أ. آمد ممد جالو (*)
تتبوأ إشكالية بناء الدولة في إفريقيا اهتماماً بالغاً لدى الأكاديميين والباحثين، خصوصاً في الدراسات الاجتماعية والسياسية، إضافة إلى المناظرات الواسعة التي حظيت بها داخل الأدبيات الإفريقية، والتي تزامنت مع رحيل المستعمر، خصوصاً في مطلع الستينيات من القرن الماضي، إذ اتسمت هذه الفترة باستقلال العديد من الدول في العالم، ومن بينها الدول الإفريقية التي مارست عليها القوى الأوروبية الكبرى من خلال الاستعمار شتّى أنواع التهميش.
وقد تميّزت هذه المرحلة بقيام دولة ما بعد الاستعمار STATE POSTE COLONIALE، الدولة التي انصبّت جهود القائمين عليها في بناء مؤسساتها، والعمل على تحقيق المشاريع وخطط التنمية فيها، وقد سارت العديد من الدول الإفريقية على نظام (الحزب الواحد) كآلية لتجسيد بناء الدولة الوطنية المستقلة، وخطوة في تقوية أواصر الوحدة الوطنية بين مكوّنات الشعوب الإفريقية، لكن النتائج أظهرت فشل هذا النظام (الحزب الواحد) في تقوية مؤسسات الدولة، وفي ضمان الوحدة بين شرائحها، وقد شكّل ذلك الوضع تسويغاً للتدخلات المتكررة للمؤسسة العسكرية في الحياة السياسية، والقيام بانقلابات عسكرية للسيطرة على السلطة في عدة دول إفريقية(1).ومنها دولة نيجيريا والتي سنتناولها كمثال على هذه الإشكالية،
ولمحاولة الوقوف على أهم جوانب هذا الموضوع؛ فإنّ طبيعته تقتضي أن يكون حديثنا عنه من خلال المطالب الآتية:
المطلب الأول: إبراز بعض المعطيات حول نيجيريا.
المطلب الثاني: أبرز التطورات السياسية التي عرفتها نيجيريا.
المطلب الثالث: الأزمات التي رافقت مسيرة دولة نيجيريا.
المطلب الأول: مدخل تمهيدي:
نتناول في هذا المطلب الموقع الجغرافي والجيوستراتيجي لنيجيريا، وكذلك معطياتها الديموغرافية والتركيبة العرقية، ثم طبيعة النظام السياسي فيها.
أولاً: موقع نيجيريا الجغرافي والجيوستراتيجي:
تقع نيجيريا في أقصى غرب إفريقيا، وتطل على المحيط الأطلسي شمال خط الاستواء، ويحدّها غرباً دولة بنين، وفي الشمال النيجر، وفي الشرق تشاد والكاميرون، وتطل جنوباً على خليج غينيا.
مما سبق نجد أن نيجيريا تتموقع في فضاء جيوستراتيجيٍّ مهمٍّ جدّاً، ويجعل منها موقعها حلقة وصل بين غرب إفريقيا وإفريقيا الوسطى.
وما يعزّز هذا الموقع الجيوستراتيجي لنيجيريا عضويتها في العديد من المنظمات الإقليمية على مستوى القارة، مثل منظمة الاتحاد الإفريقي، ومنظمة المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا (CEDEAO)(2)، إضافة إلى الاحتياطيات الضخمة من النفط التي تتوفر عليها نيجيريا، حيث تعدّ من أكبر الدول الإفريقية إنتاجاً للنفط(3)، والسادسة على المستوى العالمي.
يُضاف إلى ما سبق الجهود المهمة التي تبذلها في حلّ نزاعات البلدان المجاورة لها، سواء من خلال تدخلها العسكري، كما في ليبيريا (1991م)، في إطار قوات اﻹيكواس، أو من خلال إرسال جنود لحفظ السلام، كما هو الحال إبّان الحرب الأهلية التي عرفتها سيراليون في (1998م)، كل ذلك جعل البلد قوة إقليمية مهمّة على صعيد القارة(4).
ثانياً: سكان البلد وتركيبتهم العرقية:
نيجيريا هي أكبر الدول الإفريقية من حيث عدد السكان، حيث يبلغ عدد سكانها 173,60 مليون نسمة؛ طبقاً لإحصائيات 2014م.
وتتميز التركيبة السكانية للمجتمع النيجيري بسمة التعقيد نتيجةً للتعدد العِرقي والإثني والقبلي، حيث تشكّل القبيلة الوحدة الأساسية في تركيبته على العموم، ويصاحب ذلك التعدّد اللغوي، ويوجد نحو مائتين وخمسين مجموعة قبلية، ومن أبرز هذه القبائل:
1 – قبيلة الهوسا/فولا(5): تبلغ نسبتها 31% من الشعب.
2 – قبيلة اليوربا: تبلغ نسبتها 21%، ويتحدثون لغة اليوربا.
3 – قبيلة الإيبو: تبلغ نسبتها 18%، من مجموع سكان نيجيريا، ويتحدثون لغة اﻹيبو.
إضافة إلى جماعات عرقية أخرى، مثل: الكانوري، والنوفي، والتيف… وغيرهم.
لكن على الرغم من التنوّع والتعدد داخل مجتمع نيجيريا تبقى المجموعات القبلية الثلاث، أي: (الهوسا/فولا، واليوربا، والإيبو)، هي: التي تشكّل غالبية السكان.
وتتركز مجموعات (الهوسا/فولا) في الأقاليم الشمالية في ولايات: (سكت، وجمفر، وكتسن، وكانو، وبرونو… إلخ)، وغالبيتهم مسلمون، حيث تقدّر نسبتهم بحوالي 98%.
أما مجموعة اليوربا؛ فتستوطن بكثافة الأقاليم الجنوب الغربية، وينقسمون إلى مسلمين ومسيحيين.
ثم قبائل (الإيبو) في الأقاليم الشرقية، وغالبيتهم من المسيحيين.
وقد تميّزت العلاقات بين هذه القبائل بالصراعات الدموية التي أدت إلى سقوط الآلاف من الضحايا بسبب التنافس على السلطة، أو الاقتتال من أجل الحسابات الاقتصادية(6)، مثلما وقع في الحرب الأهلية بمنطقة (يافرا) في نهاية الستينيات من القرن الماضي، والمذابح المتبادلة بين المسلمين والمسيحيين في أكثر من مرة، في مختلف مناطق البلد، وأخذت غالبية تلك الصراعات طابع القبلية أو التعصب الديني، بسبب التعدد الديني الذي يزخر به البلد من الإسلام والمسيحية، إضافة إلى الديانات التقليدية، كلّ ذلك شكّل مصدراً للصراعات والتوترات في بعض الحالات(7)، ويبقى الإسلام هو الغالبية بالرغم من هذا التعدد الديني، حيث تقدّر نسبة المسلمين بحوالي: 45% من مجموع السكان، ويوجدون بكثافة في شمال البلد، وفي المقابل يوجد المسيحيون بشكلٍ كبيرٍ في الأقاليم الجنوبية من نيجيريا، كلّ ذلك أنتج نمطاً من التنوع والثراء للهوية الثقافية النيجيرية(8).
ثالثاً: طبيعة النظام السياسي:
استقلت نيجيريا عن المستعمر البريطاني في عام 1960م، حيث شكلت جمهورية تقوم على الاتحاد الفيدرالي، ذلك الاتحاد الذي جمع الولايات الثلاث الكبرى، والتي كانت قائمة في عهد السيطرة البريطانية، وهي: ولايات: الشمال والشرق والغرب، وإن كان في كلّ إقليم جماعة عرقية تشكّل الأغلبية وتهيمن على الحياة السياسية والاقتصادية على المستوى الداخلي، إلا أنّ ذلك لا ينفي وجود جماعات وأعراق أخرى متباينة إثنيّاً وعرقيّاً(9).
ومثلما هو الحال في غالبية الدول الإفريقية؛ فإنّ نيجيريا أيضاً عرفت صراعات وحروباً بين مكوّناتها العِرقية من أجل الحصول على نفوذٍ سياسيٍّ ومكاسب اقتصادية، مما جعل البلد معرضاً للتقسيم على أساس القبلية والجهوية، وتمثّل ذلك في إعلان دولة (إيبو) جمهوريةً بمنطقة: (يافرا) في وسط وجنوب نيجيريا، في أيام حرب (يافرا) التي استمرت ما بين 1967 و 1970م، قبل أن تتمكن القوات العسكرية من ضبط المنطقة واسترجاعها.
وقد أدت هذه الأحداث، الناتجة من عدم القدرة على اقتسام السلطة والثروة بطرقٍ سلمية، إلى رفع عدد الأقاليم لتبلغ اثني عشر إقليماً فيدراليّاً في سنة 1967م، تتمتع بصلاحيات واسعة، تمكّنها من تحقيق نوعٍ من الاستقلالية تحت وصاية السلطة المركزية للبلد، والتي يقودها رئيس السلطة التنفيذية، مع وزراء الفيدرالية وبرلمانٍ فيدراليٍّ يتكوّن من مجلس الشيوخ والنواب، وعدد الأقاليم الفيدرالية بلغ حاليّاً ستةً وثلاثين إقليماً، وتتم إدارة شؤون هذه الأقاليم من قِبل حكومات محلية، إضافة إلى السلطة التشريعية المكوّنة من مجلس النواب في الولاية(10).
المطلب الثاني: التطورات السياسية في نيجيريا:
أولاً: مرحلة الحكم العسكري:
شهدت نيجيريا في تاريخها خمسة انقلابات عسكرية، وبعض المحاولات الانقلابية كان آخرها في ديسمبر 1997م ضد الرئيس السابق ساني اباتشا(11).
ويمكن أن نقسّم مرحلة استحواذ العسكر على السلطة وحكمه للبلاد إلى مرحلتين، هما:
المرحلة الأولى: امتدت ما بين سنتي: (1966م و 1979م)، حيث تمّ الانقلاب فيها على أول حكومة مدنية للبلاد من قِبل ضباط (الإيبو) بقيادة (ارونسي)، وقد دفع المسلمون في نيجيريا ثمناً باهظاً أثناء تلك التطورات السياسية، حيث قُتل العديد من زعمائهم الشماليين، من بينهم الزعيم الحاج أحمد بيللو رئيس وزراء الإقليم الشمالي، وأبو بكر تافوا باعليوه رئيس الحكومة الاتحادية، وأدت تلك الأوضاع السياسية أيضاً إلى تقسيم الإقليم الشمالي إلى ست ولايات عام 1976م.
المرحلة الثانية: بدأت – هي الأخرى – في أواخر ديسمبر 1983م، من خلال انقلابٍ عسكريٍّ قاده محمد بخاري، ليضع حدّاً من جديد لمرحلة الحكم المدني، وتمّ إسقاط الجمهورية الثانية، واستمرت مرحلة الحكم العسكريّ الثانية من خلال تعاقب الضباط على السلطة بالانقلابات إلى سنة 1999م، وشهدت هذه المرحلة ازدهار الزراعة، والتنقيب عن النفط، وكثرة الاستثمارات، وبخاصة الأجنبية منها، ما جعل من مدينة (لاغوس) (هي العاصمة الاقتصادية حاليّاً) من أبرز العواصم الاقتصادية في القارة الإفريقية وأهمها(12).
ثانياً: مرحلة الانتقال الديمقراطي:
بدأت هذه المرحلة في عام 1999م، أي: عند وصول الرئيس (أوليسغون أوباسانجون) (من اليوربا) إلى السلطة عبر انتخابات تعددية، زرعت الآمال لدى الشعب النيجيري في تحقيق الاستقرار السياسي والبدء في التنمية الاقتصادية والسياسية، بعد أن كاد البلد يسير إلى الهاوية نتيجة للانقلابات العسكرية المتتالية، كما أنّ الضغوط الدولية التي مُورست على نيجيريا – آنذاك – كان لها الأثر البالغ في الدفع نحو الانتقال الديمقراطي.
وقد توّجت هذه المرحلة بإصلاحات مهمّة، حيث استطاع خلالها الرئيس (أوليسغون أوباسانجون) أن يضع دستوراً جديداً للبلاد، دخل حيّز التنفيذ في الحادي والثلاثين من آيار / مايو 1999م، قسّم هذا الدستور السلطات في البلد إلى: سلطة تنفيذية في يد رئيس الدولة، وسلطة تشريعية، وسلطة قضائية، إضافة إلى الحكومات المحلية الفيدرالية المؤطرة حسب نصوص الدستور.
ولعل أبرز النقاشات التي شكلت جدلاً واسعاً – في هذه المرحلة بين المسلمين والمسيحيين – هي: مسألة تطبيق الشريعة الإسلامية بشكلٍ كاملٍ، خصوصاً في الأقاليم الشمالية ذات الأغلبية المسلمة، وكان ذلك من بين مطالب الشماليين، ولقيت رفضاً من التيارات السياسية الجنوبية ذات الأغلبية المسيحية، وقد أثار ذلك النقاش عدة قضايا، منها: علاقة الدين والدولة في نيجيريا.
وكان أيضاً من بين الأولويات التي ركّز عليها الرئيس (أوليسغون أوباسانجون) – عند وصوله إلى السلطة في تلك المرحلة – ضبط المؤسسة العسكرية لتحجيم قدرتها على التدخل في الحياة السياسية، من خلال بعض الإجراءات، التي قام بها في ذلك الوقت، ومنها:
– إحالة مائة وخمسين من كبار الجنرالات إلى التقاعد الإجباري المبكر للحدّ من قدرتهم على ممارسة القوة بغية التغيير السياسي.
– خفض المخصصات المحددة للمؤسسة العسكرية بنسبة 40%.
– إعادة النظر في وضعية القوات المسلحة الموجودة في الخارج، حيث أصبح ذلك مكلّفاً لميزانية الدولة مبالغ كبيرة.
وبالفعل مكّنت هذه الإجراءات – التي اتخذها الرئيس – من إبعاد المؤسسة العسكرية من الحكم، لكن بقيت أمامه العديد من القضايا والتحديات التي لم يتمكن من معالجتها، كالنعرات الطائفية والعرقية والدينية، والتي كانت تتصاعد – آنذاك – يوماً بعد يوم، ما أثّر سلباً في الاستقرار السياسي والاجتماعي للبلد(13).
المطلب الثالث: الأزمات السياسية التي عرفتها نيجيريا:
من أخطر الأزمات التي شهدتها نيجيريا اندلاع الحرب الأهلية، أو ما عُرف بحرب بيافرا سنة 1967م، وما تلاها من أزمات؛ كأزمة (دلتا النيجر) التي انفجرت بصراعٍ حول استغلال الخيرات النفطية التي تختزنها هذه المنطقة، ولم تتوقف أزمات نيجيريا السياسية عند هذا الحدّ، بل زادت تأجيجاً بتنامي قوة بعض الجماعات الإسلامية؛ كجماعة (بوكوحرام) التي دخلت في مواجهات عنيفة مع السلطة في نيجيريا.
أولاً: الحرب الأهلية النيجيرية (حرب بيافرا) عام 1967م:
تُصنّف حرب بيافرا، أو ما يُعرف باسم: (الحرب الأهلية النيجيرية)، من الأزمات العصيبة التي عرفتها نيجيريا في وقتٍ مبكرٍ من تاريخ الاستقلال عن المستعمر البريطاني في 1960م، وشكّلت حرب بيافرا تمهيداً لسلسلة من الأزمات رافقت مسار الدولة في تاريخها السياسي، وقد استمرت حرب بيافرا حوالي ثلاث سنوات، من عام: 1967م وحتى: 1970م، وهو تاريخ سيطرة الحكومة المركزية على الإقليم، وكسر شوكة الانفصاليين الذين اختاروا الأقاليم الجنوب الشرقية (منطقة بيافرا) عاصمة لدولتهم الجديدة، والخاصة بعِرق الإيبو، لكن (جمهورية بيافرا) لم تدم إلا مدة قصيرة، ولم تحظ إلا باعتراف عددٍ قليلٍ من الدول، منها ما هو داخل الجوار الإقليمي – القارة الإفريقية –، ومنها ما هو خارج القارة، وهي: البرتغال، والكيان الصهيوني، وهايتي، والجابون، وكوت ديفوار، وتنزانيا، وزامبيا.
وترجع أسباب التمرد المسلح والحرب في منطقة بيافرا إلى عدة عوامل، منها: التعدد العرقي، والاختلاف العقائدي بين القبائل المسلمة من الهوسا/فولا وبعضٍ من اليوربا والإيبو ذات الغالبية المسيحية، حيث أدى هذا التمايز والاختلاف دوراً كبيراً في زعزعة استقرار الدولة النيجيرية، وعمّق الفرقة بين أبنائها، إضافة إلى التركة التي ورثها الشعب النيجيري من المستعمر البريطاني الذي ساهم بدوره في تشتيت البلد من منطلق مبادئه الاستعمارية: (فرّق تسد).
وما زاد من حدّة الأزمة، والمطالبة بالانفصال وإعلان جمهورية بيافرا، الإجراءات السياسية التي اتبعها قادة الانقلاب الجدد بقيادة: (يعقوب جون)، عندما أصدر مرسوماً في 24 مايو 1966م، سعي من خلاله إلى إنهاء النظام الفيدرالي وتوحيد البلاد.
أما تداعيات الحرب؛ فتمثلت في العدد الكبير من الضحايا، والذي قدّر بما بين خمسة إلى عشرة ملايين قتيل، وفي تشريد الأسر، الأمر الذي خلّف عدداً كبيراً من النازحين واللاجئين، غير أنّ الملاحظ في تلك المرحلة غياب دور منظمة الوحدة الإفريقية (الاتحاد الإفريقي)، ما جعل البعض يُرجع ذلك الغياب إلى أسباب عدة، منها: تباين الرؤى والانقسام بين الدول الإفريقية الأعضاء بين مَن يؤيد ويدعم الانفصاليين؛ ومَن يعارض ذلك(14).
وهكذا يمكن أن نسجل بعضاً من النتائج التي أعقبت انتهاء أزمة بيافرا:
1 – أنّ انتهاء الحرب كان بفعل قوة سلاح النظام الفيدرالي العسكري الحاكم آنذاك، غير أنّ تلك النهاية لم توقف الكراهية المتبادلة بين قبائل الشرق وقبائل الشمال، ولم تساهم حتى في إيجاد حلول لمشكلات الدولة الفيدرالية؛ على المستويات الاجتماعية منها والثقافية.
2 – غيرت المؤسسة العسكرية الحاكمة من سياستها بشكلٍ أكثر واقعية للتعاطي مع الإشكالات الوطنية؛ في سعيٍ لدفع التحديات المحدقة بالبلد، وتمثلت تلك السياسة في حرص الرئيس يعقوب جون (الحاكم العسكري آنذاك) على أن يكون اختيار الحاكمٍ العسكريٍّ من قِبل القبيلة التي تمثّل الأغلبية في كلّ ولاية من ولايات الدولة. وأيضاً ضمّ المجلس التنفيذي الفيدرالي بين أعضائه وزيرين من قبائل الإيبو – المتمردة –، هما: وزير التجارة بريجز، ووزير الزراعة الدكتور ج. اوكيزى.
3 – في الجانب الاقتصادي؛ اهتمت الحكومة المركزية بمسألة تحقيق انتعاشٍ اقتصاديٍّ، خصوصاً في المناطق التي انطلقت منها الحرب (مناطق الإيبو)، وقد ساهمت سيطرة الدولة على الانفصاليين في إعادة الأمن والاستقرار في المنطقة، ومن خلالها استثمرت نيجيريا وقتها، الأمر الذي مكّن البلد من أن تصبح القوة الثانية إفريقيّاً في إنتاج النفط، والسادسة على المستوى العالمي(15).
ثانياً: أزمة دلتا النيجر (نيجيريا):
(دلتا نيجيريا) أو (دلتا النيجر): هي أكبر منطقة نفطية في نيجيريا، إذ تنتشر داخل هذه المنطقة التي تقع في جنوب شرق نيجيريا حقولٌ وآبارٌ نفطية، يقدّر إنتاجها بنحو 90% من الإنتاج العامّ للبلد، ما جعل هذه الولاية من بين ثلاث ولايات في نيجيريا هي الأكبر من حيث مخزون النفط (هذه الولايات؛ هي: بيلسا، والأنهار، ودلتا)، ويتميز نفط منطقة (دلتا) بجودته العالية نظراً لخلّوه من الكبريت.
وقد عرفت منطقة الدلتا صراعات عنيفة بين الحكومة والسكان المحليين، وبين السكان المحليين والشركات الأجنبية التي تعمل في استخراج البترول في المنطقة، بسبب الفقر والحرمان والهشاشة التي تعانيه المنطقة برغم مواردها الغزيرة من النفط وغيره.
ويرجع السبب في ذلك إلى:
– سياسات الحكومة الفيدرالية التي تفتقر إلى عدالة توزيع الثروة بين مناطق الجمهورية الفيدرالية، ومن بينها منطقة دلتا التي عانى سكانها تدني الخدمات بل انعدامها في الغالب(16).
– مساندة الحكومة، ومشاركة الشركات الأجنبية التي تستخرج النفط في تدمير البيئة، وتهديد صحة السكان في تلك المنطقة.
– مصادرة معيشة السكان من خلال القضاء على الثروة الحيوانية والفلاحة؛ نتيجة حرق تلك الشركات الغاز الطبيعي المصاحب لاستخراج النفط، وأحياناً عن طريق تسريبات النفط، ورمي نفاياتها دون أخذ الاحتياطات الضرورية والمناسبة.
كلّ تلك العوامل المتداخلة عجّلت بظهور جماعات وحركات مسلحة داخل المنطقة، تبنّت دعوى عدم استفادة سكان المنطقة من عائدات النفط، والتصدي لتلك الممارسات، غير أنّ الحكومة النيجيرية اتخذت القمع والعنف ضدّ تلك الجماعات وسيلتها الأنجع، ما أدى إلى تطوّر سقف مطالب تلك الجماعات، حيث صارت تطالب بالانفصال، ومن أبرز تلك الجماعات: (حركة تحرير منطقة دلتا) (المسلحة) التي برزت في سنة 2004م.
وقام الجيش النيجيري في سنة 2009م بمقاتلة مختلف هذه الجماعات، لأنها بدأت تشكّل خطراً على الدولة من خلال سيطرتها على أنابيب البترول؛ ما أثر سلباً في إنتاجه، وبالموازاة مع تدخّل الحكومة عسكريّاً في المنطقة؛ قام الرئيس النيجيري آنذاك (عمر يرودوي) بمطالبة المتمردين بتسليم السلاح مقابل العفو عنهم(17). وهو ما أدى إنهاء تلك الأزمة، وإلقاء الجماعات لسلاحها.
ثالثاً: صراع جماعة بوكوحرام مع السلطة:
تعدّ (جماعة أهل السنّة للدعوة والجهاد) المعروفة باسم: (بوكوحرام) من بين أبرز الجماعات الإسلامية التي دخلت في صراع مع الحكومة في نيجيريا، ويرجع تاريخ تأسيس هذه الجماعة إلى عام 2002م على يد زعيمها محمد يوسف، وتتشكّل غالبية أعضاء جماعة أهل السنّة للدعوة والجهاد (بوكوحرام) من طلبة المدارس التقليدية والمحاضر، وتتخذ من الأقاليم الشمالية في نيجيريا حاضنة لها.
وتعود إرهاصات ظهور الجماعة إلى سنة 1995م تحت مسمّى: (جماعة أهل السنّة والهجرة) أو (منظمة الشباب المسلم)، حيث تمّ تأسيسها في مدينة مادوجيري بولاية بورنو.
وتهدف جماعة بوكوحرام إلى تغيير النظام العلماني في نيجيريا، وتطبيق الشريعة الإسلامية بالسلاح في مناطق الدولة كافة، حتى تلك التي تتوفر على أغلبية مسيحية، وتنتهج الجماعة أسلوب محاربة مؤسسات الدولة حيث تصفها بالكافرة، وترى أنها بُنيت على القوانين والمؤسسات الغربية.
وتتمثل مبادئ جماعة أهل السنّة للدعوة والجهاد (بوكوحرام) فيما يأتي:
– تحريم الديمقراطية جملةً وتفصيلاً، واعتبارها كفرا،حيث تتعارض مع الإسلام- حسب فهمهم-.
– اعتقاد الجماعة بأنهم الفرقة الناجية (بسبب إحياء الجهاد).
– تحريم التعليم النظامي في مراحل الدراسة، بدءاً من الابتدائية وحتى المرحلة الجامعية.
وتتقاطع الجماعة في التوجّه والإيديولوجية نفسها مع تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، وتتلقى تبرعات من بعض المسؤولين الحكوميين والسياسيين الذين يستغلون الجماعة لأغراض سياسية(18).
وترتكز هجمات الجماعة في غالب الأحيان في الولايات الشمالية من نيجيريا، كولايات: (بورنو، وسكت، وكانو، وبوشي)، وتستهدف بالأساس ثلاثة عناصر: قوات الأمن، والنصارى، والوشاة بهم(19).
وعلى الرغم من الآراء المتضاربة حول (جماعة أهل السنّة للدعوة والجهاد)؛ يبقى من الواضح أنّ تلك الجماعة لها تأثيرٌ بشكلٍ قويٍّ في نيجيريا، وفي المنطقة كلها.
خاتمة:
يتضح لنا مما سبق: أنّ أسباب إخفاق بناء الدولة في إفريقيا بصفةٍ عامّة، بعد مرحلة الاستعمار، راجعٌ أساساً إلى بنية الدولة، ويظهر ذلك في الصراعات القبلية واﻹثنية والدينية التي تعرفها أكثر من دولة في القارة السمراء، إضافة إلى الاستيلاء على السلطة بالقوة، وغياب الآليات الديمقراطية في تداول السلطة بالطرق السلمية، وطغيان الفساد وتفشّيه داخل الطبقة الحاكمة.
مجمل تلك الأسباب دفع إلى زعزعة أُسس الدولة في إفريقيا، وجعلها دولة ضعيفة، مبنية على مؤسسات منهارة لا تتلاءم مع الواقع الاجتماعي، عاجزة عن تلبية أبسط الحاجات الضرورية للمواطن من أمنٍ واستقرارٍ وخدمات عامّة.
وينطبق ذلك في (النموذج النيجيري) القائم على وضعيةٍ اجتماعيةٍ هشّة، ويتسم بالطابع القبلي والعرقي، ويعاني مشكلة الانفلات الأمني، وظاهرة عدم الاستقرار، هذه الظاهرة التي أعاقت بشكلٍ كبيرٍ تحقيق التنمية الاجتماعية والاقتصادية للبلاد، حيث أثّر ذلك سلباً في أن تأخذ نيجيريا مكانتها المناسبة في إفريقيا والعالم، بسبب تنامي العنف والجريمة، مما قد يجرّ البلد إلى حربٍ أهلية في حالة عدم سيطرة الدولة على هذا الوضع المقلق، الذي ارتفعت وتيرته بشكلٍ مهولٍ، خصوصاً في الآونة الأخيرة.
وتبقى آفاق الاستقرار جدّ محدودة في هذه الدولة الإفريقية نتيجة استمرار الأزمات فيها، وغياب سياسة حكومية مبنية على رؤية واضحة المعالم لمعالجتها.
ويتضح –أيضا- أنّ استقلال نيجيريا عن المستعمر الإنجليزي لم يترتب عليه بناء دولة وطنية قادرة على تحقيق نتائج ملموسة، وذلك على مستوى تنمية البلد اجتماعيّاً واقتصاديّاً، وصيانة وحدتها الوطنية بين مختلف الإثنيات العرقية والدينية التي تزخر بها البلد، وهو ما أدى إلى إعاقة نمو واستقرار هذه الدولة برغم إمكانياتها الضخمة، وهو ما يكشف عمق الأزمة التي تعانيها نيجيريا، والمعضلات التي تقف عقبة أمام نهضتها.
مما يستدعي أن تضع نيجيريا سياسة وطنية بمشاركة مختلف مكوّناتها، تهدف بالأساس إلى تحقيق الاندماج وتقوية لُحمتها الوطنية، أي سياسة تمليها المصلحة العامّة للشعب النيجيري بدل أن تكون نابعة من إملاءات الدول الأجنبية، لأنّ بناء نيجيريا مهمّة تقع على عاتق الدولة والمجتمع والنخبة والقوى السياسية كافة.
الإحالات والهوامش:
(*) باحث في العلوم السياسية في جامعة محمد الخامس بالرباط.
(1) النويني، الحافظ: أزمـة الدولة ما بعد الاستعمار في إفريقيا: حالة الـدولـة الفاشلة (نـمـوذج مالي)، مجلة المستقبل العربي: السنة 36، العدد 422، أبريل 2014م، ص (58، 59).
(2) تأسست في عام 1975م بموجب اتفاقية لاغوس بين عدة دول غرب إفريقيا، من بينها نيجيريا التي تحتضن مقر هذه المنظمة التي تؤدي منذ تأسيسها أدواراً مهمّة في تعزيز التعاون المشترك بين الدول الأعضاء، والرفع من قدراتها الاقتصادية، ودعم التعاون والاندماج لبلوغ أهداف التنمية.
(3) أيمن شبانة: النفط الإفريقي عندما تتحرك السياسة الأمريكية وراء الموارد، مجلة قراءات إفريقية، العدد 11، مارس 2012م، ص 79.
(4) عادل موساوي: علاقة المغرب مع إفريقيا جنوب الصحراء بعد انتهاء القطبية الثنائية، الرباط، أطروحة دكتوراه، 2002م، جامعة محمد الخامس – الرباط، ص (254، 255).
(5) الفولا أو الفولانية: هي جماعة عرقية متمايزة عن الهوسا الذين خضعوا لسلطتهم في القرن التاسع عشر، ويوجدون بكثافة في دول غرب إفريقيا، في موريتانيا والسنغال وغامبيا وغينيا ونيجيريا والنيجر وتشاد والكاميرون، وفي السودان، ويسمّون في السودان: الفلاتة. وتسمية: (هوسا/فولا) في نيجيريا ناتجة عن التداخل والاندماج بين الجماعتين نظراً لانتمائهما إلى الدين الإسلامي. ومن زعماء الفلان في نيجيريا: المجاهد (عثمان دان فودي) الذي أسّس دولة الخلافة الإسلامية في الشمال قبل دخول المستعمر البريطاني.
(6) هيفاء أحمد محمد: ظاهرة عدم الاستقرار السياسي في نيجيريا: دراسة في حركة دلتا نهر النيجر، مجلة الدراسات الدوليةISSN: 19929250 السنة: 2010 جامعة بغداد، العدد 46، ص 97.
(7) Emmanuel Igah : «Nigeria : recenser géant de l’Afrique». association population et avenir. 2006 – n° 679. p. 17.
(8) Emmanuel Igah : «Le Nigeria : géopolitique et population du ‘ géant ‘ africain». association population et avenir , 2007/2-n° 682. pp. 4 , 5 , 6
(9) صبحي قنصوة: نيجيريا.. قضايا وتحديات التعايش في مجتمعِ تعددي، على الرابط:
http://www.hadaracenter.com/pdfs/%D9%86%D9%8A%D8%AC%D9%8A%D8%B1%D9%8A%D8%A7%20%D9%82%D8%B6%D8%A7%D9%8A%D8%A7.pdf
(10) Emmanuel igah : « le nigeria : géopolitique et population du ‘ géant ‘ africain». association population et avenir , 2007/2-n° 682. pp. 5.
(11) محمد عاشور: التطورات السياسية في نيجيريا ومعضلة التحول الديمقراطي في إفريقيا، مركز الحضارة للدراسات السياسية، ص 50.
(12) رمزي السوقي: دراسة عن الأوضاع في نيجيريا، منشور بتاريخ 03/04/2012م، على الرابط/ www. ssnp. info
(13) هيفاء أحمد محمد: ظاهرة عدم الاستقرار السياسي في نيجيريا…، مرجع سابق، ص 103.
(14) بشير شايب: حرب بيافرا 1967م – 1970م.. الدروس والعبر، موقع المجلة الإفريقية للعلوم السياسية، 29/09/2012م، على الرابط/
http://www.maspolitiques.com/mas/index.php?option=com_content&view=article&id=114:-g-&catid=11:2010-12-09-22-55-45
(15) بطرس بطرس غالي: الحركة الانفصالية في نيجيريا (قضية بيافرا)، القاهرة، مجلة السياسة الدولية، منشورات الأهرام الرقمي، على الرابط:
(16) sylvie fanchett : «le DELTA du niger ( nigeria ) rivalités de pouvoir revendication territoriales et exploitation pétroliere». la découverte Hérodote / 2066 – n° 121 , pp. 193 , 194.
(17) د. صبحي قنصوة: النفط والسياسة في دلتا النيجر: صراع لا ينتهي، المملكة العربية السعودية، مجلة قراءات إفريقية، العدد 11، مارس 2012م، ص ص (30 – 31).
(18) فريدوم اونوهوا: بوكو حرام والإرهاب الانتحاري بنيجيريا.. رغبة في الموت ورهبة منها، مركز الجزيرة للدراسات، ديسمبر 2012م، على الرابط التالي:
http://studies.aljazeera.net/reports/2012/12/2012123013565232734.htm
(19) أحمد مرتضى: جماعة (بوكو حرام) نشأتها ومبادئها وأعمالها في نيجيريا، قراءات إفريقية، العدد 12، 2012م، ص 24.