fao, the International Year of Millets .at: https://www.fao.org/millets-2023/en
[18] ) Arica Days 2024 ,at: https://africadays.org/en/about/
[19] ) van Zonneveld, M., Kindt, R., McCullin, S., Achigan-Dako, E. G., N’Danikou, S., Hsieh, W., … Dawson, I.K. (2023). Forgotten food crops in sub-Saharan Africa for healthy diets in a changing climate. Proceedings of the National Academy of Sciences, 120(14) doi:10.1073/pnas.2205794120
[20] ) Lysiane Lefebvre, David Laborde, and Valeria Piñeiro.Op.cit.