بقلم: تيكواج فيتر
باحث في العلوم السياسية (جنوب السودان)
مقدمة:
ظلت القارة الإفريقية تحظى باهتمام كبير من القوى الدولية الكبرى؛ بسبب الخيرات والإمكانات التي يمكن جنيها من تلك القارة؛ حيث تتميز قارة إفريقيا بأنها غنية بالثروات الاقتصادية والموارد الطبيعية والبشرية، التي ترتبط بموقعها الاستراتيجي بالنسبة لتلك القوى الدولية.
وانطلاقًا من اهتمام القوى الدولية الكبرى بإفريقيا؛ فإن الصين تُعتبر إحدى تلك القوى التي تتمتع بوجود قويّ على مستوى القارة الإفريقية؛ حيث كانت تتبع مبدأ “عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الإفريقية”، وهو المبدأ الذي بدأ في التغير تبعًا لحجم المصالح التي قد تتأثر في حال استمرار التمسك به.
وتعتبر جنوب السودان واحدة من تلك الدول التي تحظى فيها الصين بوجود مؤثر من خلال علاقات ثنائية أو متعددة الأطراف تتسم بالتعاون في مجالات مختلفة، للدرجة التي جعلت الحفاظ على المصالح الصينية في جنوب السودان وحمايتها تفرض على الصين أن تتخلَّى عن مبدأ “عدم التدخل في الشؤون الداخلية”، كما اتضح في الدور الصيني في الحرب الأهلية في جنوب السودان.
لذا تسعى هذه الدراسة إلى عرض المحددات التي تستند عليها السياسة الصينية في إفريقيا، والأدوات التي تستعين بها الصين في تنفيذ سياساتها في إفريقيا، بالإضافة إلى مجالات السياسة الصينية في إفريقيا، ومن ثَمَّ اتخاذ جنوب السودان كحالة تطبيقية بعد عرض تلك النقاط في السياسة الصينية تجاه إفريقيا، مع أهمية محاولة تقييم مستقبل السياسة الصينية في جنوب السودان.
المحور الأول
محددات السياسة الصينية تجاه إفريقيا
هناك بعض من المحددات التي تستند عليها الصين كعوامل مُحرِّكة لسياستها تجاه إفريقيا، ويمكن تقسم تلك المحددات إلى ما يلي:
أولاً- المحددات الداخلية:
يُقْصَد بالمحددات الداخلية العوامل الداخلية في الدول المعنية، التي تؤثِّر وتعمل على دفع دولة ما إلى تبنّي سياسة معينة تجاه دولة أو دول معينة، وبالتالي في هذا الصدد سوف يتم تناول تلك المحددات الداخلية، التي تعتبر عوامل داخلية في الصين وإفريقيا، بحيث تدفع الصين إلى تبنّي سياسة أو سياسات معينة تجاه الدول الإفريقية فيما يلي:
أ- المحددات الجغرافية[1]:
إن الموقع الجغرافي للقارة الإفريقية يجعلها محط أنظار مختلف القوى الدولية الكبرى، فموقعها مُغْرٍ، ويمكن ملاحظة أهمية هذا الموقع الذي يُصنّف بالاستراتيجي؛ لأنه يربط ما بين قارات العالم؛ حيث تقع في المنتصف، وتُعتبر ممرًّا يُمثّل نقطة الانتقال من قارة إلى أخرى؛ عبر البحر الأحمر تتصل القارة الإفريقية من جهة الشرق بآسيا، ومن جهة الشمال تتصل وقارة أوروبا عبر البحر الأبيض المتوسط، أما من الغرب وعبر المحيط الهادي فتتصل بالقارتين الأمريكيتين الجنوبية والشمالية.
كما أن هذا الموقع الاستراتيجي، ساهم في أن تكون القارة الإفريقية غنية بالثروات والموارد الطبيعة الاقتصادية والبشرية، مما يجعلها جاذبة أمام مختلف الدول الكبرى التي تسعى إلى الاستفادة من تلك الموارد والثروات الغنية من أجل تحقيق مصالحها التي ترتبط بشكل مباشر أو غير مباشر بهذه القارة.
ب- المحددات السياسية:
تتمثل المحددات السياسية في إدراك القيادة السياسية في الصين أهمية تعزيز وتبنّي علاقات تعاونية مع الدول الإفريقية، خاصة حينما كانت الصين تسعى من أجل ضمان دعم وتأييد الدول الإفريقية في حصول على الاعتراف والدعم الإفريقي، بالإضافة إلى رغبة الصين في نشر الأيديولوجية الشيوعية في إطار التنافس الدولي أثناء الحرب الباردة، كذلك كانت قضية تايوان تشكل أهمية كبيرة لحاجة الصين للتأييد الإفريقي[2].
جـ- المحددات الاقتصادية:
ما تتمتع بها الصين من وضع اقتصادي متقدّم ومزدهر، والمزايا التي يمكن الاستفادة منها في القارة الإفريقية، يدفع الصين إلى البحث عن كيفية المحافظة على مصالحها وحمايتها، بالإضافة إلى الطموح لتزيد من تقدمها الاقتصادي في ظل التنافس الدولي، ويرتبط هذا الأمر بالوجود الصيني في إفريقيا، فإن الصين تعتبر قوة اقتصادية صاعدة من خلال نموّها الاقتصادي المتسارع على مستوى العالم، لا سيما أن امتلاك الصين لأكبر احتياطي من النقد الأجنبي، يفرض عليها البحث عن أسواق في الخارج لاستثمار فائض الإنتاج المحلي، بجانب حاجة الصين إلى الموارد الإفريقية مثل النفط، فإن الصين تأتي في المرتبة الثالثة لأكثر الدول التي تستورد النفط في العالم[3].
د- المحددات العسكرية:
حاجة الصين إلى بيع منتجاتها من الأسلحة تُعتبر من ضمن المحددات العسكرية، لا سيما في ظل اتباع الولايات المتحدة الأمريكية سياسة فرض العقوبات العسكرية ضد الدول الإفريقية، التي ترى الولايات المتحدة الأمريكية أنها تتناقض مع توجهاتها، هو ما يسهّل على الصين أن تلعب دورًا في تزويد الدول الإفريقية بالسلاح والطائرات الحربية[4].
ثانيًا- المحددات الخارجية:
إن المحددات الخارجية للسياسة الخارجية الصينية تجاه إفريقيا ترتبط بشكل مباشر مع طبيعة النظام الدولي التي تتسم بالتنافس بين القوى الكبرى، وعلى وجه الخصوص التنافس الصيني الأمريكي، ليس على الموارد الإفريقية فحسب، بل تمتد وتُدَار بعضها داخل المؤسسات الدولية مثل الأمم المتحدة وحاجة الصين إلى الحصول على التأييد والدعم الإفريقي داخل هذه المؤسسات تُعتبر عاملاً رئيسًا، وهو ما تمَّ تأكيدها بعد مؤتمر باندونج عام 1955م، الذي حظي فيه الصين بدعم وتأييد إفريقي أدَّى إلى إدراك الصين لأهمية ودور القارة الإفريقية ومدى تأثيرها على الداخل الصيني[5].
المحور الثاني:
أدوات ومجالات السياسة الصينية تجاه إفريقيا
لقد لجأت الصين إلى استخدام عددٍ من الأدوات السياسية والاقتصادية والعسكرية والثقافية والإعلامية، لتعزيز وإرساء العلاقات مع الدول الإفريقية؛ حيث استخدمت هذه الأدوات في مجالات التعاون، وتتمثل فيما يلي:
أولاً- الأدوات والمجال السياسي والدبلوماسي:
كان لاستخدام الصين الأدوات السياسية والدبلوماسية دور في تعزيز العلاقات مع الدول الإفريقية، منها تبادل التمثيل الدبلوماسي بين الصين ومعظم الدول الإفريقية (عدا خمسة منها أقامت علاقات دبلوماسية مع تايوان)، فقد كان بداية تبادل التمثيل الدبلوماسي بين الصين ودول القارة الإفريقية في مايو ١٩٥٦م مع مصر، وكان آخرها مع جنوب السودان بعد نيل الاستقلال في يوليو ٢٠١١م، وتبادل الزيارات الرسمية لمسؤولين من الجانبين الصيني والإفريقي، وكذلك الاتصالات الرسمية واللقاءات وتعزيز التعاون مع المؤسسات الرسمية وغير الرسمية، وخاصة على مستوى تبادل الخبرات مع الأحزاب السياسية التي تتبنَّى الشيوعية دون التدخُّل في الشؤون الداخلية للدول الإفريقية، وكان للمنتدى الصيني الإفريقي دورٌ في تعزيز وترسيخ العلاقات بين الجانبين[6].
ثانيًا- الأدوات والمجال الاقتصادي والتجاري:
تُعتبر المعونات والمساعدات المالية والعينية والإنسانية والفنية من ضمن الأدوات الاقتصادية التي اعتمدت عليها الصين في سياساتها تجاه القارة الإفريقية، فقد استخدمت الصين في تعزيز العلاقات مع الدول الإفريقية على تقديم المعونات والمساعدات لمعظم الدول الإفريقية تصل إلى مليارات الدولارات، ومنح قروض معفاة من الفوائد وبعضها تكون تفضيلية، بالإضافة إلى المساعدات الإنسانية في المجال الصحي والمساعدات الفنية في تدريب وتأهيل الكوادر في مجالات مختلفة، كما كانت المساهمة في مجال البناء والتشييد جزءًا من المساعدات الصينية للدول الإفريقية، منها بناء الطرق والمدارس والمستشفيات وغيرها، وما ميَّز الصين في استخدام هذه الأدوات الاقتصادية هو أنها لا تستند على شروط سياسية ترتبط بالشؤون الداخلية للدول الإفريقية إنما بمبدأ الصين الواحد فحسب بجانب بعض المعايير وفق حجم القروض.
ثالثًا- الأدوات والمجال العسكري:
إن الأدوات العسكرية من ضمن أدوات السياسة الصينية التي ما تزال تمثل مدخلاً مؤثرًا، وذات أهمية في تعزيز وإرساء العلاقات مع الدول الإفريقية، من خلال مبيعات الأسلحة والتكنولوجيا العسكرية في ظل اتجاه سياسة الغرب لفرض عقوبات عسكرية ضد الدول الإفريقية، سمحت هذه السياسة للصين أن تجد فرصة لاستغلال الأدوات العسكرية، من أجل الحصول على الموارد الاقتصادية في تلك الدول لا سيما النفط[7].
رابعًا- الأدوات والمجال الثقافي:
كذلك استعانت بها الصين في تعزيز العلاقات مع الدول الإفريقية بالأدوات الثقافية في المجال الثقافي، منها المِنَح الدراسية في الصين للدول الافريقية، لقد حصل ما يزيد عن ستة آلاف إفريقي على منحة دراسية في المراحل الجامعية والماجستير والدكتوراه خلال الفترة من ١٩٥٦-٢٠٠٢م فحسب، وتحصل الدول الإفريقية على مِنَح دراسية سنويًّا في الصين، بجانب قيام الصين بفتح معاهد لتعليم اللغة الصينية في بعض الدول الإفريقية، وكثَّفت الصين دَعْمَها لتدريب وتأهيل الكوادر الإفريقية، بما فيها الدبلوماسيون وقدمت مساعدات عينية ومالية من أجل تطوير المؤسسات والقطاعات التعليمية الإفريقية[8].
بالإضافة لذلك، وثَّقت الصين علاقاتها مع الدول الإفريقية؛ من خلال قيامها بتنفيذ برامج التبادل الثقافي والتعاون الرياضي. وكان أهمّ هذه البرامج: المهرجان الصيني الإفريقي، الذي تم تنفيذه في بكين في عام ٢٠٠٤م، وكذلك مهرجان الفنون الدولية في بكين في نفس العام؛ حيث تم تمثيل القارة الإفريقية كضيف شرف هذا المهرجان[9].
المحور الثالث:
السياسة الصينية تجاه جنوب السودان
يمكن فهم السياسة الصينية تجاه جنوب السودان من خلال المحدِّدات التي تُمثّل عوامل مُحرّكة للسياسة الصينية في جنوب السودان، والأدوات التي تعتمد عليها الصين في تنفيذ وضمان نجاح سياساتها الخارجية في جنوب السودان، كما أن مجالات السياسة الخارجية الصينية تجاه جنوب السودان تُعتبر مقياسًا لفهم طبيعة ومستوى فاعلية السياسة الصينية في جنوب السودان، ومِن ثَمَّ فإنه من الأهمية الإشارة إلى مستقبل هذه السياسة في جنوب السودان، بالرغم من عدم دقته، إلَّا أنَّ هناك بعضًا من المُؤشِّرات التي تعكس مستقبل السياسة الصينية في جنوب السودان.
أولاً- محددات السياسة الصينية تجاه جنوب السودان:
إنَّ المحددات الاقتصاديَّة تُعتَبر من أبرز العوامل التي تُحرّك السياسة الصينية في جنوب السودان، فقد ظلت الصين القوة التي تُهمين على استيراد النفط من إقليم جنوب السودان قبل الاستقلال، وحتى بعد الاستقلال استمرت هذه السياسة التي تقوم على استيراد النفط الخام، بالإضافة إلى تحقيق أهداف السياسة الصينية في البحث عن أسواق لاستهلاك المنتجات الصينية؛ حيث يُعتبر جنوب السودان جزءًا من الأسواق الإفريقية التي تسعى الصين للاعتماد عليها في التخلُّص من فائض الإنتاج المحلي الصيني والاستفادة من توافر الأيدي العاملة الرخيصة.
ثانيًا- أدوات السياسة الصينية تجاه جنوب السودان:
استطاعت الصين -من خلال استخدام أدوات القوة الناعمة- تعزيز وجودها في جنوب السودان، وشكَّلت الأدوات السياسية والاقتصادية والثقافية جوانب رئيسية ومؤثرة، منها الوقوف بجانب حكومة جنوب السودان في الأمم المتحدة، وتقديم القروض والمساعدات الطيبة والإنسانية، بحيث وصلت قيمة المساعدات الإنسانية منذ أحداث ديسمبر ٢٠١٣م إلى ما يُقدَّر بـ٤٩ ميلون دولار أمريكي، وفي عام ٢٠١٧م وقَّعت الصين مع حكومة جنوب السودان اتفاقًا لدعم القطاع الصحي بمبلغ يتراوح قيمته ٣٣ مليون دولار أمريكي، كذلك قدَّمت الحكومة الصينية لجنوب السودان بعد ظهور فايروس ايبولا، مِنَحًا تُقَدَّرُ بمليون ونصف مليون دولار أمريكي؛ حتى تتمكّن الدولة من مكافحة هذا المرض[10].
ثالثاً- مجالات السياسة الصينية تجاه جنوب السودان:
لقد تعددت مجالات السياسة الصينية في جنوب السودان، وتمثلت فيما يلي:
أ-المجال السياسي:
بعد استقلال جنوب السودان في ٩ يوليو ٢٠١١م، سارعت الصين بالاعتراف بالدولة الجديدة في إقليم الجنوب، وشرعت في إقامة علاقات دبلوماسية بين البلدين بمستوى “سفراء”، وهو ما يشير إلى مدى أهمية جنوب السودان في السياسة الخارجية الصينية، بجانب استغلال المؤتمرات الدولية في تعزيز العلاقات بين البلدين، وتوقيع اتفاقيات دولية ثنائية ومتعددة الأطراف.
لذلك كان لاندلاع الحرب الأهلية في جنوب السودان تأثير على المصالح الصينية في جنوب السودان، فقد استهدفت قوات المعارضة البنية التحتية لإنتاج النفط، دفَع ذلك الأمر إلى قبول الصين أن تتوسط في وقف الحرب بين أطراف الصراع (الحركة والجيش الشعبي لتحرير السودان بقيادة رئيس البلاد سلفا كير ميارديت، والحركة والجيش الشعبي لتحرير السودان في المعارضة بقيادة نائب الرئيس السابق د. ريك مشار)، بطلب من الايجاد (IGAD) نتيجة لعلاقات الصين المباشرة وغير المباشرة مع طرفي الصراع؛ حيث تمكَّنت الصين من أن تنجح كوسيط في قبول الأطراف التنازل للتفاوض حول كيفية تسوية الصراع، من خلال إقناع الأطراف باستخدام المساعدات المالية وضمان استمرار تدفق إنتاج النفط[11].
كما شكَّل وقوف الصين بجانب جنوب السودان داخل الأمم المتحدة ضد فرض العقوبات على حكومة وقيادات جنوب السوان، وعلى وجه الخصوص في مجلس الأمن والسِّلم الدولي، وعلى الرغم من ذلك إلا أن الصين قامت بالتصويت في عام ٢٠١٤م بعد اندلاع الصراع في جنوب السودان على المقترح الأمريكي بفرض عقوبات ضد جنوب السودان لحثّ أطراف الصراع على قبول الوساطة وتسوية الصراع. وبالتالي كان تأثير الحرب على المصالح الصينية الاقتصادية سببًا رئيسًا في أن يتم فرض العقوبات على طرفي الصراع[12].
كما كان بين الدولتين تبادل الزيارات الرسمية والشعبية، بجانب الاتصالات بين المسؤولين في الدولتين، والتنسيق بين الحزب الشيوعي الصيني وحزب الحركة الشعبية لتحرير السودان من أجل تبادل الخبرات والتجارب.
ب- المجال الاقتصادي:
كما سبقت الإشارة فإن الدوافع الاقتصادية تُعتبر المحرك الأساسي للسياسة الصينية تجاه جنوب السودان، فإن الصين تُعتبر المستثمر الأكبر في نفط جنوب السودان، والذي يمثل ٥ – ٨٪ فقط من إجمالي واردات الصين من النفط، كما أن الصين حتى قبل اندلاع الحرب الأهلية في جنوب السودان كانت قد دفعت ما يُقدّر بـ١٨ مليار دولار أمريكي للاستثمار في جنوب السودان، وهو ما شكَّل عامل قلق لدى الصين في حال استمرار الحرب، مما قد يضرّ بمصالحها الاقتصادية في جنوب السودان[13].
وفيما يتعلق بالميزان التجاري بين البلدين فإنه يصبّ لصالح الصين بتحقيقها فائضًا في الميزان التجاري وعجزًا في الميزان التجاري لجنوب السودان، بما يعادل ٧٧٪ من واردات جنوب السودان تأتي من الصين، بينما نسبة ٣٠٪ فقط من صادرات جنوب السودان تذهب إلى الصين في شكل المواد الخام، يُمثّل النفط أبرز هذه الصادرات.[14] كما وقَّعت حكومة جنوب السودان مع الصين اتفاقًا حول مشروع لإنشاء طرق تربط العاصمة بالولايات الأخرى مقابل حصول الصين على ٣٠ ألف برميل نفط بشكل يوميّ حتى إتمام المشروع[15].
ج- المجال العسكري والأمني:
إن المجال العسكري في سياسة الصين الخارجية تِجاه جنوب السودان، مثَّل نقطة تحوُّل في تجاوز مبدأ الصين في تبنّي سياسة عدم التدخل في الشؤون الداخلية في الدول الأخرى، المبدأ الذي تميزت به السياسة الصينية منذ بداية انتهاج سياسة خارجية تجاه الدول الإفريقية في خمسينيات القرن التاسع عشر الميلادي، إلا أنَّ الحرب الأهلية في جنوب السودان وتهديدها للمصالح الصينية -كما وصفها الباحثون والمهتمون بالسياسة الخارجية الصينية-، كانت اختبارًا حقيقيًّا لحدود انتهاج الصين لهذا المبدأ في مقابل حماية مصالحها في الخارج؛ حيث قامت الصين خلال فترة الحرب الأهلية في جنوب السودان بإرسال قوات قتالية ضمن قوات حفظ السلم تُقدَّر بـ٧٠٠ جندي على إثر طلب من حكومة جنوب السودان، هذه الخطوة مثَّلت نقطة تحوُّل في تخلّي الصين عن مبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الإفريقية بهذا الشكل لأول مرة في تاريخها[16].
كما تدخلت الصين في عام ٢٠١٥م عبر شركة النفط الوطنية الصينية لمنع قوات المعارضة من السيطرة أو تدمير حقول إنتاج النفط في ولاية الوحدة والحقول التي في فلوج وعدراييل بالضغط على الحركة والجيش الشعبي لتحرير السودان في المعارضة لسحب قواتها التي كانت تتقدم نحو تلك المناطق، مقابل تقديم عرض مغرٍ (مبلغ نقدي ضخم، و٤٠ شقة/منازل سكنية في العاصمة الكينية)، لإثنائها من تنفيذ هذه العملية العسكرية التي استهدفت السيطرة على المناطق الاستراتيجية اقتصاديًّا لإضعاف الحكومة[17].
د- المجال الثقافي:
إن المجال الثقافي في السياسة الصينية تجاه جنوب السودان، هو أحد أهم أدوات القوة الناعمة التي اعتمدت عليها الصين في تعزيز وجودها في جنوب السودان؛ من خلال تقديم المِنَح الدراسية والمساعدات العينية والتقنية لقطاع التعليم في جنوب السودان، بالإضافة إلى تدريب وتأهيل الكوادر، فقد بدأت الصين في استخدام سياسة تقديم المِنَح الدراسية للطلاب من جنوب السودان بعد توقيع اتفاقية السلام الشامل، وعلى وجه التحديد منذ عام ٢٠٠٨م أي قبل استقلال إقليم الجنوب، وحتى نوفمبر ٢٠١٢م كان هناك ما يُقدَّر بـ٥٠٠ مسؤول حكوميّ وعدد من التقنيين حصلوا على تدريب في الصين، وتحصل حكومة جنوب السودان على مِنَح دراسيَّة سنويًّا من الصين[18].
خاتمة:
مما سبق، يتضح أن الصين تمكَّنت من تعزيز علاقاتها مع الدول الإفريقية؛ من خلال كسب ثقة ورضاء الدول الإفريقية نتيجة لتطبيق سياسة الصين في مواجهة تايوان والدول الغربية وعلى رأسهم الولايات المتحدة الأمريكية، فكان لقدرة الصين على استغلال أدوات معينة دور في تنفيذ ونجاح السياسة الصينية في إفريقيا، فقد تنوعت هذه الأدوات لتشتمل على أدوات سياسية واقتصادية وعسكرية وثقافية، التي مثلت مجالات التعاون مع الدول الإفريقية في ذات الوقت.
أما على مستوى دولة جنوب السودان فلم يختلف الأمر، سوى في أنها مثَّلت مختبرًا حقيقيًّا لحدود سياسة الصين في تبنّي مبدأ عدم التدخل في شؤون الدول الإفريقية، فقد دفعت الحرب الأهلية وتأثيرها على المصالح الصينية التي تتصل بشكلٍ وثيق بالنفط، الصين إلى أن تتراجع عن التمسُّك بهذا المبدأ، فقد تدخلت بشكل مباشر وغير مباشر في تقليل تأثير الحرب على المناطق المنتجة للنفط، من خلال المشاركة في إغراء الأطراف بتقديم الأموال وأصول عقارية، للطرف الحكوميّ كقروض مقدَّمة مقابل النفط، بينما للمعارضة لسحب قواتها، ومنعها من الاقتراب من مناطق إنتاج النفط.
كما شاركت في وساطة “إيجاد”، ونجحت في أن تلعب دورًا في الإفراج عن المعتقلين الذين تم تسميتهم فيما بعد بالمعتقلين السياسيين السابقين، كذلك ساهمت بقوات حفظ السلام في جنوب السودان، ما يميز هذه المشاركة أن هذه القوات كان لها مهام قتالية أيضًا، وهو ما يُمثِّل نقطة تحوُّل في السياسة الصينية منذ أواخر عام ١٩٥٥م تجاه الدول الإفريقية، التي تقوم على سياسة مبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية، إلا أن حالة جنوب السودان كشفت حدود التزام الصين بهذا المبدأ.
خلاصة القول: إن مستقبل السياسة الصينية في جنوب السودان يواجه تحديات، يتمثل أهمها في مدى قدرة الصين على تحمُّل تكاليف المحافظة على الاستقرار السياسي في جنوب السودان في ظل استمرار غياب الإرادة السياسية والثقة بين أطراف النزاع في تنفيذ أهم بنود اتفاق السلام المنشط، التي تتمثل في الترتيبات الأمنية وبناء جيش وطني مهني للحيلولة دون دخول البلاد مجددًا في حرب عبثية، ومن أجل ضمان التحوُّل الديمقراطي بنهاية الفترة الانتقالية عبر انتخابات حرة ونزيهة.
المراجع:
[1] – زرفة جهيدة، زوابلية خيرة كريمة، محددات السياسة الخارجية الصينية تجاه إفريقيا ما بين فترة 2000-2010، مذكرة الماستر، (الجلفة: جامعة زيان عاشور بالجلفة، كلية الحقوق والعلوم السياسية، السنة الجامعية 2017/2018)، ص 31-37.
[2] – صحراوي سمية، “السياسة الصينية تجاه إفريقيا “، مجلة قضايا معرفية، (الجزائر: مجلة قضايا معرفية، المجلد 1، العدد 1، 2018)، ص 2-4.
[3] – أمنية محسن عمر أحمد الزيات، “السياسة الخارجية الصينية تجاه إفريقيا 1991-2015“، المركز الديمقراطي العربي، 19 أغسطس 2016، متاح على https://democraticac.de/?p=35916، تاريخ الدخول 8 يونيو 2021م.
[4] – زرفة جهيدة، زوابلية خيرة كريمة، مرجع سبق ذكره، ص 62-63.
[5] – صحراوي سمية، مرجع سبق ذكره، ص 2-3.
[6] – حسن إبراهيم سعد حسن، السياسة الخارجية الصينية تجاه إفريقيا منذ انتهاء الحرب الباردة، رسالة دكتوراه، (معهد البحوث والدراسات الإفريقية، جامعة القاهرة، ٢٠٠٧م)، ص٢١٥-٢٢٠.
[7] – حسن إبراهيم سعد حسن، مرجع سبق ذكره ، ص ٢٥٨-٢٦٢.
[8] – السابق نفسه ، ص٢٦٥-٢٦٧.
[9] – السابق نفسه ، ص٢٦٧-٢٦٨.
[10] – جهاد عمر الخطيب، “الانخراط الصيني في الصراع بجنوب السودان: الدوافع والأدوات”، العين الإخبارية، ٣/٨/٢٠٢٩، متاح https://al-ain.com/article/south-sudan-china، تاريخ الدخول ١٩/٦/٢٠٢١
[11] -International Crisis Group, foreign policy experiment in South Sudan, Asia report, (Brussels: International Crisis Group, N288, 10/7/2017), P. 7-10
[12] -Ibid, P.9
[13] – الصين وجنوب السودان.. سياسة من بوابة المصالح، بوابة إفريقيا الإخبارية، ١٥/١/٢٠١٥، متاح على https://www.afrigatenews.net/article/%D8%A7%D9%84%D8%B5%D9%8A%D9%86-%D9%88%D8% ، تاريخ الدخول ١٩/٦/٢٠٢١م .
[14] – السابق نفسه.
[15] – جهاد عمر الخطيب، مرجع سبق ذكره.
[16] – الصين وجنوب السودان، مرجع سبق ذكره.
[17] – د. بيتر أدوك نيابا، ترجمة: يدجوك أقويت، جنوب السودان والحروب الدائمة النخبة، الإثنية والدولة المعطوبة ، (جوبا: منشورات ويلوز هاوس، الطبعة الأولى ٢٠٢١)، ص٣٤٦-٣٤٧.
[18] -Embassy of the People’s the Republic of China in South Sudan, Sino-South Sudan cultural and education exchanges, 23)11/2012, available on http://ss.china-embassy.org/eng/sbgx/whjw/ date of visiting 20/6/2021