د. أحمد علي سالم*
مقدمة:
يعرف المهتمون بإفريقيا الدكتورَ عليّ مزروعي[1]– رحمه الله- مفكراً وعالماً بارزراً في مجالي السياسة والثقافة، ولكن القليل منهم يدرك إسهاماته في خدمة الإسلام والمسلمين في إفريقيا والعالم[2].
وقد يظنّ البعض أنّ أكبر إسهامٍ يقوم به مسلمٌ لخدمة دينه– خصوصاً إن كان ابن كبير القضاة الشرعيين في بلده كمزروعي– هو دعوة غير المسلمين إلى الإسلام، وقد فعل مزروعي ذلك، حيث ذكر في إحدى مقالاته أنّ اثنين أو ثلاثة من أتباع الديانات الإفريقية المحلية أسلموا على يديه، وتسمّوا باسمه: «عليّ» كأبٍ روحيٍّ لهم، وظلّ على اتصالٍ بهم إلى أن غادر إفريقيا للدراسة في بريطانيا[3].
وقد يظنّ آخرون أنّ أكبر إسهامٍ يقوم به مسلمٌ لخدمة أبناء دينه– خصوصاً إن كان شخصيةً عامّةً مؤثّرة كمزروعي– هو النضال السياسي دفاعاً عن حقوق أمّته، واجتهاداً في رفع الظلم عنها، وقد فعل مزروعي ذلك أيضاً، فمثلاً حين ألغت الحكومة الكينية محاضرةً له، في المركز الإسلامي عام 1992م، أصدر بياناً أطلق عليه: «انتفاضة السود»، شرح فيه مخاوف مسلمي كينيا، خصوصاً في المنطقة الساحلية، وحثّ الحكومة على مزيدٍ من الاهتمام بالمسلمين في الدولة، والاعتراف بالحزب السياسي الإسلامي كجزء من التزامها بالتحول الديمقراطي[4].
لم تكن هذه إسهامات الدكتور مزروعي؛ فهو من خلال فهمه للإسلام وشمول إدراكه للدنيا والآخرة جاءت أهمّ إسهاماته لخدمة هذا الدين في مجال تعريف الغرب بالإسلام وحضارته تعريفاً صحيحاً، ومناقشة الأسباب التي توتّر العلاقة بين المسلمين والغرب، وبيان بعض أوجه استفادة الغرب من الإسلام الصحيح، وكذلك بعض أوجه استفادة المسلمين من الغرب.
أولاً: تعريف الغرب بالإسلام وحضارته والمسلمين تعريفاً صحيحاً:
ظلّت كتابات الغرب عن الإسلام تقدّمه مشوّهاً نتيجة هيمنة رؤية متحيزة للغرب ودوره في التاريخ والحضارة، وقد ميّز مزروعي بين خطيئتين يرتكبهما الغرب في هذا الصدد، هما: (الإنكار، والبهتان).
فخطيئة الإنكار: تتعلق بغياب حقائق أساسية عن الإسلام عند تقديمه لشعوب الغرب؛ مما يعيق بشدّة فَهْم هذا الدين فَهْماً صحيحاً.
وخطيئة البهتان: تتعلق بإلصاق تهمٍ بعقيدة المسلمين وممارساتهم وتاريخهم؛ مما يؤدي إلى معاداتهم والتعصب ضدهم[5]، فاجتهد مزروعي في تصحيح صورة الإسلام في الغرب ببيان مدى تأثيره في أديان الغرب (وخصوصاً الديانتين: اليهودية والمسيحية)، ونُظُمه الاقتصادية (وخصوصاً النظامَين: الرأسمالي والتجاري)، وتأثيره الحضاري في الإنسانية وعمارة الأرض، ورؤيته للعالم، مع تميّز الإسلام عن كلّ ذلك.
فمن جهة أُولى: أبرز مزروعي العلاقة الخاصة التي تربط الإسلام بالتراث (اليهودي-المسيحي) الذي يعتبره الغرب من أُسس حضارته الحديثة، فعقيدة هذه الأديان الثلاثة واحدة، وهي التوحيد، ومؤسسوها ينتمون إلى العنصر السامي (السلالة الإبراهيمية تحديداً)، فكان مزروعي يدرك مدى اهتمام الثقافات الغربية بالأبعاد العنصرية، ولأنّ الإسلام أكمل رسالة الديانتَيْن اليهودية والمسيحية، وحافظ على عقيدتهما الأصلية، فهو ثلاثة أديانٍ في دينٍ واحدٍ – على حدّ وصفه -، ولا يمكن اعتباره مناقضاً لهاتَيْن الديانتَيْن[6].
بل كان الإسلام أول ثورة بروتستانتية- على حدّ وصفه أيضاً-، بمعنى أنّ رسول الله محمّداً صلى الله عليه وسلم سبق رجلَي الدين المسيحي: (مارتن لوثر، وكالفن) في الجهر بتحريف الديانتَيْن: (المسيحية، واليهودية)، ودعَا إلى إصلاحهما بالعودة إلى أصلَيْهما الصحيح[7].
وقد اتفق المذهب البروتستانتي مع الإسلام في عدة مبادئ وممارسات، فكلاهما يرفضان كلّ أشكال الوساطة بين العبد وربّه، وطبقية الكنيسة وفسادها، ويتجاوز الإسلامُ خطوةً أبعد من البروتستانتية في رفْض تأليه المسيح؛ برغم توقيره كواحدٍ من أشرف رسل الله[8]، فهل كان الإسلام سبباً في ظهور المذهب البروتستانتي في الغرب؟! لا يتطرق مزروعي لهذا السؤال بشكلٍ مباشرٍ، لكنّ مفكرين آخرين أجابوا عنه بالإيجاب.
ومن جهة ثانية: أبرز مزروعي العلاقة الخاصة التي تربط الإسلام بالنظامَيْن التجاري والرأسمالي الّلذيْن سادَا في الغرب على التوالي منذ بداية العصر الحديث، فكما أنتجت الأخلاق البروتستانتية النظام الرأسمالي وفقاً لعالِم الاجتماع الغربي الشهير ماكس فيبر؛ يرى مزروعي أنّ الأخلاق الإسلامية أفرزت نوعاً من الرأسمالية؛ بمعنى تشجيع الفرد على العمل وعدم الاحتجاج بالقَدَر في ترك العمل، «فالنبيُّ [صلى الله عليه وسلم] يدعو المؤمنين للعمل وكأنهم سيعيشون أبداً، وكأنهم سيموتون غداً»[9].
«يعتقد النبيُّ محمّدٌ [صلى الله عليه وسلم] أنّ الاقتصاد يجب أن يقوم على التجارة الحرة؛ أي تفاعل السلع ورؤوس الأموال دون قيودٍ في سوقٍ حرٍّ، فعارَضَ تسعير السلع بكلّ أشكاله، إذ يبدو أنه كان واثقاً في أنّ عمل قوى العرض والطلب هو المعيار الوحيد الذي يتحدّد على أساسه السعر الصحيح، وأنكر الدعاية للسلع، وكلّ صور المضاربة في أثمانها، خاصّة فيما يتعلق بالسلع الغذائية، وكذلك بيع السلع التي ليس لها قيمة سوقية»[10].
لكنّ نظام الاقتصاد الإسلامي يختلف عن رأسمالية الغرب، فمن جهة: يفرض الإسلام للفقراء زكاةً من مال الأغنياء كي يمنع توحش الرأسمالية، «والزكاة من أقدم صور الضرائب الفردية المنظّمة في تاريخ البشر، وهي ضريبةٌ متواضعةٌ باعتبار نسبتها من المال»[11]. ومن جهة أخري: يتجاوز الإسلام خطوةً أبعد من البروتستانتية في تنظيم التوزيع والتبادل، وليس الإنتاج والاستهلاك فقط، فالنظام الاقتصاديّ الإسلاميّ يقوم على قواعد أخلاقية للاستهلاك والتوزيع، وليس فقط على قوانين الإنتاج[12].
وكما أنتج الإسلامُ نسخته الخاصّة من النظام الاقتصادي؛ فقد أنتج أيضاً نسخةً متميزةً من النظام التجاريّ تسمو على نسخته الأوروبية التي سادت قبل ظهور الرأسمالية، فكان النظامُ التجاريُّ السائدُ في بداية انتشار الإسلام نظاماً يحكمه «حسٌّ أخلاقيٌّ مرهفٌ تجاه حاجات المعذبين في الأرض، وكان نظام الرفاهة الإسلامي في تلك الفترة المبكّرة نوعاً من الإرهاصات الأولى لدولة الرفاهية، «فرغم ممارسة النبي – صلى الله عليه وسلم – وزوجته السيدة خديجة لحرفة التجارة، وثنائه على التجّار الصادقين، فإنه كان يذمّ التجّار المستغلين لحاجة الفقراء ذمّاً شديداً، ويميّز بوضوح بين الربح الحلال والفائدة الحرام، لكنّ المسلمين – كما يرى مزروعي – حادوا عن هذا الطريق، حيث تحوّل الاقتصاد في تاريخ المسلمين إلى نوعٍ من «نمط الإنتاج الآسيوي» كما سمّاه كارل ماركس فيما بعد، وإن لم يؤثر ذلك سلباً في ازدهار الحضارة الإسلامية»[13]، ولعلّ أبرز أنماط الإنتاج الأوروبية التي لم يعرفها المسلمون أبداً هو: (النظام الإقطاعي)، لأنّ شريعة الإسلام في الميراث جعلت من الصعب– إن لم يكن المستحيل– أن تستمر الملكيات الأرستقراطية الكبيرة دون توزيعٍ لفترةٍ طويلة من الزمن[14].
ومن جهةٍ ثالثة: أبرز مزروعي حقيقة الإسلام وشموليته للدنيا والآخرة، وأنه يناقض المفهوم الغربي –السائد – للدين باعتباره علاقة خاصّة بين الفرد والربّ، بل الإسلام منهجٌ متكاملٌ، دينٌ وحضارةٌ وعمارةٌ وفق مراد الله وتأثيره الحضاريّ على البشرية، فأنشأ المسلمون بدين الله حضارةً اختلفت عن حضارة شعب الأنجلوساكسون التي ظهرت لاحقاً بهدف جمع المال والثروة[15]، واستمرت إسهامات المسلمين الحضارية حتى القرن السابع عشر الميلادي تقريباً.
«فالإسلامُ ليس مجرّد دين، وهو بالقطع ليس مجرّد حركةٍ سياسيةٍ أصولية، إنه حضارةٌ ومنهجُ حياة، قد يختلف من بلدٍ مسلمٍ لآخر؛ لكنّ روحاً مشتركة تحرّكه، وهي أكثر إنسانية بكثيرٍ ممّا يتصوّره الغربيون… كما أنّ بعض جوانب الثقافة الإسلامية التي يراها الغربيون تنتمي للعصور الوسطى ظلّت سائدةً في ثقافتهم الغربية حتى وقتٍ قريبٍ جدّاً»[16].
ثانياً: أسباب توتّر العلاقة بين المسلمين والغرب في العصر الحديث:
رأى مزروعي أنّ التوتر الراهن بين المسلمين والغرب ليس حتميّاً، بل تصوّر – في السبعينيات – أنّ نظاماً اقتصاديّاً عالميّاً جديداً بدأ يتشكّل أساساً بالتبادل التجاريّ بين المسلمين والغرب، فالمسلمون ينتجون النفط ويستهلكون التقنية، والغرب ينتج التقنية ويستهلك النفط[17]، لكنّ هذه الرؤية كانت شديدة التفاؤل، إذ تجاهلت العوامل الثقافية والسياسية التي ظلّت لفترة طويلة تغذّي التوتر بين المسلمين والغرب، والتي ناقشها مزروعي فيما بعد.
فمن الناحية الثقافية: يتزايد شعور كثيرٍ من المسلمين بالضغط لإقناعهم بالتخلّي عن قيمهم والتحوّل لقيم الغرب، أو إجبارهم على ذلك، فكثيراً ما يجد مسلمو الغربِ أنفسهم أمام اختيارٍ بين قيمٍ غربية وقيمٍ إسلامية، وغالباً ما يكون الاختيار صعباً، حيث تختلط قيمٌ غربيةٌ وإسلاميةٌ في مواجهة قيمٍ غربيةٍ وإسلاميةٍ أخرى، ومن الأمثلة البارزة على ذلك حيرة المسلمين في الاختيار بين القيم التي يمثّلها الحزب الديمقراطي، وتلك التي يمثّلها الحزب الجمهوريّ في الانتخابات الأمريكية.
«فبينما يتبع المسلمون العلمانية الأمريكية (أي فصل الكنيسة عن الدولة)، فإنهم يشقَوْن بالتحررية الأمريكية (كالجدل الذي ثارَ مؤخراً حول الاعتراف القانونيّ بزواج المثليين في كلّ الولايات؛ كما هو الحال في ولاية هاواي)، فالحزب الديمقراطيّ في الولايات المتحدة أكثر إصراراً على فصل الكنيسة عن الدولة، بما في ذلك معارضة الصلاة في المدارس، وهذا يجذب بعض الآباء المسلمين للحزب الديمقراطي، فهم لا يرغبون أن يشعر أبناؤهم بضغط أقرانهم لحضور الصلوات المسيحية. ومن ناحية أخرى: فإنّ الجمهوريين أقوى في دعم قيم العائلة التقليدية ومعارضة التحررية الجنسية، وهذا يجذب كثيراً من المسلمين (خاصة من المهاجرين الآسيويين) للحزب الجمهوري»[18].
وقد تأمّل مزروعي في المواقف الغربية والمسلمة من رواية (آيات شيطانية) لمؤلفها سلمان رشدي كمثالٍ آخر بارز على تناقض القيم الغربية والقيم الإسلامية، فبينما احتفى الغرب بالرواية باسم: «حرية التعبير والإبداع»، احتجّ عليها المسلمون – وبعنفٍ أحياناً – في بلاد الغرب وخارجها، فكانت هذه حالة مُثلى لحوار الطرشان بين المسلمين والغرب – من وجهة نظر مزروعي -، فبينما اندهش الغربُ من شدّة غضب المسلمين؛ استغرب المسلمون من عدم حساسية الغرب لمشاعر المسلمين[19]، فالدين هو أقدس ما لدى المسلمين، بينما الحرية السياسية هي أقدس ما لدى الغرب، لكنّ هذه الحادثة كانت أيضاً مثالاً على تخلّي الغرب عن قيمه حين يتعلق الأمر بالإسلام، فدفاع الغرب عن حرية التعبير واحتجاجه على حظر الرواية في كثيرٍ من البلاد المسلمة يتعارض مع ممارسة الغرب لحظر النشر حتى وقت قريب.
«اعتبر مفكرون غربيون أنّ رشدي فنانٌ له حقٌّ مقدّسٌ في أن يجنح بخياله في كتاباته حيث شاء، بل إنّ ذلك واجبٌ عليه، لكن رواية (عشيق السيدة تشاترلي) ظلّت حتى ستينيات القرن العشرين مرفوضة أخلاقيّاً ومحظورة وفق القانون البريطاني لتجرؤها على تصوير علاقة غرامية بين سيدةٍ نبيلةٍ متزوجة وأحد عمّالها في الضيعة»[20].
بل إنّ مزروعي نفسه عانى من حظر النشر في الغرب، وتحديداً في الولايات المتحدة، عندما وصف كارل ماركس وصفاً مجازيّاً، في سلسلته التلفزيونية: (الإفريقي) عام 1986م، بأنه: «آخر الأنبياء اليهود العظام».
ويتجلّى تخلّي الغرب عن مبادئه – من وجهة نظر مزروعي – في إصراره على تغريب العالم، فيرى مزروعي أنّ مجتمعات الغرب فشلت في الالتزام بأساطيرها الليبرالية التي تدعو إلى احترام التعددية والتنوع، فثقافات العالم تضعف– بل يموت بعضها عمليّاً– بفعل هيمنة ثقافة الغرب عليها[21]، ومن ثمّ وجد المسلمون ثقافاتهم ضحية للغرب، سواء في زمن الاستعمار أو في زمن العولمة الحالي، حيث يسعى الغرب لتنميط ثقافات العالم والهيمنة عليه.
«إنّ إحدى نتائج العولمة هي أننا بدأنا نتشابه بدرجةٍ أكبر بكثيرٍ من تشابهنا في أي زمنٍ مضى، بغضّ النظر عن المسافات، فالتنميط يعني زيادة التشابه، والصفة الثانية المصاحبة للعولمة هي: (الهيمنة) التي أعني بها ذلك التركيز العجيب للقوة في بلدٍ واحدٍ أو حضارة واحدة»[22].
وهكذا انتقل إلى البلاد المسلمة نموذج الدولة القومية الأوروبي، وتزايد استخدامها للغات والتقنية الأوروبية التي تحمل القيم الغربية، وحلّت نُظُم التعليم الغربية محلّ مدارس المسلمين التقليدية، وزاد تأثير وسائل الإعلام الغربية في نشر الأخبار والمعلومات والترفيه زيادة هائلة، وأصبح استعمال التقويم المسيحي وزيّ الرجال الغربي شائعاً جدّاً في العالم الإسلامي[23]!
ولا يستسلم المسلمون دائماً لقوى التغريب؛ بل يقاومونها أحياناً، فمثلاً: يرى مزورعي أنّ ميل المسلمين لزيادة الإنجاب يعبّر في جانبٍ منه عن رفضٍ للثقافة الغربية وتدخّل الغرب في حياة المسلمين الخاصة[24].
وبصفةٍ عامّة: يشجّع مزروعي المسلمين على مقاومة قوى التغريب، ووضع حدٍّ لقيام الغرب بتدمير التعددية والتنوع في الوقت الذي يتغنى بهما.
«تقع على أكتاف الإسلام مسؤولية ثقيلة باعتباره الثقافة التي تنتج متمردين على الهيمنة الغربية… إنه الطليعة في مواجهة الهيمنة الثقافية الغربية، فعندما نشتكي من المسلمين الأصوليين، علينا أن نتذكر أنّ هذا المصطلح يصف حالةً من التمرد ضدّ الانسحاق في ثقافة الأغلبية في العالم»[25].
لكن الغرب ليس مستعداً دائماً للاستماع إلى صرخات المسلمين في وجه استعماره الثقافي، تماماً كما لم يكن مستعداً للاستماع إلى صرخات الفقراء في وجه استعماره الاقتصاديّ، ولذلك ينفجر غضب المسلمين بعنفٍ أحياناً، وهذا أحد تفسيرات الثورة الإيرانية التي صدمت الغرب الأطرش[26].
ولم يكن استعمار الغرب للمسلمين ثقافيّاً فقط؛ بل سياسيّاً وعسكريّاً أيضاً، فوفقاً لمزروعي: وقع أكثر من ثلثي العالم الإسلامي في براثن «إمبراطورية الغرب الجماعية» رسميّاً في النصف الأول من القرن العشرين، ثم خضع معظم العالم الإسلامي لتلك الإمبراطورية بشكلٍ غير رسميٍّ في النصف الثاني من القرن نفسه[27]، ولم يتوقف عدوان الغرب العسكريّ على المسلمين خلال تلك الفترة، فكان الفلسطينيون واللبنانيون والليبيون والعراقيون من بين مئات الآلاف الذين قُتلوا على يد الغرب أو بإشارة منه، فعدد القتلى المسلمين بين حربَي السويس عام 1956م والخليج عام 1991م فاق بكثيرٍ عدد قتلى (حلف وارسو).
أما النظام العالمي الجديد الذي ظهر بعد حرب الخليج؛ فكان المسلمون أكبر ضحايا حملاته العسكرية[28]، ولا يبرئ مزروعي الغرب من الدم العربي الذي تسفكه إسرائيل، بل يعتبره مظهراً لعدوان الغرب غير المباشر على المسلمين، فبريطانيا هي التي قسّمت فلسطين وأنشأت دولة (إسرائيل)، وفرنسا كانت أول من ساعدها في برنامجها النووي،[29] أما الولايات المتحدة فلا تزال تمدّها بكلّ أشكال الدعم الاقتصاديّ والسياسيّ والعسكري.
ومنذ نهاية الحرب العالمية الثانية يستخدم الغرب الأمم المتحدة أداةً لإضفاء الشرعية على إمبراطوريته الجماعية غير الرسمية، وقد أوضح مزروعي مدى هيمنة الغرب على تلك المنظمة الدولية.
«فالأمم المتحدة – التي يُفترض أنها مؤسسة عالمية – تمثّل الدول والمناطق، لكنها لا تسعى لتمثيل الحضارات، فستة من أمنائها العاميين السبعة السابقين [قبل عام 1998م] ينتمون إلى تقاليد مسيحية رغم أنّ العالم المسيحي يضمّ خُمس سكان العالم فقط… وكان جميع مؤسسي الأمم المتحدة – وهم المنتصرون في الحرب العالمية الثانية – ينتمون إلى حضارةٍ ونصف، فبريطانيا والولايات المتحدة وفرنسا والشطر الأوروبي في الاتحاد السوفييتي ينتمون جميعاً للحضارة الغربية… وظهر في الأمم المتحدة نوعٌ من النظام التشريعي ذي المجلسين: فمجلس الأمن: هو الهيئة الأعلى الأكثر سلطة والأقلّ تمثيلاً، والجمعية العامّة: هي الهيئة الأدنى الأقلّ سلطة والأكثر تمثيلاً، وكان أصل هذا النظام الثنائي غربيّاً تماماً… وكانت إحدى أكبر وظائف الأمم المتحدة هي المساعدة في (حفظ السلام) وفقاً لمبادئ (القانون الدولي) الذي كان في حدّ ذاته وليد التاريخ الدبلوماسي الأوروبي والسياسة الأوروبية، وكان يُسمّى سابقاً: (قانون الأمم المسيحية)»[30].
وكما يقاوم المسلمون هيمنة الغرب الثقافية أحياناً، فإنهم يقاومون هيمنته السياسية والعسكرية أحياناً، وازدادت هذه المقاومة في النصف الثاني من القرن العشرين، ويضرب مزروعي عدة أمثلة على ذلك، فحربَا التحرير الجزائرية ضدّ الاستعمار الفرنسي (1954م – 1962م)، والأفغانية ضدّ الاحتلال السوفييتي (1979م – 1989م)، كانتا محاولةً من المسلمين للمشاركة في صناعة التاريخ، فالحرب الأولى ساهمت في تغيير النظام الدستوريّ في فرنسا، ومن ثمّ التاريخ الأوروبي، والحرب الثانية أدّت إلى انهيار الإمبراطورية السوفييتية، وبعدها الاتحاد السوفييتي نفسه، ومن ثمّ النظام العالمي[31]، وبعد استقلال دولهم ظهر المسلمون تدريجيّاً كحرّاس لأمن العالم الثالث، وقادته في المنظمات الدولية منذ السبعينيات[32]، وتحاول بعض دولهم استخدام الطاقة النووية؛ بما يؤثّر ليس فقط في أمن العالم النامي، بل توازن القوى بينه وبين الدول الصناعية في الشمال أيضاً[33].
ثالثاً: استفادة الغرب من الإسلام الصحيح، واستفادة المسلمين من الغرب:
برغم التوتر في بعض جوانب العلاقة بين المسلمين والغرب؛ يدعو مزروعي المجتمعات الغربية للاستفادة من تعاليم الإسلام في إصلاح بعض مفاسدها، وتطبيق قيمه التي قد تنقذها من أزماتها الأخلاقية والاجتماعية، فعلى سبيل المثال: تعاني تلك المجتمعات من الآثار المدمّرة لتغليب القيم الفردية على القيم الجماعية، فمن الصعب جدّاً أن تتدخل الحكومات في حرية الفرد حتى إن عرّضته أو عرّضت آخرين للخطر، وينعكس ذلك في تفاقم مشكلات إدمان الكحول وتعاطي المخدرات؛ بما يؤدي لانتشار الفوضى والاضطراب والخروج المتعمد على القوانين والأعراف الاجتماعية، وهنا يمكن أن يستفيد الغرب من دعوة الإسلام للتحكّم في النفس وضبط إشباع الشهوات[34].
وهذه الدعوة لا تخصّ الأفراد فقط؛ بل تستفيد منها الجماعات والدول أيضاً، فهي قادرةٌ على حماية الغرب من بعض ممارساته غير الأخلاقية، فيمكن لقيم الإسلام أن تساعد الغرب على كبح عنفه ووحشيته ضدّ الآخر، والتي تجلّت في الإبادة الجماعية والتطهير العرقي، فمبدأ التوحيد يحفظ المؤمنين به من الانحطاط لأسفل دركات الشرّ والفساد.
«فكثيراً ما يُنتقد المسلمون لأنهم لا يُنتجون الأفضل، لكنّهم نادراً ما يُشكرون على معايير السلوك التي تحميهم من ارتكاب الأسوأ، فلم يعرف المسلمون في الواقع ما يشبه معسكرات الإبادة الجماعية الممنهجة النازية، ولا فتوحات للبلدان بالتطهير العرقي على غرار ما فعل الأوروبيون في الأمريكتَين وأستراليا، ولا ما يُشبه الفصل العنصري الذي أقرته الكنيسة الهولندية الإصلاحية في جنوب إفريقيا، ولا عنصرية اليابان الدموية قبل نهاية الحرب العالمية الثانية، ولا حقول القتل في كمبوديا تحت حكم بولبوت، ولا ثقافة القتل العنصرية في ولايات الجنوب الأمريكية قديماً، ولا إرهاب ستالين باسم خطط السنوات الخمس، ولا يمكن أن يُلام الإسلام على أي من الحربين العالميتين الوحيدتين في التاريخ البشري»[35].
وفي المقابل: يدعو مزروعي المسلمين للاستفادة من خبرة الغرب السياسية، خصوصاً في مجال الحكم الديمقراطي، وهو يعرف الديمقراطية كنقيض للثيوقراطية، ويفسّر مزروعي صعوبة التحولات الديمقراطية في المجتمعات المسلمة بالمغزى السياسي لمبدَأي: (التوحيد، والأمّة)؛ كما فهمه المسلمون طوال تاريخهم، فقد فهم المسلمون المغزى السياسي لمبدأ (التوحيد) فَهْماً صارماً؛ بمعنى السعي الدائم لتوحيد صفّ المسلمين والابتعاد عن كلّ ما يشقّ ذلك الصف، كما فهموه بمعنى الربط التامّ بين الدين والدولة.
وفهم المسلمون مبدأ (الأمّة) بمعنى جميع المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، أي ما يزيد اليوم عن مليار نسمة، ويرى مزروعي أنّ على المسلمين إعادة النظر في فهمهم لهذَين المبدأَين والاستفادة من الغرب في ذلك، فمن جهة: تشير الخبرة التاريخية الإنجليزية مثلاً إلى إمكانية تحقّق التحول الديمقراطي عند تقوية النزعة الديمقراطية في المجتمع أولاً، ثم إضعاف النزعة الثيوقراطية في الدولة لاحقاً[36]، ومن جهة أخرى: يمكن أن تخضع حكومات الدول المسلمة لمحاسبة الأمّة إذا تحوّل هذا المفهوم إلى مفهومٍ محلي، بمعنى من لهم حقّ التصويت في الدوائر الانتخابية، بمن فيهم النساء بالطبع[37]، فكان مزروعي بذلك يمارس نوعاً من الاجتهاد، مقتدياً بمفكرين مسلمين أُعجب بدورهم التنويري في العصر الحديث، مثل: (جمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، ومحمد إقبال)[38]، وإذا لم يقتنع المسلمون بضرورة الاجتهاد الآن؛ فإنهم – كما يرى مزروعي – سيُجبرون على ذلك تحت ضغط الثورة الصناعية الثالثة وتكنولوجيا الشبكة العنكبوتية التي قد تفرز مذهباً جديداً في الفقه الإسلامي[39].
ولعلّ الحضور الإسلامي المتزايد في الغرب يساعد على استفادته من الإسلام، وعلى نقل خبرته للعالم الإسلامي، ويرى مزروعي أنّ الغرب تنبّه متأخراً إلى ازدياد ذلك الحضور، فقد لاحظ مزروعي في تسعينيات القرن الماضي أنّ الإسلام بات أسرع الأديان انتشاراً في أمريكا الشمالية، وتنبأ– وصدقت نبوءته– بأنّ عدد المسلمين في الولايات المتحدة سيزيد على عدد اليهود فيها، كما أصبح الإسلام ثاني أكبر الأديان في فرنسا بعد المسيحية الكاثوليكية، وبدأ مسلمو بريطانيا يطالبون الحكومة بدعم مدارسهم الدينية، وتنبّه الألمان إلى أن تشجيع العمال الأتراك على الهجرة إلى بلادهم في السبعينيات كان أيضاً دعوة لإقامة المساجد ورفع الأذان في المدن الألمانية، واكتشفت أستراليا أنها تجاور أكبر بلد في العالم من حيث عدد المسلمين[40].
ولعلّ المسلمين في الغرب يشاركون في تعريف مجتمعاتهم بقيم الإسلام، فهُم أقرب من غيرهم لواقعها وأدرى بشعابها، خصوصاً أنّ شهية كثيرٍ من أبناء هذه المجتمعات لمعرفة الإسلام تزيد ولا تقلّ مع كثرة الإساءات المنسوبة إليه، ويستطيع المسلمون بناء جسورٍ مع المؤسسات الأهلية في الغرب، ليس فقط للتحاور معها حول القيم الحضارية، وإنما لتقديم حلول عملية لمشكلات المجتمعات الغربية أيضاً، وهذا النوع من الحوار بين أطراف المجتمع المدني أجدى بكثيرٍ من الحوارات الرسمية التي تغلب الاعتبارات السياسية والدبلوماسية.
رحم الله علي مزروعي، وأعان المسلمين على إكمال مشواره الفكري والعملي.
…………………………
* أستاذ مشارك / جامعة زايد بدولة الإمارات العربية المتحدة – دكتوراه العلوم السياسية / جامعة إلينوي بالولايات المتحدة الأمريكية.
[1] الدكتور علي مزروعي وافته المنية قبل أشهر، وقد خصّصت مجلة (قراءات إفريقية) صفحات للتعريف به في عدد سابق.
[2] لمزيد من التفاصيل عن إسهامات علي مزروعي الواردة في هذا المقال انظر:
Ahmed Ali Salem, “The Islamic Heritage of Mazruiana,” in: ParvizMorewedge (ed.), The Scholar between Thought and Experience: A Bibliographical Festschrift in Honor of Ali Mazrui (Binghamton, NY: Institute of Global Cultural Studies, 2001) pp.63-101.
وهذا الفصل هو المصدر الأساسي للمعلومات في هذا المقال.
[3] Ali A. Mazrui, “Religion and Political Culture in Africa”, Journal of the American Academy of Religion, vol. 53, no. 3, p.830.
[4] Abdul Samed Bemath, The Mazruiana Collection: A Comprehensive Annotated Bibliography of the Published Works of Ali A. Mazrui, 1962-1997 (New Delhi: Sterling Publishers Private Limited, 1998) p.99.
[5] Ali A. Mazrui, “Islam and Islamophobia: Conflicting Images in a Eurocentric World”, in:Masudul A. Choudhury, Abdad M. Z. and Muhammad S. Salleh (eds.), Islamic Political Economy in Capitalistic-globalization: an agenda for change (Kula Lumpur: Utusan Publications and Penang: International Project on Islamic Political Economy, UniversitiSains Malaysia, 1997) p 92.
[6] Ibid, pp 92-95; Ali A. Mazrui, “Islam and the End of History”, American Journal of Islamic and Social Sciences, vol. 10, no. 4, winter 1993, pp 513-514.
[7] Ali A. Mazrui, “Islam and Islamophobia”, op. cit., pp 92-93.
[8] Ibid, pp 94-98; Ali A. Mazrui, “Muhammad, Marx and Market Forces”, in: Ali A. Mazrui, Cultural Forces in World Politics (London: James Currey; Portsmouth, NH: Heinemann; Nairobi, Kenya: Heinemann, 1990) pp 73-76.
[9] Ali A. Mazrui, “Muhammad, Marx and Market Forces”, op. cit, pp 75-77; Ali A. Mazrui, “Islam and Islamophobia”, op. cit., pp 96-97.
[10] Ali A. Mazrui, “Islam and Islamophobia”, op. cit., pp 97-98.
[11] Ali A. Mazrui, “Muhammad, Marx and the Market Forces”, op. cit., pp 78-79.
[12] Ibid, pp 67-69; Ali A. Mazrui, “Islam and Islamophobia”, op. cit., pp 96-97.
[13] Ali A. Mazrui, “Muhammad, Marx and Market Forces”, op. cit., pp 76-77, p 81.
[14] Ibid, p 68.
[15] Ali A. Mazrui, “Hegemony: From Semites to Anglo-Saxons”, in:Ali A. Mazrui, Cultural Forces in World Politics, op. cit. An early version was published in: Alternatives, vol. 11, no. 1, January 1986.
[16] Ali A. Mazrui, “Islamic and Western Values”, Foreign Affairs, vol. 76, no. 5, September-October 1997, p 120.
[17] Ali A. Mazrui, “Christian Power and Muslim Challenge in Africa’s Experience”, Indian Journal of Politics, vol. 12, no. 3, December 1978, p 145.
[18] Ali A. Mazrui, “Between the Crescent and the Star-Spangled Banner: American Muslims and US Foreign Policy”, International Affairs (London), vol. 72, no. 3, July 1996, p 498; Ali A. Mazrui, “Islam in a More Conservative Western World”, American Journal of Islamic and Social Sciences, vol. 13, no. 2, summer 1996, pp 246-247.
[19] Ali A. Mazrui, “Cultural Treason and Comparative Censorship: The Satanic Verses”, in: Ali A. Mazrui, Cultural Forces and World Politics, op. cit., p 83.
[20] Ali A. Mazrui, “Islamic and Western Values”, op. cit., p 123.
[21] Ibid, p 120; Ali A. Mazrui, “The World of Islam: A Political Overview”, Journal Institute of Muslim Minority Affairs, vol. 3, no. 2, July 1990, p 219.
[22] Ali A. Mazrui, Cultural Forces and World Politics, op. cit., pp 2-3.
[23] Ibid, pp 3-4; Ali A. Mazrui, “The Imperial Culture of North-South Relations”, in: Ali A. Mazrui, QadayahFikriyyah: Afriqyawal-Islam wal-Gharb [in Arabic], translated by SubhiQunsuwa and others (Cairo: the Center of African Future Studies, 1998) pp 84-86.
[24] Ali A. Mazrui, “Islamic Doctrine and the Politics of Induced Fertility Change: An African Perspective”, in: Jason L. Finkle and C. Alison McIntosh, The New Politics of Population: Conflict and Consensus in Family Planning (New York: The Population Council, 1994) pp 125-126.
[25] Ali A. Mazrui, “The World of Islam: A Political Overview”, op. cit., pp 224-225.
[26] Ali A. Mazrui, “America and the Third World: A Dialogue of the Deaf”, in: Ali A. Mazrui, Cultural Forces in World Politics, op. cit., pp 116, 126-128.
[27] Ali A. Mazrui, “The Imperial Culture of North-South Relation”, op. cit., p 55.
[28] Ali A. Mazrui, “Global Aratheid? Race and Religion in the New World Order”, in: T. Y. and J. S. Ismael (eds.), The Gulf War and the New World Order: International Relations of the Middle East (Gainesville, FL: University Press of Florida, 1994) p 531.
[29] Ali A. Mazrui, “The Nuclear Option and International Justice: Islamic Perspectives”, in: Nimat H. Barazangi, M. RaquibuzZaman and Omar Afzal (eds.), Islamic Identity and the Struggle for Justice (Gainesville, FL: University Press of Florida, 1996) pp 95-99.
[30] Ali A. Mazrui, “Globalization, Islam, and the West”, op. cit., pp 7-8.
[31] Ali A. Mazrui, Islam and the End of History, op. cit., pp 527-531.
[32] Ali A. Mazrui, “Changing the Guards from Hindu to Muslims”, in: Ali A. Mazrui, Cultural Forces in World Politics. An early version was published in: International Affairs (London), vol. 57, no. 1, winter 1980-81.
[33] Ali A. Mazrui, “The Nuclear Option and International Justice”, op. cit.
[34] Ali A. Mazrui, “Islam and the End of History”, op. cit., p 533.
[35] Ali A. Mazrui, Islam, Western Democracy and the Third Industrial Revolution: Conflict or Convergence (Abu Dhabi, UAE: The Emirates Center for Strategic Studies and Research, Emirates Lecture no. 17, 1998) pp 8-9.
[36] Ibid, pp23-25, 35-36.
[37] Ali A. Mazrui, Islam and the End of History, op. cit, p 531.
[38] Ibid, pp 516-518.
[39] Ali A. Mazrui, Islam , Western Democracy and the Third Industrial Revolution, op. cit., p 17.
[40] Ali A. Mazrui, “North American Muslims: Rising to the Challenge of a Dual Identity”, Islamic Studies (Pakistan), vol. 3, no. 4, winter 1995, p 451.