أسفرت عملية الاستفتاء على مشروع الدستور الجديد لدولة الجابون التي نُظِّمت يوم السبت الموافق 16 نوفمبر 2024م عن الموافقة عليه بأغلبية كبيرة، وصلت نسبتها إلى 91% من أصوات الناخبين، وبنسبة مشاركة بلغت 53.5%؛ وذلك وفقًا للبيان الذي أعلنه وزير الداخلية الجابوني هيرمان إيمونجولت عبر التلفزيون الرسمي، ليصبح هذا المشروع هو الدستور الجديد للجابون رسميًّا، والذي من المقرر أن يدخل حيّز النفاذ حسبما حددت المادة 173 منه عقب انتخابات رئاسة الجمهورية المنتظر إجراؤها في أغسطس 2025م لإنهاء الفترة الانتقالية التي تعيشها الجابون منذ الانقلاب العسكري الذي أطاح بنظام أسرة بونجو الحاكمة في أغسطس 2023م، ورغم نسبة التصويت المرتفعة نسبيًّا لصالح مشروع الدستور الجديد؛ إلا أن هناك العديد من القضايا الخلافية التي كانت ولا تزال موضع انقسام سياسي واجتماعي كبير، وسوف تستمر كذلك خلال المرحلة المقبلة، ويمكن تسليط الضوء على هذه القضايا الخلافية من خلال النقاط التالية:
أولاً: السماح لرئيس المرحلة الانتقالية الحالي بالترشح للانتخابات الرئاسية المقبلة
نظرًا لعدم نصّ الدستور الجديد على منع رئيس المرحلة الانتقالية الحالي العميد “بريس أوليغوي نغويما”، الذي أطاح بحكم أسرة بونجو الحاكمة للبلاد منذ 56 عامًا في انقلاب 30 أغسطس 2023م، من الترشح للانتخابات الرئاسية المقبلة المحتمل عقدها في أغسطس 2025م؛ فقد دعت العديد من القوى المعارضة إلى رفض مشروع الدستور الجديد، متَّهمين المجلس العسكري الحاكم بتفصيل دستور مخصص ليتناسب مع طموحات رئيس المرحلة الانتقالية “بريس نغويما”، والذي لا يُخفي طموحاته المستقبلية لرئاسة البلاد؛ حيث صرح خلال افتتاحه سوقًا في العاصمة ليبرفيل أنه موجود لبناء البلاد، وسوف يبنيه مستقبلاً بدعم الشعب، واعدًا بالارتقاء بهم نحو السعادة، وتتصاعد أصوات المعارضة الرافضة للدستور الجديد؛ حيث ترى أنه يصنع نظام الرئيس الملك، ويتسبَّب في إعادة إنتاج نظام استبدادي جديد بعد الخلاص من نظام أسرة بونجو الحاكمة.
كما أن ميثاق المرحلة الانتقالية نص في المادتين 40، 41 على منع نائب رئيس المرحلة الانتقالية، وأمين عام هيئة رئاسة المرحلة الانتقالية من الترشح لانتخابات الرئاسة، بينما لم ينصّ الميثاق الانتقالي على هذا الحكم بالنسبة لرئيس المرحلة الانتقالية، وهو ما يعني قدرته مستقبلاً على الترشح لانتخابات الرئاسة المقبلة؛ لعدم وجود موانع قانونية أو دستورية في الميثاق الانتقالي الحالي ولا الدستور الجديد، وبالتالي فمن المؤكد أن رئيس المجلس العسكري الحاكم “بريس نغويما” سيقوم بالترشح لانتخابات الرئاسة المقبلة ويفوز فيها، مستخدمًا فكرة مدنية السلطة؛ ليعطي لنفسه الشرعية في حكم البلاد، وهو ما تدركه المعارضة، ولذلك فإن الوضع السياسي في الجابون لن يتغير كثيرًا في ظل النظام الجديد؛ وذلك لأنه سيسير على نفس وتيرة أسرة بونجو المعزولة التي يُعدّ واحدًا منها؛ لكونه قريبًا للرئيس السابق علي بونجو من جهة والدته.
بجانب أن الرئيس الانتقالي الحالي “بريس نغويما” تم توجيه اتهامات له بالفساد مِن قِبَل مشروع الإبلاغ عن الجريمة المنظمة والفساد OCCRP))، وهي منظمة غير حكومية أمريكية، أشارت في تقرير لها صادر في عام 2020م أن الجنرال نغويما اشترى عقارات باهظة الثمن في الولايات المتحدة تبلغ قيمتها ملايين الدولارات. وردًّا منه على هذا التقرير فقد صرح بأن الأمور الخاصة به سواء في فرنسا أو الولايات المتحدة هي من قبيل الحياة الخاصة يجب احترامها، ولم يذكر من أين حصل على تلك الملايين.
كما تشير الوقائع إلى أنه يميل إلى صناعة نُخبة عائلية جديدة تدعمه خلال مسيرته السياسية المستقبلية. ومن الأمور التي تحمل دلالات على ذلك قيامه بتعيين صهره ريجيس أونانجا ندياي وزيرًا للخارجية في الحكومة الانتقالية منذ 9 سبتمبر 2023م، وهو مستمر حتى الآن، كما قام بتعيين أخيه “هيوز مفا نغويما” رئيسا للمديرية العامة للرقابة على الميزانية والمالية (DGCBF) في يونيو 2024م، وذلك ليخلف أخاه غير الشقيق “أوريليان مارسيل مينتسا نغيما”، والذي كان قد تولى بعد فترة وجيزة من تولي شقيقه رئاسة المرحلة الانتقالية في منصب مدير عام إدارة الميزانية والمالية العامة (DGBFiP)، ولكن تمت إقالته منها؛ لأنه أراد الخروج من تحت ظل أخيه، وتم استبداله بأخيه السابق ذِكْره، ولهذا فإن تولّي الجنرال نغويما السلطة مستقبلاً لن يُعبِّر عن الآمال الجديدة التي كان يأملها شعب الجابون؛ لأن دَوْره يكاد يقتصر على كونه الرجل الذي قلب الصفحة على أسرة بونجو، ولكنه افتتح صفحة جديدة لنظام لا يختلف كثيرًا عن سابقه.
ثانيًا: العفو عن المجلس العسكري الحاكم وتحصينه من أيّ محاكمات مستقبلية
حيث نصت المادة 170 من الدستور على أنه لا يجوز محاكمة أو إدانة الجهات الفاعلة في الأحداث الممتدة من تاريخ 29 أغسطس 2023م إلى تاريخ تنصيب رئيس الفترة الانتقالية. بجانب نصّها على أنه سيتم اعتماد قانون عفو لهذا الغرض، وقد سبقتها المادة 169 المتعلقة بالأمور التي لا يجوز أن تخضع للمراجعة أو التعديل الدستوري؛ حيث نصت في فقرتها الأخيرة على عدم المساس بالنصوص التي تُقرّر العفو عن المتورطين في أحداث الفترة من 29 أغسطس 2023م إلى تاريخ تنصيب رئيس الفترة الانتقالية.
وبناء على ذلك، فإن هذه النصوص الدستورية تُقرّر حصانةً قضائيةً وعفوًا دستوريًّا عن قادة الانقلاب على نظام أسرة بونجو، وهو ما يحول بينهم وبين الخضوع لأي محاكمات أو امتثالهم لأحكام قد تصدر ضدهم على خلفية أيّ انتهاكات لحقت بالغير كأسرة بونجو، أو انتهاكات مادية عامة أو خاصة ارتُكبت في تلك الفترة، بل نجد أن المادة الثانية من الدستور جعلت يوم 30 أغسطس -ذكرى الانقلاب- يومًا وطنيًّا، وقررت الاحتفال به سنويًّا تحت مسمى “يوم التحرير”؛ وذلك لتحسين وتلميع الصورة الذهنية لقادة الانقلاب أمام الرأي العام الشعبي في الجابون والرأي العام الإقليمي في إفريقيا؛ حيث إنهم يُروّجون أن الانقلاب أنقذ الجابون من أزمة سياسية واقتصادية ومؤسسية خطيرة، خلافًا لما تراه بعض تيارات المعارضة أن الانقلاب فِعْل مُجرَّم، مثل الانقلاب الانتخابي الذي قام به الرئيس علي بونجو متَّهمين إياه بتزوير نتائج الانتخابات.
ثالثًا: إنشاء نظام حكم رئاسي يمنح الرئيس سلطات واسعة
حيث أقر الدستور الجديد نظام حكم رئاسي، وألغي منصب رئيس الوزراء الذي كان معمولاً به في الدستور السابق، وفي نفس الوقت وسَّع من صلاحيات الرئيس ومنَحه سلطات مفرطة؛ حيث بموجب المادة 69 من الدستور أصبح رئيس الجمهورية هو رئيس الحكومة، ومن صلاحياته تنسيق عمل الحكومة، وتعيين أعضاء الحكومة، وتحديد مسؤولياتهم بمرسوم، ويُنهي مهام عضويتهم بمرسوم أيضًا.
كما يحقّ لرئيس الجمهورية أن يطلب من البرلمان إعادة مناقشة جديدة للقوانين قبل إصدارها وفقًا للمادة 52 من الدستور، ويحقّ له وفقًا للمادة 54 من الدستور بمبادرة منه أو بناء على اقتراح المجلس الوطني أو مجلس الشيوخ عرض أيّ مشروع قانون للاستفتاء، ونصت أيضًا المادة 55 على أن رئيس الجمهورية هو رئيس الإدارتين المدنية والعسكرية، وأن كل قوات الدفاع والأمن تكون تحت تصرُّفه، وله حق التعيين في الوظائف المدنية والعسكرية، ونصت أيضًا المادة 56 على أن رئيس الجمهورية هو الرئيس الأعلى لقوات الدفاع والأمن، ويرأس المجلس الأعلى للدفاع الوطني والأمن العام، ومنحت المادة 58 لرئيس الجمهورية حق العفو عن المدانين قضائيًّا.
كما يحق له وفقًا للمادة 60 إعلان حالة الطوارئ أو حالة الحصار في البلاد عندما تقتضي الظروف ذلك، ويحق له أيضًا وفقًا للمادة 61 إعلان حالة الحرب، وأضافت المادة 62 أنه يحق للرئيس أن يصدر قرارًا بحل المجلس الوطني بعد أخذ رأي رئيسي مجلسي البرلمان والمحكمة الدستورية، كما منحته المادة 66 حق تعيين كبار المسؤولين المدنيين والعسكريين في الدولة، وعلى رأسهم السفراء والمبعوثين، وكبار الضباط، ومديري الإدارات المركزية، والمحافظين، كما منحته المادة 123 من الدستور حق تعيين ثلاثة أعضاء في المحكمة الدستورية، كما أنه وفقًا للمادة 128 يترأس المجلس الأعلى للقضاء.
ومنحته أيضًا المادة 167 من الدستور حق المبادرة في طلب مراجعة وتعديل الدستور عن طريق البرلمان دون عرضه على للاستفتاء الشعبي بشرط موافقة غرفتي البرلمان عليه بأغلبية الثلثين، وهذا النص الأخير يفتح الباب للتلاعب بالدستور عن طريق تعديله بما يصبّ في صالح تلبية الرئيس، خاصةً أن البرلمانات الإفريقية في الغالب الأعم تهيمن عليها الأحزاب الموالية للرؤساء وهو ما يجعله يضمن الحصول على موافقة أغلبية ثلثي أعضاء البرلمان على أيّ مشروع مراجعة دستورية يريدها.
ونظرًا للصلاحيات العديدة التي يمنحها الدستور الجديد للرئيس فإن أحزاب المعارضة وبعض قادة المجتمع المدني ترى أن منح الرئيس صلاحيات تنفيذية وتشريعية وقضائية يُخِلّ بمبدأ الفصل بين السلطات، ويحول دون فكرة استقلال المؤسسات عن بعضها البعض، ويصنع رئيسًا قويًّا يهيمن على المشهد السياسي والحياة السياسية في البلاد، ويخلق مؤسسات ضعيفة، تكون بمثابة ألعوبة في يد الرئيس، وهو خلاف ما كانت تسعى إليه المعارضة من صناعة مؤسسات قوية مستقلة، وليس رئيسًا قويًّا مقابل مؤسسات ضعيفة، متَّهمين قادة المجلس العسكري بأنهم يريدون استبعاد المدنيين من حكم البلاد بناء على هذا الدستور، الذي تم تصميمه وتنظيم الاستفتاء عليه تحت رعاية المجلس العسكري الحاكم، بما يضمن بقاءه في السلطة مستقبلاً، مع توسيعه لصلاحيات الجيش ومنحه أحقية القيام بدور سياسي كبير داخل البلاد تحت ستار مدني، ناكثين وعودهم بعودة الحكم المدني إلى الجابون.
رابعًا: ضعف الصلاحيات الممنوحة لمنصب نائب الرئيس وجعله خاضعًا للرئيس
رغم رفض جانب من المعارضة إلغاء منصب رئيس الوزراء، فقد كانت هناك آمال في تعزيز منصب نائب رئيس الجمهورية، ومنحه سلطات تنفيذية، لكنَّ الدستور الجديد جعله خاضعًا لرئيس الجمهورية؛ حيث وفقًا للمادة 48 من الدستور يتم تعيين نائب الرئيس مِن قِبَل رئيس الجمهورية، والذي يَحِق له أيضًا إنهاء مهامه في أيّ وقت يريد، وقد كانت المعارضة تُفضّل أن يتم انتخاب نائب الرئيس على نفس ورقة ترشح الرئيس كما هو متَّبع في العديد من الدول؛ بحيث يتولى نفس مدة ولايته الرئاسية.
وأضافت ذات المادة أن مهام نائب الرئيس تنتهي في حالة شغور منصب الرئيس لأيّ سبب كان أو عائق نهائي يمنع الرئيس من ممارسة صلاحياته، وبالتالي فاستبعدت هذه المادة إمكانية تولي نائب الرئيس السلطة خلال الفترة الانتقالية لحين إجراء انتخابات جديدة، كما هو مقرر في بعض الدساتير، وجعلت دوره بمثابة مساعد للرئيس، وحظرت المادة 49 عليه ممارسة أيّ وظيفة عامة أو نشاط خاص ذي طبيعة مربحة خلال فترة شغله المنصب، وكذلك قصرت المادة 51 دوره في حلوله محل الرئيس في المهام التي يكلفه بها بموجب تفويض صريح، ويتَّضح من تلك النصوص أن منصب نائب الرئيس يكاد يكون منصبًا شكليًّا، وكان من الممكن توسيع صلاحياته مع اختيار شخصية معارضة لشغله بما يضمن حسن تقاسم السلطة بين الحكومة والمعارضة، ويحول دون حدوث أزمات سياسية جديدة في الجابون.
خامسًا: طول مدة الولايات الرئاسية، والسكوت عن الولايات غير المتعاقبة
حيث إن المادة 42 من الدستور الجديد نصت على أن يُنتَخب رئيس الجمهورية لمدة سبع سنوات بالاقتراع العام المباشر، ولا يجوز إعادة انتخابه إلا مرة واحدة، ولا يجوز لأحد أن يمارس أكثر من ولايتين متتاليتين، وقد تعرض هذا النص إلى انتقادات عديدة من قبل أحزاب المعارضة والمجتمع المدني؛ حيث انتقدت زيادة الحد الأقصى لفترة الرئاسة التي كانت خمس سنوات دون تحديد عدد الولايات الرئاسية في الدستور السابق، وأصبحت سبع سنوات لولايتين فقط وفقًا للدستور الجديد، فرغم قصرها على ولايتين فترى المعارضة أنها فترة طويلة أيضًا، وقد كانت تطمح أن تقتصر مدة الولاية الرئاسية على أربع سنوات فقط وفقًا للنموذج الأمريكي، لكنّ إطالة مدة الولاية الرئاسية سوف يخدم رئيس المرحلة الانتقالية الحالي “بريس نغويما”، والذي سيظل عمليًّا رئيسًا للبلاد بصورة انتقالية لمدة عامين بدأت في أغسطس 2023م، وتنتهي في أغسطس 2025م إذا أجريت الانتخابات في ذلك الوقت، كما أنه سيظل رئيسًا للبلاد لمدة 14 عامًا مستقبلاً في حالة ترشحه للانتخابات الرئاسية القادمة، والتي تليها ليكون مجموع حكمه للبلاد 16 عامًا، ليبقى في السلطة حتى عام 2039 نظريًّا، وإذا علمنا أن عمره الآن 49 عامًا، وفي عام 2039م سيكون عمره 64 عامًا، وهو عمر ليس كبيرًا نسبيًّا مقارنةً بمدة حكم وسنّ الرؤساء الأفارقة، فيمكن وقتها أن يقوم بوضع دستور جديد للبلاد يُمكّنه من خوض ولايات رئاسية جديدة، وإذا حدث ذلك السيناريو فسوف يكون تخطى فترة حكم الرئيس على بونجو الذي انقلب عليه؛ حيث إنه تولى حكم البلاد نحو 14 عامًا.
وفي ذات السياق، ورغم وضوح نص المادة 42 بأنه لا يجوز إعادة انتخاب الرئيس إلا مرة واحدة، فقد أعرب البعض عن مخاوفهم من فكرة الولايات غير المتعاقبة؛ حيث إن الدستور أشار إلى منع أكثر من ولايتين متتاليتين، وبالتالي يمكن عودة الرئيس بعد انتهاء ولاية سابقه سواء بانقضاء مدته أو موته أو حتى الانقلاب عليه، وهو ما سيسمح بعودة الرئيس مرة أخرى وفقًا لتصورهم، وقد كان من الأفضل النص على منع الرئيس من شغل أكثر من ولايتين بصورة نهائية سواء كانت متوالية أو غير متوالية، وهو ما لم يتم النص عليه.
سادسًا: نقد شروط الترشح للرئاسة واعتبارها تعسفية
حيث نصت المادة 43 من الدستور الجديد على مجموعة من الشروط الواجب توافرها في الشخص الراغب في الترشح لانتخابات الرئاسة، اعترض عليها البعض، ومن بينها شرط الأصل الجابوني؛ حيث نصت الفقرة الأولى من هذه المادة على ضرورة أن يكون أحد والدي راغب الترشح جابوني الأصل، ووُلِدَ لأصل جابوني كذلك، وقد كان النص الوارد في المسودة الدستورية الأولى ينص على أن يكون راغب الترشح وُلِدَ لأب جابوني وأم جابونية وكانا هما أنفسهما وُلِدَا جابونيين، لكن تم تعديل هذا النص في المسودة الدستورية الثانية بسبب وجود خلاف حوله لكونه يستبعد العديد من المواطنين الذين أحد أبويهم ليس من أصل جابوني من الترشح للانتخابات، وهو ما قد يؤدي إلى حدوث تفكك للنسيج الاجتماعي والوحدة الوطنية والشعور بالانتماء لنفس الوطن، ويعزز من الانقسامات العرقية والإقليمية داخل البلاد وفقًا لانتقادات المعارضة لشروط الأهلية المتعلقة بالأصل الجابوني.
وكذلك فإن الشرط الوارد في الفقرة الثانية من نفس المادة السابقة الذي ينص على أن يكون راغب الترشح لديه جنسية جابونية حصرية، خضع للنقد كذلك؛ لأنه يمنع الشخص مزدوج الجنسية من الترشح للرئاسة، ورغم أن الفقرة التاسعة من نفس المادة أضافت أنه يمكن لأي جابوني يحمل جنسية أخرى أن يترشح للرئاسة بشرط أن يكون قد تخلى عن الجنسية الأخرى قبل موعد الانتخابات بثلاثة سنوات، فيرى البعض أن التمسك بشرط التخلي عن الجنسية مطلقًا أو حتى التخلي عنها قبل موعد الانتخابات بثلاث سنوات سوف يحرم العديد من الأشخاص من الترشح لعدم توافر هذا الشرط فيهم.
وبالإضافة لذلك فإن الفقرة الثالثة التي تُحدّد الحد الأدنى لسن الترشح بـ35 عامًا، والحد الأقصى بـ70 عامًا، تعرَّضت للنقد أيضًا؛ لأنها تمنع الشباب من الترشح للرئاسة، بجانب منعها لمن هم فوق سنّ السبعين من الترشح، وإن كانوا لديهم خبرات سياسية تُمكّنهم من إدارة شؤون البلاد، وقد انتقد “ألبرت أوندو أوسا” مرشح المعارضة في انتخابات الرئاسة 2023م شرط الحد الأقصى لسن الترشح؛ لأن سنّه تخطّى سبعين عامًا بالفعل، وبالتالي سيحرم من الترشح للانتخابات الرئاسية المقبلة في 2025م، واعتبر أن هذا النص يستهدفه شخصيًّا لكونه معارضًا للمجلس العسكري الحاكم، ويعتبر أن الانقلاب العسكري على الرئيس علي بونجو بمثابة انقلاب عائلي وثورة قصر تم تدبيره والتخطيط له مِن قِبَل شقيقة الرئيس باسكالين بونجو، ودعا المجلس العسكري عشية الانقلاب إلى تسليمه السلطة اعتقادًا منه أنه هو الفائز في انتخابات الرئاسة 2023م، داعيًا الجنود للعودة إلى ثكناتهم والبعد عن الدخول في المعترك السياسي واللعبة السياسية.
وفيما يتعلق بشرط الحالة الاجتماعية فقد نصت الفقرة الرابعة على أن يكون المرشح متزوجًا من زوج جابوني ويكون أحد والديه جابونيًّا على الأقل، وبالتالي فإن النخب السياسية المتزوجين من زوجات أجنبيات وخاصة فرنسيات سوف يُمنعون من الترشح؛ لأن زوجاتهم يحملون جنسية أجنبية وأصولهم ليست جابونية، وليس أمامهم إلا طلاق زوجاتهم للتغلب على هذا الشرط، وهو ما جعله محلاً للنقد وإن كان هناك تفسير لهذا الشرط بأنه يقصد منه منع الرئيس السابق علي بونجو من الترشح للرئاسة مستقبلاً؛ لأنه متزوج من سيلفيا إدوارد فالنتين، وهي تحمل الجنسية الفرنسية، وهي الآن على ذمة الحبس الاحتياطي بصحبة نجلها الأكبر نورد الدين بونجو الذي كان يتم إعداده لتولي السلطة خلفًا لأبيه في مشروع توريث جديد لأسرة بونجو؛ حيث تتم محاكمتهم بتُهَم غسيل الأموال والفساد، ورغم أن الرئيس المعزول علي بونجو قد أعلن في سبتمبر الماضي أنه يؤكد على انسحابه من الحياة السياسة وتخلّيه نهائيًّا عن أيّ طموح وطني، مطالبًا بالإفراج عن زوجته وابنه المحتجزين في انتظار المحاكمة، فقد فسَّر البعض أن النص على توافر شرط الجنسية الجابونية لزوجة المرشح في الدستور الهدف منه إقصاء ومنع علي بونجو من الترشح للرئاسة.
وفي ذات السياق، فقد تعرض شرط الإقامة في الجابون دون انقطاع لمدة 3 سنوات على الأقل قبل موعد الانتخابات للنقد مِن قِبَل البعض، وذلك لكونه يمنع النخب السياسية المقيمة في الخارج من التمتع بحقها السياسي في الترشح للانتخابات، وكذلك تعرض الشرط المتعلق بضرورة تحدث راغب الترشح بلغة وطنية واحدة على الأقل للنقد؛ وذلك لأن أغلب النخب السياسية تجيد اللغة الفرنسية فقط، وتنتقد الدولة التي لم تقم مطلقًا بتعزيز استخدام اللغات الوطنية المحلية.
ورغم أن نفس هذه المادة نصت على عدم جواز ترشح زوج رئيس الجمهورية وأحفاده لخلافته فإن هذا النص بمثابة نص رمزي لن يُغيّر شيئًا في الواقع السياسي المستقبلي للبلاد، وإن كان الهدف منه الدعاية السياسية لشخص رئيس المرحلة الانتقالية وإظهاره بمظهر المنقذ الرافض لحدوث عمليات توريث للسلطة مجددًا، كما حدث خلال حكم أسرة بونجو، والعمل على منع زوجة وأبناء الرئيس السابق علي بونجو من الترشح للرئاسة مستقبلاً، غير أن هذا النص لن يمنع نقل السلطة لشخصيات مختارة مِن قِبَل الرئيس المستقبلي مدعومين من قبل المجلس العسكري الحاكم حاليًّا، والذي سيظل نفوذه مهيمنًا على المشهد السياسي في الجابون خلال الجمهورية الجديدة، وذلك لتحوُّل النظام من نظام حكم أسريّ إلى نظام حكم مدني ظاهريًّا عسكريّ باطنيًّا.
ورغم أنه من المقرر دخول هذا الدستور الجديد حيّز النفاذ بعد انتخاب رئيس الجمهورية وفقًا للمادة 173 من الدستور، فإن شروط الأهلية السابقة الواجب توافرها في الشخص راغب الترشح للانتخابات الرئاسية سوف تسري على الفور وفقًا للمادة 172 من الدستور، وبالتالي يجب أن تتوافر في أيّ شخص يرغب المنافسة في انتخابات الرئاسة المقبلة في 2025م، والتي من المتوقع أن يتمّ هندستها كما تم هندسة وتفصيل الدستور الجديد لتلبّي تطلعات رئيس المرحلة الانتقالية ليتسلم السلطة بصورة شرعية ودستورية.
سابعًا: إقرار الخدمة العسكرية الإلزامية للفتيات
لقد جاء في نهاية المادة 27 من الدستور الواردة في الفصل الثاني الذي يتحدث عن الواجبات الملقاة على الشعب الجابوني على “أن الخدمة العسكرية إلزامية للشعب الجابوني من الجنسين وفقًا للشروط التي يحددها القانون”، وقد أثار هذا النص حالة من النقد لما سيترتب عليه من تداعيات على الفتيات خاصةً في ظل عدم وجود موارد وبنية تحتية تسمح بتطبيقه، كما يمكن أن يؤدي إلى مشاكل اجتماعية نتيجة تجنيد الفتيات، ويعزز من عمليات الخروج من البلاد هربًا من الخدمة العسكرية الإلزامية كما هو واقع في دولة إريتريا، ولهذا فقد صوَّت العديد من المعارضين لهذا النص ضد الدستور حتى لا تخضع بناتهم للتجنيد الإجباري، فضلاً عن ما يحمله هذا النص من رغبة في عسكرة المجتمع وصناعة ولاء فكري للمجلس العسكري الحاكم.
الخاتمة:
في ختام هذه الدراسة يمكن القول: إن الدستور الجديد لن يُخْرج الجابون من حالة عدم الاستقرار السياسي التي ابتليت بها على مدار تاريخها الحديث؛ وذلك لأن مشروع الدستور الجديد لم يكن محلاً للتوافق والإجماع مِن قِبَل أغلب الطبقة السياسية، وخاصةً أن العديد من تيارات المعارضة والمجتمع المدني أعلنت أنها ستطعن في نتيجة الاستفتاء أمام المحاكم المختصة، كما أن قيام واضعي الدستور بتفصيله خصيصًا على مقاس رئيس المرحلة الانتقالية الحالي ليلبّي طموحاته المستقبلية المتمثلة في حكم الجابون متمتعًا بصلاحيات واسعة، بجانب وضعهم نصوصًا إقصائية تمنع معارضيه من الترشح لمنافسته سوف يؤدي إلى إعادة إنتاج نظام استبدادي جديد ويحول دون خلق عملية تحول ديمقراطي حقيقي تسمح بتناوب السلطة بين المدنيين بعيدًا عن حكم الأسرة، وحكم النظم العسكرية، مما يؤدي في النهاية إلى صنع نفس الظروف السابقة التي أدخلت الجابون في عقود من الاستبداد السياسي، ولا يمكن التصدّي لها أو تقويمها بالطرق الديمقراطية، مما يؤدي إلى حدوث انقلابات عسكرية جديدة لتعود البلاد إلى نقطة الصفر من جديد.
وأخيرًا لا تزال هناك فرصة أمام تيارات المعارضة المختلفة للاندماج في تحالف واحد، والتفافهم حول مرشح توافقي يكون قادرًا على منافسة مرشح المجلس العسكري في الانتخابات المقبلة؛ فقد يُكتب لهم النجاح، وإن كان بنسبة ضعيفة؛ نظرًا للثقة الشعبية التي يحظى بها رئيس المرحلة الانتقالية، بعدما نجحت الأدوات الإعلامية الموالية له في تقديمه على أنه المُنقِذ لشعب الجابون الذي حرَّرهم من العبودية السياسية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصادر:
(1)-Sophie Eyégué ; “Gabon: pourquoi le projet de nouvelle Constitution fait débat “، at، https://www.lepoint.fr/afrique/gabon-pourquoi-le-projet-de-nouvelle-constitution-fait-debat-25-10-2024-2573658_3826.php#11 ، 25/10/2024.
(2)-Cédrin Ibiatsi ; ” Présidentielle au Gabon: les conditions à remplir par les candidats selon le projet de Constitution “، at، https://info241.com/presidentielle-2025-au-gabon-les-nouveaux-criteres-d-eligibilite,9383، 6/9/2024.
(3)- Alix-Ida Mussavu ; ” Transition au Gabon: Les hommes du président “، at، https://www.gabonreview.com/transition-au-gabon-les-hommes-du-president/، 8/9/2023.
(4)- Moki Edwin Kindzeka ; ” Early reports say a majority of voters in Gabon cast ballots to end military rule”، at، https://www.voanews.com/a/early-reports-say-a-majority-of-voters-in-gabon-cast-ballots-to-end-military-rule/7866697.html، 16/11/2024.
(5)- Jocksy Andrew Ondo-Louemba ; ” Les trois frères de Brice Oligui Nguema au coeur du pouvoir “، at، https://mondafrique.com/a-la-une/gabon-les-freres-de-brice-oligui-nguema-entre-sanctions-et-promotions/، 22/6/2024.
(6)- Christophe Châtelot ; ” Au Gabon, un an après la chute d’Ali Bongo, le général Brice Oligui Nguema prépare son maintien au pouvoir “، at، https://www.lemonde.fr/afrique/article/2024/08/30/au-gabon-un-an-apres-la-chute-d-ali-bongo-le-general-brice-oligui-nguema-prepare-son-maintien-au-pouvoir_6299619_3212.html، 1/9/2024.
(7)- Moki Edwin Kindzeka ; ” Gabon to vote on constitution that would let military leader run for president “، at، https://www.voanews.com/a/gabon-to-vote-on-constitution-that-would-let-military-leader-run-for-president/7835997.html، 23/10/2024.
(8)-” Référendum constitutionnel au Gabon: «Le moment est venu de rendre le pouvoir aux civils “، at، https://www.rfi.fr/fr/podcasts/le-grand-invit%C3%A9-afrique/20241115-r%C3%A9f%C3%A9rendum-constitutionnel-au-gabon-le-moment-est-venu-de-rendre-le-pouvoir-aux-civils، 15/11/2024.
(9)-” Référendum sur la nouvelle Constitution au Gabon: la campagne bat son plein”، at، https://www.lopinion.fr/international/referendum-sur-la-nouvelle-constitution-au-gabon-la-campagne-bat-son-plein، 14/11/2024.
(10)-” Gabon: la nouvelle Constitution largement approuvée par referendum “، at، https://www.lemonde.fr/afrique/article/2024/11/18/gabon-la-nouvelle-constitution-largement-approuvee-par-referendum_6399512_3212.html، 18/11/2024.
(11)- Christophe Châtelot ; “Au Gabon, le général Brice Oligui Nguema se taille une Constitution sur mesure “، at، https://www.lemonde.fr/afrique/article/2024/10/25/au-gabon-le-general-brice-oligui-nguema-se-taille-une-constitution-sur-mesure_6359629_3212.html. 25/10/2024.
(12)-Basillioh Rukanga & Paul Njie ; ” Gabon approves law allowing junta leader to contest elections”، at، https://www.bbc.com/news/articles/cpwrjyrxpdjo.، 19/11/2024.
(13)-Wycliffe Muia & Paul Njie ; ” Ousted president quits Gabon politics, calls for wife’s release “، at، https://www.bbc.com/news/articles/c4gqw34463wo، 19/9/2024.
(14)-Anne-Sophie Laborieux ; ” Gabon: Entre mise en garde officielle et voix dissidentes, une transition sur le fil du rasoir “، at، https://www.gabonreview.com/gabon-entre-mise-en-garde-officielle-et-voix-dissidentes-une-transition-sur-le-fil-du-rasoir/، 30/9/2024.
(15)- Roland Olouba Oyabi ; ” Citoyenneté et engagement: le service militaire devient obligatoire pour les jeunes gabonais “، at، https://gabonmailinfos.com/citoyennete-et-engagement-le-service-militaire-devient-obligatoire-pour-les-jeunes-gabonais/، 23/10/2024.