جذبت الاحتجاجات الشبابية الغاضبة في كينيا (طوال شهر يونيو الماضي) رفضًا لإجراءات اقتصادية كانت حكومة الرئيس وليام روتو تعتزم القيام بها استباقًا لتلقّي حزمة قروض من صندوق النقد الدولي أنظار العالم، وأعادت إلى الواجهة جدل علاقة الصندوق وبرامجه وقروضه ومجمل سياساته بالقارة الإفريقية؛ تركيزًا على الآثار السلبية لهذه العلاقة وغياب الأبعاد الاجتماعية (الحمائية بالأساس) عن برامج الصندوق وافتراضاته النظرية القائمة على قراءات رقمية مجردة تصطدم بشكل مستمر مع الأوضاع في القارة الإفريقية، وتفيد عددًا من الحكومات بشكل مباشر في تفادي تحقيق إصلاحات مؤسساتية حقيقية، والتركيز المفرط على الاقتطاع من مدخولات المواطنين ومن الخدمات المقدَّمة لهم، وتأجيل حسم مسائل مثل (شفافية وحوكمة) الإنفاق العسكري والأمني، والقضاء على الفساد الحكومي المنهجي (لا سيما أن عددًا كبيرًا من قادة الدول الإفريقية يديرون أعمالًا خاصة بشكل مباشر أم غير مباشر بالمخالفة لدساتير تلك الدول، وعدم ضمان الالتزام بمعايير الشفافية، كما في حالة روتو الذي يصفه مراقبون بأنه واحد من أغنى رجال الأعمال في كينيا).
يتناول المقال الأول دور سياسات صندوق النقد الدولي في تحقيق فشل سياسي وشيك في كينيا كمثال لدول إفريقية عدة في المستقبل القريب.
أما المقال الثاني فقدَّم رؤية “نيوليبرالية” لإصلاح سياسات صندوق النقد الدولي في إفريقيا.
وتناول المقال الثالث تطبيقًا لهذه المخرجات في محادثات كشفت عنها وكالة رويترز بين روتو ورئيسة الصندوق.
إفشال صندوق النقد الدولي لدول مثل كينيا: لماذا وما العمل؟([1])
تُمثّل الاحتجاجات الأخيرة في كينيا إشارة تحذير بفشل صندوق النقد الدولي. ولا يعتقد عامة الأفارقة أنه يساعد دُوَله الأعضاء في إدارة مشكلاتها الاقتصادية والمالية، والتي تفاقمت في واقع الأمر بفضل الاقتصاد السياسي العالمي المتغير على نحو متسارع. لكن تجب ملاحظة أن صندوق النقد الدولي ليس السبب الوحيد لمشكلات كينيا، مع ارتفاع المخصصات لتلبية التزامات مديونيتها الكبيرة، فيما تُواجه نيروبي عجزًا كبيرًا في الموازنة.
وتشمل قائمة الأسباب الأخرى: فشل الطبقة السياسية الحاكمة في التعامل مع الفساد الاقتصادي، وفي إنفاق الأموال العامة بقدر (معقول) من المسؤولية، وفي إدارة الاقتصاد الذي ينتج الوظائف ويُحسِّن مستويات معيشة سكان كينيا الشباب. كما ضربت البلاد موجات الجفاف والفيضانات وغزوات الجراد في السنوات الأخيرة. إضافةً إلى ذلك، فإن المقرضين يطالبون كينيا بمواصلة خدمة ديونها الخارجية الكبيرة؛ على الرغم من تحدياتها الداخلية والبيئة المالية والاقتصادية الدولية.
وقد قدَّم صندوق النقد الدولي دعمًا ماليًّا لكينيا. لكنَّ التمويل كان بشروط قاسية، مما عنى أن التزامات الدَّيْن باتت أهم من حاجات المواطنين الذين امتدت معاناتهم وكثرت احتياجاتهم. وجاء ذلك رغم ادعاء صندوق النقد الدولي أن نطاق عمله its mandate يتضمَّن الآن مساعدة الدول في التعامل مع مسائل تنموية متعددة، منها: المناخ والرقمنة والجندر والحوكمة، ومراعاة التفاوت الطبقي، وغيرها.
ولسوء الحظ فإن كينيا ليست الحالة الوحيدة، بل هناك 21 دولة إفريقية تحصل بالفعل على الدعم من صندوق النقد الدولي وتخضع لبرامجه وشروطه الصعبة.
وتتجاوز خدمة الدَّيْن في إفريقيا، في المتوسط، مجموع ما تُنفقه الحكومات على الصحة والتعليم والمناخ والخدمات الاجتماعية. وقد قادت الشروط المتشددة لتمويل صندوق النقد الدولي مواطني كينيا وغيرهم في دول إفريقية أخرى إلى استنتاج أن التدخلات والشروط الزائدة للصندوق في بلادهم هي سبب مشكلاتهم.
بالإضافة إلى ذلك؛ فإن بعض الأبحاث في مجالات القانون والسياسة وتاريخ المؤسسات المالية الدولية تشير إلى أن المشكلة الحقيقية هي تراجع سلطة وكفاءة صندوق النقد الدولي.
إذن (وعقب استعراض تاريخي موجز)؛ فإن حل تلك المشكلة يتطلب من الدول الغنية أن تُقدِّم تمويلات كافية لصندوق النقد الدولي للقيام بمهمته. كما أنه يجب عليها التخلّي عن قدر من السيطرة، وجعل تنظيم عمليات التمويل أكثر ديمقراطية ومحاسبية.
ويمكن لصندوق النقد الدولي أن يتخذ على المدى القصير تحرُّكين رئيسين؛ أولهما: عليه وضع سياسات وإجراءات مُفصَّلة يمكنها أن تُوضّح لأطقم الصندوق ودوله الأعضاء وسكان تلك الدول ما يمكن القيام به، وما ستقوم به. ويجب أن توضِّح تلك السياسات المعايير التي سيستخدمها صندوق النقد الدولي لتحديد متى وكيف سيتم دمج المناخ والجندر والتفاوت الطبقي، والقضايا الاجتماعية الأخرى في أنشطة صندوق النقد الدولي.
كما يجب عليه تحديد مَن سيتشاور معه، وكيف يمكن مشاركة الفاعلين الخارجيين مع صندوق النقد الدولي والتطور الذي سيليها في تصميم وتطبيق عملياته. وفي الواقع هناك مقاييس ومعايير دولية يمكن لصندوق النقد الدولي استخدامها لتطوير السياسات والإجراءات؛ بحيث تكون قائمة على مبادئ موضوعية وشفافة.
والتحرك الآخر: يتمثل في إقرار صندوق النقد الدولي بأن المسائل التي تثيرها وصايته الموسعة معقدة، وأن تهديد أخطار الديون مرتفع للغاية. وبناء على ذلك فإن صندوق النقد الدولي بحاجة إلى آلية يمكنها المساعدة في تحديد أخطائه ومعالجة آثاره العكسية في توقيت مناسب، وتفادي تكراراها. باختصار فإن على صندوق النقد الدولي إقامة آلية محاسبية مستقلة للتقويم والمساءلة.
احتجاجات كينيا تكشف الغضب الإفريقي تجاه صندوق النقد([2]):
مع تعافي كينيا من الاحتجاجات العنيفة المناهضة لرفع الضرائب، والتي ضربت أحد أكثر الاقتصادات تقدُّمًا في شرق إفريقيا؛ فإن هدف غضب المحتجين لم يقتصر على الحكومة الكينية وحدها، بل استهدف بشكل واضح صندوق النقد الدولي، كما يتضح في شعارات المظاهرات وما كتبه المتظاهرون على حوائط العاصمة نيروبي.
وانتشرت لافتة: “صندوق النقد الدولي: ارفع يدك عن كينيا”، ومع تزايد أنشطة الشرطة في شوارع نيروبي لفت المحتج الشاب جوب موريمي (25 عامًا) إلى تورط الصندوق في إضرام الفوضى في كينيا. وبالنسبة للكثير من الكينيين فإن الاضطرابات التي أجبرت الرئيس وليام روتو في الشهر الماضي على سحب مشروع قانون مالي يهدف لرفع متحصلات الدولة من الضرائب بقيمة 2 بليون دولار؛ قد كشفت دور الدول المُقرِضَة التي تتخذ من واشنطن مقرًّا لها (عبر صندوق النقد) في صنع السياسات في بلادهم.
ومع النظر للصندوق كقوة دافعة لسياسات روتو المالية والتقشفية؛ فإن الآلاف من الشباب الكيني، وأغلبهم من العاطلين، اندفعوا للشوارع بلافتات تحمل إدانة لتوجهات صندوق النقد تجاه بلادهم واستغلالها. واستمرت الاحتجاجات في أرجاء البلاد بعد سحب مشروع القانون لدرجة مطالبة المتظاهرون روتو بالاستقالة، ووصفوه “بدمية” صندوق النقد الدولي.
لكنَّ كينيا ليست الدولة الإفريقية الوحيدة التي يرفض المواطنون بها إجراءات التقشف المفروضة في الغالب من أجل إرضاء المقرضين الدوليين الذين يطالبون بالتزام مالي مقابل تقديم قروض رخيصة. ففي نيجيريا، على سبيل المثال؛ حيث أدخل الرئيس بولا تينوبو سلسلة من العلاجات الاقتصادية الصادمة (بما فيها: خفض دعم الوقود، وخفض دعم الكهرباء، وخفض قيمة العملة)؛ خرجت نقابات العمال في حركة إضرابات؛ احتجاجًا على هذه الإجراءات. وكانت نيجيريا قد تلقت حزمة قروض من البنك الدولي في الشهر الماضي بقيمة 2.25 بليون دولار مصحوبة بتقدير من الأخير “للإصلاحات المهمة” التي يجريها تينوبو.
وأشار أوليسجون أوباسانجو، وهو رئيس نيجيري سابق، للفايننشال تايمز أن “وصفات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي قد تكون فاعلة لدى الدول المتقدمة، لكنها ليست كذلك بالنسبة للاقتصادات الصاعدة”، وأن على الدول الإفريقية أن تكون لها برامجها الخاصة. ورأى أنه حال اعتماد الدول الإفريقية على برامج البنك الدولي وصندوق النقد الدولي فإنها ستفشل. وأضاف: على الرغم من أن موظفي وخبراء الصندوق يتَّسمون بالتميز، وأنهم من الفئة الأولى من خريجي كمبردج وإيفي ليج Ivy League؛ إلا أنهم غير مناسبين لتقديم “توصيات لملايين الأفراد في الدول النامية”.
في المقابل يرى صندوق النقد الدولي أن تلبية حاجات التنمية في إفريقيا جنوب الصحراء تتطلب “تحسنًا في وضع الأولويات، وجودة وكفاءة النفقات العامة”.
في المقابل، قال الصندوق في بيان له: إنه “يأخذ في عين الاعتبار تمامًا سمات الدولة التي يقدم لها توجيهًا في إصلاحات السياسات الاقتصادية. وبينما يختلف سياق كل دولة عن الأخرى؛ فإن بناء الثقة العامة والدعم الشعبي للسياسات والإصلاحات أمر أساسي من أجل استدامة الملكية المحلية domestic ownership”.
ويؤكد مؤيدو صندوق النقد الدولي وسياساته أنه يقدّم قروضًا بمعدلات فائدة منخفضة للغاية عن القروض التجارية المتاحة للدول التي قد تُواجه عواقب وخيمة حال اللجوء للقروض التجارية (بشروطها الأكثر تعقيدًا)، كما يعمل الصندوق على دعم اقتصادات تلك الدول بشكل مستدام. كما يقدم الصندوق إعفاءات من الديون، ومن ذلك ما قدَّمه للصومال في ديسمبر 2023م. كما يسعى البنك الدولي، الذي يقدم تمويلًا تنمويًّا، لإدخال إصلاحات مستدامة.
ويطلق تشارلي روبرتسون، وهو رئيس الإستراتيجية الكلية macro strategy لدى مدير الأصول في الأسواق الناشئة FIM Partners، على أن صندوق النقد الدولي “كبش الفداء التقليدي”. ويلاحظ أن “البديل لأغلب الدول هو الاقتراض من صندوق النقد الدولي بنسب فائدة منخفضة أو الاقتراض بفوائد “من رقمين” من المقرضين التجاريين في الداخل او الخارج”.
ووصف روبرتسون صندوق النقد الدولي بأنه “مقرض الملاذ الأخير”، وقال: إن أغلب وصفات الصندوق كانت قرارات ستتخذها الحكومات في جميع الأحوال.
ويُوقن كثيرون في أرجاء القارة الإفريقية أن نُظُم “شد الحزام” تبذل الحد الأدنى من الجهود لخفض التفاوت وتحسين مستويات المعيشة، مما يترك قادة من مثل “روتو” في حاجة ملحَّة لرفع الضرائب وخفض الإنفاق فيما يُعرف بأن مثل هذه التوجهات ستثير اضطرابات سياسية حادة.
وكانت أحداث مشابهة تمامًا مما حدث في كينيا قد انتشرت في أمريكا اللاتينية، وآخرها في الإكوادور؛ حيث قادت الشروط التي وضعها صندوق النقد الدولي إلى اضطرابات في شوارع البلاد. ويرى الاقتصادي الذي يعمل في نيروبي فينسنت كيموسوب V. Kimosop أن “الدول الإفريقية تراقب ما يحدث في كينيا، وعلى مَن يتقلدون المناصب العليا ألا يسترخوا تمامًا خلال تلك المراقبة” (فيما أكدت توقُّعات الصندوق وصول نسبة الدين الحكومي الإجمالي العام في إفريقيا جنوب الصحراء في العام الحالي 2024م إلى نحو 60%؛ حيث تتصدر غانا لائحة الدول الإفريقية بنسبة تقترب من 85%، تليها جنوب إفريقيا في حدود 75%، ثم كينيا (75%)، وأنجولا (70%)، ونيجيريا (نحو 50%)، وإثيوبيا 35%.
وستضطر الدول الإفريقية الأخرى في الفترة المقبلة إلى اتخاذ قرارات قاسية. وتحاول أنجولا المُنتِجَة للبترول خفض دعم الوقود، فيما تتفاوض إثيوبيا –التي خرجت بالكاد من حرب أهلية مدمرة- للحصول على قرض من صندوق النقد الدولي وتنفيذ حزمة إصلاحات اقتصادية. وقد تشمل تلك الحزمة: خفض قيمة عملتها “البر” في دولةٍ تعاني بالأساس من معدل تضخم مرتفع وأزمة نقص حاد في العملات الأجنبية.
أما كينيا، التي لم تُخفِّض عملتها في السابق، فقد قامت ببيع دَيْن جديد لها في فبراير 2024م -بتكلفة اقتراض بنسبة 10%-، مما عزَّز المخاوف من إقدامها قريبًا على خفض عملتها عقب خطوات مماثلة قامت بها كل من إثيوبيا وغانا وزامبيا.
وقبيل الاحتجاجات الأخيرة، قال صندوق النقد الدولي: إن كينيا بحاجة للقيام “بإجراءات وخطوات مالية واقتصادية كبيرة”، وأثنت على زيادة الضرائب التي كانت مقررة وفق مشروع القانون المُلْغَى.
لكن بعد الاحتجاجات توقع مسؤولون كينيون أن حكومتهم ربما تكون قد أخبرت صندوق النقد الدولي أن القيام بذلك “مستحيل سياسيًّا”. وهكذا فإن تراجع روتو الأخير، وهو من أغنى رجال الأعمال في كينيا، يترك جهوده في تلبية أهداف صندوق النقد الدولي محل شك.
وقالت وكالة التصنيف الائتماني S & P: إنه من غير المرجح أن تحقق كينيا أهدافها المالية fiscal targets؛ لأن “الإدارة ستكون الآن أكثر حذرًا إزاء الضرائب المفروضة على الاقتصاد”.
ومن جهتها، قالت جولي كوزاك Julie Kozack، الناطقة باسم صندوق النقد الدولي، ردًّا على موقف الصندوق من الاحتجاجات: إن هدف صندوق النقد الدولي في كينيا هو “المساعدة… وتحسين توقعاتها الاقتصادية ورفاهية شعبها”.
ورفض فينسنت كوارولا V. Kwarula، الذي سبق أن أطلق عريضة تطالب صندوق النقد الدولي بإلغاء ديون كينيا، هذه الرؤية وقال: إن صندوق النقد الدولي قد لعب “دورًا محوريًّا في إثارة هذه الأزمة، وإننا نطالب صندوق النقد الدولي برفع يديه عن كينيا وعن إفريقيا ككل”.
روتو يحادث رئيس صندوق النقد الدولي بعد سحب قانون المالية([3]):
ذكرت وكالة رويترز أن الرئيس وليام روتو تحدَّث مع رئيسة صندوق النقد الدولي “كريستالينا جورجيفا” بعد أيام من سحب مشروع قانون المالية 2024م. وطبقًا لرويترز، فإن روتو أجرى محادثات هاتفية مع “جورجيفا” عقب خطوة سحب المشروع التي تزامنت مع غضب عارم في أوساط الشباب الكيني.. كشف ذلك دبلوماسيان للوكالة.
وكان مشروع قانون المالية يتضمن زيادات في الضرائب كركيزة لإصلاحات سياسية اقتصادية اتفقت عليها كينيا مع صندوق النقد الدولي كجزء من برنامج إقراض بقيمة 3.6 مليار دولار. ولم تقدم “المصادر الدبلوماسية” معلومات حول التفاصيل التي دارت حولها تلك المحادثات الهاتفية، لكنها قالت: إنه كان ثمة اتفاق بين المانحين الكبار على حاجة صندوق النقد الدولي لإبداء مرونة إزاء أهداف البرنامج، مع تطلع كينيا لسد الفجوة التي خلَّفها سحب مشروع القانون. وقال واحد من الدبلوماسيين: إن على حكومة كينيا إظهار التزامها بخفض سوء الإنفاق wasteful spending وشنّ حملة على الفساد، وزيادة المرونة والمحاسبية في سعر الصرف العملة مقابل الدولار.
وعندما سألت رويترز الناطقة باسم صندوق النقد عن التواصل مع الحكومة الكينية؟ أجابت بأن الصندوق “لا يزال لديه قلق عميق إزاء الأحداث المأساوية الأخيرة في كينيا، وأنه يُجري حوارًا مغلقًا مستمرًّا وبنّاءً مع السلطات الكينية”.
………………………………………
[1] Danny Bradlow, The IMF is failing countries like Kenya: why, and what can be done about it, the Conversation, July 2, 2024 https://theconversation.com/the-imf-is-failing-countries-like-kenya-why-and-what-can-be-done-about-it-233825