حسين إبراهيم أولامليكن
باحث ماجستير- جامعة ولاية بوتشي، غطو، نيجيريا
مؤسس وأمين مكتبة الرملة التابعة لمؤسسة الرملة التعليمية والخيرية
تُعدّ اللغة الرسمية official language -على المستوى العالمي- هي اللغة الثانية بعد اللغة الأم التي تربَّى عليها الإنسان منذ نعومة أظافره، ولذا نالت أهمية بالغة وعناية فائقة لدى الشعوب متعددة اللغات؛ لما تقوم به من الوظائف والمهام التي تؤدّيها، كما أنها تسهم في جَمْع شعوب دولة معينة في بوتقة لغوية واحدة؛ للتواصل الذي يمثل وظيفة اللغة الأساسية، ثم التفاهم بغضّ النظر عن انتماءاتهم اللغوية والبيئية، ثمّ التيسير عليهم في طريقة عيشهم: سياسيًّا، اقتصاديًّا، وعلائقيًّا، وغيرها، مما لا يدع مجالًا للاستخفاف بقيم اللغة الرسمية في أي بلد من البلاد.
وهناك عقبات شديدة واجهت البلدان التي فيها عدة أعراق مختلفة وعدة لغات متنوعة (وخاصةً آسيا وإفريقيا)، وعندما استقلت هذه الدول صارت بحاجة إلى لغة رسمية official language تجمع الشعوب في بوتقة لغوية واحدة، وظهرت ثلاثة حلول:
الحل اللغوي الداخلي: endoglossic solution.
الحل اللغوي الخارجي: exoglossic solution.
الحل متعدد اللغات: multilingual solution.
يتناول هذا البحث العديد من التحديات التي تُواجه اللغات الإفريقية، فيما يتعلق بالاعتراف الرسمي بها واستخدامها.
وعلى الرغم من التنوع اللغوي في القارة؛ تكافح العديد من اللغات الإفريقية للحصول على الوضع الرسمي، مما يؤدّي إلى التهميش وسيطرة اللغات الاستعمارية في مختلف المجالات.
ومن خلال استكشاف السياقات التاريخية والديناميات الاجتماعية والسياسية والأُطُر التعليمية، تهدف هذه الدراسة إلى توضيح التعقيدات المحيطة بتوثيق اللغات الإفريقية.
بالإضافة إلى ذلك، تسعى إلى تصوير مسارات محتملة نحو حلول فعّالة، تشمل السياسات والمبادرات الشعبية؛ من خلال دراسة الاتجاهات الحالية والتنبؤات بالمسارات المستقبلية، وتسهم هذه الورقة في الحوار حول إحياء اللغات، والحفاظ على الثقافة في إفريقيا، وتقدم رؤًى حول تعزيز التنوع اللغوي والتنمية الشاملة على القارة.
كما يتناول البحث دراسة أحوال اللغات الرسمية في إفريقيا، ومدى توفيق المنتسبين إليهما بينهما في تيسير جوانب الحياة المطلوبة، مع توضيح الحلول الناجعة لغير الموفّقين في ذلك الدمج والاستخدام، لعله يكون محركًا يسهم في دَعْم التحركات الإفريقية في الآونة الأخيرة الداعمة لتحسين أوضاع لغاتها المحلية.
مقدمة :
القارة الإفريقية تزخر بالعديد من اللغات واللهجات المحلية، وكثير من دولها بها لغات ولهجات لا تُعدّ على أصابع اليد الواحدة، ويرجع ذلك إلى الموقع الجغرافي الذي تتمتع بها القارة، والتنوع الإثني والعرقي بين السكان، أضف إلى ذلك كثرة الهجرات والتنقلات من بعض شعوبها لغرض تجاري، وللبحث عن حياة أفضل، ما جعلهم يتعلمون ويتقنون لغةَ مكانِ إقامتهم، ثم حصل التأثير والتأثر وأنجب ذلك لهجات أخرى، فاحتكاك الأحجار يُحْدِث نارًا؛ فما بالك باحتكاك اللغات.
وتتفاوت الهجرات بين الشعوب داخل القارة وخارجها، فعرقية الفلاتي في كل دُوَل القارة متنقلة في إفريقيا ولها لهجتها، وعرقية اليوربا من جنوب نيجيريا متنقلة ولها لهجتها، وعرقية الهوسا في شمال نيجيريا أيضًا متنقلة ولها لهجتها. فقد أخبرني صديق لي من بوركينا فاسو يومًا أن أباه أوصاه بالارتحال فور النزول من كل بلدة وطئتها قدمه، ولم يجد فيه نيجيري (يوربا أو هوسا خاصة) يعني أنها ليست صالحة للإقامة، فنتيجة الهجرات جعلت الشعوب متعددة اللغات.
أما عن هذه اللغات؛ فمنها ما انحدرت من تأثير وتأثر مثل لغات التجار. ومنها ما تطورت عن اللغات الميتة أو شبه الميتة المنقرضة؛ إذ اللغة من شأنها النمو والازدهار والانقراض، يوضح هذا الموقف كتاب وضعه الأب أنستاس ماري الكرملي بعنوان: “نشوء اللغة العربية ونموها واكتهالها” الذي يتضمن آراء علماء اللغة المتعددين وغيرهم تتعلق بإنجاب لغةٍ ما للغة أخرى؛ مثل اللاتينية التي انحدرت منها الفرنسية والإنجليزية عند انقراضها.
وعانت قارة إفريقيا في مطلع القرن التاسع عشر الميلادي من تسلُّط المستعمرين حتى منتصف القرن العشرين التي قضت على جزء كبير من نمط وطبيعة حياة الأفارقة من تجارة، ولغة، أو حتى تفكير، فأصبحت القارة الإفريقية الغنية بكل المعادن -والتي تتنافس الدول الكبرى في الاهتمام بشأنها، واستغلال مواردها ونهب خيراتها- تكاد تكون أفقر قارة على مستوى العالم؛ ولمَّا لم يمكن للغرب السيطرة على جميع سكان القارة الإفريقية، قام بالسيطرة على العقول التي ينطلق منها التفكير، والتفكير لا يُعبِّرُ عنه إلا باللغة، ولا يزال هذا الاستعمار يُرمِّمُ أنقاضه حتى الوقت الراهن.
من هنا سيركز الحديث حول محاولة القوى الاستعمارية ومؤيديها في الداخل الإفريقي ترميم أحد الأسس التي تركتها سلطات المستعمرين، والذي يُعتبر مصدرًا وحجر أساس ستقوم عليها الترميمات الباقية، وهي التحكم في اللغة الرسمية للقارة، وبالذات التي تتواصل بها الحكومة مع الشعوب، كلّ على حدة.
وتُعدّ اللغة الرسمية official language -على المستوى العالمي- هي اللغة الثانية بعد اللغة الأم التي تربَّى عليها الإنسان منذ نعومة أظافره، ولذا نالت أهمية بالغة وعناية فائقة لدى الشعوب متعددة اللغات؛ لما تقوم به من الوظائف والمهام التي تؤدّيها، كما أنها تسهم في جَمْع شعوب دولة معينة في بوتقة لغوية واحدة؛ للتواصل الذي يمثل وظيفة اللغة الأساسية، ثم التفاهم بغضّ النظر عن انتماءاتهم اللغوية والبيئية، ثمّ التيسير عليهم في طريقة عيشهم: سياسيًّا، اقتصاديًّا، وعلائقيًّا، وغيرها، مما لا يدع مجالًا للاستخفاف بقيم اللغة الرسمية في أي بلد من البلاد.
1- اللغة الرسمية Official language:
اللغة مجموعة من الرموز يُعبِّر بها كل قوم عن أغراضهم، وتنقسم اللغة إلى أقسام عدة من منظورات مختلفة؛ من حيث استخدامها([1]) كاللغة الأدبية، واللغة الرسمية التي هي محور حديثنا، واللغة غير الرسمية وغيرها. وتُعرّف اللغة الرسمية بأنها: “هي اللغة التي يتم استخدامها في أماكن العمل والمؤسسات الأكاديمية، وهي لغة لا تُستخدم لأغراض شخصية، بل تُستخدم لأغراض عملية رسمية، ويطغى عليها طابع الاحترام، وهي عكس اللغة غير الرسمية”. واللغة غير رسمية تندرج تحتها أيّ لغة غير مستعملة، وإن توفرت فيها معايير اللغة الرسمية، وتشمل اللغة المحلية.
واللغة الرسمية هي لغة تُعطَى اعتبارًا قانونيًّا خاصًّا في دولة معينة. عادةً ما تكون لغة الدولة الرسمية اللغة المستخدَمة داخل الحكومة، “على سبيل المثال في المحاكم والبرلمان والإدارات”.([2])
نستخلص من هذين التعريفين معنًى جازمًا مانعًا للغة الرسمية، وهي أنها لغة الإدارات الحكومية والمكاتب البرلمانية والدولية؛ إما خاصة بها، أو تتعداها إلى التواصل بها، أو نشر الأخبار والتفاهم بين الحكومات والشعوب، بغض النظر عن طبقاتهم؛ مثقفين يجيدونها، أو غير مثقفين يجهلونها.
إن اللغة الرسمية في إفريقيا متعددة بحسب الموقع الجغرافي، فشمال إفريقيا لها أكثر من لغة رسمية واحدة، مثل المغرب والجزائر؛ حيث تحظى الأمازيغية بالرسمية إلى جانب العربية. بينما في شرق إفريقيا مثل جزر القمر comoros حظيت العربية والفرنسية بالرسمية إلى جانب القمرية. أما في غرب إفريقيا فتحظى لغة واحدة باللغة الرسمية مثل دولة نيجيريا (الإنجليزية)، النيجر ومالي وبوركينا فاسو وبنين حظيت (الفرنسية) بالرسمية فيها، وإن كانت دولة مالي أعلنت عام 2023م إلغاء اللغة الفرنسية كلغة رسمية للبلاد، وبدلاً من ذلك اعتمدت 13 لغة رسمية محلية، والذي يمثل بصيص أمل في سبيل تغيير وضعنا الحالي.
2- إفريقيا من البلدان متعددة اللغات:
تنقسم دول العالم من حيث اللغات إلى: البلدان أحادية اللغة، وإن كان في هذا شك؛ لأن كثيرًا من البلدان التي نظنها أحادية لغة ليست كذلك، فالهجرات -إما طوعًا وذلك بترك المهاجر موطنه الأصلي بحثًا عن العمل أو هروبًا من اضطهاد أو حرب أهلية، وإما الهجرة بالقوة أي من خلال التهجير كرهًا، كما فعل بعض المستعمرين حين ينقلون العمال من بلد إلى آخر حسب الحاجة إليهم توفيرًا للأيدي العاملة الرخيصة للمصانع والمزارع- جعلت هذه البلدان ثنائية اللغة أو متعددتها؛ فنجد إلى جانب اللغة الأصلية للبلدان المنتقلة إليها أقليات من اللغات الأخرى مثل فرنسا وألمانيا([3]).
أما الدول ثنائية اللغة رسميًّا فمنشأها رغبة الدولة في التسامح مع أقليات فيها، ولا تلزم بالضرورة الثنائية الفردية لدى كل فرد؛ لأنها سياسة ليس وراءها طائل.
والدول متعددة اللغة؛ رسميةً كانت أو محليةً، هي المعتمدة، وعليها كثير من الدول الإفريقية، وهي التي يركز البحث الحالي عليها.
وتوجد بالقارة الإفريقية عدة لغات معزولة، ولغات لم يتم تصنيفها بعدُ([4]). وهناك عقبات شديدة وصعبة واجهت البلدان التي فيها أعراق متنوعة ولغات متعددة (وخاصة آسيا وإفريقيا). وعندما استقلت صارت هناك حاجة إلى اعتماد لغة رسمية official language للدولة تجمع الشعوب في بوتقة لغوية واحدة.
وفيما يلي جدول يوضح تنوع القارة باللغات واللهجات –وهذا على سبيل المثال وليس الحصر-:
الدولة | اللغة الرسمية | عدد اللغات |
الجزائر | العربية، الأمازيغية، القبائلية (أبجدية تيفيناغ). | الفرنسية، اللهجة الحسانية واللغة البلبالية([5]). |
نيجيريا | الإنجليزية | يوربا، هوسا، إيبو و525 لغة محلية. |
جمهورية الكنغو الديمقراطية | الفرنسية | أكثر من مائتي لغة محلية.([6]) |
إثيوبيا | الأمهرية | 70-80 لغة محلية([7]) |
النيجر | الفرنسية | zarma والهوسا و8-20 لغة محلية. |
أوغندا | الإنجليزية والسواحلية | 70 لغة أخرى.([8]) |
جمهورية مالي | الفرنسية 1960-2023م
العربية واللغة المحلية المقترحة([9]). |
بمبارا، بوزو، دوجون وغيرها([10]). |
أنغولا | البرتغالية | البانتو، لغات إفريقية أخرى |
بنين | الفرنسية | الفون، اليوربا، دند، الهوسا |
بوتسوانا | الإنجليزية، ستسوانا | ستسوانا، إفريقانية |
الرأس الأخضر | البرتغالية، الرأس الأخضر | لغات أخرى |
بوركينا فاسو | الفرنسية | موري، الفلانية، اللغة الأمازيغية، الديولا، بمبارا وغيرها. |
جمهورية الكاميرون | الفرنسية والإنجليزية | الفلانية، الكانورية، الماسية، الهوسية، العربية وغيرها. |
تشاد | العربية، الفرنسية | العربية التشادية وأكثر من 120 لغة أصلية. |
ساحل العاج | الفرنسية | الديولا الأكثر انتشارا و60 لغة محلية. |
غينيا الاستوائية | الإسبانية، الفرنسية والبرتغالية | الفانتومية، الفاندو، الفانغ، وغيرها. |
كينيا | الإنجليزية والسواحلية | الكيكويو، لوهيا والعديد من اللغات الأصليين. |
موريتانيا | العربية | البولارية، السونيكية، الولفية، الفرنسية وغيرها. |
موريشيوس | الإنجليزية والفرنسية | الخلاسية، الأردية، الكريولية وأخرى. |
المغرب | العربية والأمازيغية | الريفية، تشلحيت، الدارجة، الحسانية، البربرية وأخرى. |
سانت هيلينا | الإنجليزية | *** |
زامبيا | الإنجليزية | 8 لغات محلية أخرى. |
تونس | العربية | العربية التونسية، الفرنسية، الإنجليزية، التركية، وغيرها. |
3- إشكالات رسمية اللغات الإفريقية:
تسعى حكومات الدول الإفريقية في هذه الآونة الأخيرة إلى ضم ولمّ شتات إفريقيا التي كانت مجتمعة ومتحدة قبل الاستعمار الغربي، وقبل تبنّي النظام الديمقراطي: اقتصاديًّا، سياسيًّا، وتعليميًّا وتعاونيًّا، الأمر الذي أدى إلى تأسيس منظمات واتحادات تحمل رمزًا وعنوانًا لهذا السعي مثل: رابطة علماء الأفارقة، الاتحاد الإفريقي (AU)، ومجموعة اقتصادية لدول غرب إفريقيا، west african examination council (waec), وغيرها، أضف إلى ذلك سعي الحكومات الحثيث إلى نفي المستعمرين من بلدانهم على رغم أنوفهم؛ ليحصل تحرُّر تامّ، وخير شاهد على هذا الأحداث المتواترة في بعض أنحاء إفريقيا والتي سببها الرئيسي الحرص على الاستقلال التام و قطع جميع أواصر العلاقة بأي سلطة استعمارية -بما فيها لغاتهم المفروضة علينا تحت مئات لغة إفريقيا- لا الاستقلال الشكلي الذي لا يغني ولا يسمن من جوع، وهذا ما حرصت عليه كلّ من مالي، بوركينا فاسو، والنيجر وحققت كثيرًا من الخطوات المهمة في هذا الصدد.
وهناك كثرة في التنوع اللغوي في العديد من البلدان الإفريقية؛ حيث (تضم نيجيريا وحدها([11]) 525 لغة، وهي واحدة من أكثر الدول ذات التنوع اللغوي في العالم)، وهذا ما جعل من السياسة اللغوية قضية حيوية في عصر ما بعد الاستعمار في السنوات الأخيرة، وأصبحت البلدان الإفريقية واعية بقيمة إرثها اللغوي، مع محاولة إثبات وجودها، وإحلال لغاتها محلّ لغة المستعمرين المفروضة علينا.
وتجدر الإشارة إلى أن السؤال الذي يطرح نفسه بقوة هنا يدور عن العائق الذي يحول دون أن تصبح اللغات المحلية في إفريقيا لغات رسمية؟ ولماذا كانت لغة المستعمرين الأجانب هي اللغات الرسمية في كثير من البلدان الإفريقية حتى الآن؟
وقبل الإجابة عن هذه الأسئلة، يجدر بنا سرد الحلول الناجعة التي من خلالها يمكن تعزيز ودعم اللغات المحلية، وتقوية اللغات الإفريقية، واتخاذ خطوات جادة نحو إحلالها محل اللغات الأجنبية، ضمن “خطوات الحلول الناجعة”، وهي كالآتي:
1- الحل اللغوي الداخلي endoglossic solution: هو اختيار إحدى اللغات المحلية القوية، وإعطاؤها صفة اللغة الرسمية للدولة، وهذا ما تُخطِّط له مالي في الوقت الراهن، وقد فعلته تنزانيا حين اختارت اللغة السواحلية.
2- الحل اللغوي الخارجي exoglossic solution: هو رمي هذه اللغات المحلية كلها عرض الحائط، واختيار لغة أجنبية لتكون اللغة الرسمية للبلاد، وهذا الحلّ عدته العديدة من الدول الإفريقية حلاً ناجعًا لها، واعتمدته جلّ الدول الإفريقية، مثل نيجيريا وغانا وزامبيا وسيراليون؛ حيث قامت باختيار اللغة الإنجليزية لغة رسمية لها، ومثله فعلت بوركينا فاسو، بنين، توغو، والسنغال باختيار اللغة الفرنسية لغة رسمية لها.
3- الحل متعدد اللغات multilingual solution: هو قبول الدولة وجود عدة لغات رسمية فيها مثل: الجزائر، حيث كانت اللغة العربية والأمازيغية والقبائلية لغات رسمية كله، وفي أوغندا حظيت الإنجليزية والسواحلية بالرسمية، وجمهورية مالي في طريق إلى هذا الحلّ؛ حيث تمّ إلغاء الفرنسية فيها الآن ليحلّ محلّها بعض اللغات المحلية المقترحة.
أما الإجابة عن السؤال المطروح فإن إفريقيا من القارات التي تتمتع وتزخر بلغات ولهجات عديدة -كما سبقت الإشارة-؛ حيث تجد دولة واحدة لها 525 لغة تتنافس في إثبات وجودها، وكما يقال في المثل الشعبي: “بقدر رأسك تُصاب بالصداع”، يعني بقدر ما توافرت عندك من ممتلكات وثروات بقدر ما تعود عليك بعائدة خيرٍ ومصيبة.
وأساس مشكلة اللغات الإفريقية الذي لم يجعل لغة واحدة محلية تحظى بالرسمية يرجع إلى النقاط التالية:
– أنانية الجماعة اللغوية:
وأعني بهذه النقطة انغلاق ورفض جماعة لغة محلية معينة، ولا سيما الأقلية منها، الاعتراف أو قبول لغة محلية أخرى تخرق الحواجز المحلية إلى الدولية الرسمية، فنرى دولة إفريقية مثل السنغال بها عدد كبير من اللغات المحلية إضافة إلى الولفية التي تنطقها 90٪ من الشعب السنغالي، ولم تزل الفرنسية هي اللغة الرسمية فيها.
وجميع دولنا الإفريقية يرى الحلّ الثاني هو المناسب، وذلك لأجل الأنانية، فالحل الأول ينجع في السنغال أي إعطاء الولفية صفة الرسمية، مع قمع وإهمال الأقليات، أي اللغات القليلة المنافسة؛ لأنّ التساهل بها قد يؤدي إلى انشطار لغوي، ثقافي ثم سياسي (من مخاطر الحلّ الأول)، وقد يهدد وحدة البلاد، لذلك مال بعض علماء الاجتماع إلى قمع أي محاولة للتمسك باللغات المنافسة([12]). فنيجيريا وغانا وأخواتها التي اختارت الحل الأول، وذلك بالنظر إلى المخاطر تنجع فيهما الحلّ الأخير أو الحلّ الثاني([13]).
ومن المعروف أن طرق القضاء على لغة الأقليات متعددة ومنها:
- ألا تعترف بها الدولة رسميًّا.
- لا تُقدّم الدولة أي مساعدة لمدارس تستخدم هذه اللغة.
- لا تُدرّب الدولة مدرسي هذه اللغة.
- ازدراء مَن يتكلمها عند عامة الناس ولو في الشارع.
- تهجير الأقلية غير المرغوبة إلى خارج البلاد.
- منع استخدامها في وسائل الإعلام.
– التشدد والتحمس للغة المستعمرين: الأفارقة عرقيات وإثنيات متنوعة، نشأوا في قارة واحدة، أنجبت تُربتها العديد من الشعوب لآباء شتى وأفكار مختلفة؛ فالبعض منها اعتاد الانجراف مع الهوى، ولا يتقبل المخالف من عرقية أو إثنية أخرى من نفس بلده، لكنه مستعدّ لتقبل الأعداء وإن كان شرًّا, وأولئك هم من رباهم الاستعمار واستعملهم على رعاية مصالحة.
من جهة أخرى فإن البعض ومنهم شعب الهوسا عنيد ضد المستعمرين، لا يلقون السلاح في مواجهتهم، ويرفضون فكرهم وثقافتهم، لذلك نرى في تاريخهم القديم والحديث والمعاصر صفة الشجاعة، وهذه الشجاعة أبقت ونشرت لهم لغتهم في أنحاء العالم، لا في إفريقيا فقط. ومثال ذلك يتضح مع دراسة بعض التخصصات في جامعة السوربون العريقة بها. فالمستعمرون تعلموا لغتنا الإفريقية لأغراض منها؛ نهب ثرواتنا وخداعنا باسم تطويرها، وتقلدوا تقاليدنا وتطويرها إلى درجة نحسبها منهم أصالة.
تقول الدكتورة إيمان رجب زكي تمام([14]): “كان امتلاك بلدان إفريقيا لكثير من المعادن والثروات الطبيعية أحد أهم الأسباب التي دفعت الدول الأوروبية للتنافس على احتلالها وسلب ثرواتها”. وإذا تأخرنا قبل إدراكنا هذا؛ أما آن الأوان للاستيقاظ من سباتنا، ودراسة لغتهم لأغراض محدودة، ووضع لغتنا المحلية تحت المراقبة لتحديد ما نُعطي صفة الرسمية منها؟ آمل أيكون ذلك قريبًا.
خاتمة:
اتسمت القارة الإفريقية بالتنوع اللغوي الناتج عن الأعراق الأصلية اللامحدودة فيها، الأمر الذي أدى إلى وجود السياسة اللغوية السائدة إلى الوقت الراهن، والتي لها آثار إيجابية وسلبية؛ والأخيرة أثّرت على نُظمها وطريقة عيشها وحكمها التي تُصوّر حياة المواطنين المستقلين عن الاحتلال بمن تحرروا من العبودية حتى بعد الانفلات من أيدي سلطات المستعمرين. أما الآثار الإيجابية فقد أسهمت في الاحتفاظ بالثقافات والعادات الإفريقية التي بقيت لنا حتى اليوم.
ومن المُسلَّمات التي لا شك فيها أن المستعمرين أَسروا الشعوب واستعمروهم بأجسادهم وعقولهم، ولا تستطيع الشعوب الإفريقية حراكًا إلاّ بعد التحرر الكامل من سيطرة المستعمرين فكريًّا وثقافيًّا واقتصاديًّا وعسكريًّا…، ولا يمكن لهم الاستقلال إلا بامتلاك حرية التفكير واتخاذ القرار بأنفسهم فيما يرونه الأنفع والأفضل لهم ولبلادهم.
أخيرًا: كشفت الدراسة اللثام عن القارة الإفريقية السمراء والتنوع اللغوي الناتج عن الأعراق الأصلية المتعددة فيها، مع الإجابة عن سؤال بالغ الأهمية: لماذا تعد لغة المستعمرين هي اللغة الرسمية لكثير من البلدان الإفريقية حتى الآن؟ وبحثت جذور مشكلة القارة المتمثلة في لغاتها المتعددة ولهجاتها المتنوعة، وعدم اختيار أكثرها انتشارًا وقوةً وجعلها لغة رسمية، مع بيان الحلول الناجعة المجربة من علماء اللغة والاجتماع التي إذا ما سارت عليها الدول الإفريقية تحقق غايتها المنشودة.
……………………………………………………..
[1] – سارة سعد كفاني، تعريف اللغة وأهم أنواع اللغات وأشهرها، 26/11/2022، 16:04:59، زيارة: 19/ 03/ 2024، 18:08. www.mashrabya.com
[2] https://ar.m.wikipedia.org/wiki. Visited on 19/04/2024.
[3] – الدكتور محمد علي الخولي، الحياة مع اللغتين: الثنائية اللغوية، دار الفلاح للنشر والتوزيع، ط2002، ص: 51، بتصرف.
[4] https://ar.m.wikipedia.org/wiki. Visited on 21/03/2024.
[5] https://ar.m.wikipedia.org/wiki. Visited on 21/03/2024.
[6] https://www.ejaba.com/tag. Visited on 21/03/2024.
[7] https://www.google.com/amp/s/everestmagazines.com. Visited on 21/03/2024.
[8] https://en.m.wikipedia.org/wiki/Languages_of_Uganda. Visited on 21/03/2024.
[9] https://www.mc-doualiya.com. Visited on 21/03/2024.
[10] المرجع نفسه.
[11] https://en.m.wikipedia.org/wiki/Languages_of_Nigeria. Visited on 21/03/2024.
[12] علي الخولي، المرجع السابق، ص: 56، بتصرف.
[13] – ترقبوا بحثًا يوضح هذا الموقف أكثر بعنوان اللغة الإنجليزية البينية في نيجيريا وتنبؤات لمستقبل لغة هوسا.
[14] – قراءات إفريقية، العدد 57، يوليو 2023، ص: 22.