أسماء دهكال
أستاذ مساعد ، جامعة مصطفى اسطامبولي ، معسكر ، الجزائر
مقدمة:
اختلفت المدارس الاقتصادية عبر العصور -وفي مقدمتها المدرسة الكلاسيكية، وصولاً إلى المدرسة الكنزية الجديدة- حول دور الحكومة في رسم ملامح الاقتصاد؛ فالتعليم، الصحة، البنى التحتية، التأمين الاجتماعي إضافةً إلى خدمات الإدارة العامة، التي طالما أُسندت إلى أولويات الدولة من أجل تلبية حاجيات مواطنيها للوصول إلى أقصى درجات الرفاهية بشقيها: الاقتصادية والذاتية. فالتدخل الحكومي في الاقتصاد جاء عن طريق سياسة الإنفاق العام الذي يُعتبر من أدوات السياسة المالية، والتي تُترجِم بشكل مباشر تدخل الدولة في الحياة الاقتصادية.
فموضوع الإنفاق العام أو الحكومي أحد الموضوعات التي أسالت الكثير من الحبر في السنوات الأخيرة بطريقة لافتة جدًّا، ولعل من أسباب التطور والتنمية الاقتصادية هو الترشيد في استخدام المال العام أو المنفق إلا أن النتائج التحليلية عمومًا غير مُرضية حسب ما أقرَّته التقارير الدولية كالبنك الدولي واليونيسف، خصوصًا عند اجتياح جائحة كوفيد -19؛ فالقارة الإفريقية أثبتت هشاشة بعض القطاعات وضعفها في التصدي للجائحة مثلما هو الحال في تونس على سبيل المثال.
على مر السنين، كانت هناك زيادة في المتوسط في الإنفاق الحكومي للبلدان الإفريقية؛ بسبب سمات خاصة في التأثير على الإنتاجية الاقتصادية ورفاهية السكان، ومع ذلك يبدو أن نتائجها الاجتماعية والاقتصادية لا تتناسب مع حجم أو مستوى الإنفاق.
أحد الأسئلة المهمة هو أن نسأل ما إذا كان مستوى الكفاءة في استخدام الإنفاق الحكومي لتحسين الرفاهية الاجتماعية يتزايد بمرور الوقت أم لا؟ بعبارة أخرى، ربما تكون جودة الإنفاق قد أعاقت فعالية الإنفاق الحكومي في إفريقيا.
لذلك، ونتاجًا لما سبق ذِكْره، تدرس هذه الورقة قراءة تحليلية للمحددات الديمغرافية للإنفاق العام في إفريقيا وسنحاول في الشق الثاني من هذه الدراسة وضع العلاقة بين كفاءة الإنفاق الحكومي في البلدان الإفريقية والنتائج الاجتماعية والاقتصادية كنهج متعدد المدخلات لمخرج واحد، ومحددات مستوى الكفاءة في الإنفاق الحكومي، مع إيلاء اهتمام خاص في التحليل الاقتصادي للموارد الطبيعية والإرث الاستعماري لبعض البلدان التي تم أخذ عينات منها([2]).
الإنفاق العام: مدخل مفاهيمي
يشير الإنفاق الحكومي أو العام إلى “الأموال التي ينفقها القطاع العام على شراء السلع وتقديم الخدمات مثل التعليم والرعاية الصحية والحماية الاجتماعية والدفاع”([3]).
ونميز بين حالتين:
– إنفاق استهلاكي حكومي نهائي: يُدرَج هذا النوع في محاسبة الدخل القومي([4]).
– استثمار حكومي: وتكون الغاية لأجل الاستخدام المستقبلي([5]).
يكون الإنفاق العام على شكل قيمة نقدية، ولكل قيمة نقدية مصدر، لذلك تتعدد مصادر الإنفاق العام حسب نظام كل بلد، وتعتمد على مستوى التنمية الاقتصادية والأنظمة الضريبية والأطر المؤسسية وتوافر المساعدات الخارجية.
بصفة عامة خلصت جميع الدراسات الاقتصادية والمالية إلى المصادر التالية:
– الإيرادات الضريبية (مصدر مهم للإنفاق العام)، وتكون على شكل ضريبة الدخل، ضريبة القيمة المضافة (VAT)، ضريبة الشركات، ضريبة الممتلكات والرسوم الجمركية.
– الإيرادات غير الضريبية: وتتمثل في الرسوم والغرامات والتراخيص والتصاريح والإتاوات والرسوم الأخرى للخدمات الحكومية أو استخدام الموارد العامة.
– الاقتراض: من أجل تغطية عجز الميزانية أو تمويل مشاريع أو برامج مسطرة، تقترض الحكومات أموالًا لتمويل الإنفاق العام فتصدر سندات حكومية أو أذون خزانة أو أدوات دين أخرى لزيادة رأس المال من الأسواق المالية المحلية, وتستخدم الأموال المقترضة لتغطية عجز الميزانية أو تمويل مشاريع أو برامج محددة.
– المنح والمساعدات: في بعض الأحيان تتلقى الحكومات المنح والمساعدات المالية من المنظمات الدولية والحكومات الأجنبية وشركاء التنمية من أجل غايات محددة مثل تجديد البنية التحتية وتطوير التعليم والرعاية الصحية، الحد من الفقر…
– الإيرادات من الشركات المملوكة للدولة: قد تولد الحكومات إيرادات من الشركات المملوكة للدولة (SOEs)؛ من خلال أرباح الأسهم أو الأرباح أو أشكال الدخل الأخرى, ويمكن أن تساهم هذه الأموال في الإنفاق العام وتُخصّص لتقديم الخدمات العامة أو مشاريع التنمية.
– الفرق التحويلي أو فائدة الإصدار النقدي وهو الربح الذي تحققه الحكومة من خلال إنتاج العملة وإصدارها.
تستخدم الحكومات عادةً مزيجًا من هذه المصادر لتمويل التزامات الإنفاق العام مع ضمان الاستدامة المالية والاستقرار الاقتصادي.
الجدول 1: أسباب الإنفاق العام
– welfare state | |
– To meet the defence needs | |
– Development of agriculture and industries | |
– identification | |
– urbanization | Causes of Public Expenditure |
– Public dept and interest charges | |
– Price rise | |
– Burden of democracy | |
– Development Schemes and Projects | |
– Economic developement |
Source: https://investortonight.com/blog/public-expenditure, consult on 20/05/2023
محدداته:
يمكن أن تختلف محددات الإنفاق العام اعتمادًا على السياق المحدد والبلد. ومع ذلك، فإن هناك بعض العوامل المشتركة التي تؤثر على قرارات الإنفاق العام يوضحها الشكل التالي:
الشكل 01: محددات الإنفاق العام
يرتبط الإنفاق العام ارتباطًا وثيقًا ببعض متغيرات الاقتصاد الكلي؛ مثل: مؤشر البطالة، التضخم، تطور الناتج المحلي الخام، مستوى النمو، ميزان المدفوعات، وظروف الاقتصاد الكلي، كما أن حالة الاقتصاد بشكل عام لأيّ بلد تؤثر على الإنفاق العام. فمثلاً خلال فترات الانكماش الاقتصادي، قد تزيد الحكومات الإنفاق على تدابير التحفيز وبرامج الرعاية الاجتماعية مثلما ارتفعت نفقات الصحة العمومية في الجزائر خلال جائحة كوفيد -19.
يتأثر الإنفاق العام بالأجندة السياسية؛ خاصةً في بعض القطاعات الحساسة، مثل الرعاية الصحية أو التعليم أو البنية التحتية أو الدفاع أو البرامج الاجتماعية لما يتعلق ذلك بالوعود الانتخابية أو عند رسم خريطة الاقتصاد أو المنهج الاقتصادي المتبع بعد مرور الانتخابات التشريعية أو الرئاسية أو المحلية كل حسب أيديولوجيته.
بالنسبة للعوامل الديموغرافية، والذي يمثل موضوع دراستنا، حجم وتركيب السكان والهيكل العمري والتركيبة السكانية الاجتماعية تؤثر تأثيرًا مباشرًا على الإنفاق العام. على سبيل المثال، قد تتطلب شيخوخة السكان زيادة الإنفاق على المعاشات والرعاية الصحية لكبار السن.
من أجل ضمان الاستدامة المالية وتجنُّب الديون خاصة الخارجية منها، توافر الإيرادات الحكومية بشكل أساسي من خلال الضرائب وغيرها من المصادر، إشارة تؤكد أو تفنِّد قدرة الحكومات على الإنفاق العام؛ لذلك من الضروري موازنة الإنفاق من الموارد المتاحة مع اعتبارات الاستدامة المالية.
مع ملاحظة اعتبار مستويات الديون وأسعار الصرف والاتجاهات الاقتصادية الدولية عوامل خارجية تؤثر بطريقة أو بأخرى سواء على المدى القصير أو الطويل على خيارات الإنفاق الحكومية.
ومن المهم إدراك أن محددات الإنفاق العام يمكن أن تكون معقدة ومترابطة، ويمكن أن تختلف أهميتها النسبية حسب الواقع الاقتصادي والاجتماعي لأيّ بلد.
المحددات الديمغرافية للإنفاق العام في إفريقيا… قراءة اقتصادية عميقة
يُتوقع أن يتضاعف عدد سكان إفريقيا وإفريقيا جنوب الصحراء الكبرى بحلول عام 2050م بسرعة حتى لو انخفضت مستويات الخصوبة في المستقبل القريب بنسبة كبيرة. وبغَضّ النظر عن الضبابية التي تحيط بالاتجاهات المستقبلية للخصوبة في إفريقيا؛ فإن العدد الكبير من الشباب الموجودين في القارة في الوقت الحاضر -وهم مَن يُتوقَّع وصولهم سن البلوغ في السنوات المقبلة وأن يكون لديهم ذرية- يضمن أن تضطلع القارة بدَوْر مُهِمّ في تشكيل حجم سكان العالم وتوزيعهم على مدى العقود المقبلة(.([6]
من أجل معرفة العلاقة بين الإنفاق العام والمحددات الديمغرافية كان لا بد لنا من إلقاء نظرة على هيكل وحجم السكان والنظر في نسبة المواليد والوفيات، إضافةً إلى تحليل نسبة الخصوبة وأمل الحياة ومعرفة التوزع الجغرافي الحقيقي للسكان وتراكمهم في فئات عمرية محددة، إضافة إلى معرفة مستوى ونسبة الهجرة..
الشكل التالي يُوضِّح النمو السكاني حتى سنة 2100م في إفريقيا، ويتضح جليًّا أن النمو السكاني عرف انخفاضًا ملحوظًا منذ سنوات 1980م؛ وذلك راجع لعدة أسباب؛ منها: انتشار الأمراض، كثرة الحروب والانقسامات في المنطقة، وصولاً إلى جائحة كوفيد -19 في الآونة الأخيرة.
الشكل 02: النمو السكاني في إفريقيا
Source: 2022 United Nations, DESA, Population Division. Licensed under Creative Commons license CC BY 3.0 IGO. United Nations, DESA, Population Division. World Population Prospects 2022. http://population.un.org/wpp/
وفيما يلي، يوضح الشكل رقم 3 عدد سكان إفريقيا حسب العمر والجنس حتى سنة 2049م، ونلاحظ نوعًا من التوازن في السن والجنسين.
الشكل 03: سكان إفريقيا حسب العمر والجنس حتى سنة 2049م
Source: 2022 United Nations, DESA, Population Division. Licensed under Creative Commons license CC BY 3.0 IGO. United Nations, DESA, Population Division. World Population Prospects 2022. http://population.un.org/wpp/
على مر السنين، تشهد إفريقيا ارتفاعًا سريعًا في عدد سكان القارة؛ مقارنةً ببقية سكان العالم بنسبة تتراوح بين 2,1% منذ 1950م وأكثر من 2,6% في السنوات القليلة الماضية.
وهذا ما يُفسِّره الارتفاع المتسارع والإيجابي في عدد سنوات الحياة في إفريقيا عمومًا؛ ففي سنة 2005م، تم تسجيل 55 سنة بالنسبة الإناث، و53 سنة بالنسبة للذكور، وما يزال أمل الحياة في الارتفاع وصولاً إلى 56 سنة عام 2019م في المتوسط للجنسين معًا، إلا أن هذا الارتفاع رغم أهميته، ما زال تحت المتوسط العالمي للأمل في حياة صحية جيدة المحدد بـ64 سنة (الشكل 04).
الشكل04: المعدل السنوي للتغير السكاني في إفريقيا
Source: 2022 United Nations, DESA, Population Division. Licensed under Creative Commons license CC BY 3.0 IGO. United Nations, DESA, Population Division. World Population Prospects 2022. http://population.un.org/wpp/
وأعادت منظمة الصحة العالمية هذا التطور الإيجابي في أمل الإنسان الإفريقي في حياة صحية، لعدة عوامل؛ منها: تحسن الخدمات الصحية الأساسية، والتقدم المنجز في مجال الصحة الإنجابية، وتحسن صحة الأم والطفل، وكذا للتقدم المحقق في مكافحة الأمراض المعدية.
الشكل 05: أمل الحياة حسب الجنس في إفريقيا
Source: 2022 United Nations, DESA, Population Division. Licensed under Creative Commons license CC BY 3.0 IGO. United Nations, DESA, Population Division. World Population Prospects 2022. http://population.un.org/wpp/
الأشكال التالية) 05،06) توضح أن مستويات الرعاية الصحية عرفت قفزة نوعية سواء من حيث نوعية الخدمات أو حتى المناطق التي مسَّتها خدمات الرعاية الصحية.
ويمكننا أن نستخلص أن القارة الإفريقية تسير على خطى صحية صحيحة وستنال ثمارها على المدى الطويل. ولكن تشير المعدلات العالمية إلى أن نسبة الذكور تزيد في الدول المتقدمة بعكس الدول الفقيرة التي تزيد بها نسبة الإناث فنسبة الذكور تكون مرتفعة غالبًا في المناطق الحضرية ومنخفضة في المناطق الريفية، واستنادًا إلى ما تعاني منه بعض البلدان والمناطق في إفريقيا من حروب ومشكلات أهلية فإن نسبة الذكور مرتبطة بالأوضاع السياسية لكل دولة، ولذلك فإن أمل الحياة لفئة الذكور يبقى منخفضًا بالنسبة لفئة الإناث.
الشكل 05: معدل المواليد الخام ومعدل الوفيات الخام في إفريقيا
|
الشكل 06: معدل الوفيات تحت سن الخامسة في إفريقيا
|
Source: 2022 United Nations, DESA, Population Division. Licensed under Creative Commons license CC BY 3.0 IGO. United Nations, DESA, Population Division. World Population Prospects 2022. http://population.un.org/wpp/
الشكل 07: توزيع السكان حسب الأعمار والفئات
Source: 2022 United Nations, DESA, Population Division. Licensed under Creative Commons license CC BY 3.0 IGO. United Nations, DESA, Population Division. World Population Prospects 2022. http://population.un.org/wpp/
تشهد إفريقيا اليوم ظاهرة الانفجار السكاني؛ فالملاحظ أن الدول النامية في إفريقيا ترتفع بها نسبة المواليد وصغار السن أقل من 15 سنة؛ مما يُشكِّل عبئًا اقتصاديًّا كبيرًا على تلك الدول، وأن نسبة كبار السن منخفضة، وأن مجموع نسبة صغار السن تحت 15 سنة وكبار السن فوق 64 سنة هي 48%، بينما نسبة السكان في سن العمل 52% أي أن نصف المجتمع يَعُول النصف الاخر. مما يترجم بأن عبء الإعالة مرتفع في إفريقيا مقارنةً بالمعدل العالمي؛ حيث إن المعدل العالمي هو 62% من السكان في سن العمل و38% معولين.
الشكل 08: معدل الإخصاب في إفريقيا
Source: 2022 United Nations, DESA, Population Division. Licensed under Creative Commons license CC BY 3.0 IGO. United Nations, DESA, Population Division. World Population Prospects 2022. http://population.un.org/wpp/
ضعف مناعة الرجال وقلة مقاومتهم للأمراض بسبب سوء التغذية بعكس النساء اللاتي ترتفع مقاومتهن للمرض برغم الظروف السيئة التي يواجهنها عقب الولادة، بوجه عام تنخفض النسبة الجنسية في دول وسط إفريقيا ذات الظروف المناخية والبيئية القاسية مثل رواندا 5 لكل 100 امرأة، ترتفع النسبة الجنسية في الدول المستقرة سكانيًّا أو الدول الجاذبة للمهاجرين، فالنسبة بمصر 104 رجال لكل 100 امرأة، وفي ليبيا 108 رجال لكل 100 امرأة.
الشكل 09: التغير الطبيعي السنوي وصافي الهجرة
Source: 2022 United Nations, DESA, Population Division. Licensed under Creative Commons license CC BY 3.0 IGO. United Nations, DESA, Population Division. World Population Prospects 2022. http://population.un.org/wpp/
الإنفاق العام والمحددات الديمغرافية: أي علاقة تشرحها إفريقيا؟
الإنفاق الحكومي أو العام هو أحد السبل الحيوية لتوفير السلع والخدمات العامة بهدف تحسين رفاهية المواطنين خصوصًا الاقتصادية. تتمتع بلدان إفريقيا بشكل طبيعي بموارد ضخمة، مما يسمح لها بتمويل مشاريعها المحلية بطريقة سهلة وسلسة، وهذا ما أشارت إليه كثير من التقارير الصادرة عن الهيئات الدولية. ومع ذلك فإن معظم البلدان الإفريقية تحتل مراتب متدنية في التنمية البشرية، كما يوضح الشكل التالي.
الشكل10: مؤشر التنمية البشرية HDI
Source: Adegboye, A., Akinyele, O.D. Assessing the determinants of government spending efficiency in Africa, P: 02
كشفت الدراسات على مر السنين أنه لا يوجد اتفاق على العلاقة بين الموارد الطبيعية ومستوى التنمية الاقتصادية، وعلى الرغم من أن طبيعة سياسة العديد من الحكومات تتوقف تحسين نوعية الحياة لمواطنيها، إلا أن مؤشرات التنمية تبقى منخفضة مقابل الإنفاق الضخم، وهذا راجع ربما إلى تدني كفاءة الإنفاق بحد ذاته([7]).
الإنفاق العام في إفريقيا مر بمرحلتين؛ الأولى مرحلة التقشف، وتبدأ من سنوات الثمانينيات حتى سنة 2016م، أما المرحلة الثانية فتبدأ من سنة 2016م إلى يومنا هذا، وتُعرَف بمرحلة الحكم الراشد في الإنفاق.
يوضح الشكل (11) متوسط الإنفاق العام معبرًا عنه كنسبة مئوية من الناتج المحلي الإجمالي عبر المناطق المختلفة من العالم. في المتوسط، كان الإنفاق الحكومي في إفريقيا جنوب الصحراء أقل بكثير من الإنفاق الحكومي في الشرق الأوسط أو شمال إفريقيا أو شرق آسيا والمحيط الهادئ خلال الفترة 1995-2016م، الأمر الذي يتسبَّب في توخي الحذر المالي في البلدان النامية. بعبارة أخرى، ينبغي على حكومات البلدان الإفريقية جنوب الصحراء أن تتجنَّب الإنفاق بما يتجاوز مواردها العامة إلى حد كبير([8]).
الشكل 11: نسبة الإنفاق الحكومي إلى الناتج المحلي الإجمالي حسب المنطقة خلال الفترة 1994-2016م
Source: Mohamed Traoré. Government spending and inclusive growth in sub-Saharan Africa: A panel VAR analysis. 2018. ffhal-01940506, P: 10
يبلغ متوسط الإنفاق العام على التعليم 4,2٪ من الناتج المحلي الإجمالي في شرق آسيا والمحيط الهادئ و4,9٪ في أمريكا اللاتينية، بينما يبلغ 4,4٪ في إفريقيا جنوب الصحراء (الشكل: 12). الفجوة كبيرة بما يكفي للإنفاق العام على الرعاية الصحية الذي يبلغ 2,9٪ فقط من الناتج المحلي الإجمالي في إفريقيا جنوب الصحراء، مقارنةً بـ3,7٪ في أمريكا اللاتينية، و5٪ لشرق آسيا والمحيط الهادئ. ومن الواضح أن حكومات إفريقيا جنوب الصحراء يجب أن تفعل المزيد لتعزيز النمو الشامل من خلال توجيه سياسة الإنفاق نحو تعزيز المزيد من الإنصاف.
الشكل 12: حصة الإنفاق الحكومي على التعليم والصحة من الناتج المحلي الإجمالي (2010-2016م)
Source: Source: Mohamed Traoré. Government spending and inclusive growth in sub-Saharan Africa: A panel VAR analysis. 2018. ffhal-01940506, P: 15
الشكل 13: الإنفاق الحكومي كنسبة مئوية من الناتج المحلي الإجمالي
Source: Adegboye, A., Akinyele, O.D. Assessing the determinants of government spending efficiency in Africa, P: 03
يرجع حوالي 12,2٪ من إنتاج النفط في العالم إلى إفريقيا، وظلت إيرادات الموارد تمثل الجزء الأكبر من تقديرات إيرادات الميزانية في معظم هذه البلدان وتمثل بين 60 و70٪ في بعض البلدان. ومن المفارقات أن البلدان الإفريقية الغنية التي تعتمد على الموارد الطبيعية لديها تصنيفات منخفضة في نتائج الصحة والتعليم([9]).
قراءتنا للشكل السابق الذي يُوضِّح النسب المئوية للإنفاق الحكومي من الناتج المحلي الإجمالي لبعض الدول الإفريقية، ونلاحظ الإنفاق الضخم لهذه الدول مقارنةً ببقية دول العالم.
قد يكون للإرث الاستعماري تأثيرات غير مباشرة على النتائج الاجتماعية والاقتصادية عبر بعض القنوات، على الرغم من أن التأثير المباشر سيتم التعامل معه بحذر. لذلك، يمكن اعتبار مقياس الأصل الاستعماري عاملاً كمحدد محتمل لمستوى الكفاءة أو كمؤثر على مدى التنمية الاقتصادية في إفريقيا([10]).
بحسب تقرير البنك الدولي الصادر سنة 2021م([11])، فإن الأثر الاقتصادي الناجم عن صدمة جائحة كورونا في إفريقيا كان حادًّا نوعًا ما، لكن من المتوقع أن يخرج النمو الاقتصادي في المنطقة من حالة الركود التي شهدها عام 2020م، وأن ينمو بنسبة 4% في عام 2023م. ولا يزال هذا الانتعاش -الذي يذكيه حاليًا ارتفاع أسعار السلع الأولية، وتخفيف العمل بالتدابير الصارمة لاحتواء فيروس كورونا، والتعافي في التجارة العالمية- هشًّا في ضوء انخفاض معدلات التطعيم في القارة، والأضرار الاقتصادية طويلة الأجل، وبطء وتيرة التعافي.
من المتوقع أن تنتعش شرق إفريقيا والجنوب الإفريقي، وهي المنطقة الأشد تضررًا من الموجة الثالثة من فيروس كورونا من الانكماش؛ حيث سجَّل معدل نموّ قدره 3,4% في 2022م، ومن المتوقع أن ينتعش معدل النمو في جنوب إفريقيا من سالب 6,4% في 2020م إلى 4,6% في 2021م، وذلك بعد عامين متتاليين من الركود، كما يُتوقع أن ينتعش النشاط الاقتصادي في أنغولا من سالب 5,4% في 2020م إلى 0,4% في 2021م. وباستثناء أنغولا وجنوب إفريقيا، من المتوقع أن تنمو المنطقة الفرعية بنسبة 3,1% في 2021م، و4,3% في 2022م.
ومن المتوقع أن يبلغ معدل النمو في غرب ووسط إفريقيا 3,2% في 2021م، ارتفاعًا من سالب 0,8% في 2020م، وتشير التقديرات إلى أنه سيواصل نموه ليرتفع إلى 3,6% في 2022م. ومن المتوقع أن يتعافى النمو في هذه المنطقة الفرعية من الأداء الضعيف الذي شهدته العام الماضي إلى 4,5% في 2021م، و5,3% في 2022م. ومن المتوقع أن تنمو نيجيريا من سالب 1,8% في 2020م إلى 2,4% في 2021م، وذلك بفضل تحسّن أداء كل من القطاعين النفطي وغير النفطي. وباستثناء نيجيريا، من المتوقع أن تنمو البلدان الأعضاء في الاتحاد الاقتصادي والنقدي لغرب إفريقيا بنسبة 5,6% في 2021م و6,1% في 2022م، مما يعكس معدلات التبادل التجاري المواتية.
ومن شأن تسريع وتيرة توزيع اللقاحات أن يُسرِّع معدل النمو في المنطقة ليصل إلى 5,1% في عام 2022م و5,4% في عام 2023م، مع تسريع تخفيف تدابير احتواء فيروس كورونا وزيادة الإنفاق. بيد أنه إذا استمر تأخر تقديم اللقاحات وتغطيتها، فإن النمو قد يتباطأ إلى 2,4% في عام 2023م.
وقد اغتنمت البلدان الإفريقية الفرصة التي أتاحتها الأزمة لتشجيع الإصلاحات الهيكلية وإصلاحات الاقتصاد الكلي التي يمكن أن تمهد الطريق لزيادة النمو الشامل للجميع على المدى الطويل؛ حيث شرعت عدة بلدان في تنفيذ إصلاحات هيكلية صعبة ولكنها ضرورية، مثل توحيد أسعار الصرف في السودان، وإصلاح دعم الوقود في نيجيريا، وفتح قطاع الاتصالات السلكية واللاسلكية أمام القطاع الخاص في إثيوبيا. ويمكن للإصلاحات التي توفر إمدادات كهرباء مستمرة، بما في ذلك رفع كفاءة عمل المرافق العامة، أن توفر الكهرباء لقطاع الصناعات التحويلية والاقتصاد الرقمي. وأخيراً، تُعد الإصلاحات التي تعالج الفجوات في البنية التحتية الرقمية، وتجعل الاقتصاد الرقمي أكثر شمولاً -بما يضمن القدرة على تحمُّل التكاليف وبناء مهارات جميع شرائح المجتمع- ضرورية لتحسين إمكانية الربط والاتصال، وتعزيز اعتماد التكنولوجيا الرقمية، وخلق وظائف أكثر وأفضل للرجال والنساء([12]).
رغم غنى إفريقيا بالموارد الطبيعة تظلمها المؤشرات الاقتصادية
إن وفرة الموارد الطبيعية يمكن أن ينعكس ايجابًا على كفاءة الحكومات الإفريقية والاستقلال الذاتي المحلي يزيد من الموارد المتاحة لملف الإنفاق الحكومي لكل بلد.
قراءتنا للتقارير الدولية الإحصائية خاصة بما يتعلق الأمر بإفريقيا، كشفت أن الإطار المؤسسي هو مُحرّك قويّ لكفاءة الإنفاق الحكومي؛ حيث يعتمد على الاستقلال السياسي لكل بلد إفريقي، والموقع الجغرافي، والاستقلال الاقتصادي، وخطر الإرهاب والحرب الذي يواجهه والذي يُقاس من خلال الإرث الاستعماري، وموارد الإيجار، حجم الاقتصاد والمتغيرات المؤسسية والإنفاق الحكومي.
يمكن ملاحظة أن الإرث الذي حصل عليه الحكام الاستعماريون كان له تأثير كبير على طبيعة عمليات القطاع العام. ومِن ثَم، فإن أيّ تشويه للاقتصاد هو نتيجة لمصلحة ذاتية ومكاسب شخصية في إدارة الموارد العامة.
من المعروف أن للإنفاق على الصحة العامة والاستثمار في البنية التحتية آثارًا إيجابية كبيرة على النمو الاقتصادي. وأن الإنفاق العام على التعليم قد يكون له تأثير سلبي على المدى القصير قبل أن يكون له تأثير إيجابي، ولكنه يعتمد على نمو نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي.
إن الاستثمار في البنية التحتية قد يساهم في نمو أكثر شمولاً في اقتصادات إفريقيا وإفريقيا جنوب الصحراء؛ حيث من الضروري النظر في البرامج المؤقتة والموجهة جيدًا لمساعدة أولئك الذين تركتهم عملية النمو. يجب على حكومات بلدان إفريقيا أن تُوجّه استراتيجيات سياساتها نحو زيادة الإنفاق العام على الصحة والتعليم والبنية التحتية باعتبارها قطاعات غير منتجة؛ لأن:
– زيادة الإنفاق الحكومي على التعليم تؤدي إلى تحسين الالتحاق بالمدارس الابتدائية والثانوية، والتميُّز الأكاديمي، والبحث والتطوير، وتنمية رأس المال البشري، فضلاً عن مهارة الأدي العاملة والإتقان. لذلك، فإن هذا من شأنه أن يسهم بشكل كبير في النمو الشامل في البلاد.
– إذا زادت الحكومات إنفاقها على الصحة من خلال توفير الأدوية الجيدة، والموظفين الصحيين المهرة، والبيئة النظيفة والداعمة، فسيتم إحراز تقدم كبير للحد من الأمراض المنقولة عن طريق المياه، والأمراض المنقولة عن طريق الاتصال الجنسي، والملاريا، وشلل الأطفال، وما إلى ذلك، وقبل كل شيء تحسين صحة الرُّضع والأمهات، وبالتالي ستنخفض الوفيات في جميع أنحاء القارة.
ختامًا، إن إفريقيا اليوم أحسن من إفريقيا الأمس؛ لأن الحكومات طالما بحثت في سبل تحقيق الرفاه الاقتصادي والذاتي لمواطنيها؛ إلا أنها لا تزال تعاني من بقايا الاستعمار والصورة السلبية التي ترسمها الحروب والانقسامات والأمراض والأوبئة.
[2] -Adegboye, A., Akinyele, O.D. Assessing the determinants of government spending efficiency in Africa. Futur Bus J 8, 47 (2022). https://doi.org/10.1186/s43093-022-00142-8
[3] –https://corporatefinanceinstitute.com/resources/economics/government-spending/, consult on 20/05/2023
[4] – عندما تحصل الحكومة على سلع وخدمات للاستخدام الحالي لتلبية الاحتياجات الفردية أو الجماعية ومتطلبات المجتمع بشكل مباشر.
[5] – ويشمل ذلك الاستهلاك العام والاستثمار العام، ومدفوعات التحويل التي تتكون من تحويلات الدخل.
[6] –https://www.un.org/ar/global-issues/population, consulted on 24/05/2023
[7] -Adegboye, A., Akinyele, O.D. Assessing the determinants of government spending efficiency in Africa. Futur Bus J 8, 47 (2022). https://doi.org/10.1186/s43093-022-00142-8
[8] -Mohamed Traoré. Government spending and inclusive growth in sub-Saharan Africa: A panel VAR analysis. 2018. ffhal-01940506, P : 10
[9] -Venables AJ (2016) Using natural resources for development: Why has it proven so difficult? J Econ Perspect 30(1):161–184
[10] -Agbor AJ (2011) How Does colonial origin matter for economic performance in Sub-Saharan Africa? UNI-WIDER Working Paper 22, Helsinki, Finland
[11] – يحوي التقرير على إحصائيات تقديرية لسنوات 2021-2022-2023-2024-2025م.
[12] -Agbor AJ (2011) How Does colonial origin matter for economic performance in Sub-Saharan Africa? UNI-WIDER Working Paper 22, Helsinki, Finland