إعداد: نشوى عبد النبي
باحثة متخصصة بالدراسات اللوجستية – مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار، مجلس الوزراء- مصر
مقدمة:
تُعدّ علاقة الولايات المتحدة بالجابون -خاصةً في مجال تعزيز الأمن البحري- محور اهتمام متزايد في المشهد الإقليمي والدولي؛ حيث تُشكّل الجابون -بفضل موقعها الجغرافي ومواردها الطبيعية- نقطة إستراتيجية في غرب إفريقيا، مما يجعلها هدفًا للعديد من التحديات الأمنية، بما في ذلك القرصنة، والاتجار غير المشروع بالمخدرات والأسلحة. وتسعى الولايات المتحدة -من خلال شراكتها مع الجابون- إلى تعزيز الاستقرار الإقليمي، وحماية مصالحها الاقتصادية والأمنية في المنطقة.
ولذلك أعلنت الولايات المتحدة في 6 أكتوبر 2024م، مساهمتها في تعزيز الأمن البحري في الجابون؛ حيث اتفق وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن والرئيس الانتقالي الجابوني برايس كلوتير أوليغي نغويما على تعزيز الأمن البحري الجابوني، والتفكير في إجراء “مناورات أوبانغام السريعة” في الدولة الواقعة في وسط إفريقيا، وهي أكبر تدريب بحري متعدّد الجنسيات في غرب إفريقيا.
وفي إطار تعزيز الشراكة الإستراتيجية مع الغابون؛ أعلنت الولايات المتحدة عن تقديم مساعدات تقنية لتعزيز الأمن البحري، وذلك من خلال تطوير أنظمة المراقبة البحرية، بما في ذلك شبكة الرادارات، مما يُسهم في حماية الثروات البحرية والمصالح الاقتصادية للبلاد. وتعتزم الولايات المتحدة، من خلال وكالة التنمية الدولية، ضخّ استثمارات بقيمة 500 مليون دولار في قطاع البيئة البحرية بالجابون، وذلك في إطار “مبادرة السندات الزرقاء”. كما ستعمل على دعم بناء ميناء متخصص في أوفيندو، بالإضافة إلى استكشاف فرص استثمارية جديدة خلال زيارة وفد الوكالة للجابون في الثاني من شهر نوفمبر المقبل(1).
مفهوم “السندات الزرقاء” وارتباطه بالأمن البحري في الجابون:
مبادرة “السندات الزرقاء” هي إستراتيجية أمريكية تهدف إلى تعزيز التعاون الدولي في المجال البحري، ولا سيما في المناطق الإستراتيجية مثل غرب إفريقيا؛ حيث تقع الجابون. وتركّز هذه المبادرة على مجموعة من الأدوات والممارسات التي تهدف إلى حماية المحيطات والموارد البحرية، وتعزيز الأمن البحري، وتعميق الشراكات الدولية في هذا المجال.
أهمية الجابون في سياق هذه المبادرة:
تُعدّ الجابون دولة ذات أهمية إستراتيجية في منطقة خليج غينيا، وذلك لعدة أسباب:
- الموارد الطبيعية: تمتلك الجابون احتياطيات كبيرة من النفط والغاز، مما يجعلها هدفًا للأنشطة غير المشروعة؛ مثل: القرصنة والاتجار غير المشروع بالمخدرات والأسلحة.
- الموقع الجغرافي: تقع الجابون على ساحل المحيط الأطلسي، مما يجعلها نقطة عبور مهمة للتجارة البحرية.
- الاستقرار السياسي: تتمتع الجابون بقدر كبير من الاستقرار السياسي مقارنةً ببعض دول المنطقة، مما يجعلها شريكًا موثوقًا به للولايات المتحدة.
أسباب اهتمام الولايات المتحدة بالأمن البحري في الجابون:
- الموقع الإستراتيجي: تقع الجابون على ساحل المحيط الأطلسي، مما يجعلها نقطة عبور رئيسة للتجارة البحرية الدولية، كما أنها تُطِلّ على خليج غينيا، الذي يُعدّ من أهم المناطق المُنتِجَة للنفط في العالم.
- التحديات الأمنية: تُواجه الجابون، مثل العديد من الدول الإفريقية، تحديات أمنية متعددة، بما في ذلك القرصنة والاتجار غير المشروع بالمخدرات والأسلحة. هذه التهديدات تؤثر سلبًا على الاقتصاد الوطني، وتشكل خطرًا على الاستقرار الإقليمي.
- الحفاظ على المصالح الاقتصادية: تمتلك الولايات المتحدة مصالح اقتصادية كبيرة في الجابون، بما في ذلك: استثمارات في قطاع النفط والغاز. كما أن الشركات الأمريكية تنشط في العديد من القطاعات الأخرى، مثل التعدين والزراعة.
- مكافحة الإرهاب: تسعى الولايات المتحدة إلى مكافحة الإرهاب في جميع أنحاء العالم، بما في ذلك غرب إفريقيا. وتعتبر الجابون جزءًا من تلك الجهود؛ حيث يمكن أن تصبح ملاذًا آمنًا للمجموعات المسلحة.
أشكال الاستثمار الأمريكي في الأمن البحري بالجابون في إطار “السندات الزرقاء“:
- التعاون العسكري:
- التدريب والتجهيز: تقدم الولايات المتحدة التدريب والتجهيز للقوات البحرية الجابونية؛ لمساعدتها على مكافحة التهديدات البحرية.
- المشاركة في المناورات البحرية المشتركة: تشارك الولايات المتحدة والجابون في مناورات بحرية مشتركة؛ لتعزيز التعاون والتنسيق بين القوات البحرية للبلدين.
- تبادل المعلومات الاستخباراتية: يتم تبادل المعلومات الاستخباراتية بين البلدين؛ بهدف تحسين القدرة على اكتشاف وتتبُّع الأنشطة الإجرامية في البحر.
- الدعم الاقتصادي:
- المساعدات الاقتصادية: تُقدّم الولايات المتحدة مساعدات اقتصادية للجابون؛ لدعم جهودها في مجال الأمن البحري.
- الاستثمار في البنية التحتية: تدعم الولايات المتحدة مشاريع البنية التحتية البحرية في الغابون، مثل بناء الموانئ وتحديث المعدات.
- الدبلوماسية:
- تعزيز الشراكات الإقليمية: تُشجّع الولايات المتحدة على تعزيز التعاون الإقليمي في مجال الأمن البحري بين دول غرب إفريقيا.
- الدفاع عن القوانين الدولية: تدعم الولايات المتحدة تطبيق القوانين الدولية لحماية المحيطات والموارد البحرية.
خلفية حول الاهتمام الأمريكي بالأمن البحري في الجابون:
- في أبريل 2023م تم إجراء مناورات عسكرية مشتركة بين القوات الأمريكية وقوات جيش الجابون؛ هدفت هذه المناورات إلى تقييم قدرة القيادة الأمريكية في إفريقيا على الاستجابة السريعة للأزمات، لا سيما في الحالات التي تتطلب تدخلًا عسكريًّا، بالإضافة إلى تعزيز التعاون العسكري بين البلدين من خلال تبادل الخبرات والمعرفة.
- أول صفقة في القارة الإفريقية جمعت بين الديون وحماية الطبيعة، شهد شهر أغسطس 2023م إطلاق مبادرة فريدة في الجابون؛ حيث تم إعادة شراء جزء من ديون الدولة مقابل استثمار في مشاريع حماية البيئة، وتعتمد هذه الآلية على تحويل ديون الجابون إلى “سندات خضراء”، وهي سندات ذات فائدة أقل، بفضل ضمانات مقدَّمة من مؤسسات أمريكية؛ مثل: مؤسسة تمويل التنمية الدولية، وسيتم استخدام الأموال المتاحة لتمويل مشاريع بيئية تُسهم في حماية النظم البيئية البحرية في الجابون؛ حيث تُعدّ شواطئ الجابون ومياهها الإقليمية أكبر موطن في العالم لحيوانات مُهدَّدة بالانقراض مثل السلاحف جلدية الظهر، والدلافين الحدباء الأطلسية.(2)
- قبل خمسة أيام من الانقلاب الذي شهدته الجابون في 30 أغسطس 2023م، أصدرت الولايات المتحدة تحذيرًا مسبقًا من خلال بيان لوزارة الخارجية؛ حيث دعت الشعب الجابوني إلى المشاركة الفعَّالة في الانتخابات الرئاسية، مؤكدةً على أهمية التعبير عن الرأي بحرية، وجاء في البيان أيضًا: إن الانتخابات جزء رئيس من الديمقراطية الفعّالة، كل الجابونيين يستحقون فرصة تحديد مستقبلهم من دون خوف أو اضطهاد أو تهديد. كما أكدت الخارجية الأمريكية علىأهمية مراقبة الانتخابات ودعوة الفاعلين كافة إلى الالتزام بانتخابات حرة ونزيهة وسليمة.
وعلى الرغم من صياغة بيان الخارجية الأمريكية بلغة دبلوماسية؛ إلا أنه حمل في طيّاته نقدًا ضمنيًّا للرئيس علي بونجو الذي شغل منصبه منذ عام 2009م، هذا النقد جاء بالتزامن مع إعلان فوز بونجو بولاية رئاسية ثالثة، وهو الإعلان الذي تبعه انقلاب عسكري بعد فترة وجيزة. ومع ذلك، فإن التركيز الأمريكي الأساسي في الجابون لا ينصبُّ على الطريقة التي يُحْكَم بها البلاد، بل على مصالحها الإستراتيجية الأوسع.
- في نوفمبر 2023م، شهدت الجابون استضافة تدريبات بحرية دولية واسعة النطاق بقيادة الولايات المتحدة، والتي تجمع قوات بحرية من عشرات الدول؛ بهدف تعزيز التعاون الدولي في مكافحة التهديدات البحرية مثل القرصنة والصيد غير المشروع.
المخاوف والمصالح الأمريكية في الجابون:
نظرًا لأهمية المحيط الأطلسي الإستراتيجية للولايات المتحدة، فإنها تعتبر أن أيّ وجود عسكري صيني دائم هناك، -خاصةً إنشاء قاعدة بحرية-، يمثل تهديدًا خطيرًا لمصالحها وأمنها القومي. وتصنّف وثيقة صادرة عن خدمة أبحاث الكونجرس الأمريكي عام 2019م، والتي تُشكّل مرجعًا أساسيًّا لصانعي القرار في الولايات المتحدة، الجابون بأنها دولة نفطية تقع في موقع جيوإستراتيجي حرج في خليج غينيا. وتشير الوثيقة إلى أن استقرار الجابون النسبي يجعلها دولة ذات أهمية بالغة في منطقة تشهد اضطرابات متكررة. ووفقًا لتلك الوثيقة تتركز المصالح الأمريكية حول دور الجابون في: حلّ الصراعات الإقليمية، والأمن البحري؛ حيث تنتشر عصابات القراصنة في خليج غينيا بشكل يؤرّق التجارة الدولية في المنطقة، بالإضافة إلى الحفاظ على البيئة.
ويمكن أن تحدث الاضطرابات طويلة المدى في الجابون تحديًا للولايات المتحدة، وتزيد من احتمالات عدم الاستقرار في وسط إفريقيا، التي تواجه بالفعل أزمات عدة. ولم تُشِر الوثيقة الأمريكية إلى تغلغل صيني أو روسي في الجابون، لكنّ ذلك لا يعني أنه غير موجود، خاصةً أن الانقلابات الأخرى في القارة الإفريقية ذهبت نحو بكين وموسكو.
النفوذ الصيني العسكري في إفريقيا والتخوفات الأمريكية:
يتزايد التنافس بين الولايات المتحدة والصين على النفوذ في القارة الإفريقية؛ حيث تثير العمليات العسكرية الصينية المتزايدة هناك مخاوف واشنطن من تقويض مصالحها الإستراتيجية.
وقد شهدت القارة الإفريقية منذ مطلع الألفية الجديدة طفرةً في بناء الموانئ التجارية بفضل الاستثمارات الصينية المكثفة؛ حيث قامت الشركات الصينية ببناء نحو 100 ميناء تمتد من موريتانيا غربًا إلى كينيا شرقًا، وفقًا للبيانات الرسمية الصينية. وعلى الرغم من هذا التوسُّع الكبير في البنية التحتية للموانئ؛ فإن الصين تمتلك حاليًّا قاعدة عسكرية دائمة واحدة فقط في القارة الإفريقية، وهي قاعدة جيبوتي التي تستوعب السفن الحربية الكبيرة بما فيها حاملات الطائرات والغواصات النووية. وتقع هذه القاعدة على مقربة من أكبر قاعدة عسكرية أمريكية في إفريقيا، مما يعكس التنافس المتزايد بين القوتين العظميين في المنطقة.
وقد أدَّى الانقلاب العسكري في الجابون إلى تفعيل قوانين أمريكية تمنع تقديم المساعدات العسكرية للأنظمة التي تصل إلى السلطة عن طريق الانقلابات، مما قيَّد بشكلٍ كبيرٍ هامش المناورة الدبلوماسية الأمريكية في التعامل مع الوضع الجديد. وفي أعقاب الانقلاب، دخلت الولايات المتحدة في منافسة دبلوماسية حادة مع الصين على النفوذ في الجابون، وشهدت هذه الفترة سلسلة من الزيارات الرسمية الأمريكية رفيعة المستوى؛ حيث سعى الدبلوماسيون الأمريكيون إلى إقناع القيادة الجديدة بالابتعاد عن النفوذ الصيني المتزايد. وأكد رئيس المجلس الانتقالي الجابوني، أوليجي نجويما، لفاينر على فهمه للمخاوف الأمريكية بشأن النفوذ الصيني المتزايد، مشيرًا إلى أن الاتفاقيات السابقة مع الصين كانت شفهية، ولم يتم توثيقها بشكل رسمي.(3)
من جهة أخرى، أكَّدت الولايات المتحدة التزامها بدعم الأمن والاستقرار في الجابون ومنطقة خليج غينيا، وتشمل مجالات التعاون بين البلدين: تنويع الاقتصاد الغابوني، وتعزيز التجارة الثنائية، ومكافحة الجرائم المنظمة، بما في ذلك الاتجار بالحياة البرية. وقد استفادت الجابون من الدعم الأمريكي في مجال التدريب العسكري، وفي إطار جهود حفظ السلام الإقليمية.
سيناريوهات مستقبلية للاستثمار الأمريكي في الأمن البحري بالجابون:
تتعدد السيناريوهات المستقبلية للاستثمار الأمريكي في الأمن البحري بالجابون، وهي تتأثر بالعديد من العوامل الداخلية والخارجية، بما في ذلك التطورات السياسية والاقتصادية والأمنية في المنطقة، والتغيرات في أولويات السياسة الخارجية الأمريكية، بالإضافة إلى التطورات التكنولوجية.
السيناريو الأول: تعزيز الشراكة الإستراتيجية
قد تشهد الشراكة العسكرية بين الولايات المتحدة والجابون توسعًا ملحوظًا، مع زيادة في التدريبات المشتركة، وتبادل المعدات والخبرات، وتقديم مساعدات عسكرية أكثر تطورًا. وقد يتم تعزيز التعاون في مجال تبادل المعلومات الاستخباراتية، مما يُسهم في تحسين قدرة البلدين على مكافحة التهديدات البحرية، واستثمار الولايات المتحدة في تطوير البنية التحتية البحرية في الجابون، مثل بناء القواعد البحرية ومحطات الرادار، مما يُعزّز قدرة الجابون على تأمين مياهه الإقليمية.
السيناريو الثاني: التركيز على التنمية الاقتصادية
قد تركز الولايات المتحدة على ربط جهود تعزيز الأمن البحري بالتنمية الاقتصادية المستدامة في الجابون؛ من خلال دعم مشاريع الصيد المستدام، والسياحة البيئية، وحماية البيئة البحرية، وقد تدعم الولايات المتحدة الاستثمارات الأمريكية والشركات متعددة الجنسيات في القطاع البحري في الغابون، مما يُسهم في خلق فرص عمل وتحسين الأوضاع الاقتصادية.
السيناريو الثالث: تراجع الاهتمام الأمريكي
قد تتغير أولويات السياسة الخارجية الأمريكية، مما يؤدي إلى تراجع الاهتمام بالأمن البحري في غرب إفريقيا بشكل عام، وبالتالي في الغابون على وجه الخصوص، وقد يؤدي صعود قوى إقليمية أخرى، مثل الصين وروسيا، إلى تقليل النفوذ الأمريكي في المنطقة وتقويض الشراكات الإستراتيجية القائمة.
العوامل المؤثرة على هذه السيناريوهات:
- التطورات السياسية في الجابون: الاستقرار السياسي في الغابون وطبيعة العلاقة بين الحكومة والشعب ستؤثر بشكل كبير على طبيعة الشراكة مع الولايات المتحدة.
- التحديات الأمنية الإقليمية: تزايد التهديدات الإرهابية والقرصنة في المنطقة سيؤثر على حجم الاستثمارات الأمريكية في الأمن البحري.
- التنافس الإستراتيجي بين القوى الكبرى: التنافس بين الولايات المتحدة والصين وروسيا على النفوذ في إفريقيا سيؤثر على طبيعة الشراكة بين الولايات المتحدة والجابون.
- التغيرات المناخية: التغيرات المناخية وتأثيرها على البيئة البحرية والموارد السمكية ستؤثر على أولويات السياسة الأمريكية في المنطقة.
خلاصة القول: إن مستقبل الاستثمار الأمريكي في الأمن البحري بالجابون يعتمد على مجموعة من العوامل المتداخلة، وعلى الرغم من أن تعزيز الشراكة الإستراتيجية بين البلدين يظل هو السيناريو الأكثر ترجيحًا؛ إلا أن هناك العديد من العوامل التي يمكن أن تؤثر على مسار هذه الشراكة وتُشكّل مستقبلها.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المراجع:
- الولايات المتحدة والجابون تعلنان العمل على إبرام اتفاق دفاعي بين البلدين، وكالة الأنباء الكويتية، 4 أكتوبر 2024م، https://urlc.net/LNmV
- خلال 3 كلمات حاسمة… ما أهمية الغابون للولايات المتحدة؟، سكاي نيوز عربية، 30 أغسطس 2023م، https://urlc.net/LNnE
- انقلاب عسكري في عملاق النفط الإفريقي… ماذا يحدث في “الغابون“؟، العربية، 30 أغسطس، https://urlc.net/O8gH