د. هالة جمال ثابت(*)
ما زالت إفريقيا جنوب الصحراء تعاني ظروفاً معيشية متدنية، حيث يعاني ثلث تعداد سكانها الجوع، ويموت نحو سدس عدد أطفالها قبل سنّ الخامسة، برغم استمرار الزيادة السكانية في الكثير من دولها، وما زال الركود الاقتصادي، وانخفاض مستويات المعيشة، سائداً في أغلب مناطقها، وهو الوضع نفسه الذي كان سائداً منذ عقد سابق من الزمان، مما يعني إخفاق كلّ المحاولات التي بذلتها دول القارة، والمؤسسات المالية الدولية، لرفع معدلات النمو الاقتصادي، وإنجاح تجارب التنمية، وتحسين مستويات معيشة أبناء القارة.
وعلى مدى عقدين كاملين بُذلت العديد من المحاولات لاختزال الفقر في إفريقيا، إلا أنها أخفقت جميعاً في تحقيق أهدافها، واستمرت هوّة الفقر التي تفصل بين القارة الإفريقية وباقي دول العالم في الاتساع، حيث تنقسم الدول الإفريقية ما بين دول منخفضة الدخل (وهي الأغلبية، حيث يبلغ عددها 40 دولة إفريقية)، وتبلغ حصّة الفرد فيها 745 دولاراً أو أقلّ سنوياً من إجمالي الدخل القومي، وفقاً لإحصاء عام 2001م، ودول متوسطة الدخل (ويبلغ عددها 14دولة)(1)، وتتراوح فيها حصّة الفرد من إجمالي الدخل القومي ما بين 746 إلى 9205 دولارات في عام 2001م (2).
وتبدو خطورة هذا الوضع إذا عرفنا أنّ التقديرات المعتدلة تطلب أن تحقق الاقتصاديات الإفريقية معدلات نمو لا تقلّ عن 7% للحدّ من الفقر بصورة كبيـرة، وفي ظلّ ظروف إفريقيا الاقتصادية الحالية يُعَدّ هذا تحدياً كبيراً في ضوء أهداف الألفية الجديدة، وتتلخص في: اختزال الفقر والجوع، وتحقيق تعليم ابتدائي عالمي، وتطوير المساواة بين الجنسين، وتمكين المرأة، وتخفيض نسبة الوفيات بين الأطفال، وتحسين الصحة الإنجابية، ومحاربة الإيدز، والملاريا، وغيرها من الأمراض، ودعم البيئة المستدامة، وتطوير شراكة عالمية للتنمية (3).
في إطار كلّ هذه الظروف ظهرت استراتيجية اختزال الفقرPoverty Reduction Strategic Papers ، والتي تُعَدّ الإطار الأساس الذي تمنح المؤسسات المالية الدولية على أساسها القروض للدول الفقيرة، وفي الوقت نفسه تمثّل هذه الاستراتيجية فرصة لزيادة المشاركة الشعبية في صنع القرار، وتمنح الدول المقترضة الفرصة لصياغة استراتيجية ذاتية لاختزال الفقر، تتناسب مع ظروفها وأوضاعها الداخلية.
وبناءً على ما سبق؛ تحاول الورقة تحليل استراتيجية اختزال الفقر، وما إذا كان من الممكن اعتبارها حلاً مناسباً لاختزال ظاهرة الفقر في الدول النامية بما يتناسب مع الأوضاع الداخلية لهذه الدول، أو أنّ هذا الحلّ يُعَدّ تكراراً لحلول سابقة، مثل برامج التكيف الهيكلي، والتي حاولت المؤسسات المالية الدولية فرضها بما لا يتناسب مع الأوضاع الداخلية في الدول المطبقة لها.
وتنقسم الورقة إلى ثلاثة أجزاء، حيث يتناول الجزء الأول: تعريفاً لمفهوم الفقر ولظاهرة الفقر في القارة الإفريقية، ويتناول الجزء الثاني: المعوقات التي تعترض طريق التنمية في القارة الإفريقية، بينما يتناول الجزء الثالث: استراتيجية اختزال الفقر.
أولاً: ظاهرة الفقر في السياق الإفريقي:
على الرغم من النجاح النّسبي الذي حقّقته القارة الإفريقية في رفع مستوى معيشة الأفراد، إلا أنّ حصّة إفريقيا ممن يعيشون تحت خط الفقر (أي مَن يحصلون على أقلّ من دولار أمريكي يومياً) ما زالت هي الأكبر، حيث يقدّر عدد هؤلاء بحوالي 522 مليوناً في جنوب آسيا في عام 1998م، بالمقارنة بما يقرب من 291 مليوناً في إفريقيا جنوب الصحراء، و 278 مليوناً في شرق آسيا ومنطقة المحيط الهادي.
وعلى الرغم من الجهود المضنية التي بذلتها دول القارة لخفض نسبة هؤلاء، إلا أنّ النجاح كان نسبياً، حيث تمكنت القارة من خفض نسبة مَن يعيشون تحت خط الفقر بواقع 1,4% فقط في الفترة من 1990م وحتى 1998م، وهي نسبة ضئيلة إذا ما قورنت بالنجاح الذي حقّقته القارة الآسيوية، حيث انخفضت النسبة بواقع 4% في منطقة جنوب آسيا، و 12,3% في منطقة شرق آسيا، وهو ما يعني أنّ نسبة مَن يحصلون على أقلّ من دولار أمريكي يومياً قد زادت من 19% في عام 1990م إلى 24% في عام 1998م(4) (انظر الجدول الآتي).
جدول يوضح نسبة السكان الذين يعيشون تحت خط الفقر(5)
|
نسبة مَن يعيشون تحت خط الفقر |
نمو الدخل القومي الحقيقي معدل الدخل القومي للفرد |
||
|
1990م |
1998م |
1990م – 1998م التغيّر |
1990م – 1999م (معدل سنوي) |
شرق آسيا والمحيط الهادئ |
27,6 |
15,3 |
– 12,3 |
5,9 |
أوروبا الشرقية ووسط آسيا |
1,6 |
5,1 |
3,6 |
– 2,3 |
أمريكا اللاتينية والبحر الكاريبي |
16,8 |
15,6 |
– 1,2 |
0,9 |
الشرق الأوسط وشمال إفريقيا |
2,4 |
2,0 |
– 0,4 |
– 0,1 |
جنوب آسيا |
44,0 |
40,0 |
– 4,0 |
3,2 |
إفريقيا جنوب الصحراء |
47,7 |
46,3 |
– 1,4 |
– 0,2 |
وعلى الرغم من ارتفاع إنتاج الغذاء في الفترة من عام 1980م إلى عام 1995م في مناطق الدول النامية بنسبة 27% في آسيا، و 12% في أمريكا اللاتينية؛ فقد انخفض في إفريقيا جنوب الصحراء بنسبة 8%، وبرغم انخفاض انتشار الجوع في آسيا فإن ثلث سكان إفريقيا ما زالوا يعيشون في ظلّ الجوع الشديد، والنسبة في ازدياد مستمر.
وما زالت القارة الإفريقية تعاني ارتفاع نسبة السكان الذين يعانون سوء التغذية، حيث انخفضت النسبة انخفاضاً طفيفاً من 35% إلى 32%، في حين تأمل أهداف التنمية إلى خفض النسبة إلى 17% في عام 2015م، وهو هدف بعيد المنال استناداً إلى مسار الإنجازات الحالية (انظر الشكل رقم (1) نسبة السكان الذين يعانون من سوء التغذية)(6).
ونلاحظ ارتفاع نسبة الالتحاق بالمدارس الابتدائية خلال التسعينيات في أمريكا اللاتينية لتصل إلى 90% من الأطفال، وتبلغ النسبة 79% في جنوب آسيا، بينما زادت النسبة 3% فقط في إفريقيا جنوب الصحراء، حيث تصل نسبة الأطفال الملتحقين بالمدارس الابتدائية إلى 60% من الأطفال (انظر الشكل رقم (2) نسبة الالتحاق بالتعليم الابتدائي)(7).
ونتيجة لهذا ترتفع نسبة الأمية في إفريقيا، حيث قدّرت نسبة الأمية في القارة الإفريقية لدى البالغين من العمر (15 عاماً وما فوق) 62,4% في عام 2001م، بعد أن كانت تقدّر بما يربو على 50% في عام 1990م، بينما ارتفعت هذه النسبة في الفئة العمرية (15 إلى 24 عاماً) من 76,4% في عام 1990م إلى 77,9% في عام 2001م، كما وصل مجموع نسب الالتحاق الإجمالية بالتعليم الابتدائي والثانوي والعالي في الفترة من 2001م إلى 2002م ما يقرب من 45%، وذلك برغم اختلاف نسبة الأمية فيما بين الدول الإفريقية، حيث تصل إلى أدنى معدل لها في دول مثل: زيمبابوي (12%) وموريشيوس (16%)، بينما تبلغ أعلى معدلاتها في دول مثل: النيجر (85%)، وبوركينا فاسو (77%)، وجامبيا (56%)(8).
ويتضح عدم امتلاك الأفراد في القارة للقدرة العلمية التي تمكّنهم من الارتقاء بوضعهم الاقتصادي، أو مكانتهم الاجتماعية، فتظلّ أوضاعهم الاقتصادية بلا تغيّر يُذكر مهما كانت المحاولات المبذولة في سبيل ذلك.
كما ترتفع نسبة الوفيات في أثناء الحمل والولادة بشكل مخيف في إفريقيا جنوب الصحراء، حيث تصل النسبة إلى نصف وفيات الأمهات في العالم النامي، حيث تُتوفى أُمّ من بين كلّ مائة في أثناء الولادة، وفي هذا الإطار تبدو الأهداف التي وضعتها الأمم المتحدة أهدافاً بعيدة المنال، حيث تنصّ على تخفيض وفيات الأطفال بنسبة الثلثين مع حلول عام 2015م، بينما تبلغ نسبة الوفيات من الأطفال دون الخامسة في إفريقيا 17%، ومن هنا لن تتمكن القارة من تحقيق هدف خفض الوفيات سوى بعد نحو 150 عاماً (انظر الشكل رقم (3) معدل وفيات الأطفال دون الخامسة) (9).
وفي حين يعتبر الحصول على مياه الشرب النقية أمراً ضرورياً للبقاء على قيد الحياة، ولتحقيق أهداف التنمية، تبلغ نسبة السكان الذين لا يحصلون على مياه مأمونة 65% في آسيا، بينما تصل إلى 28% في إفريقيا (انظر الشكل رقم (4) نسب السكان الذين لديهم فرصة الحصول على مياه شرب نقية)(10).
أما بالنسبة للصرف الصحي؛ فيقدّر عدد المحرومين من سكان آسيا 80%، بينما تصل نسبة المحرومين من خدمات الصرف الصحي إلى 13% في إفريقيا (انظر الشكل رقم (5) نسب السكان الذين يحصلون على خدمات صرف صحي ملائمة)(11).
إلا أنّ (الفقـر) وفقـاً لتعـريـف البنـك الدولـي لا يقتصر على المعنى المادي فقط، بمعنى الحرمان من المال والثروة (وهو ما يقاس بمفهوم الدخل والاستهلاك)، ولكنه يتسع ليشمل انخفاض نصيب الفرد من عوائد التنمية الاقتصادية.. من الخدمات الأساسية، والتعليم والرعاية الصحية… إلخ(12).
فالفقير ليس من تنقصه الأموال والثروة المادية فقط، ولكن هو من يعاني ضعف مستوى الدخل، ومن ثمّ الاستهلاك، وضعف نصيبه من الخدمات التعليمية والصحية والأمن؛ نتيجة تعرضه للتقلبات الاقتصادية، وكذلك يعاني ضعف فرصته في المشاركة السياسية، ومن ثمّ فرصته في الوصول إلى السلطة(13).
وبهذا المعنى لا يصبح الفقير فقيراً بالوراثة، ولكنه يصبح كذلك عند افتقاده للوسائل والأدوات التي تمكنه من الخروج من دائرة الفقر والتهميش، وتعينه على تحسين مستواه الاقتصادي والاجتماعي.
ومن هنا يكون اختزال الفقر من خلال تمكين الفقراء Empowerment، بمعنى منحهم الأدوات والقدرات التي تمكنهم من تحسين أوضاعهم الاقتصادية والاجتماعية وظروفهم المعيشية(14).
ومن هذا المنطلق رُكّزت الحلول العديدة التي طرحتها الأمم المتحدة لاختزال ظاهرة الفقر في العالم النامي في بعدين أساسيين: فمن ناحية ركّزت على تنمية القطاعات التي يتركز فيها الفقراء، ومن ناحية أخرى عملت على تمكين هؤلاء الفقراء وتنمية قدراتهم ليتمكنوا من الخروج من دائرة الفقر، وعلى هذا الأساس كانت استراتيجية اختزال الفقر كما سيرد تحليله في جزء لاحق في الورقة.
وقبل الانطلاق لتحليل استراتيجية اختزال الفقر؛ يجدر الانتقال إلى أهم المعوقات التي تعترض طريق التنمية في القارة الإفريقية، والتي يجب التغلب عليها قبل الحديث عن أي محاولات للقضاء على ظاهرة الفقر، ورفع معدل النمو، وتحقيق التنمية الاقتصادية، في القارة.
ثانياً: معوّقات التنمية الاقتصادية في القارة الإفريقية:
تمتلك القارة الإفريقية العديد من المقومات التي تسمح لها بالخروج من دائرة الفقر، فهي أكثر قارات العالم ثراء، وقد حباها الله بالطبيعة الرائعة، وبالموارد المعدنية، والثروات الطبيعية، والأرض الخصبة، والتي تمكّنها من أن تلحق بركب التنمية، وتتولى مكاناً رائداً على المستوى الدولي، إلا أنها في الوقت نفسه تشهد العديد من المعوّقات التي تعترض طريقها للتنمية، وتحول دون إنجاح محاولاتها لرفع مستوى معيشة مواطنيها.
وتتعدد هذه المعوقات ما بين معوقات اقتصادية؛ من تخلف في الأوضاع الاقتصادية، واعتماد أغلب الاقتصاديات الإفريقية على تصدير السلع الأساسية، وهو ما يجعلها عرضة للتقلبات الاقتصادية العالمية، ومعوقات اجتماعية؛ من ارتفاع معدلات الأمّية، وانتشار الفساد الذي يلتهم جزءاً كبيراً من عوائد التنمية، وضعف المعارضة والمجتمع المدني، ومعوقات سياسية؛ من وجود نظم سياسية دكتاتورية تقمع المشاركة الشعبية، وتحظر التعددية الحزبية، فلا تسمح برأي غير رأي الحكومة، ومن هنا يشعر المواطن الإفريقي إلى جانب فقره بالإحساس بالظلم والاغتراب، فيضعف انتماؤه للدولة، ويختفي أمله في إمكانية تغيير أوضاعه، وتحسين مستواه(15).
كما أصبح الفقراء في القارة الإفريقية ضحايا لظروف وقوى جديدة، التهمت ثمار النجاح المتواضع الذي حقّقته في طريق التنمية، وكان من أهمّ هذه القوى: الصراعات والنزاعات الداخلية، والإصابة بمرض نقص المناعة البشرية (إيدز AIDS)، وظاهرة التهميش التي تعانيها القارة في ظلّ النظام العالمي الجديد، وأخيراً: ظاهرة العولمة وعلاقتها بالنمو واختزال الفقر، ونفصّل أهم هذه القوى الجديدة كما يأتي:
الصراعات والنزاعات الداخلية:
أثقلت ظاهرة الصراعات الداخلية، والصراعات فيما بين الدول الإفريقية، تاريخ القارة منذ الاستقلال، وتبدو خطورة الأوضاع المتردية التي تعانيها إفريقيا في هذا الإطار من متابعة حجم الصراعات الدموية التي عانتها القارة في الفترة الأخيرة، حيث شهدت القارة 16 صراعاً داخلياً من ضمن 35 صراعاً من هذا النوع على مستوى العالم في منتصف التسعينيات، وظلّت إفريقيا تستأثر بأكبر عدد من الصراعات الداخلية عامي 1998م و 1999م على مستوى العالم، وعددها 25 صراعاً داخلياً، وفي عقد التسعينيات توفي ما بين اثنين إلى أربعة ملايين قتيل في تلك الصراعات، وفي عام 1993م وحده نزح نحو 5,2 ملايين لاجئ و 13 مليون مشرّد في القارة الإفريقية(16).
وهكذا أدت الصراعات الداخلية إلى تكثيف الحروب الأهلية الدموية، وتشريد أعداد كبيرة من الأفراد، ومن المأسوي أنّ 90% من ضحايا هذه الصراعات من المدنيين لا العسكريين، ونصف هؤلاء من الأطفال؛ مما يمثل تهديداً مستمراً لاستقرار الدول الإفريقية، مع ما يمثله من خطورة عبور الصراع للحدود الدولية للدولة للتأثير في أمن الدول الإقليمية المجاورة واستقرارها.
وتظهر خطورة ظاهرة الصراعات والنزاعات الداخلية من آثارها السلبية في مختلف الجوانب السياسية والاجتماعية والاقتصادية في المجتمع، فالدول التي تعاني حالة مستمرة من هذا النوع من الصراع غالباً ما تعجز عن تنفيذ السياسات الاقتصادية والاجتماعية طويلة الأجل، فتصبح الدولة فريسة لحالة تدهور وعجز اقتصادي مستمرة، تهدد أي أمل لتحسين حالة المعيشة لمواطنيها، فقد أخفقت أغلب خطط التنمية الاقتصادية بالرغم من تدفق المنح والقروض، وغيرها من المساعدات المالية أو المعونات الفنية، والتي وصلت إلى ملايين الدولارات، وفقدت العديد من الأنظمة الحاكمة في إفريقيا مشروعيتها؛ نتيجة لعجزها عن حماية مجتمعاتها من كوارث المجاعة والقحط والصراعات الأهلية والتصحّر، وما إلى ذلك من الكوارث القومية.
كما تخلف الأوضاع الأمنية المتردية مشكلات أمنية خطيرة، أهمها: مشكلة إعادة توطين اللاجئين، ويصل عددهم إلى 10 ملايين لاجئ، بواقع نصف اللاجئين في العالم، والمشردين والنازحين، ويقدّر عددهم بحوالي 15 مليون إفريقي من بين 25 مليوناً على مستوى العالم.
وكان لظاهرة الصراع داخل القارة العديد من الأسباب، أهمها: التنافس على الموارد النادرة، والفقر، وحرمان المواطنين الأفارقة من ممارسة حقوقهم السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، وفوق كلّ ذلك كانت الحرب الباردة من أهم أسباب استعار الصراع داخل القارة، وكانت النتيجة أن أصبح 4% من سكان القارة (ما يقرب من 23 مليون نسمة) من اللاجئين والنازحين.
وقد تسببت هذه الصراعات في تآكل جهود سنوات من التنمية الاقتصادية والبشرية في العديد من الدول الإفريقية، مثل: رواندا، والصومال، وليبريا، وأنجولا(17).
وأدّت ظاهرة الصراع في القارة الإفريقية إلى زيادة الفقر، سواء على مستوى الدخل أو على مستوى القدرات البشرية، في أكثر من 12 دولة إفريقية جنوب الصحراء، وكانت النساء والأطفال من أكثر الفئات تأثراً بهذه الظاهرة، حيث قدّرت منظمة اليونيسيف نسبة القتلى بما يفوق 60% من ضحايا هذه الصراعات، وهو ما يهدد جهود التنمية في القارة على المستوى القريب والبعيد على حدّ السواء.
مرض نقص المناعة البشرية:
ومع تزايد الإصابة بفيروس ضعف المناعة البشرية (الإيدز) الذي يعانيه أكثر من 36 مليون شخص في العالم، ثلثهم من إفريقيا، ومن بين أشد السكان فقراً، يمكن إدراك أنّ وباء فيروس الإيدز لم يعد مسألة صحية فقط، بل أصبح يهدد جهود التنمية.
فخطورة انتشار مرض الإيدز هو في تركّزه في أكثر الفئات نشاطاً على المستوى الاقتصادي والاجتماعي، وهي الفئة العمرية التي تتراوح ما بين (15 و 45 عاماً)، وهي الفئة التي تعوّل عليها الدول في تولي مهمة إدارة عملية التنمية، والخروج بها من دائرة الفقر.
ويعرض الشكل الآتي نسبة الإصابة بالمرض بين الأطفال تحت 15 عاماً في بعض الدول الإفريقية، حيث يتضح تنامي الإصابة بالفيروس فجأة وبسرعة، بالمقارنة بما كان عليه الحال منذ أوائل التسعينيات، ومن المقدّر أن يصل عدد المصابين إلى عدة أضعاف في عام 2005م بالمقارنة بعددهم في عام 1990م وعام 1995م بشكل خطير يهدد أي مساعٍ تبذلها الدولة من أجل التنمية، حيث يتراوح تقدير عدد المصابين في عام 2005م في دول مثل: (تنزانيا، وأوغندا، ورواندا، وزامبيا) من 10 إلى 20 مليون مصاب، بينما لم يكن هذا العدد يتعدّى خمسة ملايين في معظم هذه الدول. وهو ما يدل على خطورة تفشي المرض، وضرورة التكاتف من أجل مواجهته قبل أن يقضي على كلّ آمال القارة في تحقيق التنمية (انظر الشكل رقم 6).
وعند مقارنة نسبة الإصابة بالمرض في القارة الإفريقية بالمقارنة بغيرها من مناطق العالم النامي الأخرى؛ يتضح أنّ نسبة الإصابة ترتفع فجأة وبسرعة بالمقارنة بهذه المناطق، كما يقع الغالبية العظمى من المصابين بالمرض في القارة، حيث وصل عددهم في عام 2002م إلى ما يربو على 25 مليون فرد من بين 42 مليون مصاب على مستوى العالم، ويمثّلون بذلك أكثر من 70% من عدد المصابين في العالم. (انظر الشكل 7).
وهكذا يتضح أنّ المرض أصبح يمثّل السبب الأول في الوفيات في القارة؛ حيث يصل إلى 91% من الوفيات في 29 دولة إفريقية، ويهدد 43 مليون طفل إفريقي بوفاة العائل بحلول عام 2010م، كما يتوقع ارتفاع عدد المصابين به من الأطفال تحت سنّ الخامسة ليصل إلى 1,5 مليون خلال 20 عاماً.
والقضية هي في العلاقة بين الإيدز والفقر المادي في صورة انخفاض الدخل، وهي علاقة مزدوجة؛ فمن ناحية نجد الفقر من أهم أسباب الإصابة بالمرض، فالفقير نتيجة لفقره عاجز عن دفع تكاليف العلاج، وجاهل بأعراض المرض، وأسبابه، وطرق الوقاية منه؛ نتيجة لأُمّيته والتي كانت بدورها نتيجة لفقره وعجزه عن دفع تكاليف التعليم، أو لتفضيل العمل صغيراً (بهدف توفير دخل إضافي لإعالة أسرته) عن التفرغ لإتمام مراحل التعليم، ومن ناحية ثانية فالإصابة بالمرض تسبّب الفقر؛ وذلك لأنّ المرض يضرب بالأساس أكثر الفئات مساهمة في النشاط الاقتصادي، ومن ثمّ يؤدي إلى عجز هذه الفئات عن العمل والإنتاج، وينخفض الدخل نتيجة لانخفاض الإنتاج، كما أنّ ما يتم إنفاقه على تكاليف العلاج يأكل البقية الباقية من هذا الدخل المحدود؛ مما يؤدي إلى زيادة معدلات الفقر(18).
ولا تستطيع الدول الإفريقية مواجهة هذا الخطر في ظلّ عجز الشعوب الإفريقية عن دفع تكاليف العلاج، وانعدام الوعي الصحي، وقلّة عدد المستشفيات، وفي ظلّ كلّ هذا يصبح السعي في تنفيذ خطط التنمية واختزال الفقر أمراً حتمياً لا بد من تحقيقه والوصول إليه.
أزمة الديون:
تفاقمت أزمة الديون الإفريقية في العقدين السابقين بشكل أثار المخاوف من إمكانية سداد الدول الإفريقية لها، حيث زادت الديون الخارجية للدول الإفريقية من حوالي 110 مليارات دولار أمريكي في عام 1980م إلى 350 مليار دولار أمريكي في عام 1998م، بما يمثّل 65% من الناتج المحلي الإجمالي للقارة، وعجزت الدول المدينة عن تسديد فوائد الدين على الرغم من مختلف الجهود المبذولة لمعالجة الأزمة، حيث تقدّر خدمة الدين بحوالي 31% من صادراتها للسلع والخدمات، وتزداد خطورة القضية مع انهيار أسعار السلع الأساسية، والتي تعتمد عليها أغلب الدول الإفريقية بشكل أساسي، حيث تمثّل سلعة واحدة أو سلعتان في بعض الأحيان أكثر من 50% من عائد التصدير لأربعين دولة إفريقية(19).
ومن هنا كانت المناداة بضرورة معالجة مشكلة الديون الخارجية للدول الإفريقية (بإسقاط أو تخفيف عبء المديونية) التي تأكل معظم عوائد الدخل القومي ومخصصات التنمية، والتي يجب توجيهها لخدمة التعليم والرعاية الصحية والبنية التحتية، بدلاً من أن تتجه لخدمة سداد الدين فتزيد من ظاهرة الفقر، ومن ثمّ تعطّل خطط التنمية، وتزيد من توسيع الهوة بين الدول المتقدمة والدول النامية(20)، فإجمالي (خدمة الدين) التي تدفعها القارة الإفريقية تعادل ضعف الإنفاق على التعليم والرعاية الصحية فيها، بينما إلغاء الديون من على كاهل الدول الإفريقية سيكلف المواطن في الدول المتقدمة ما يقارب من «سنت» واحد يومياً، ومن هنا يقع العبء الأكبر من مهمة (اختزال الفقر، وإلغاء الدين الإفريقي) على كاهل الدول المانحة والمؤسسات المالية والتنموية الدولية(21).
تهميش القارة الإفريقية:
لا يمكن إغفال ظاهرة التهميش التي تعانيها القارة الإفريقية؛ باعتبارها أحد الأسباب المعوقة لعملية اختزال الفقر في القارة.
ففي إطار التهميش الذي تتعرض له البلدان الإفريقية في الاقتصاد العالمي؛ استمر هبوط حصّة القارة الإفريقية من التجارة العالمية، حيث انخفض نصيب القارة إلى 2% من الصادرات العالمية وفقاً لتقارير منظمة التجارة العالمية، مقارنة بنصيب القارة الآسيوية الذي يقدّر بما يربو على 17%، ونصيب دول أمريكا اللاتينية البالغ 5%، كما انخفضت نسبـة تدفق الاستثمار الخارجي إليها إلى 6,4 مليارات دولار فقط من إجمالي تدفق الاستثمار العالمي البالغ 400 مليار دولار، وبهذا لا يتعدّى نصيب القارة من تدفق الاستثمار الأجنبي 1,5%، بينما بلغت نسبة رؤوس الأموال التي هربت من إفريقيا 20% من حجم رؤوس الأموال العاملة فيها خلال السنوات الثلاث من 1998م – 2000م، بينما ورد إلى قارة آسيا 24% من رؤوس الأموال العاملة فيها، وهرب منها 2% فقط خلال الفترة نفسها(22).
إفريقيا والعولمة:
حاولت العديد من الدراسات بحث العلاقة بين ظاهرة العولمة من ناحية، والنمو الاقتصادي والفقر من ناحية أخرى، حيث ركّز بعضها في وجود علاقة إيجابية بين العولمة واختزال الفقر؛ فالأولى تؤدي إلى رفع القيود عن الاقتصاد القومي، وتحرير التجارة الدولية؛ مما يؤدي إلى النمو الاقتصادي، والنمو الاقتصادي بدوره يؤدي إلى القضاء على ظاهرة الفقر، إلا أنّ هذه النتيجة ليست صحيحة في كلّ الأحوال، ففي أحيان عديدة تستفيد بعض القطاعات من النمو الاقتصادي على حساب قطاعات أخرى من المجتمع، ومن ثمّ يؤدي النمو الاقتصادي إلى زيادة ثراء بعضهم، وازدياد فقر بعضهم الآخر.
ومن هنا لم يعد المقياس هو اعتبار العولمة بمثابة الوصفة السحرية لتحقيق النمو، ومن ثمّ اختزال الفقر، ولكن أصبح المقياس هو نوع سياسات النمو الاقتصادي الواجب اتباعها؛ فهناك سياسات تعزز النمو الاقتصادي، وتدعم الفقراء في الوقت نفسه، وتقضي على فقرهم، بينما هناك سياسات أخرى تعزز النمو في حين تزيد من فقر الفقراء، فتحرير سوق رأس المال (بمعنى فتح الأسواق أمام التدفق الرأسمالي الخارجي) قد يؤدي إلى عدم الاستقرار الداخلي؛ لأنه يزيد من فقر الطبقات المعدمة، وهو الشيء نفسه بالنسبة لسياسات إزالة التعريفة الجمركية، والتي نجد العديد من دول العالم النامي، وبخاصة الدول الإفريقية، غير مهيأة للتعامل معها، وبالفعل أثبتت دراسات البنك الدولي في جولة أوروجواي أنّ الأوضاع الإفريقية في ظلّ العولمة قد أصبحت أسوأ مما كانت عليه قبلها(23).
من كلّ ما سبق يتضح أهمية ظاهرة الفقر، وخطورة تأثيرها على التنمية في القارة الإفريقية، وظهرت العديد من المبادرات لاختزال معدلات الفقر في إفريقيا، وكان للدول المانحة الدور الأكبر في طرح هذه المبادرات، فقد أعلنت الدول المانحة في عام 1996م (مبادرة تعزيز البلدان الفقيرة المثقلة بالديون)، والتي بموجبها تمّ اعتماد مليار من عملة اليورو من (صندوق التنمية الأوروبي) لتخفيف الديون، وكانت القارة الإفريقية هي المستفيد الرئيس منها، واتخذت دول الاتحاد الأوروبي العديد من التدابير للمساعدة في تخفيف عبء الديون عن البلدان الفقيرة التي تبنّت برامج إصلاح اقتصادي، كما قررت قمّة (الدول السبع الصناعية) في كولونيا تخفيف عبء الديون بطريقة أسرع وأعمق وأوسع لمجموعة البلدان الفقيرة المثقلة بالديون.
وبما أنّ الفقر ليس مادياً فقط، ولا يمكن قياسه بمستوى الدخل الفردي فقط، كانت محاولات زيادة الدخل الفردي غير كافية لاختزال الفقر، فاستبعاد الفقراء وتهميشهم على المستوى الاقتصادي وحرمانهم من المشاركة السياسية في صنع القرار تعد في الواقع استمراراً لفقرهم(24).
ومن هنا كان على محاولات اختزال (الفقر) التعامل معه باعتباره ظاهرة معقدة متعددة الأبعاد الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، كما كان السبب الرئيس في إخفاق العديد من محاولات اختزال الفقر هو فرض سياسات لمحاربة الفقر تبتعد عن الفقراء، ومن هنا كانت أهمية وضع استراتيجية لاختزال الفقر تستند بالأساس على المشاركة الشعبية في توصيف ظاهرة الفقر، وأسبابها، وكيفية محاربتها، والقضاء عليها.
كما دفعت خطورة الظاهرة البنك الدولي وصندوق النقد الدولي إلى زيادة الاهتمام باختزال الفقر في العالم بصفة عامّة، وفي إفريقيا بصفة خاصة، واتخذا في سبتمبر 1999م قراراً بالتركيز في اختزال الفقر كإطار رئيس ترتكز عليه المؤسسات المالية الدولية والدول المانحة عند تقديم مساعداتها المالية للدول الفقيرة، ومنحها امتيازات القروض وخدمة الدين، ومن هنا كان ظهور (استراتيجيات اختزال الفقر) Poverty Reduction Strategy Papers PRSP’s .
ويتناول الجزء التالي من الورقة تحليلاً لأهم مراحل سياسة اختزال الفقر، ودور البرلمان في صياغتها، ومراقبة تنفيذها.
ثالثاً: استراتيجية اختزال الفقر Poverty Reduction Strategy Paper:
طرح البنك الدولي وصندوق النقد الدولي هذه الاستراتيجية في 70 دولة متوسطة الدخل في عام 2002م، وبموجبها تتولى الدول المقترضة مسؤولية تطوير استراتيجيات محلية خاصة بها لاختزال الفقر في أقاليمها، ومن هنا تتوفر – من وجهة نظر المؤسسات المالية الدولية – المشاركة الوطنية الكاملة في صياغة الاستراتيجية، وتنفيذها، والرقابة الفعالة عليها؛ حيث تعدّها الدولة بنفسها، بعد التشاور مع المجتمع المدني والقطاع الخاص، سواء بشكل مباشر من خلال اللجان الشعبية، أو بشكل غير مباشر من خلال نواب الشعب في البرلمان(25).
وفي هذا الإطار تبدو أهمية مشاركة الفقراء أنفسهم، فهم الأقدر على تعريف أبعاد الفقر وأهم أسبابه من وجهة نظرهم، لكن نظراً لضعف وعي هذه الفئة تتولى اللجان الشعبية هذا الدور، حيث تتولى مع أعضاء البرلمان مهمة الرقابة على أداء الحكومة، وضمان اختيار الاستراتيجية المثلى لاختزال الفقر، والتي تتناسب مع ظروف الدولة ووضعها الاقتصادي والاجتماعي والسياسي الداخلي.
وتتولى البرلمانات الوطنية الدور الرئيس في صياغة الاستراتيجية، والرقابة على تنفيذ الحكومة، وترجع أهمية تضمين البرلمان الوطني لعدة أسباب؛ فمن ناحية تفضل المؤسسات المالية الدولية التعامل مع لجان البرلمان عن التعامل مع الوزارات المختصة؛ حيث تضمن بذلك تضمين الحكومات المستقبلية إذا ما تولت المعارضة الحكم، ومن ثمّ يتوفر للاستراتيجية قدر من الاستقرار والاستمرارية.
ومن ناحية أخرى؛ يمثّل البرلمان قطاعات كبيرة من الشعب من الفقراء؛ مما يضمن مشاركتهم في وضع برامج اختزال الفقر، ومتابعة تنفيذ كلّ مراحلها، ومن ثمّ يشاركون في صنع السياسات التي تؤثر في حياتهم اليومية.
وفيما يتعلق بالدول المقترضة نفسها، فتولي أعضاء البرلمان مسؤولية اختزال الفقر أفضل من تركها للمؤسسات المالية الدولية والدول المانحة، والتي قد تملي عليها وصفات جاهزة لا تتفق مع ظروفها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية(26).
إلا أنه نظراً لاختلاف الأدوار التي تلعبها المجالس التشريعية في مختلف الدول، ولاختلاف وعي هذه المجالس بطبيعة الدور المتوقّع منها، فيما يتعلق بالاستراتيجية، قدّم البنك الدولي والبرنامج الإنمائي للأمم المتحدة في عام 2001م برنامجاً مشتركاً لتفسير الاستراتيجية لأعضاء البرلمان، في العديد من الدول، ولمساعدتهم في تحديد الدور المنوط بهم في صياغة الاستراتيجية والرقابة على تنفيذها، وبالفعل بدأ تطبيق برنامج (البرلمانات والحكم واستراتيجية اختزال الفقر) بالتعاون مع البرلمان الفنلندي في ست دول إفريقية، وهي: إثيوبيا، وغانا، وكينيا، وملاوي، ومالي، ونيجيريا(27).
وبالفعل طبقت الاستراتيجية 29 دولة إفريقية، ما بين مرحلة الإعداد والتطبيق، كانت أولها تنزانيا، والتي بدأت مرحلة الإعداد في أبريل 2000م، وكانت آخرها موزمبيق وبوركينافاسو في مارس 2004م(28).
وتنقسم مراحل استراتيجية اختزال الفقر إلى ثلاثة مراحل أساسية، تبدأ بعملية صياغة الاستراتيجية، وتشمل هذه المرحلة تحليلاً لظاهرة الفقر لفهم خصائصها، والعوامل التي تؤثر في زيادة معدلات الفقر، أو في اختزاله، يعقبها صياغة الاستراتيجية، وتشمل اختيار سياسات اختزال الفقر على المدى القصير والبعيد، ثم مرحلة تنفيذ الاستراتيجية، وأخيراً مرحلة تقييم الاستراتيجية، وتشمل تحديد مؤشرات قياس التقدّم في عملية التنفيذ، والمراقبة الدورية للنتائج، ثم التغذية الاسترجاعية لمتابعة تنفيذ سياسات الاستراتيجية، أو إجراء تعديلات عليها(29).
وفيما يلي تحليل هذه المراحل الثلاث:
المرحلة الأولى: صياغة استراتيجية اختزال الفقر:
تبدأ هذه المرحلة بوضع تعريف محدّد للفقر، وفقاً لأوضاع الدولة الاقتصادية والاجتماعية، ويتضمن هذا تحديد أبعاد الفقر، ومَن يدخل في دائرته من المواطنين، وأهمّ أسباب فقرهم، وبناء عليه يتم تحديد الاستراتيجية المناسبة لمواجهة ظاهرة الفقر واختزالها، حيث تختلف أبعاد الفقر وأسبابه من دولة إلى أخرى، وفقاً لطبيعة الدولة وظروفها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.
فهناك دولة تعتمد بالأساس على القطاع الزراعي، ومِن ثَمّ يكون اختزال الفقر، ورفع مستوى معيشة مواطنيها، وأغلبهم من الفلاحين، بتطوير هذا القطاع من خلال تحسين الظروف الزراعية، وتطوير شبكات الري، وتطوير البذور والأسمدة، وتوفير الائتمانيات الريفية.
ومع انخفاض نسبة التعليم؛ تعتمد الاستراتيجية على تطوير التعليم وتوفيره، بالدعم المناسب لكل قطاعات المواطنين.
وعلى الصعيد الاقتصادي؛ تعمل الوثيقة على رفع مستوى الأداء الاقتصادي من خلال السيطرة على معدلات التضخم، وتجنّب عجز الموازنة، وتفادي مخاطر التقلبات الاقتصادية الخارجية، ودعم الاستقرار الاقتصادي الداخلي.
ومع تدهور شبكات البنية التحتية؛ يكون التركيز في تطوير شبكة الطرق، وربط الأقاليم ببعضها، لضمان توصيل السلع إلى الأسواق.
فالنمو الاقتصادي يولد وظائف للعاطلين عن العمل، ويرفع من مستويات الدخل، وهو ما يحقّق بدوره المزيد من التنمية في قطاع الصحة والتعليم، وزيادة إنتاجية القطاع الزراعي تؤدي إلى زيادة الدخل القومي، ومِن ثَمّ القضاء على أسباب الفقر، وهي كلها شروط مسبقة للتنمية المستدامة(30).
أما على المستوى السياسي؛ فتضمن الوثيقة تطبيق مبادئ الحكم الجيد، وفقاً لما وضعه البنك الدولي من شروط، وهي: تطبيق القواعد القانونية، والإدارة الجيدة لموارد الدولة، والمساواة في التوزيع، والمحاسبية، والشفافية.
وقد أوصى البنك الدولي ووكالات التعاون الدولي، وفي مقدمتها برامج الأمم المتحدة للتنمية، بضرورة تقييد دور الدولة، وتدعيم المجتمع المدني، وحماية القطاع الخاص واستثماراته، ولتحقيق هذا الهدف تولت المؤسسات الدولية مشروعات دعم المجتمع المدني؛ من أجل ترسيخ فكرة الديمقراطية، وتمويل مشروعات مكافحة الفقر، وبذلك اكتسب المفهوم بُعداً جديداً من حيث تدعيم المشاركة، وتفعيل المجتمع المدني من خلال المساءلة والرقابة والشفافية(31).
وتبدو أهمية دور البرلمان في هذه المرحلة من عدة جوانب: فمن ناحية يتمكن النائب البرلماني من خلال علاقته المباشرة التي تربطه بأفراد دائرته الانتخابية من جمع البيانات الكمية عن أعداد الفقراء، ومفهومهم عن الفقر، وأبعاده وأسبابه المختلفة، وأهم استراتيجيات اختزاله، خصوصاً أنّ نجاح العضو البرلماني في أداء دوره مرهون بنجاحه في مساعدة أبناء دائرته وقدرته على تلبية مطالبهم واحتياجاتهم، وأهمّها محاربة الفقر.
ومن ناحية ثانية؛ يؤدي البرلمان دوراً مهماً في تقييم مدى رضاء المواطنين عن الاستراتيجية، سواء بتفهّم سياساتها، وتحمّل آثارها السلبية، أو بانتقادها والاعتراض عليها، ورفض المشاركة فيها، ومن ثمّ يتمكن من تقييم نجاح أو إخفاق تطبيق الاستراتيجية.
ومن ناحية ثالثة؛ تبدو أهمية دور البرلمان في صياغة الاستراتيجية من أنه الجهاز التشريعي المنوط به تمرير القوانين والتشريعات، وهو ما يضمن إصدار ما يلزم من قوانين لضمان تطبيق الاستراتيجية، والتنسيق بين ما هو صادر بالفعل منها.
ومن ناحية رابعة؛ فإنّ إشراك البرلمان في عملية الصياغة، والرقابة على التنفيذ، وتقييم الاستراتيجية، يضمن مشاركة الأغلبية والمعارضة على حدّ السواء، وهو ما يكفل الاستقرار والاستمرار في تنفيذ الاستراتيجية، حتى بعد تغير الحكومة وتولي المعارضة لها.
ونظراً لما يتطلبه تطبيق الاستراتيجية في بعض الأحيان من اتباع بعض السياسات التي قد تؤثر في قطاع من قطاعات المجتمع؛ نتيجة لما قد يترتب على هذه السياسات من رفع للأسعار، وزيادة معدلات البطالة، وغيرها من الآثار الاجتماعية لسياسات الإصلاح الاقتصادي، تبدو الحاجة لرفع وعي المواطن، من خلال دور وسائل الإعلام، وعقد الندوات والاجتماعات مع القيادات الشعبية، لتعريف الاستراتيجية وآثارها الإيجابية للمواطنين، ولضمان مشاركتهم في تطبيقها، وتفهّم آثارها السلبية، وتفهّم المواطن لبنود الاستراتيجية يشجعه على توفير البيانات الدقيقة التي تساعد اللجان البرلمانية المختصة بصياغة الاستراتيجية على حسن اختيار الاستراتيجية المناسبة اللازمة لاختزال الفقر؛ وذلك وفقاً لما يحدّده المواطنون من أبعاد وأسباب.
وتجدر الإشارة في هذه المرحلة إلى الاختلاف بين أقاليم الدولة فيما يتعلق بمستوى التنمية الاقتصادية، ومدى ما تمتع به من بنية تحتية، وما توفره لسكانها من خدمات أساسية، وعلى البرلمان أن يضع هذا الاختلاف في الحسبان عند مناقشة بنود الاستراتيجية، حيث يكون الهدف الرئيس في هذه الحالة: هو تقليل الفجوة بين أقاليم الدولة على المستوى الاقتصادي.
وتشترك في صياغة الوثيقة كلٌّ من اللجان الشعبية، والتي تساهم من خلال مشورتها في تحديد أبعاد الفقر وأسبابه، واللجان البرلمانية المتخصصة، حيث تشترك كلّ لجنة في صياغة ما يتصل بمجال عملها، وتقدّم هذه اللجان تقريرها إلى البرلمان ليتخذ من التشريعات ما يكفل إنجاح تطبيق الاستراتيجية، ثم يقوم البرلمان بدوره بتقديم الاستراتيجية التي تمّت صياغتها إلى المؤسسات المالية الدولية لتقييمها من حيث مشاركة المواطنين فيها (المشاركة)، وتأييدهم لها (شرعيتها)، ودرايتهم بكلّ جوانبها السلبية قبل الإيجابية (شفافيتها)، باختصار تقييم مدى ما تتحلى به من قيم الديمقراطية(32).
المرحلة الثانية: تنفيذ استراتيجية اختزال الفقر:
تشمل هذه المرحلة وضع ميزانية تنفيذ الاستراتيجية، وتخصيص الموارد اللازمة لتطبيقها بما يتناسب مع الأهداف الواجب تحقيقها، بمعنى أن يتم إنفاق الموارد على البنية التحتية والخدمات التي يحتاج إليها الفقراء، وليس على الخدمات التي تعتقد الحكومة احتياج الفقراء لها؛ مما يعني أهمية جمع البرلمان لبيانات توضح احتياجات الفقراء، ومطالبهم لاختزال فقرهم، ولتحديد أفضل تخصيص للموارد العامّة ليلبي هذه الاحتياجات(33).
كما يتولى البرلمان مراجعة الميزانية بصفة دورية، من خلال لجان خاصة، تساعدها في عملها لجان مختصة من وزارة المالية، ومن المجالس المحلية، ويشمل ذلك مراجعة بنودها ومدى اتفاق تخصيص الموارد، وفقاً لهذه البنود، مع تحقيق أهداف الاستراتيجية، وإعادة تخصيصها إذا لزم الأمر.
ومن المفيد هنا وضع خطط ثلاثية أو خمسية، حيث يسمح ذلك بإعادة رسم الاستراتيجية، وتصحيح السياسات وفقاً للمتغيرات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية الجديدة، بما يضمن النجاح في تحقيق أهداف الاستراتيجية(34).
ومن المفيد كذلك أن يستفيد أعضاء البرلمان من خبرات الدول التي طبقت الاستراتيجية وتجاربها لاختيار أفضل السياسات منها، وتجنّب الأخطاء التي وقع فيها الآخرون، وذلك من خلال عقد المؤتمرات البرلمانية الإقليمية بين الدول المطبقة للاستراتيجية(35).
ومن هنا تنجح الاستراتيجية في تقوية هياكل الحكم الديمقراطي في الدول التي يتم تطبيق الوثيقة فيها، وذلك بتقوية دور البرلمان الوطني الذي يتولى صياغة الاستراتيجية، وتمرير التشريعات والميزانيات اللازمة لتنفيذها، والرقابة على تنفيذ الحكومة لها، وبزيادة المشاركة الشعبية في صنع القرار السياسي والاقتصادي الذي يؤثر في الحياة اليومية للأفراد.
المرحلة الثالثة: مراقبة تنفيذ الاستراتيجية:
ويشمل دور البرلمان في هذه المرحلة تقييم تنفيذ السلطة التنفيذية لبنود الاستراتيجية، وبناء على التغذية الاسترجاعية التي يحصل عليها النائب البرلماني من أبناء دائرته، ومدى استجاباتهم لسياسات الاستراتيجية، يحدد البرلمان مدى التعديل الواجب إدخاله على هذه السياسات، سواء بتعديل السياسات التي تم تطبيقها، أو بإدخال سياسات جديدة.
وتتحدد فعالية دور البرلمان في الرقابة على تنفيذ استراتيجية اختزال الفقر من خلال العديد من العوامل، يتعلق بعضها بأوضاعه الداخلية، ويتعلق بعضها الآخر بالظروف الاقتصادية والسياسية والاجتماعية المحيطة به.
فمن ناحية أولى؛ يتوقف دوره على قدراته وموارده الذاتية، وعلى تكوينه (من الأغلبية، أو حكومة تحالف)، وتماسكه الداخلي (العلاقة بين الأغلبية والأقلية)، ومدى الثقة المتوافرة بين المواطن والنائب البرلماني.
ومن ناحية ثانية؛ يرتبط هذا الدور بالوضع الاقتصادي الداخلي، من حيث نمط التنمية المتّبع، والنجاح في عملية التنمية، ومدى ما يتوفر للبرلمان من موارد تسمح له بالقيام بهذا الدور، وفي هذا الإطار تبدو أهمية العلاقة بين الحكومة المركزية والحكومات المحلية، خصوصاً فيما يتعلق بتخصيص الموارد، والتساوي في توزيع مخرجات التنمية على قطاعات المجتمع المختلفة دون استبعاد أي منها، وكذلك مدى توافر البنية التحتية التي تسمح بتنفيذ الاستراتيجية.
ومن ناحية ثالثة؛ يتوقف على نوع النظام السياسي، بمعنى طبيعة دور البرلمان والحكومات المحلية بالمقارنة بدور السلطة التنفيذية، وما يتمتع به البرلمان من سلطة الرقابة على أعمال السلطة التنفيذية، ويشمل ذلك طبيعة النظام الحزبي، ومدى تمثيل مختلف أحزاب المعارضة داخل البرلمان، وتمثيل مختلف التيارات السياسية فيه، كما يختلف دور البرلمان وفقاً لمدى الاستقرار السياسي الذي تتمتع به الدولة.
وأخيراً؛ مشاركة المجتمع المدني في صنع القرار السياسي والتنموي، وارتفاع معدلات الأمية؛ مما يعوق المواطنين عن إدراك أبعاد الاستراتيجية، والمساهمة في صياغتها، وفي تقييم نجاحها أو إخفاقها، كذلك فإن التدرج في الإصلاح، وفي تطبيق الاستراتيجية، ورفع وعي الشعب بآثارها يضمن نجاحها(36).
ولا نغفل في هذه المرحلة أهمية الحفاظ على وجود قناة اتصال، تربط بين أعضاء البرلمان القومي والمؤسسات المالية الدولية، دون أن يتبع ذلك الاعتماد على المشورة الأجنبية، وهو ما يستوجب دعم اللجان البرلمانية بالمتخصصين وبالدعم المالي، خصوصاً في هذه المرحلة(37).
الخاتمة:
برغم الأهداف المتفائلة التي وضعتها الألفية الجديدة لتحسين أوضاع الفقراء، ولتقليل الهوّة بين العالم المتقدّم والعالم النامي، ما زالت إفريقيا بعيدة كلّ البعد عن تحقيق هذه الأهداف، وبخاصة هدف تخفيض نسبة السكان الذين يعيشون في الفقر الشديد بأقلّ من النصف، وهدف توفير التعليم الابتدائي لأكثر من 120 مليون طفل إفريقي، وهو الشيء نفسه بالنسبة لهدف خفض نسبة الوفيات بين الأطفال بمعدل الثلثين، فمن المنتظر بالمعدل الحالي أن تتحقق هذا الأهداف بحلول عام 2150م على الأقلّ، وليس 2015م(38).
وقد أثبتت العـديـد مـن الدراسـات أنّ القضية لا تتعلق بإنتاج الغذاء؛ لأن الإنتاج الإفريقي كافٍ لإشباع شعب الكرة الأرضية كلها، فإفريقيا تنتج ما يكفي الاستهلاك الغذائي فيها، بعكس غيرها من مناطق الدول النامية، كما يعمل أكثر من ثلثي شعبها في الزراعة، ومن ثمّ تعد الأخيرة مصدراً مهماً من مصادر التوظيف والعمالة، وهي تساهم في نمو القطاعات الاقتصادية الأخرى، إلا أنّ القضية هي في توفر الغذاء، وفي توزيعه، والوصول إليه، وقدرة الأفراد الشرائية.
كما تتعلق قضية الفقر في إفريقيا بالمؤسسات السياسية والسلطة، فالأزمة في إفريقيا هي أزمة مؤسسية بالأساس، حيث جاء تحرير السوق والخصخصة نتيجة لضعف الدولة، وعجزها عن تولي قضية التنمية، والتحول إلى الاعتقاد (بكفاءة السوق في تخصيص الموارد)، إلا أنّ التجربة أثبتت أنّ الخصخصة جاءت بدافع خاص من القطاع الخاص، سعياً وراء الربح الشخصي، وليس بهدف مساعدة الفقراء وانتشالهم من فقرهم، ومعنى ذلك أنّ النظام أصبح مفتوحاً على السوق العالمية، نتيجة لضعف الدولة، إلا أنه لم يؤد إلى أي تحسن في أوضاع الفقراء، بل العكس أدى إلى زيادة الهوّة التي تفصل بين الأغنياء والفقراء داخل الدولة(39).
ومن هنا كان التفكير في فرض الإصلاح الاقتصادي والسياسي من خلال تبنّي برامج التكيف الهيكلي التي قامت المؤسسات المالية الدولية بصياغتها، وفرضها على الدول المقترضة بغضّ النظر عن ملاءمتها لظروف هذه الدولة.
وبرغم تطبيق العديد من الدول النامية لهذه البرامج فإن معدلات الفقر ما زالت في تزايد مستمر، وفي الوقت نفسه استمر اعتراض الشعوب على تبنّيها وتطبيقها نظراً لأنها مفروضة من الخارج، وهو ما يشكك في استقلالية الدول المتبنية لها، مما دفع البنك الدولي للتفكير في برامج جديدة، تتولى الدول المقترضة صياغتها بنفسها، بحيث تضمن توسيع قاعدة المشاركة الشعبية، ومن ثمّ تأييد الشعب لها(40).
وفي محاولة من المؤسسات المالية الدولية والدول المانحة لمساعدة البلدان الفقيرة المثقلة بالديون، وتخفيف عبء الدين عن كاهلها، أطلق صندوق النقد الدولي والبنك الدولي في عام 1996م (مبادرة البلدان الفقيرة المثقلة بالديون)، وصدّقت عليها 180 دولة، وكان للمبادرة هدفان رئيسان:
الأول: هو تخليص هذه البلدان من عبء الدين.
والثاني: هو حضّها على الإصلاح الاقتصادي، والتنميـة البشـريـة، وتخفيـض الفقـر.
ويحدث تخفيف الديون على مرحلتين، فعند اتخاذ القرار بتطبيق استراتيجية اختزال الفقر يحصل البلد على تخفيف من عبء خدمة الدين، وعند الانتهاء من صياغتها، وموافقة البنك الدولي وصندوق النقد الدولي عليها يحصل البلد على تخفيض للدين بنسبة تصل إلى 90%، وقد انضمت 32 دولة في إفريقيا جنوب الصحراء إلى المبادرة، منها 26 دولة ما زالت عند مرحلة اتخاذ القرار، بينما وصلت ثماني دول إلى مرحلة الانتهاء من الصياغة، وبدء التنفيذ، منها: بنين، وبوركينافاسو، ومالي، وموريتانيا، وموزمبيق، وتنزانيا.
وقد تكون هذه الاستراتيجية فرصة جيدة لإشراك البرلمان القومي في عملية التنمية، ولإشراك الشعب في عملية صنع القرار التنموي، وفي الوقت نفسه هي فرصة جيدة لتقوية دور البرلمان في دعم الحكم الجيد، والتحول الديمقراطي في الدولة.
إلا أنه نظراً لضعف وعي أعضاء البرلمان في الكثير من الدول النامية باستراتيجية اختزال الفقر؛ فقد تأخّر دخولهم في مرحلة تصميم الاستراتيجية؛ فجاءت مشاركتهم متأخّرة بعد أن تمّت صياغة الاستراتيجية بالفعل، ومن هنا اقتصر دورهم على مجرد الرقابة على تنفيذ الاستراتيجية، لذا برزت أهمية زيادة وعي البرلمانيين بالاستراتيجية، وبأهمية دورهم فيها، كما تبرز خطورة تأخّر إشراك البرلمان في وضع الاستراتيجية من اضطراره لتخصيص المزيد من الجهد والوقت والموارد، والتي غالباً ما يفتقر إليها في الدول النامية، لدراسة بنود الاستراتيجية، ومناقشة بنودها؛ مما يضع على كاهله عبئاً مضاعفاً، بينما اشتراكه في صياغتها منذ البداية كان يوفّر عليه هذه المشقة(41).
وقد واجهت استراتيجيات اختزال الفقر العديد من الانتقادات، فمن ناحية أولى، وبرغم تأكيد أنّ الاستراتيجية تُعَدّ ذاتية الصياغة، تضعها كلّ دولة وفقاً لأوضاعها الاقتصادية والاجتماعية الداخلية، ووفقاً لرؤية فقرائها لأسباب فقرهم، والطرق المثلى لمواجهته، والقضاء عليه، فإن اشتراط موافقة المؤسسات المالية الدولية (البنك الدولي وصندوق النقد الدولي) على الاستراتيجية قبل تنفيذها يثير الشكوك حول دور هذه المؤسسات، ومدى تدخلها في عملية صياغة الاستراتيجية، وتنفيذها.
ومن ناحية ثانية؛ أثبتت العديد من الدراسات إغفال أغلب الاستراتيجيات التي تقدّمت بها الدول للعديد من القضايا التي تُعَدّ مهمة لتحقيق التنمية المستدامة؛ فقد أغفلت دور المرأة، وإدارة البيئة، وتحليل الآثار الاجتماعية للإصلاح الاقتصادي.
وتبدو أهمية التركيز في دور البيئة وحسن إدارة البيئة Environ ment Management لعلاقاتها القوية باختزال الفقر، حيث رأى العديد أنّ حالة الفقر التي تشهدها إفريقيا تتطلب الانشغال بمحاربة الفقر أولاً، ثم الانشغال في مرحلة لاحقة بقضية مثل قضية (البيئة)، إلا أنّ هذا الرأي مردود عليه، فالنمو الاقتصادي يعتمد على الاستخدام الأمثل للموارد الطبيعية، كما تؤثر العوامل البيئية في صحة الأفراد، وتهدد الكوارث الطبيعية طريق التنمية التي تنتهجه الدول، ومن هنا لا تصبح قضية إدارة البيئة قضية (رفاهة) تشغل بال الأغنياء فقط في الدول الصناعية، بل الفقراء في الدول النامية، إلا أنّ هذا لا يعني الاهتمام بهدف حماية البيئة على حساب هدف اختزال الفقر، فتحويل منطقة ما إلى منطقة محمية طبيعية يجب ألا يكون على حساب أهمية هذه المنطقة للفقراء، ولدورها المحتمل في اختزال فقرهم، بل يخضع الأمر إلى تحليل للربح والخسارة، وللمنافع والأضرار(42).
على أية حال؛ يُعَدّ نجاح الاستراتيجية في تحقيق أهدافها مرهوناً بالقيام بالعديد من الإصلاحات السياسية المتزامنة معها، فقد تكون الاستراتيجية جيدة الصياغة، تتناول بنودها كاملة أوجه وأبعاد الفقر الذي يعانيه المواطنون, ولكن قد لا يتم تنفيذ هذه البنود, فالمراجعة الدورية لتنفيذ السلطة التنفيذية لبنود الاستراتيجية تتطلب وجود قدر من الشفافية والمحاسبية قد لا تتوافر في الدول النامية, كما تتطلب تفعيل دور المجتمع المدني, وتقوية دور السلطة التشريعية على حساب السلطة التنفيذية, وهو ما قد لا يتوافر أيضاً في كثير من الدول الإفريقية.
والجدية – والنجاح – في إدخال هذه الإصلاحات هي وحدها الكفيلة بتحديد ما إذا كان تطبيق الاستراتيجية سيأتي بالجديد الذي يكفل للدول الإفريقية الخروج من مأزقها, وتحقيق الأهداف المرجو تحقيقها من الألفية الجديدة, أو أنها ستصبح تكراراً للتجارب السابقة نفسها, ولكن هذه المرة تحت مسمّى جديد لا يثير رفض الشعوب ومعارضتها.
الإحالات والهوامش:
(*) باحثة سياسية ببرنامج الدراسات المصرية الإفريقية, كلية الاقتصاد والعلوم السياسية / جامعة القاهرة
(1) وهي: بتسوانا, وتونس, والجزائر, وليبيا, وجنوب إفريقيا, وجيبوتي, والرأس الأخضر, وناميبيا, وموريشيوس, والمغرب, ومصر, وغانا, والجابون, وسيشل.
(2) تقرير التنمية البشرية لعام 2003م, أهداف التنمية للألفية: تعاهد بين الأمم لإنهاء الفاقة البشرية, نيويورك, برنامج الأمم المتحدة الإنمائي, 2003م, ص 378.
(3) لمزيد من التفصيل عن هذه انظر:
the UNDP the eight millennium development goals in:www.africa2015.org/poverty_hiv_aids.html
(4) Shaohuschen. martin ravallion “how did the worlds poorest fare in the 1990” world bank policy re- search working paper. No. 2409 . Washington D.C world banl.2000
(5) World development report. New york. United nationsdevelopment program. 2000
(6) تقرير التنمية البشرية للعام 2003م, ص 54.
(7) تقرير التنمية البشرية للعام 2003م, ص 54.
(8) تقرير التنمية البشرية للعام 2003م, ص 289.
(9) تقرير التنمية البشرية للعام 2003م, ص 54.
(10) تقرير التنمية البشرية للعام 2003م, ص 54.
(11) تقرير التنمية البشرية للعام 2003م, ص 54.
(12) Gary moser and toshihiroichida. “economic growth and poverty reduchion in sub- Saharan Africa”. Washington D.C. international monetary fund. IMF working paper. August 2001.p.5
(13) The world bank. Sourcebook for poverty reduction Washington D.C.. june 2000. Overview section
(14) لمزيد من التفاصيل عن مفهوم التمكين وعلاقته باختزال الفقر انظر: أماني مسعود الحديني: التمكين والحكم الشراكي: رؤية نقدية.. محاربة الفقر في مصر, مركز دراسات وبحوث الدول النامية, كلية الاقتصاد والعلوم السياسية, جامعة القاهرة, 2000م.
(15) لمزيد من التفاصيل عن العلاقة بين تجاهل مطالب الفقراء, وحالة الاغتراب التي يشعرون بها, والتي تدفعهم الى اللجوء إلى العنف في مواجهة الدولة انظر: George werner “conversations about poverty in Africa”. The perspective. Atlanta Georgia. july 25.2002 in: www.theperspective.org
(16) Braathen . einar. And mortenboes. And gjermundsaether (eds.). ethnicity kills? The politics of war. Peace and ethnicity in sub- Saharan Africa.New york. Macmillam press ltd. 2000
(17) انظر: Thelma awori. “progress against poverty in Africa”.United nations development program.New york.1998.p.27
(18) انظر: Awori. Op.cit. 27.
(19) عمرو موسى؛ تصريح حول أزمة الديون الإفريقية, الجزائر, 9/7/1999م, وزارة الخارجية المصرية: www.mfa.gov.eg
(20) أحمد ماهر؛ بيان مصر أمام جلسة الحوار رفيع المستوى للجمعية العامة للأمم المتحدة بشأن النيباد, نيويورك 16/9/2003م, في موقع وزارة الخارجية المصرية: www.mfa.gov.eg
(21) Mubarak at NEPAN conference: developed countries should help ease debt burdens of African nations .egyptragional. Politica. 2 september 2002 in: www.arabicnews.com
(22) Boutros- ghali. “the marginalization of Africa”. The Mediterranean quarterly. http://users.erols.com/mqmq/ghali.htm
(23) تقرير التنمية البشرية للعام 2003م, مرجع سبق ذكره, ص 96.
(24) انظر: Awori. Op.cit.26
(25) Leautier. FrannieA.parliaments and poverty :building the capacity to tackli the problems. Washington D.G. the parliamentarian. Issue TWO. 2002. P 179.
(26) Hubli. K.S A.P Mandaville. Parliamentarian and the PRSP process.pp.3-4.
(27) انظر: Op.cit.182Leautier
(28) Jan Bog.kenneth green and others. ” environment inpoverty reduction startegies and poverty reduction support credits”.Washington D.G.. The world bank. The world bank environment. Paper no. 102. No. vember 2004. P. 36
(29) A work guide onpoverty deduction andparliament for Ghana committees. Workshop retreats of the finance public accounts committees. The Ghana-canadaparliamentary support project. Ghana. Accra. Fobruary.2000.p.12
(30) تقرير التنمية البشرية للعام 2003م, مرجع سبق ذكره, ص 4.
(31) أماني مسعود, مرجع سابق.
(32) انظر: Hubli. Op.cit.11
(33) انظر: Awori. Op.cit.51-52
(34) انظر: A work guide…Op.cit.p.8-10.17
(35) انظر: Hubli. Op.cit.p.19
(36) انظر: Ibid.p.6.
(37) Stapenhurst. Rick.mainreport.plenarysassionII:Issue-based approaches as capacitybuildingstartegies. Breakout sassion A: strengtheningparliaments capacity through thepoverty reduction strategy process. Con-ferencereport:Apoliticydidlogue on legislative development. Palais d Egmont. Brussels.20-22 nov.2002.
(38) Gordon brown ” we need Irreversiple progress in tackling world poverty”. The Independebt. June 1.2004 in: www.globalpolicy.com
(39) Dominique Hounkonnou.” New partnership forpoverty alleviation in africa: learning fromdynamics”. The internationalWorkshop on assessing the impact of agricultural research on poverty alleviation. Costa rica. 14-16 september 1999.p.4-5.
(40) انظر: Stapenhurst.po.cit.
(41) Executive summary. Conferebce repot:A politicydidlogue on legislative development. Palais d Egmont. Brussels.20-22 nov..2002
(42) انظر: Boj. op.cit.p.1-2