طرق الفتح الإسلامي أبواب إفريقيا في خلافة عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، عندما بعث عمرو بن العاص -رضي الله عنه- لفتح مصر، فسار إليها في أعقاب فتح الشام (18هـ/639م)، واستطاع أن يُحرِّرها نهائيًّا من حكم البيزنطيين سنة (20هـ/ 641م)، ومنها سار لفتح برقة وطرابلس؛ لتأمين حدود مصر الغربية، كما سيَّر خليفته عبد الله بن سعد ابن أبي السرح، حملةً لفتح بلاد النوبة؛ لتأمين الحدود الجنوبية، ووقَّع مع مُلوكها معاهدة البقط الشهيرة التي التزموا فيها بدفع جزية للمسلمين في مصر، واستمرت حتى العهد المملوكي، عندما سقطت ممالك النوبة الواحدة تلو الأخرى في أيدي المسلمين، بأثر من الاندفاع الكبير للقبائل العربية نحو ما يُعرَف اليوم بجمهورية السودان، وذلك في حوالي القرن الثالث عشر الميلادي؛ حيث أسهمت تلك الهجرات في التحوُّل السريع إلى الإسلام، بقضائها على الممالك النوبية المسيحية هناك، إما بالتداخل والمصاهرة، أو بالقتال والفتح، وبعد سقوط تلك الممالك في أيدي العرب المسلمين تدفقت العرب إلى أواسط السودان، والتقت بوافد عربي آخر جاء من اتجاه الغرب، واستوطن إقليمي دارفور وكردفان، واختلط الجميع بالسكان الوطنيين الذين اعتنقوا الإسلام، فتمهَّد الميدان لحقبةٍ جديدةٍ، ظهرت في حواضر للإسلام في تلك الأرض، مثل (سنار) و(الفاشر).
وفي عهد الخلافة الأموية، ازدهرت حركة الفتح الإسلامي، ففُتِحَت شمال إفريقيا على يد عدد من القادة، أمثال عقبة بن نافع، وزهير بن سالم، وموسى بن نصير، ودخلت القبائل البربرية الإسلام، واندمجت في حضارته، بل وحملت لواء الفتح الإسلامي مع الفاتحين العرب، فساروا إلى الأندلس مع موسى بن نصير711م، بقيادة طارق بن زياد، وهو من البربر. كما انطلقوا به جنوبًا في قلب مناطقهم؛ حيث بدأ الإسلام يدخل بين قبائل البربر والصنهاجة في الصحراء الكبرى.
وبعد صراع طويل مع البربر، الذين كانت تكثر فيها الردة وحركات التمرُّد ضد الدولة الإسلامية، توطد الإسلام تمامًا في شمال إفريقيا، واستقرت حضارته لتنشأ على أساسها دول، وتبرز مدن وحواضر كان لها أثر كبير في نشر الثقافة الإسلامية في إفريقيا، مثل؛ القاهرة، وبرقة، وطرابلس، وتونس، والقيروان، وفاس، وغيرها.
وبعد قيام دولة المرابطين التي حملت لواء نشر الإسلام في ممالك السودان الغربي، بدأ الإسلام ينتشر فيما عُرف بالسودان الغربي، خاصةً بعد سقوط إمبراطورية غانا الوثنية على يد أبي بكر بن عمر اللمتوني؛ حيث انفتح الباب بعد ذلك ليمدّ الإسلام سلطانه في تلك البلاد، فتنشأ ممالك إسلامية مثل مملكة مالي، والتكرور، والماندينغ، وبرزت مراكز تجارية ومدن، ما لبثت أن تحوَّلت إلى حواضر سياسية وثقافية، مثل تمبكتو، وجينيه، وجاو، وأودغست، وغيرها.
أما شرق إفريقيا؛ فقد كانت علاقة العرب بها قديمة، فقد كانوا يقومون بالتجارة معها قبل ظهور الإسلام، ومنذ النصف الثاني من القرن الأول الميلادي، وقد ازدادت هذه التجارة بعد ظهور الإسلام ازديادًا كبيرًا، كما بدأت تتَّجه إلى الساحل الإفريقي أمواج جديدة من العرب لأسباب عديدة، من التجارة، ونشر الإسلام، وأحيانًا بسبب الصراعات السياسية في أرض العرب؛ فقد لاذ كثير من المسلمين بتلك الأراضي فارّين من خصومهم السياسيين، والحكام، أثناء حكم الأمويين، الذين جاء عليهم الدور بعد سقوط دولتهم على يد العباسيين. هذا التوافد أدَّى إلى استقرارهم في إفريقيا بأعداد كبيرة، وتأسيسهم العديد من المدن والسلطنات على امتداد الساحل الإفريقي الشرقي، الذي كانوا يسمونه بـ(ساحل الزنج)، فبرزت مدن مثل زنجبار، لامو، ماليندي، باتا، كلوا، وممباسا، حتى وصلوا إلى موزمبيق؛ حيث مدينة سوفالا (سُفالة الزنج) التي تقع جنوب مصبّ نهر الزامبيزي في المحيط الهندي، قرب مدينة بيرا الحالية، كما أنهم نزلوا بجزر المحيط الهندي بما فيها جزيرة مدغشقر وموريشيوس وجزر القمر، وغيرها”.([1])
وفي فترات لاحقة توغَّل المسلمون غربًا مبتعدين عن الساحل، إلى عمق إفريقيا، ليستوعبوا معظم ما يُسمَّى اليوم بدول شرق إفريقيا، فوصلوا حتى أوغندا ورواندا وبورندي، مرورًا بتنجانيقا (تنزانيا)، حتى الزامبيزي؛ حيث زامبيا وزيمبابوي([2]).
يقول بازل دافدسون: “الذي لا يشكك فيه المؤرخون، هو أن القرن الحادي عشر شهد عند ختامه، كثيرًا من مراكز التجارة على طول الساحل شماله وجنوبه، تنمو وترتقي إلى مدن يحكمها عرب مسلمون خلص أو عرب سواحليون أو جماعات متفرقة من السواحليين، ويعيش فيها مزيج من هؤلاء جميعًا، وكان سلطان الولاة يمتد جنوبًا حتى سفالا أكبر الموانئ التجارية في الشطر الجنوبي، تمتد وراء سلسلة الهضاب الروديسية”.([3])
وبمجيء القرن السادس عشر الميلادي ازدهرت الحياة الإسلامية في إفريقيا، وأصبحت حواضر التعليم في القارة في كلٍّ من تمبكتو وجنا وسوكوتو في الغرب وهرر وسوفالا وممبسة وزنجبار وزيلع في الشرق، وكانم وبرنو وودّاي وباقرمي في الوسط تجتذب الطلاب من أرجاء القارة، ويطوف عليها العلماء من أنحاء العالم الإسلامي، وتوثقت الصلة بين البلاد الإفريقية والحواضر الإسلامية في الحجاز والمغرب ومصر والسودان وتونس وغيرها.([4])
عوامل نشأة الحواضر الإسلامية في إفريقيا:
عدة عوامل أسهمت في ظهور الحواضر الإسلامية في إفريقيا جنوب الصحراء، وهي في مجملها عوامل مرتبطة بحركة المسلمين نحو إفريقيا، سواء كانت تلك الحركة فتحًا، أم هجرةً، أم حراكًا دعويًّا، أو تجارةً، ولكنَّها في النهاية أكسبت تلك المدن الصغيرة أهميةً خاصةً، وأوقدت فيها جذوة الحضارة، ونحاول أن نعرض في هذا المبحث لبعض هذه العوامل:
1- الجهاد والفتح الإسلامي:
أدَّت حركة الفتح الإسلامي في القرنين الأول والثاني الهجري، إلى استقرار الإسلام في مصر والشمال الإفريقي، مما جعله قاعدة قوية ينطلق منها الإسلام إلى المناطق المجاورة، وفيما بعد قامت دول قوية، قوامها العرب أو البربر، مثل دولة الأدارسة (788 –974م)، ودولة الأغالبة (800- 909م)، والمرابطين (1056– 1147م)، ومن بعدهم الموحدين (1121– 1269م)، وخلفاؤهم بني مرين (1244 – 1465م). وفي هذه الدول وغيرها نشأت حواضر ومراكز تجارية، مثل القيروان، وفاس، ومراكش، والرباط، وزاويلة، وغدامس، وورقلة، وتوات، وسلجماسة، وتلمسان، وأوداغست، وغيرها من المدن التي كان لها تأثيرها الثقافي على دول السودان الغربي.
وقد كانت دولة المرابطين، من أكثر الدول الإسلامية في المغرب تأثيرًا، على السودان الغربي؛ بسبب حركة الفتوح الواسعة التي قام بها أبو بكر بن عمر اللمتوني، الذي أسقط دولة غانا الوثنية، مُفْسِحًا بذلك المجال لقيام دول إفريقية إسلامية خالصة مثل دولة مالي، التي ازدهرت فيها الحواضر الإسلامية، مثل ماسينا، وتمبكتو، وغاو، وجيني.
وفي السودان الأوسط، برزت حركات جهادية عظمى، خاصةً في الفترة بين القرنين الثامن عشر والتاسع عشر الميلاديين، ونجحت تلك الحركات في تكوين دول إسلامية، وأصبحت عواصمها ومدنها الكبرى حواضر إسلامية ذات تأثير كبير، من تلك الحركات: حركة الشيخ عثمان دان فوديو (1754- 1817م) الذي أنشأ سلطنة “سكتو” الإسلامية، بحواضرها، سكتو وكانو، وحركة أحمدو لوبو (1775– 1844م) في ماسينا، وحركة عبد الكريم بن جامع، الذي أنشأ دولة وداي الإسلامية (1635– 1909م).
وفي سودان وادي النيل أدى تحالف الفونج والعرب القواسمة، إلى إسقاط دولة علوة، آخر الدول المسيحية في السودان، وقيام دولة الفونج الإسلامية (1505- 1821م) بحاضرتها سنار.
وتوسع النفوذ العربي العماني، الذي سيطر على زنجبار في شرق إفريقيا ومساحة واسعة من الساحل الشرقي لإفريقيا، توسَّع متوغلًا إلى داخل إفريقيا؛ حيث نشأت عدة إمارات إسلامية قوامها العرب، انطلاقًا من الساحل الشرقي، ممتدةً إلى منطقة البحيرات، فيما عُرف بمناطق (البابيكي)([5])، وحتى مصب نهر الكونغو، خاصة منطقة (كاتنقا)؛ حيث نشأت إمارتي (تيبو تيب) و(مصيري)، وازدهرت فيهما الحضارة، والثراء بشكل لم يسبق له مثيل، حتى إن الغزاة البلجيكيين عندما قدموا إلى تلك المناطق وأسقطوا تلك الإمارات، أصابهم الذهول لما شاهدوه من مظاهر الثراء والتحضر، والرفاهية.
2- الهجرة:
تُعدّ الهجرة من أهم العوامل التي انتشر بها الإسلام في إفريقيا، ربما كان تأثيرها يفوق بكثير تأثير الفتح الإسلامي، وعلى مرّ عصور التاريخ الإسلامي في هذه القارة، تعاقبت هجرات كبيرة من بلاد الإسلام المختلفة على إفريقيا، فأنتجت التمازج العرقي والثقافي، وأدت إلى دخول السكان المحليين الإسلام، واستعراب الكثير منهم، الأمر الذي كان له أثره الكبير في نشوء الحواضر الإسلامية، والإمارات والدول.
ولا شك أن أول الهجرات لإفريقيا كانت الهجرة من مكة إلى الحبشة، تلك التي عُرفت بهجرة الحبشة الأولى، وكانت أول هجرة في الإسلام، ثم تلتها هجرة الحبشة الثانية، والهجرتان حملتا الإسلام إلى أول أرض خارج مكة وجزيرة العرب؛ حيث استقر الصحابة بأرض الحبشة في حماية مَلِكها أصحمة، الذي اعتنق الإسلام، ولم يعودوا إلا بعد فتح خيبر.
صحيح أنها لم تُحْدِث انتشارًا كبيرًا للإسلام في أرض الحبشة التي كانت تدين بالنصرانية، إلا أنها جعلت الإسلام معروفًا لأهل تلك البلاد.
ولقد شهدت شرق إفريقيا كمًّا هائلًا من هجرات المسلمين من جزيرة العرب؛ من اليمن عمان، وحتى فارس، مما كان له أكبر الأثر في انتشار الإسلام في ساحل إفريقيا الشرقي، ونشوء الممالك والإمارات الإسلامية هناك، مثل كلوة، وشوا، ومقديشيو، ولامو، وماليندي، وممباسا، زنجبار، وساهموا بشكل رئيس في إنشاء الممالك التي عرفت بممالك الطراز الإسلامي، على ساحل المحيط الهندي، وقد كان لكثرة الاضطرابات السياسية في أراضي الإسلام في المشرق بجانب قرب سواحل إفريقيا الشرقية من جزيرة العرب، أثر كبير في تدفق هجرات الفارّين السياسيين، وغيرهم إلى تلك السواحل، بعيدًا عن سلطان خصومهم، خصوصًا أن الاتصال البحري بين العرب وسواحل إفريقيا قديم.
ومن أشهر الهجرات التي شهدتها شرق إفريقيا([6]):
أ- هجرة بني مخزوم في عهد الخليفة الراشد الثاني عمر بن الخطاب إلى الحبشة، واستقروا هناك، وفيما بعد أسَّست ذراريهم أقدم مملكة إسلامية عُرفت في تلك النواحي، وهي مملكة “شوا” سنة (283هـ الموافق 896م).
ب- هجرات الشاميين في عهد بني أمية؛ حيث هاجر بعض الناقمين على سياساتهم، إلى سواحل إفريقيا، خلال السنوات من (76- 85هـ)، بأعداد كبيرة، واستطاعوا إخضاع السكان الأصليين، ونزلوا في لامو، وبات، وماليندي، وممباسا.
ج- هجرة آل الجلندي الأزديين، الذين يحكمون نواحي عمان الحالية، فأجلاهم عنها الحجاج بن يوسف الثقفي، فاتجهوا صوب أرض الزنج، ونزلوا بأرخبيل لامو، في كينيا الحالية، واستقروا فيها، وأنشأوا فيها إمارة إسلامية، ونشروا الإسلام وتزاوجوا مع أهلها.
د– هجرة الزيدية: بعد فشل ثورة زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب –رضي الله عنه- ضد الأمويين واستشهاده سنة 122هـ، الموافق 740م، هاجر بعض شيعته إلى شواطئ إفريقيا الشرقية، واستقروا على ساحل بنادر قرب موقع مقديشيو الحالية، ثم اضطروا للنزوح منها إلى الداخل، واستقروا حول نهر جوبا وشبيلي.
هـ- هجرة الإخوة السبعة: وهم سبعة إخوة من قبيلة الحارث العربية، أجلاهم القرامطة عن مناطقهم بالأحساء؛ بسبب وقوفهم إلى جانب الدولة العباسية التي خرج عليها القرامطة؛ فخرجوا مع أتباعهم، ومن لحق بهم من العرب سكان شاطئ الخليج الغربي، في ثلاث سفن، ونزلو عند شاطئ بنادر، وأجلوا الشيعة الزيدية عن مناطهم، وأسسوا مدينتي مقديشو وبراوة.
و- هجرات القبائل العربية اليمنية إلى أرض النوبة والبجة، في القرن التاسع الميلادي؛ حيث أنشأوا إمارات عربية، مثل إمارة العمري في أرض البجة، وفي القرن الثالث عشر الميلادي تجددت الهجرات العربية إلى أرض النوبة؛ حيث أسقطوا الممالك المسيحية في دنقلا والمريس، واندفعوا منها إلى كردفان وأواسط السودان.
وفي القرن السادس عشر الميلادي، تحالف الأعراب مع الفونج، وهم أيضًا يرجعون أصول نسبهم إلى بني أمية، فأسقطوا علوة، آخر الممالك النوبية المسيحية، وأقاموا السلطنة الزرقاء، بحاضرتيها، سنار، وقرّي.
ز- هجرات الفولانيين، في غرب إفريقيا، الذين ينسبون أنفسهم إلى عقبة بن نافع الفهري، فاتح إفريقيا، وقد نزحوا من مناطقهم الأصلية في جنوب المغرب، متوغلين في أرض السودان، ومتجهين نحو الشرق، حتى وصلوا إلى مواطنهم الحالية في نيجيريا.
3- التجارة:
لعبت التجارة دورًا كبيرًا في بروز الحواضر الإسلامية، وازدهارها، فقد اكتسبت المدن التي كانت تحوي الأسواق، أو تقع على طريق القوافل أهمية كبرى، فقد نالها من الثراء، والتطوُّر ما نالها جراء حركة المال والبيع والشراء. وكانت القوافل تأتي بالبضائع، وتحمل معها الثقافة والعلم والمعرفة، وكثير من التجار، كانوا دعاة للإسلام بسلوكهم. وكما جذبوا الأهالي للإسلام وحبَّبوه إليهم، كذلك جذبوا العلماء والدعاة إلى تلك المدن بما يُطلعونهم عليه من أخبارها. فصارت تلك المدن مراكز للتجارة، ومراكز للإشعاع المعرفي الإسلامي.
ومن أهم الحواضر التي بدأت في الأصل مراكز تجارية في غرب إفريقيا:
أ- تنبكتو: التي بدأت معسكرًا صغيرًا للطوارق، يقع في طريق القوافل، ثم ما لبثت أن أصبحت مدينة، وازدهرت بوصفها مركزًا تجاريًّا مُهمًّا، في عهد سلطنتي مالي وسنغي، واكتسبت أهميتها من موقعها الممتاز على منحنى نهر النيجر، فأصبحت في سنغي أقرب محطة للقوافل التجارية القادمة من الغرب، كما أن موقعها على نهر النيجر، جعلها حلقة اتصال بين تجارة المغرب وتجارة السودان.([7])
ب- جاو: كانت عاصمة لسلطنة سنغي، وتقع على بُعد أربعمائة ميل جنوب شرق تنبكتو، وكانت أكثر مدن السودان ذهبًا، يَفِد إليها التجار، فيجلبون إليها الأقمشة وغيرها من البضائع المغربية، ويأخذون منها الملح والودع والذهب والنحاس المسبوك، والرقيق([8]).
جـ- جينيه: هي سوق عظيمة، كانت تذخر بالأموال والرجال، يلتقي فيها تجار الملح وتجار الذهب، وهما التجارتان اللتان كانت تشتهر بهما؛ حيث يتم مبادلة الملح بالذهب، هذا بالإضافة إلى ثرواتها الحيوانية والسمكية والزراعية، ولا سيما القطن الذي يشتريه التجار المغاربة مقابل الأواني النحاسية والأسلحة وغيرها. كما أن جينيه تقع في منطقة محاطة بالمياه، وذلك ما ساعد على تأمينها من هجمات الغزاة([9]).
د- زيلع: من أشهر الموانئ التي كانت تربط شرق إفريقيا ببلاد العرب، وتحيط بها المياه من ثلاث جهات، كانت تشتهر قديمًا بصيد اللؤلؤ، وفيها سوق من أكبر أسواق الرقيق، ويُحمَل منها البن والفاكهة والخشب واللبان والبخور([10]).
هـ- وممباسا: أهَّلها موقعها المهم، بوصفها جزيرة في المحيط الهندي لأن تكون مركزًا تجاريًّا وميناءً مُهمًّا، يربط شرق إفريقيا بتجارة الهند والصين، وعبرها كانت إفريقيا تُصدِّر للعالم؛ العاج، وقرون الكركدن، والتوابل، والنحاس الأحمر، والأصفر، وتستقبل التوابل والبخور، وغيرها من منتجات الأمم.
و- وسُفالا: هي أحد أقاليم (موزمبيق)، وتقع عند نهر الزمبيزي، وهي آخر المحطات المهمة للرحلات التجارية العربية؛ حيث وصلت إليها السفن التجارية القادمة من (عُمان)، و(اليمن) وبلدان الخليج العربي وغيرها.
وارتبطت (سفالة) بتجارة الذهب منذ العصور القديمة، وأصبحت أحد المنافذ الحضارية إلى العالم الخارجي، ومقصدًا للسفن التجارية العربية حتَّى بداية العصور الإسلامية([11]).
وصفها المسعودي بقوله: “وكذلك أقاصي بحر الزنج هو بلاد (سُفالة)، وأقاصيه بلاد (الواق واق)، وهي أرض كثيرة الذهب كثيرة العجائب، خصبة حارة”([12]).
4- حركة الدعاة والعلماء المسلمين
لقد كان لوفود العلماء والدعاة إلى المدن الإفريقية، وجلوسهم للتدريس، وذيوع صيتهم فيها، أثره الكبير على ازدهارها وتحضُّرها، فذلك من شأنه أن يجعلها قِبْلَة يتداعى إليها طلاب العلم من كل حدب وصوب، لينهلوا من معارفها، ويتزودوا من زادها، ما يعودون به إلى أهلهم، ناشرين للعلم والمعرفة.
وقد كان للممالك والعواصم والمراكز العلمية التي ذاع صيتها في غرب إفريقيا، مثل: تمبكتو، وجني وأغاديس، وكنو، وكتشنا، الفضل العظيم في نشر الثقافة العربية الإسلامية في المنطقة، ووصلت الثقافة العربية الإسلامية إلى ذروة ازدهارها في القرنين الخامس عشر والسادس عشر الميلاديين، وذلك في عهد (إمبراطورية سنغي الإسلامية) التي اشتهرت بكثرة علمائها، ومؤلفاتهم العلمية التي أسهمت بدور كبير في نشر الثقافة الإسلامية في غرب القارة وخارجها([13]).
وعلى سبيل المثال، كانت تمبكتو مركز الثقافة العربية الإسلامية الأول في بلدان السودان الغربي، خلال القرن السادس عشر الميلادي، وقد تكاثر علماؤها، وقصدها طالبو العلم من أصقاع عديدة، حتى أبناء الوجهاء الوثنيين من بلاد (الموسى) كان يبعث بهم آباؤهم ليتعلموا في تمبكتو([14]).
ففي السودان الغربي اشتهر من العلماء؛ الشيخ محمد بن عبد الكريم المغيلي التلمساني (1425-1504م)، الذي وُصِفَ بـ(خاتمة المحققين)([15])، الذي عاش حياته متنقلًا من تلمسان التي وُلِدَ فيها وترعرع، إلى تمنطيط، في نواحي توات، وإلى بلاد السودان، متنقلًا بين مدنها مثل كتشنا، وكنو، وبلاد التكرور، ناشرًا للعلم والمعرفة، ومباشرًا للجهاد، وناصحًا للملوك والسلاطين ومُفتيًا، ومُعلمًا لأحكام الشرع وقواعد الدين، ومُصنِّفًا للتصانيف في فنون العلم الشرعي.
والشيخ أحمد بابا التمبكتي (1556- 1627م)، فقيه تمبكتو وعالِمها الموسوعي، المشهور بعالم التكرور، الذي نشر العلم والمعرفة في تمبكتو، قبل أن ينفيه الغزاة المغاربة إلى مراكش؛ حيث جلس فيها لتعليم العلم، وكان يحضر دروسه فيها المئات من طلاب العلم من داخلها وخارجها، وزادت تصانيفه عن 40 مصنفًا في مختلف الفنون.
ومنهم الشيخ عبد الرحمن السعدي، صاحب تاريخ السودان، والشيخ العالِم المؤرخ، محمود كعت صاحب تاريخ الفتاش، هذا بجانب العلماء الأمراء المجاهدين الذين أقاموا دولًا، أمثال الشيخ المجاهد عثمان بن فودي (1754- 1817م)، مؤسس دولة سكتو الإسلامية، والشيخ أحمد لوبو، صاحب ماسينا (1775-1844م)، والمامي عبد القادر كن الذي أقام دولته في منطقة (الفوتاتورو) على ضفتي نهر السنغال في القرن الثامن عشر، والحاج عمر الفوتي (1794- 1864م)، في إفريقيا الغربية والوسطى، والشيخ محمد الأمين الكانمي (ت 1846)، في سلطنة برونو وكانم.
أما شرق إفريقيا فقد نزح إليها كثير من الفقهاء والعلماء والصوفية، من بلدان المشرق الإسلامي، ووجدوا ترحيبًا وحفاوةً من الحكام في الإمارات الإسلامية في ساحل إفريقيا الشرقي، مما شجَّعهم على البقاء ونشر العلم بأحكام الدين، ومن أمثلة تلك الحفاوة، أن سلطان مقديشو خصَّص دارًا مرتبة ومجهزة لضيافة العلماء والفقهاء الذين يفدون على مقديشو، وخصَّص أخرى لإقامة طلاب العلم ورعايتهم، والقيام بأمرهم([16]).
ومن أشهر العلماء الذين كان لهم أثر في حواضر الإسلام في شرق إفريقيا: الشيخ عمر الرضا أبادير الهرري، مُؤسِّس هرر، الذي جاء في حوالي سنة 1216م (612 سنة هجرية)([17])، من الحجاز في كتيبة من الأشراف، وحلَّ بأرض هرر من أرض الحبشة، ومعه العالم المشهور الشيخ يوسف الكونين الشهير بـ(آو برخدلى)، وهو أول مَن قام بتهجية الحروف العربية شفويًّا باللغة الصومالية.
السمات العامة للحواضر الإسلامية في إفريقيا:
من أهم السمات التي ميّزت حواضر الإسلام في إفريقيا، وجمعت بينها:
1- الشهرة: كانت هذه المدن، مشتهرة معروفة في نطاق واسع، داخل إفريقيا وخارجها، والذي هو الأمر الذي جعل المؤرخين والجغرافيين يكتبون عنها، حتى قبل أن يروها بأُمّ أعينهم، بل بما يَرِد إليهم من أخبارها، بواسطة التجار الذين زاروها، ونقلوا الروايات الشفاهية عنها، وحكوا عنها الحكايات، التي أصبحت في كثير من الأحيان أشبه بالأساطير. ومثال ذلك: ما ذكروه عن الذهب الذي ينبت بأرض غانا كما ينبت الجزر… إلخ. وهو ما حفَّز عزم الرّحالة لزيارتها، والوقوف على أخبارها.
2- التجارة: أغلب هذه المدن كانت مراكز تجارية مزدهرة، بل كانت التجارة أحد الأسباب التي أدَّت إلى صيرورتها حواضر مهمة. فتمبكتو كانت تقع على طريق القوافل، وجيني كانت معبرًا لنقل البضائع وملتقى للطرق التجارية، وكانو كانت مدينة تجارية وصناعية وزراعية، اشتهرت بصناعة الحديد وزراعة المحاصيل، والفاشر كانت وما زالت من أكبر أسواق المواشي والمحاصيل، وزيلع ميناء حيوي، وكذلك مقديشو، وغيرها من الحواضر.
3- التمدن والرفاه الاقتصادي: تمتع سكان الحواضر بدرجة كبير من الرفاه والثراء، بسبب الأهمية التجارية لتلك المدن، ويكفي أن الذهب الوفير في حواضر غرب إفريقيا كانت مثاقيله تُدفَع، لشراء بعض الثياب والأقمشة، والملح، وأحيانًا الزجاج الملون. وانعكس ذلك الرفاه على طرز العمارة في تلك الحواضر، وأنماط المعيشة، واللباس.
4- النظام: تتبع أغلب تلك الحواضر، أعرافًا وتقاليد، في الجوانب الاجتماعية، أو السياسية، أو القضائية، وكانت تلك الأعراف والتقاليد المستمدة في كثير من جوانبها من الإسلام، تُشكِّل نظامًا دقيقًا، يضبط المعاملات، والتداول الوظيفي، وأدَّى إلى استقرار الحياة السياسية في تلك الحواضر.
5- مراكز إشعاع ثقافي إسلامي: تميّزت تلك الحواضر بالاهتمام بالعلم والعلماء، وتشييد المدارس، والمساجد، والمعاهد، والمراكز العلمية، والاهتمام بطلاب العلم، وتميَّزت بعض تلك الحواضر، حتى أصبحت قِبْلَة يقصدها طلاب العلم، والعلماء على حدّ سواء، مثل تمبكتو وجنيه وغاو، ومقديشو.
6- الاهتمام ببناء المساجد وعمارتها: لا تكاد توجد حاضرة من تلك الحواضر، إلا وتُشكِّل المساجد أحد أهم معالمها الحضارية والتاريخية، ولكل مدينة من تلك المدن مسجدها العتيق، الذي يَؤُمُّه السلاطين ويقصدها العامة، وتنعقد فيه حلقات العِلْم والذِّكر، وتُلحَق به المعاهد والمدارس، هذا بجانب المساجد الأخرى في الأحياء.
7- الأهمية السياسية: تتميّز تلك المدن كلها بأهمية سياسية خاصة؛ فهي إما حواضر للممالك والإمبراطوريات، وإما إمارات مستقلة، وإما مدن ذات جذب وأهمية سياسية، تدفع الملوك والأمراء للطمع فيها، وضمّها إلى سلطانهم، ولهذا نجد أن بعض الحواضر قد تداولتها أكثر من دولة.
8- البقاء والصمود: صمدت تلك الحواضر، أكثر من الدول نفسها، فالدول والإمبراطوريات تقوم وتسقط، ولكن تلك الحواضر، تظل باقية، وأحيانًا تنهض بعد دمارها على يد الغزاة، كما تنهض العنقاء من الرماد، ويشهد على ذلك أن أغلب تلك الحواضر ما تزال قائمة حتى اليوم، ويُنظَر إليها بوصفها مدنًا تاريخية، ومعالم حضارية ذات قيمة عالية.
خاتمة:
لقد شكَّل دخول الإسلام إلى إفريقيا نقطة فارقة في تاريخ العمران البشري على هذه القارة، التي تُعدّ المهد الأول للبشرية على الأرض؛ فقد حوَّل معالم حضارتها من الوثنية وعبادة الأرواح، ومظاهر الطبيعة، إلى توحيد الخالق المعبود، والارتباط بقِيَم السماء، وجعلها تنسجم مع الثقافة التي جاء بها المسلمون، فاتحين كانوا، أو دعاة وعلماء وافدين، أو تجارًا.
هذا التمازج أكسب إفريقيا بُعدًا جديدًا، ربَطها بالأفق العالمي للإسلام، وحواضره في المشرق والمغرب. فأنتجت بذلك التمازج حضارة متميزة، شكَّلت المعالم الثقافية للممالك التي نشأت على أرضها، وأقامت نظامها على أساس الإسلام، وفي جميع أنحاء هذه القارة برزت مدن، وعواصم، انصبغت بصبغة الإسلام، وأهَّلتها مكانتها السياسية، أو الثقافية، أو التجارية، لتصبح حواضر للإسلام في إفريقيا.
ومن هنا تنبع أهمية البحث في هذا الموضوع؛ لارتباطه بالهوية الحضارية لإفريقيا من جانب، ولتنبيه المهتمين، من جانب آخر، إلى ضرورة الاهتمام ببَعْث هذه الحواضر في الذاكرة الثقافية الإفريقية، وضرورة الحفاظ على ما تبقَّى من آثارها، وكنوزها التاريخية والثقافية، خاصةً بعد تعرُّض كثير منها للإتلاف المتعمد، مثل ما حدث لمخطوطات تمبكتو، وغيرها. فضلًا عن التلف بسبب الإهمال، كما هو الحال في زيلع، وكمبي صالح، وسنار.
………………………………………..
[1] – عبد السلام بغدادي، الجماعات العربية في إفريقيا: دراسة في أوضاع الجاليات والأقليات العربية في إفريقيا جنوب الصحراء، الناشر: مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، الطبعة الأولى، 2005م، ص (96).
[2] – المصدر السابق، ص (97).
[3] – بازل دافيدسون، إفريقيا تحت أضواء جديدة، ترجمة جمال محمد أحمد، طبعة دار الثقافة للطباعة والنشر والتوزيع، ص (278- 279).
[4] – الصادق أحمد آدم، نشأة الممالك والدويلات الإسلامية في إفريقيا: مملكة وداي نموذجًا، من أبحاث المؤتمر الدولي: الإسلام في إفريقيا، الخرطوم– نوفمبر2006م، جامعة إفريقيا العالمية – جمعية الدعوة الإسلامية – وزارة الإرشاد والأوقاف السودانية.
[5]– هي المنطقة التي تمتد بين كلوا ومينا إيجيجي تنجانيقا.
[6]– انظر: محمد عبد الله النقيرة، انتشار الإسلام في شرقي إفريقية ومناهضة الغرب له، دار المريخ للنشر، الرياض 1982م، ص (79-104)، و عبد القادر زبادية، دراسة عن إفريقيا جنوب الصحراء في مآثر ومؤلفات العرب والمسلمين، ديوان المطبوعات الجامعية، الجزائر، ص (23 -25).
[7] – م.م. عباس كريم عبد الله، الصلات التجارية بين المغرب والسودان الغربي، مجلة كلية التربية الأساسية جامعة بابل، العدد 4، أيلول 2010م.
[8] – المصدر السابق.
[9] – المصدر السابق.
[10] – محمد عبد الله النقيرة، مصدر سابق، ص 199.
[11] – موسى بن خميس بن محمد البوسعيدي، تأسيس المدن الإسلامية في شرق إفريقيا، مجلة التفاهم، الصادرة عن وزارة الأوقاف والشؤون الدينية سلطنة عمان، العدد 39 سنة 1434هـ الموافق 2013م.
[12] – المسعودي، مروج الذهب ومعادن الجوهر، المكتبة العصرية، الطبعة الأولى، بيروت 2005م، ج 2/6.
[13] – د. علي يعقوب، جهود العلماء الأفارقة في نشر الثقافة الإسلامية والعربية: غرب إفريقيا نموذجًا، مجلة قراءات إفريقية، العدد الثالث، ذو الحجة 1429هـ – ديسمبر 2008م.
[14] – عبد القادر زبادية، مصدر سابق، ص 127.
[15] – نعته بذلك ابن مريم المديوني، في كتابه البستان، وقد كان معاصرًا للمغيلي.
[16] – محمد عبد الله النقيرة، مصدر سابق، ص (274).
[17] – هرر المدينة التاريخية المحصنة في إثيوبيا، مقال منشور بموقع أفريكا عربي:
http://afrikaar.com/16237/harar-ethiopia/