برز اسم الزعيم الغيني أحمد سيكو توري (1922-1984م) مع بدء عهد الاستقلال الإفريقي (لا سيما في غرب إفريقيا الفرنسية) نهاية خمسينيات القرن الماضي وإعلانه، مع رفض هذه البلاد استمرار الارتباط بفرنسا، والتصميم على الاستقلال عنها، وهو الأمر الذي تم في العام 1958م، بالإضافة إلى تبنّي توجُّه راديكالي تمامًا تمثَّل لاحقًا في اعتماد النموذج الماركسي في الحكم في الستينيات والسبعينيات، قبل تراجعه عنه تحت وطأة الضغوط الاقتصادية والاجتماعية في غينيا، وتحوُّلات النظام الدولي وقتها إلى طلب سيكو توري (خلال زيارته واشنطن في يوليو 1982م) من الشركات الأمريكية الكبيرة التوجُّه باستثماراتها إلى بلاده؛ مما عدَّه دبلوماسيون أمريكيون إقرارًا منه بفشل الماركسية في بلاده.
لكن لم تُتَح الفرصة لمراقبة تحوُّلات سيكو توري تلك؛ إذ واجَه متاعب صحية متلاحقة انتهت بوفاته بأزمة قلبية في إحدى المستشفيات الأمريكية (في كليفلاند كلينيك) في مارس 1984م عن عُمر 62 عامًا فقط، رغم اعتباره وقتها من أكثر رؤساء إفريقيا استمرارًا في الحكم([1]).
وإلى جانب دوره السياسي في قيادة بلاده في العقدين ونيّف بعد استقلالها؛ قدَّم سيكو توري إسهامًا فكريًّا مهمًّا في نقد الإمبريالية والاستعمار، ودولة ما بعد الاستعمار الإفريقية، وطرَح رؤية شعبية للإسلام في غرب إفريقيا.
جذور الراديكالية لدى سيكو توري:
ينتمي أحمد سيكو توري إلى أسرة عُرفت بمحاربتها للاستعمار الفرنسي في غينيا، ومن أشهر أعلامها: ساموري توري الذي قضى الفرنسيون على حركة مقاومته نهاية القرن التاسع عشر.
التحق في طفولته بمدرسة فنية فرنسية في كوناكري، وطُرِدَ منها بعد عام واحد (في العام 1936م، وهو ابن أربعة عشر عامًا) بسبب قيادته لأعمال شغب. ثم عمل مندوبًا في شركة Niger Francais في العام 1940م، ثم التحق بوظيفة في إدارة البريد في العام التالي.
وبعدها طوَّر اهتمامًا قويًّا بالحركة العمالية، وقاد تنظيم أول اضطراب ناجح في تاريخ غينيا وغرب إفريقيا الفرنسية استمر قرابة 80 يومًا. وتولى في العام 1945م (وهو في سن 23 عامًا) منصب الأمين العام لاتحاد عمال البريد والاتصالات، وساعد في تكوين اتحاد نقابات عمال غينيا الذي انضم على الفور للاتحاد العالمي للنقابات World Federation of Trade Union، وتولى لاحقًا منصب نائب رئيسه، ثم انتُخِبَ عضوًا بالجمعية الوطنية الفرنسية في العام 1951م، ممثلًا لغينيا، لكنَّ السلطات الفرنسية لم تسمح له بممارسة صلاحياته المقررة في باريس، وأُعيد انتخابه بها في العام 1954م لتُكرِّر السلطات الفرنسية نفس الموقف، حتى العام 1955م عندما تقلَّد منصب عمدة كوناكري([2]).
وبدأت جهود سيكو توري في استقلال بلاده عن فرنسا في 2 أكتوبر 1958م، بعد أربعة أيام من استفتاء شارل ديجول الشهير لتخيير “دول غرب إفريقيا الفرنسية” بين الاستقلال التام والارتباط بفرنسا “بعد الاستقلال”. وقد أسهم عاملان في تحقيق استقلال غينيا؛ وهما: قوة قاعدة الحزب الديمقراطي الغيني Parti Democratique de Guinee (PDG) بقيادة سيكو توري نفسه، والتي ترسخت على مدار سنوات، ووصفته دوائر غربية بأنه حزب شمولي([3])؛ رغم تمتُّع الحزب فعلًا بتأييد شعبي غيني مُعبِّر عن خيار ديمقراطي واضح. ثم قدرة سيكو توري على عقد تحالفات مع قادة شباب في الإقليم، وقدرته على تحقيق اصطفاف قَبَلي داخل غينيا خلف سياساته.
وهكذا امتزجت ثقافة سيكو توري بتجربة نضالية عملية مهمة قبل تولّيه رئاسة بلاده عقب قيادته عملية استقلالها التام عن فرنسا. وظهرت آثار هذا الامتزاج في منجزه الفكري المتنوع، ولا سيما مُؤلَّفه “الثورة والثقافة والإفريقانية” الذي صُدِّرَت طبعته الإنجليزية (1976م) بصورة بارزة له بصفته “القائد الأعلى للثورة والأمين العام لحزب دولة غينيا”([4])، مع ملاحظة مهمة، وهي نجاح سيكو توري في فترة حكمه، التي عُرفت بالجمهورية الأولى في غينيا، في تكوين هوية وطنية بعد استقلال البلاد([5]).
رؤية سيكو توري للثقافة:
كان سيكو توري مُولعًا بالتنظير وطرح تصورات دائمة حول مختلف القضايا التي تُواجه الفرد والمجتمع في بلده. وفيما يتعلق بالثقافة حاول سيكو توري الإجابة عن سؤال مهم، وإن بدا بديهيًّا في مستويات أخرى، طرَحه بنفسه: مَن يصنع ويطوّر ويستخدم الثقافات؟ ويبدو من القراءة الأولى لما سطره سيكو توري أنه ثمة نزعة جدل فلسفي واضحة في أسلوبه عبر طرح عدة تساؤلات متوالية، ثم الرد عليها ردودًا جزئية وغير قاطعة أحيانًا.
ويرى سيكو توري -في معرض إجابته عن تساؤلاته- أنه من الواضح أن مَن يقوم بذلك هو الإنسان الواعي “وليس الفرد المنعزل”، والمقابل “للوحش” beast (الإنسان البدائي)، وهي إجابة جدلية بشكل جليّ، ولا تحيل إلى تفسير دقيق أو صحيح في واقع الأمر؛ كونها تشير إلى مفهوم “تقدمي” للثقافة، ونزع ارتباطها اللصيق بالإنسان والنمو التدريجي لوعيه كعملية ثقافية في حد ذاتها.
وفي موضع آخر نجد أن رؤية سيكو توري للثقافة بشكل عام، وما وصفه تحديدًا بالثقافة القومية national culture، تمثل موقفًا سياسيًّا في المقام الأول، وليس استنادًا لأدوات ومعايير أنثروبولوجية أو سوسيولوجية واضحة. ويأتي ذلك فيما طرَحه في العام 1959م خلال حضوره للمؤتمر الثاني للكتاب والفنانين السود Congress of Black Writers and Artists في روما عن أهمية الثقافة الوطنية، وأن “المشاركة في الثورة الإفريقية ليست كافية لكتابة أغنية ثورية؛ وعليكم ملاءمة الثورة مع الشعب، وإذا حدثت هذه المواءمة مع الشعب، فإن الأغاني ستأتي منهم وعنهم”([6]).
وهنا تكتسب الثقافة (الوطنية) بُعدًا سياسيًّا بالأساس، وأنها في ارتباط متبادل مع الثورة، وهو تفسير يتَّسق كثيرًا، وبالأساس، مع آراء سيكو توري السياسية وخبراته الحركية في العمل النقابي المحلي والدولي.
وقدَّم سيكو توري تطويرًا لفكرته حول الثقافة (القومية أو الإفريقية) في المؤتمر الإفريقاني السادس الذي استضافته العاصمة التنزانية دار السلام في العام 1974م؛ إذ أكَّد أن الثقافة قد تطوَّرت عبر “آلاف القرون” على يد جميع شعوب العالم عبر التعبير الفعَّال عن العبقرية المبدعة، وأنه في هذا السياق المحدَّد “قد قامت فيه المدن والدول الإفريقية واقتصادها، وعلى هذا النحو تطورت الثقافة الإفريقية عبر اللغات والفلسفات والأديان والعلوم والتكنولوجيا على نحو متناغم لأعلى مستويات المعرفة الإنسانية ([7]).
الإفريقانية في خطابات سيكو توري:
لخَّص سيكو توري رؤيته للإفريقانية في كلمته أمام المؤتمر الإفريقاني السادس (1974م)؛ إذ فنَّد، في قراءة تاريخية ذكية، سردية أنه عند مجيء الأوروبيين إلى إفريقيا كانت الأخيرة دون حضارة أو ثقافة، بل إنهم عندما وصلوا للقارة وجدوا دولًا قائمة قوية ومنظمة للغاية في كافة أرجاء القارة، “وأن العديد من مواقع مناجم الذهب كانت مراكز للتجارة الكبيرة، ومِن ثَمَّ فإنها كانت مراكز مهمة للتبادل الثقافي”.
ووجَّه -في نهج تقليدي ميَّزه- سؤالًا مفاده: هل من الممكن أن يكون الإمبرياليون الأوروبيون قد جلبوا معهم الحضارة إلى إفريقيا الخالية من التمدين؟
ليجيب على الفور بـ “لا”؛ لأن الأوروبيين لم يجلبوا معهم سوى الطمع والاستغلال واليأس. ورأى وجوب أن توظّف الإفريقانية السبل الأكثر راديكالية من أجل إنهاء الهيمنة الأجنبية في إفريقيا، وتدمير أُسس الاستعمار، والاستعمار الجديد، والأبارتهيد، ولتنظيم وتطوير عملية توحيد الدول الإفريقية عبر تحقيق التناغم بين ثقافات شعوب القارة.
وفي نفس السياق، رأى سيكو توري أن التنمية الاقتصادية لإفريقيا، وفق تيار الإفريقانية، تتطلب وجوب تحرُّر جميع أرجاء القارة بداية لتنفيذ “أنشطتها المبتكرة”، وأن تكون حرَّة في علاقاتها مع القوى الخارجية (سواء العلاقات السياسية أم الاقتصادية أم العسكرية)، حتى تتمكن القارة فعليًّا من تبوأ مكانتها اللائقة في العالم. وأنه حتى يمكن للإفريقانية التكيُّف مع المتطلبات الجديدة “للوضع الدولي الجديد”؛ فإن عليها أن تضع آمال التقدم داخل سياق آمال أكبر تتطلع لها الشعوب الإفريقية.
وحاول سيكو توري تلخيص رؤيته بتأكيده أن “الإفريقانية قد أُسِّست كحركة جادة لثورة شعب ضد قوى الاستغلال والقمع والاغتراب. ونظرًا لتمترس قوى الاستغلال والاغتراب داخل هيمنتهم الأيديولوجية من باب التفوق العنصري، ولذا فإن على الإفريقانية التخلص من العنصرية. ورغم أن الإفريقانية قامت كحركة ثورة فإنه لا يمكنها القيام بمشروعها “حتى تصبح حركة تحرُّر ثورية” وتضع بوضوح أهدافها وتقرر الوسائل المحددة لتحقيقها ومواصلة العمل. ونظرًا لأن الإفريقانية الثورية revolutionary Pan- Africanism تشير إلى شعوب إفريقيا التي من مصلحتها تفوق الشعوب مقابل الدول، فإن الأخيرة تُمثّل أداة لتنفيذ إرادة الشعب وقراراته، لكن عندما تكون في خدمة الطبقات المستغلة فإنه تمثل أداة لتنفيذ القرارات ضد الشعب([8]).
خلاصة:
لا يمكن فصل إسهامات الزعيم الغيني أحمد سيكو توري عن خبرته السياسية والحركية التي اكتسبها منذ نعومة أظفاره، ومِن ثَم يمكن إحالة قَدْر من التناقض وعدم الاتساق في أفكاره إلى غلبة الجانب الحركي بالأساس. لكنْ يظل مشروعه من أهمّ مشروعات الفكر السياسي التي قدَّمها زعماء أفارقة، لا سيما إذا أضفنا إلى إسهاماته تناول مسألة بالغة الحساسية في إفريقيا جنوب الصحراء بعد الاستقلال، ألا وهي دور الإسلام في مجتمعات تلك الدول، وكونه قوة اجتماعية مهمة، كما تبلور ذلك في حالة غينيا.
…………………………………
الهوامش
[1] Pace, Eric, Ahmed Sekou Toure, A Radical Hero, The New York Times, March 28, 1984, Section A, Page 6.
[2] Sékou Touré president of Guinea, Britannica https://www.britannica.com/biography/Sekou-Toure
[3] Guinea after Five Years, The World Today, Mar., 1964, Vol. 20, No. 3 (Mar., 1964), pp. 113-4.
[4] Ture, Ahmed Sekou, Revolution, Culture and Panafricanism, African Democratic Revolution, no. 88, English First Edition, December 1976 (Conakry).
[5] Smith, Andrew W. M. Historical Reflections / Réflexions Historiques , Winter 2017, Vol. 43, No. 3 (Winter 2017), p. 103.
[6] Smith, Andrew W. M. Historical Reflections / Réflexions Historiques , Winter 2017, Vol. 43, No. 3 (Winter 2017), p. 103.
[7] Toure, Sekou, Sekou Toure’s Speech to the Congress, The Black Scholar, July-August 1974, Vol. 5, No. 10, THE SIXTH PAN-AFRICAN CONGRESS (July-August 1974), p. 23.
[8] Toure, Sekou, Sekou Toure’s Speech to the Congress, The Black Scholar, July-August 1974, Vol. 5, No. 10, THE SIXTH PAN-AFRICAN CONGRESS (July-August 1974), p. 23.