تمهيد:
إن استكشاف الفضاء خطوة مهمة تأخرت عنها كثيرًا بلدان إفريقيا جنوب الصحراء. وترجع أهمية بحوث وأعمال استكشاف الفضاء إلى فهم ما يحدث حول العالم، ومراقبة التغيرات المناخية، وإدارة الكوارث البيئية، وتعزيز التنمية المستدامة، ومكافحة الإرهاب، وغيرها من القضايا المُلِحَّة.
والتقليل من أهمية بحوث وأعمال استكشاف الفضاء يؤدي إلى تدهور الدول التي تتأخَّر عن ذلك السباق. وفي المقابل فإن امتلاك برنامج فضائي قويّ يمنح الدولة قوة ناعمة، وهو ما لا ينطبق على الدول المتخلفة عن السباق الفضائي في إفريقيا. ويخشى الخبراء وقادة الفكر من أن تؤدي هذه الحالة غير المتكافئة إلى ما يسمى بـ”استعمار الفضاء”.
كما أن الاتصالات الحديثة تعتمد على تكنولوجيا الأقمار الصناعية، وبالتالي فإن البلدان التي ليس لديها أقمار ستظل دائمًا في تبعية للدول الكبرى، وكأنها لم تتعلم من دروس الماضي الكولونيالي، ولم تتذوق مرارة الحاضر الإمبريالي.
إن أولويات توجيه الإنفاق إلى التحديات التي تعانيها القارة والمعروفة لدى الجميع، لا يمكن أن تكون عذرًا للتخلف عن الاستثمار في برامج الفضاء، التي من المؤكد أنها سوف تساعد في التخفيف من وطأة تلك الأزمات. وهو ما سوف نتعرَّف عليه من خلال المحاور التالية:
- المحور الأول: إستراتيجية الفضاء الإفريقية: النشأة والهدف.
- المحور الثاني: حجم اقتصاد الفضاء الإفريقي.
- المحور الثالث: صناعة الفضاء في إفريقيا: المكاسب المتحققة.
- المحور الرابع: التحديات وآفاق المستقبل.
- خاتمة.
المحور الأول:
إستراتيجية الفضاء الإفريقية: النشأة والهدف
خلال الدورة العادية للاتحاد الإفريقي في 31 يناير 2016م في أديس أبابا، اعتمد رؤساء دول وحكومات الاتحاد الإفريقي سياسة وإستراتيجية الفضاء الإفريقية كخطوة أولى نحو الاستخدام المتكامل والمزدهر والسلمي للفضاء الخارجي.
وفي عام 2017م، وافق الاتحاد الإفريقي على قرار تدشين وكالة الفضاء الإفريقية African Space Agency (AfSA)، مما مهَّد الطريق لإنشائها. وفي عام 2018م، اجتمعت لجنة الممثلين الدائمين للاتحاد الإفريقي لمناقشة الآثار الهيكلية والمالية للوكالة، وآليات التمويل اللازمة لتسهيل مهمة الوكالة وأهدافها. وفي 25 يناير 2023م، افتتحت مفوضية الاتحاد الإفريقي رسميًّا وكالة الفضاء الإفريقية؛ إيذانًا ببدء عملها([1]).
وقد استهدف إنشاء الوكالة -وفقًا للمادة (4) من نظامها الأساسي-: تعزيز وتنسيق سياسة وإستراتيجية الفضاء الإفريقية، والاضطلاع بالأنشطة الفضائية من خلال استغلال تكنولوجيات الفضاء وتطبيقاتها لأغراض التنمية المستدامة، وتحسين رفاهية المواطنين من خلال([2]):
- تسخير الفوائد المحتملة لعلوم وتكنولوجيا الفضاء والابتكار وتطبيقاتها في معالجة الفرص والتحديات الاجتماعية والاقتصادية في إفريقيا.
- تعزيز البعثات الفضائية في القارة؛ لضمان الوصول الأمثل إلى البيانات والمعلومات والخدمات والمنتجات المستمَدَّة من الفضاء.
- تطوير سوق وصناعة فضاء محلية مستدامة وحيوية تُعزّز وتستجيب لاحتياجات القارة.
- اعتماد الإدارة الرشيدة للمؤسسات وأفضل الممارسات لتنسيق إدارة الأنشطة الفضائية القارية.
- تعظيم فوائد الأنشطة الفضائية الحالية وتلك التي يجري التخطيط لها.
ويعقد الاتحاد الإفريقي حوارات سنوية بشأن الفضاء مع الجهات الفاعلة الإفريقية، وفي هذا الإطار، تم إصدار وثيقتين: مجالات التنفيذ ذات الأولوية من جانب برنامج الفضاء الخارجي الإفريقي؛ ودراسة عن الآثار الهيكلية والمالية لوكالة الفضاء الإفريقية. وتم إجراء اثنتين من الدراسات الأساسية الأربع لتطوير البرامج والمهام التشغيلية؛ وهي: دراسة شاملة عن القطاع الخاص الإفريقي في مجال رصد الأرض، والتكنولوجيات الجغرافية المكانية، والتقنيات المرتبطة بها؛ ودراسة تحليل الفجوات في الملاحة وتحديد المواقع في إفريقيا. وتم تعزيز النظام الإفريقي لرصد الأرض لتحسين إدارة البيئة([3]).
ومن المفترض أن يعكس هذا النهج السعي نحو تحقيق أهداف التنمية المستدامة المنصوص عليها في: المادة (3) من كتيب الاتحاد الإفريقي، والطموح رقم (7) في أجندة 2063، وإستراتيجية التحول الرقمي (2020-2030م) التي تؤكد العلاقة التكافلية بين الصناعة الرقمية وصناعة الفضاء. ويتطلب تطوير القدرات الفضائية دعمًا من برامج بناء القدرات مع الدول المعنية من أجل سد الفجوة المعرفية والتكنولوجية. وقد تم عقد سلسلة من اللقاءات والشراكات الدولية في عام 2023م. ومن الأمثلة على ذلك: آلية البريكس للتعاون في البحث العلمي، والتعاون مع أذربيجان والصين لزيادة أنظمة الأقمار الصناعية ومرافق التصنيع والتجميع والاختبار. والحوار الفضائي بين الاتحادين الإفريقي والأوروبي. والتعاون مع الولايات المتحدة من خلال المائدة المستديرة للشراكة الفضائية، والتي كانت مقدّمة لمنتدى الفضاء الأمريكي الإفريقي الذي استضافته واشنطن العاصمة في ديسمبر 2022م. أو في المؤتمر الدولي للملاحة الفضائية 2023م الذي استضافته باكو، أذربيجان([4]).
المحور الثاني:
حجم اقتصاد الفضاء الإفريقي
نما اقتصاد الفضاء العالمي بنسبة 9٪ في عام 2021م ليصل إلى 447 مليار دولار، وهو أسرع نمو منذ عام 2014م، ومن المتوقع أن ينمو إلى 634 مليار بحلول عام 2026م. وتمثل المشاريع التجارية أكثر من ثلاثة أرباع سوقه، مع تنفيذ الكثير منها من قبل شركات الفضاء في القطاع الخاص([5]).
بينما بلغت قيمة اقتصاد الفضاء الإفريقي 19.49 مليار دولار في عام 2021م، ومن المتوقع أن ينمو بنسبة 16.16٪ ليصل إلى 22.64 مليار دولار بحلول عام 2026م؛ حيث يوجد حاليًّا أكثر من 270 شركة فضاء في إفريقيا تعمل على تطوير وتقديم تقنيات وخدمات الفضاء، والعديد منها شركات ناشئة، ويعمل في هذا القطاع ما يقرب من 19 ألف شخص([6]). بعدما كان 8500 شخص يعملون في هذا القطاع عام 2019م([7]).
وتواصل تلك الشركات تطوير تقنيات الفضاء، وتقديم الخدمات الفضائية لتلبية متطلبات السوق في مختلف القطاعات، بما في ذلك الاتصالات والدفاع والأمن والبحرية والطيران والتعدين والزراعة والبيئة، إضافةً إلى التنمية والتعليم والصحة([8]).
ولكن لا تزال صناعة الفضاء الإفريقية في مهدها؛ حيث لم يتم إنشاء معظم وكالات الفضاء في القارة إلا خلال العشرين عامًا الماضية. ولم يتم افتتاح وكالة الفضاء الإفريقية إلا في يناير 2023م. وعلى الرغم من النمو المتوقع بحوالي 17% سنويًّا على المدى القصير، إلا أن طموحات القارة الفضائية لا تزال مقيدة بسبب نقص التمويل؛ حيث بلغ إجماليه 535 مليون دولار فقط في عام 2022م، بزيادة 2% فقط عن 2021م. كما تظل طبيعة مشاريع الفضاء الإفريقية بدائية نسبيًّا، وتركز في الأساس على نشر الأقمار الصناعية، وعلم الفلك، والرصد البيئي، والاتصالات، والإذاعة والتلفزيون([9]).
وقد كان أول قمر صناعي في إفريقيا هو (نايل سات 101) المملوك لمصر، في أبريل 1998م، وتبعته جنوب إفريقيا بإطلاق (صن سات 1) عام 1999م. وأطلقت إثيوبيا أول قمر صناعي في عام 2019م، للاستشعار عن بُعْد في عمليات المراقبة الزراعية والمناخية والتعدينية والبيئية. ويوجد الآن أكثر من 20 دولة إفريقية أنشأت برامج فضائية وطنية تتراوح ولاياتها بين المراصد الفضائية والاتصالات وإطلاق الصواريخ. وتم إطلاق أكثر من 50 قمرًا صناعيًّا إفريقيًّا خلال السنوات العشر الماضية. وتمتلك جنوب إفريقيا ومصر أكثر من نصفها؛ 12 و11 على التوالي. وتشمل الدول الأخرى الجزائر (7)، ونيجيريا (6)، والمغرب (3)، ولكل من غانا والسودان وإثيوبيا وأنغولا وكينيا ورواندا وزيمبابوي وأوغندا وموريشيوس أقمار صناعية خاصة بها. تسعة منها فقط تم تصميمها وتصنيعها وتجميعها في إفريقيا بقيادة دول إفريقية، والقسم الأكبر منها عبارة عن أقمار صناعية صغيرة في حجم مكعب روبيك تقريبًا، ولا يتجاوز عمرها الافتراضي عامين فقط. ولم يتم إطلاق أيّ منها مِن قِبَل أو في بلد إفريقي، ولكن تم إرسالها للفضاء عن طريق معدات إطلاق بلاد أجنبية([10]).
ويمكننا أن نضيف إلى ذلك ثلاثة مشاريع متعددة الأطراف لأقمار الاتصالات الفضائية. تم إطلاق اثنين منها، وهي أول أقمار صناعية إفريقية للاتصالات تغطي القارة بأكملها. وفيما يتعلق بقدرات تطوير الأقمار الصناعية، تعمل كل من نيجيريا وجنوب إفريقيا ومصر على تطوير البنية التحتية لتجميع وتكامل واختبار الأقمار الصناعية. وافتتحت الجزائر منذ ثماني سنوات مركز لتصميم الأقمار الصناعية([11]).
ومِن ثَم أطلقت الدول الأعضاء الإفريقية 20 قمرًا صناعيًّا منذ عام 2016م، وهو ما يصل إلى 48 قمرًا صناعيًّا حاليًّا في إفريقيا. بالإضافة إلى ذلك، هناك 125 قمرًا صناعيًّا قيد التطوير حاليًّا مِن قِبَل 23 دولة إفريقية، قبل عام 2025م([12]).
وبموجب التقرير السنوي لصناعة الفضاء الإفريقية، لعام 2023م؛ أظهر اقتصاد الفضاء الإفريقي نموًّا ملحوظًا في عام 2022م، بينما تشهد الميزانية القارية لعام 2023م تخفيضًا كبيرًا. ففي عام 2023م، خصصت البلدان الإفريقية 425.01 مليون دولار لتمويل الأنشطة الفضائية، وهو ما يُمثّل انخفاضًا بنسبة 14.96% و18.77% مقارنةً بنحو 499.76 مليون دولار في عام 2022م و523.3 مليون دولار في عام 2021م. واعتبارًا من يونيو 2023م، استثمرت 15 دولة إفريقية (بما في ذلك ثلاثة أقمار صناعية متعددة الأطراف) أكثر من 4.71 مليار دولار في 58 مشروعًا للأقمار الصناعية.
ومن المتوقع إطلاق 105 أقمار صناعية إضافية بحلول عام 2026م. وتقوم 318 شركة من شركات New Space برسم مسار العمل في مجال الفضاء في القارة. وتشارك هذه الشركات في التقنيات الناشئة مثل الذكاء الاصطناعي/ التعلم الآلي، والروبوتات، وتحليلات البيانات الضخمة، ومجموعات الأقمار الصناعية الصغيرة، ودفع المركبات الفضائية.
وتتوسع الأصول الفضائية والبنية التحتية في إفريقيا بشكل كبير، بما في ذلك مرافق الإطلاق، والمحطات الأرضية، والنقل الآني، والبنية التحتية لعلم الفلك. وتستضيف القارة حاليًّا 355 محطة أرضية، و60 تلسكوبًا، و22 قبة فلكية، وأكثر من 11 مرصدًا مشهورًا. ومن بين 11 منشأة إطلاق إفريقية، هناك ثلاثة فقط عاملة حاليًّا، وثلاثة مقترحة، وخمسة غير نشطة.
وبين عامي 2000 و2023م، انخرطت الدول الإفريقية في أكثر من 166 اتفاقية فضائية ثنائية تضم أكثر من 100 مؤسسة من 32 دولة حول العالم، 90٪ منها مع غير الأفارقة. وقد تم التوقيع على 89 من هذه الاتفاقيات خلال السنوات الثلاث الماضية؛ حيث توفر إفريقيا مشهدًا استثماريًّا واعدًا؛ حيث يوجد أكثر من 45 مشروعًا للبحث والتطوير الجاري في 10 دول إفريقية. مع تزايد أهمية تكنولوجيات الفضاء لتحقيق التنمية المستدامة في إفريقيا؛ يقوم المزيد من البلدان بإنشاء أو تعزيز برامجها الفضائية لتحقيق فوائد تكنولوجيات الفضاء في أهدافها الوطنية([13]).
المحور الثالث
صناعة الفضاء في إفريقيا: المكاسب المتحققة
يمكن أن يكون للفضاء دور في سد فجوة الفقر، من خلال التركيز على الإمكانات التحويلية للمبادرات الفضائية في معالجة التفاوتات الاجتماعية والاقتصادية في جميع أنحاء إفريقيا، بما في ذلك الاتصالات عبر الأقمار الصناعية، والاتصالات عن بُعْد، والاستشعار والبيانات الجغرافية المكانية، لإحداث ثورة في مختلف القطاعات، مثل الزراعة والرعاية الصحية وتغيُّر المناخ والأمن وتطوير البنية التحتية([14])، وكذلك التنبؤ والاستجابة للمجاعات والكوارث الطبيعية.
وقد أكَّدت الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية منذ فترة طويلة أن تكنولوجيا الأقمار الصناعية يمكن أن تساعد في ذلك. ففي عام 2000م، تعاونت وكالة ناسا مع وكالة المسح الجيولوجي الأمريكية أيضًا لإنشاء آليات أكثر فعالية لتخطيط الاستجابة من خلال شبكة نظام الإنذار المبكر بالمجاعة. وكذلك للتنبؤ بالفيضانات والانهيارات الأرضية والحرائق وغيرها. وفي عام 2017م، تمكنت الشبكة من تقديم نداء ذي مصداقية للحصول على مساعدات غذائية في الصومال، مما أدى إلى خفض الوفيات الناجمة عن المجاعة. وكذلك مساعدة نظام الإنذار المبكر في خفض معدلات الوفيات في كينيا؛ حيث بلغ عدد الكينيين “الذين يعانون من الجوع الشديد” 1.75 مليون في عام 2017م، مقابل 2.8 مليون في عام 2011م([15]).
وعلى الرغم من الشكوك التي تُحيط بمشاريع الفضاء الإفريقية، واحتمالات تفشي الفساد، وأولويات التعامل مع القضايا الأكثر إلحاحًا، غير أن البلدان الإفريقية استخدمت الأقمار الصناعية للحصول على رؤية أفضل للمشاكل القارية، بدءًا من تغيُّر المناخ إلى الإرهاب، ومعالجة الأسباب الجذرية للصراع. ففي عام 2014م، ساعد قمران صناعيان نيجيريان على تتبع تحركات بوكو حرام في الجزء الشمالي الشرقي من البلاد.
وأطلقت غانا أول قمر لها عام 2017م لمراقبة بيئاتها الساحلية، واستخدمت برنامج SAT4Farming لمساعدة الآلاف من مزارعي الكاكاو الصغار على التنقل في الظروف المناخية الصعبة باستخدام صور الأقمار الصناعية.
وأطلقت موريشيوس، القمر الصناعي MIRSAT1 للمساعدة في إدارة الأرصدة السمكية في منطقتها الاقتصادية الخالصة (EEZ). وبدأت بلدان من جيبوتي إلى ناميبيا في تطوير برامجها الفضائية، كما قام الكينيون بتحليل جدوى بناء أول ميناء فضائي في إفريقيا، وهناك العديد من العلامات المتفائلة بشأن صناعة الفضاء سريعة النمو في إفريقيا؛ حيث تسعى المزيد من البلدان إلى ملكية أكبر لأصولها وفرص التنمية لديها. وحتى حلم نكولوسو([16]) قد لا يكون بعيدًا جدًّا الآن؛ حيث كانت تخطط زامبيا لإطلاق أول قمر صناعي لها في عام 2023م. وتعمل الشركات الناشئة في مجال الفضاء، مثل شركة أستروفيكا في جنوب إفريقيا، على توسيع نطاق جمع البيانات عبر الأقمار الصناعية، وتسريع عملية جمع البيانات الزراعية الحيوية من خلال إنهاء الاعتماد على مقدمي الخدمات الدوليين. ويمكن للأقمار الصناعية أيضًا ربط المزيد من الأفارقة بالشبكة العالمية -حيث إن خمسي القارة فقط لديهم إمكانية الوصول إلى الإنترنت-، ومِن ثَم تعزيز القدرة على الوصول إلى التعليم والتوظيف والخدمات الأساسية، وغير ذلك([17]).
ومن الإنجازات الأخرى ظهور شركة Newspace، التي تموّل شركات جديدة وتبتعد عن الهيمنة السابقة لـ “نادي الأولاد الكبار”([18]).
ومنذ اختيار مصر مقرًّا رئيسيًّا له في عام 2019م، واجه المشروع تأخيرات بسبب عدم وجود فوائد مباشرة فورية تتوقعها الدول الأعضاء. ومع ذلك، فإن البرامج التعاونية الأخرى المعتمدة على الأقمار الصناعية، مثل برنامج الأرض الرقمية لإفريقيا، تَعِد بعوائد محتملة تبلغ 2.3 مليار دولار سنويًّا من خلال زيادة الإنتاجية الزراعية، وتوفير إمدادات المبيدات الحشرية، ومنع تعدين الذهب غير القانوني. وتوفر صناعة الفضاء منصة للحكومات الإفريقية لمناقشة حلول القضايا المشتركة، مما قد يؤدي إلى علاقات تجارية ودبلوماسية مربحة. من الآن وحتى عام 2025م، ومن المقرر أن تطلق الدول الإفريقية أكثر من 100 قمر صناعي جديد، مع دخول العديد من اللاعبين الجدد([19]).
وقد بدأت برامج الفضاء الإفريقية تلفت الأنظار؛ حيث أسهمت في نجاح مختلف البعثات خارج القارة من خلال شراكات إستراتيجية مع برامج الفضاء الأجنبية. على سبيل المثال: جاءت الصور الأولى من المريخ عبر قمر صناعي في جنوب إفريقيا، وكان القمر النيجري (نيجيريا سات 1) أول من التقط صورًا للأحداث المروعة التي خلفها إعصار كاترينا 2005م، وغيرها([20]).
المحور الرابع
التحديات وآفاق المستقبل
على الرغم من حصيلة المنافع التي حققتها صناعة الفضاء في إفريقيا؛ إلا أنه لم يتم بعد الاعتراف بقطاع الفضاء الإفريقي بشكل كامل كلاعب مُهمّ في مجتمع الفضاء العالمي. ويرجع ذلك إلى تعرُّض الصناعة للعقبات التي تتجلى في الافتقار إلى الإرادة السياسية، والاختناقات التنظيمية، وعدم كفاية مخصصات الميزانية، وندرة رأس المال البشري وضعف التعليم. فبالمقارنة مع معظم البلدان المتوسطة الدخل، فإن البلدان الإفريقية لديها ميزانيات قليلة لتحفيز استغلال الفضاء. وخير مثال على ذلك هو ميزانية الفضاء في جنوب إفريقيا لعام 2020م والتي تبلغ 168 مليون دولار (والتي كانت الأعلى في إفريقيا لعام 2020م)، مقابل ميزانية الهند البالغة 1.89 مليار دولار. وهو ضعف مُخصَّصات برامج الفضاء الإفريقية مجتمعة (534.9 مليون دولار) عام 2022م. وقد أدت فجوة التمويل هذه إلى عرقلة جودة البحث الأكاديمي والتكنولوجي.
وكذلك تمتلك القارة أقل عدد من المتخصصين في مجالات العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات، مما يجعل من الصعب تنشيط مجالاتها التكنولوجية. وقد هاجر أكثر من 70 ألف من المهنيين الأفارقة المهرة، بما في ذلك العاملون في التخصصات المرتبطة بالفضاء، مما أدى إلى استنزاف قدرة إفريقيا في مجالات الفضاء([21]).
بالإضافة إلى ذلك، لا تزال المساعدة الدولية للمشروعات المتعلقة بالفضاء في البلدان النامية متواضعة، وفقًا لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية. وقد جرى تخصيص 607 ملايين دولار فقط للمساعدة الإنمائية الرسمية لمشروعات الفضاء بين عامي 2000 و2016م، مقارنةً بالالتزام بمبلغ 188 مليار دولار في عام 2016م وحده. وهذا يعادل أقل من 0.1% من الإجمالي كل عام. ومن العوائق الأخرى: افتقار بلدان القارة إلى القدرة والخبرة اللازمتين لتقديم معلومات حول أدوار الأقمار الاصطناعية، أو دعم المستخدمين بالموارد المحلية، وفقًا لتقرير صادر عن اللجنة المعنية بتسخير العلم والتكنولوجيا لأغراض التنمية التابعة للأمم المتحدة. وذكر التقرير أنه “في البلدان النامية، خسارة خبير واحد يمكن أن تُعرِّض جهود الوكالات الحكومية للخطر”([22]).
وعلى الرغم من أن إفريقيا أطلقت 41 قمرًا صناعيًّا في العقدين الماضيين، مع خطط لإطلاق المزيد، فإنها لا تزال غير قادرة على إطلاق رحلة فضائية مأهولة. وإن نقص الخبراء الأفارقة في الفضاء يعني أن برامج الفضاء في إفريقيا غير قادرة على المشاركة في الأبحاث الرئيسية في مختلف المجالات، وكذلك لا تمتلك العديد من الدول الإفريقية نظام إطلاق المركبات والأقمار الصناعية، وتعتمد على الصواريخ الأجنبية لإطلاق الأقمار الصناعية إلى الفضاء. ويلقي الكثير من الناس اللوم في قضية افتقار إفريقيا إلى وجود بشري في الفضاء على تخلّف برامج الفضاء المختلفة في إفريقيا، والفساد، ونقص المهنيين المدربين([23]).
إن مشاركة البلدان الإفريقية في مجال تكنولوجيا الفضاء غالبًا ما تتعرَّض للانتقاد. على سبيل المثال، أشعلت مشاركة زيمبابوي في برنامج عبر الأقمار الصناعية حربًا على موقع تويتر؛ حيث زعم البعض أن الطرق والمستشفيات والمدارس تُشكّل استثمارات أكثر أهمية. ومع ذلك، على المدى الطويل، يمكن لتطوير صناعة الفضاء أن يجلب الإيرادات لبناء هذه الطرق، ويوقف هجرة الأدمغة([24]).
وعلى الرغم من التحديات السابق ذِكْرها إلا أن صناعة الفضاء في إفريقيا تتمتع بمزايا يمكن أن ترسم مستقبل الصناعة وتجذب مستثمرين جدد؛ حيث إن الكتلة الأرضية الكبيرة والمفتوحة والمسطحة التي تمتد على طول المناطق الاستوائية تجعل من إفريقيا موقعًا مثاليًّا لإطلاق الصواريخ إلى الفضاء؛ وذلك لأن تأثير “المقلاع” لجاذبية الأرض يكون أقوى عندما تكون أقرب إلى خط الاستواء؛ مما يقلل من كمية الوقود المطلوبة.
كما أن القارة الأقل تحضرًا نسبيًّا تعاني أيضًا تلوثًا ضوئيًّا أقل، مما يجعلها مثالية لمراقبة الفضاء. ورغم أن الميزانيات لا تزال متواضعة، فإن الخطط جارية على قدم وساق لتسريع برامج الفضاء المحلية. وهناك ثلاث دول على وجه الخصوص، نيجيريا وجيبوتي وجنوب إفريقيا، لديها طموحات كبيرة لدفع إفريقيا إلى حدود متقدمة في هذا المجال([25]).
إلا أن هناك حاجة إلى إطار تعاوني يستوعب جميع أصحاب المصلحة ذوي الأدوار والمسؤوليات المحددة، وبما يشمل الأوساط الأكاديمية والصناعة والحكومة، وصياغة وإيصال رؤية مشتركة. على الرغم من وجود سياسة الفضاء الإفريقية منذ بعض الوقت؛ إلا أنها ليست الأداة الوحيدة لبناء القدرات. وقد أسهمت العديد من المبادرات الحالية، مثل مشروع مصفوفة الكيلومتر المربع الذي تنسقه جنوب إفريقيا، بشكل كبير في بناء القدرات في جميع أنحاء القارة([26]).
خاتمة:
إن تزايد عدد سكان إفريقيا وطموحاتها، إلى جانب إمكانات السوق غير المستغلة، وميزات الموقع الجغرافي يُمثّل فرصة غير مسبوقة لاختبار حدود ما يمكن أن يُحقّقه الفضاء من أجل الصالح العام، من خلال الابتكار التجاري والحوكمة الاستباقية والتعاونية.
وللاستفادة من ذلك لا بد من توافر عدة شروط؛ منها أن دور الدولة في أيّ برنامج فضائي إفريقي يجب أن يظل مقتصرًا على دور المُيسِّر، وتطوير بيئة تمكينية لسياسات الفضاء للقطاع الخاص والحفاظ على القدرة الإشرافية. وبغضّ النظر عن الفوائد الاقتصادية، فإن أنشطة وتكنولوجيا الفضاء النهائية تحمل فوائد عالمية حقيقية لإفريقيا، من حيث تحسين الأمن الإقليمي، ونمو الزراعة، وحماية الموارد البحرية ومراقبتها، فضلاً عن تطوير المعرفة بتغيُّر المناخ.
ولتحقيق الاستفادة الحقيقية يتعين على البلدان الإفريقية أن تستفيد من المزايا الجيوإستراتيجية والجغرافية التي تتمتع بها لدفع الاستثمار، ونقل المهارات، والتعليم، وتطوير التكنولوجيا، من خلال الشراكات الدولية، وزيادة التمويل، والبيئة التنظيمية المواتية، وابتكار القطاع الخاص. وكذلك دعم اعتماد قوانين المعاهدات الدولية على نطاق أوسع في التشريعات المحلية.
…………………………………………….
[1]) Deborah Faboade, Updates on the African Space Agency.at: https://spaceinafrica.com/2023/10/25/updates-on-the-african-space-agency/
[2] ) الاتحاد الإفريقي، النظام الأساسي لوكالة الفضاء الإفريقية، الدورة العادية الثلاثون للمؤتمر، أديس أبابا 29 يناير 2018م.
[3]) nepad, African Outer Space Programme.at: https://www.nepad.org/agenda-2063/flagship-project/african-outer-space-programme
[4] ) Ruvimbo Samanga, Who Woke the Sleeping Giant? Africa’s Emerging Space Programs Take Off.at: https://www.stimson.org/2023/who-woke-the-sleeping-giant-africas-emerging-space-programs-take-off/
[5] ) Sheetz, Michael. The space industry is on its way to reach $1 trillion in revenue by 2040, Citi says. CNBC. At: https://www.cnbc.com/2022/05/21/space-industry-is-on-its-way-to-1-trillion-in-revenue-by-2040-citi.html.
[6] ) Space in Africa. African Space and Satellite Industry Now Valued at USD 19.49 Billion. Space in Africa. At: https://africanews.space/african-space-and-satellite-industry-now-valued-at-usd-19-49-billion/.
[7]) comesabusinesscouncil, African Skies, Pioneering the Future of Space Technology.at: https://comesabusinesscouncil.org/african-skies-pioneering-the-future-of-space-technology/
[8] ) NewSpace Africa Conference 2024.at: https://events.spaceinafrica.com/
[9] ) Sheetz, Michael.Op.cit.
[10] ) Idem.
[11]) oukebri, Tensai Ali and Rania. Africa. Space Generation Advisory Council. 2020. https://spacegeneration.org/regions/africa#:~:text=Twenty%2Done%20years%20after%20the,millions%20USD%20invested%20into%20it.
[12] ) Premium Times, Africa and the space race: Benefits, challenges and solutions, By Obinna Henry Ama.at: https://www.premiumtimesng.com/opinion/568092-africa-and-the-space-race-benefits-challenges-and-solutions-by-ama-obinna-henry.html?tztc=1
[13]) Ayooluwa Adetola, African Space Industry Annual Report, 2023 Edition.at: https://spaceinafrica.com/2023/08/28/african-space-industry-annual-report-2023-edition/
[14]) Ayooluwa Adetola, NewSpace Africa Conference 2024 to Hold in Luanda, Angola, in April.at: https://spaceinafrica-com.translate.goog/2023/11/20/newspace-africa-conference-2024-to-hold-in-luanda-angola-in-april/?_x_tr_sl=en&_x_tr_tl=ar&_x_tr_hl=ar&_x_tr_pto=sc
[15]) / The Borgen Project, Satellite Technology Can Combat Poverty in Africa.at: https://borgenproject.org/satellite-technology-can-combat-poverty/
[16] ) مدرس العلوم الزامبي “إدوارد ماكوكا نكولوسو” الذي عمل على مشروع لجعل زامبيا أول بلد يرسل إنسانًا إلى القمر. كان هذا قبل خمس سنوات من وقوف نيل أرمسترونغ على سطح القمر، وكان هدف نكولوسو هو الوصول إلى الفضاء قبل الروس أو الأمريكيين.
[17]) Varada, Pranay. The Space Race Expands: Why African Nations Are Looking Beyond Earth. Harvard International Review. [Online] 15 April 2022. https://hir.harvard.edu/why-african-nations-are-shooting-for-the-stars/.
[18] ) Mustapha Iderawumi, An Outlook of the African Space Industry: What to Look Out for in 2024, Excerpts.at: https://spaceinafrica.com/2024/01/30/an-outlook-of-the-african-space-industry-what-to-look-out-for-in-2024-excerpts/
[19] ) Varada, Pranay. Op.cit.
[20] ) Premium Times.Op.cit.
[21] ) Premium Times.Op.cit.
[22]) Gareth Willmer, Satellites for development: facts and figures.at: https://www.scidev.net/global/features/satellites-for-development-facts-and-figures/
[23] ) Space in Africa, Africa’s crewed spaceflights: challenges and solutions.at: https://spaceinafrica.com/2021/01/22/africa-crewed-spaceflight/
[24] ) LUKASZ BEDNARSKI, The new space race: Africa’s cosmic ambitions.at: https://engelsbergideas.com/essays/the-new-space-race-africas-cosmic-ambitions/
[25] ) Sheetz, Michael.Op.cit.
[26] ) Ruvimbo Samanga, Who Woke the Sleeping Giant? Africa’s Emerging Space Programs Take Off.at: https://www.stimson.org/2023/who-woke-the-sleeping-giant-africas-emerging-space-programs-take-off/