تمهيد:
منذ اعتماد قرار الجمعية العامة 60/97 في ديسمبر 2005م، يحتفل العالم باليوم الدولي للتوعية بالألغام ومكافحتها في الرابع من أبريل من كل عام. ويأتي الاحتفال بالتزامن مع عدة مناسبات؛ مثل: الذكرى السنوية الخامسة والعشرين لدخول اتفاقية حظر الألغام حَيِّز النفاذ، والذكرى السنوية الخامسة لاعتماد خطة عمل أوسلو، التي حدَّدت خارطة طريق لتنفيذ الاتفاقية. والذكرى السنوية الخامسة لقرار مجلس الأمن رقم 2475، الذي يُركّز على حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة في سياق الصراع والأزمات الإنسانية، وإدماجهم في جهود بناء السلام.
والألغام الأرضية أسلحة عمياء لا يمكنها التمييز بين وَقْع أقدام جندي وامرأة عجوز تجمع الحطب، ولا تَعترف بوقف إطلاق النار، وقد يكون زارعُها ضحيّتها.
إن خطورة وقسوة التهديد الذي تُشكّله لا يمكن المبالغة فيهما، فما زالت عشرات الملايين منها متناثرة في مناطق القتال السابقة، وتُودي بحياة أعدادٍ لا حَصْر لها وتُعرّضها للخطر، وتَعُوق استعادة الحياة الطبيعية. ويُقدّر الخبراء أن التخلص منها قد يستغرق نصف قرن. وفي الوقت الذي حظيت فيه أسلحة الدمار الشامل بقدر كبير من الدعاية، لم تحظَ الألغام الأرضية سوى بقدر قليل من الاهتمام.
ويُعدّ إقليم إفريقيا جنوب الصحراء أكثر مناطق العالم تضرُّرًا من هذا القاتل الذي يختبئ في مناطق عديدة بين أرجائها؛ بسبب الصراع الدولي في فترة الاستعمار، ثم الحروب العالمية، وأثناء النضالات لدَحْر الاستعمار، وخلال الحروب الأهلية، وأخيرًا مِن قِبَل الجماعات المتمردة وتجار السلاح المخدرات. مما كلَّف القارة أثمانًا باهظة في الأرواح، وأعاق التنمية، بسبب ضعف الإمكانيات المتاحة لإزالة الألغام، وتخاذل المجتمع الدولي الذي أوْجَدها.
من هنا، أحاول تسليط الضوء على تلك القضية المنسية بإيجاز من خلال المحاور التالية:
- أولاً: الألغام الأرضية: المواصفات والاستخدام والحظر.
- ثانيًا: الألغام الأرضية في إفريقيا جنوب الصحراء: الحجم والانتشار.
- ثالثًا: الألغام الأرضية في إفريقيا جنوب الصحراء: تكاليف باهظة وإعاقة للتنمية.
- رابعًا: الجدوى الاقتصادية لإزالة الألغام في إفريقيا جنوب الصحراء: موزمبيق نموذجًا.
- خاتمة وتوصيات.
أولًا: الألغام الأرضية: المواصفات والاستخدام والحظر
الألغام الأرضية هي واحدة من أكثر أنظمة الأسلحة فتكًا، وهي زهيدة الثمن، ويسهل إنتاجها بكميات كبيرة، وهي شديدة الانفجار والتدمير، تقتل وتُشوِّه الجنود والمدنيين على حدّ سواء. وعلى مدار جزء كبير من القرن العشرين، كانت تكنولوجيا الألغام ومكافحة الألغام تدور حول الابتكار والابتكار المضادّ. ففي عشرينيات القرن الماضي، بدأت ألمانيا في إنتاجها، وتبعتها دول أخرى، وعندما اقترنت بألغام مضادة للأفراد أصغر حجمًا، اعتبرتها معظم القوات المسلحة جزءًا قياسيًّا من ترسانتها في أوائل الخمسينيات. ولم يَر أحد الحاجة إلى المزيد من الابتكارات الكبرى في تكنولوجيا الألغام حتى عصر حرب فيتنام، عندما أصبح القتال عن قرب والكمائن هي القاعدة([1]).
إذًا فالألغام الأرضية متاحة بسهولة، وبسيطة التكنولوجيا، وعشوائية، ورخيصة. وتكلفة كشفها وإزالتها تمثل من واحد إلى خمسة أمثال تكلفة شرائها. ومن الناحية النظرية، كان استخدامها ضد الأهداف المدنية محظورًا بموجب اتفاقية الأمم المتحدة لعام 1980م بشأن الأسلحة اللاإنسانية التي دخلت حيّز النفاذ في عام 1983م. ومع ذلك، لم تصادق سوى 39 دولة على هذه الشروط. وعلى مدى عقد من توقيع الاتفاقية قُتِلَ عشرات الآلاف من المدنيين أو بُتِرَت أعضاء من أجسادهم بسبب ما يُقدَّر بنحو 85 إلى 100 مليون لغم متناثرة مثل بذور الموت في مختلف أنحاء العالم. وتوجد الألغام الأرضية في نحو 62 دولة، وتقوم نحو 60 شركة ووكالة حكومية في 35 دولة بتصنيعها وتصديرها. والدول الرائدة في هذا المجال هي الصين والاتحاد السوفييتي السابق وإيطاليا. وقد قُتِلَ أو جُرِحَ أكثر من مليون شخص، معظمهم من المدنيين، بسبب الألغام منذ عام 1975م حتى نهاية التسعينيات([2]).
تم تطوير الألغام مبدئيًّا كسلاح ردع للدبابات خلال الحرب العالمية الأولى. ثم تطورت إلى ألغام مضادة للأفراد لمنع قوات العدو من إزالة الألغام المضادة للدبابات. وبين الحربين العالميتين اكتسبت الأخيرة قبولًا بين الإستراتيجيين العسكريين كسلاح في حد ذاته. واتسع استخدامها خلال الحرب العالمية الثانية، وبحلول الستينيات، بدأ الانتشار العشوائي لها. واليوم يمكن “زرع” أعداد كبيرة من الألغام المصغَّرة بواسطة المروحيات والطائرات، مما يؤدي إلى إنشاء حقل ألغام فوري في دقائق([3]).
وقد تم إبرام اتفاقية حظر استعمال وتخزين وإنتاج ونقل الألغام المضادة للأفراد وتدميرها في عام 1997م، وهي الاتفاقية الدولية التي تحظر الألغام الأرضية المضادة للأفراد. وعادةً ما يُشَار إليها باسم اتفاقية “أوتاوا”، أو معاهدة حظر الألغام المضادة للأفراد. وقد أُبرمت الاتفاقية في المؤتمر الدبلوماسي المعنيّ بالحظر الدولي الشامل للألغام الأرضية المضادة للأفراد في أوسلو في سبتمبر 1997م([4]).
ثانيًا: الألغام الأرضية في إفريقيا جنوب الصحراء: الحجم والانتشار
وفقًا لتقرير مراقبة الألغام الأرضية الصادر عن الحملة الدولية لحظر الألغام الأرضية، في عام 2022م، كان هناك 4710 ضحايا للألغام الأرضية المضادَّة للأفراد ومُخلَّفات الحرب، 85٪ منهم من المدنيين، بما في ذلك 1171 طفلاً. وفي إفريقيا، وهي أكثر مناطق العالم التي تحتوي على الألغام الأرضية، كانت أكثر الدول تضررًا فيها؛ هي أنجولا وإريتريا وإثيوبيا وموزمبيق والصومال والسودان. ويوجد ما يصل إلى 25 مليون لغم تنتشر في أنحاء القارة. ولا تزال آلاف أخرى منها تُزْرَع كل شهر. وكل 25 دقيقة تقريبًا يموت إنسان بسببها في العالم الثالث. والواقع أن ربع ضحايا الحروب هم ضحايا الألغام الأرضية؛ وأكثر من خُمس هؤلاء هم من النساء والأطفال([5]).
وحتى نهاية التسعينيات أبلغت عدة بلدان في الإقليم عن وجود مشكلات في الألغام الأرضية التي لم تتم إزالتها؛ مثل أنجولا([6]) التي زُرِعَتْ الألغام فيها مِن قِبَل البرتغاليين، وجنوب إفريقيا وكوبا، والقوات الحكومية الأنغولية، ومجموعة التمرد يونيتا طوال الحرب الأهلية التي استمرت ما يقرب من 20 عامًا. وتتراوح تقديرات عدد الألغام الأرضية من 9 إلى 20 مليون لغم. مما أدَّى إلى خفض الحصاد الغذائي لعام 1993م بنسبة 30%. وتشير التقديرات إلى أن 70 ألف أنجولي احتاجوا إلى عمليات بتر أطراف بسبب انفجارات الألغام. ويشير تقدير آخر إلى أن هناك ما بين 150 إلى 200 ضحية للألغام الأرضية كل أسبوع.
وفي إريتريا تمت إزالة أكثر من مليون لغم من أصل 2 مليون لغم تم زرعها منذ عام 1977م. وبسبب عدم كفاية التقنيات ورداءة المعدات، لا يزال هناك ما يُقدَّر بنحو 150 ألف لغم في المناطق التي سبق تطهيرها. مع مقتل مئات الضحايا من فِرَق التطهير، وقد لقي ما يُقدَّر بنحو 2000 مدني حتفهم نتيجة انفجارات الألغام الأرضية منذ نهاية الحرب في عام 1991م. وتوجد الألغام في الأراضي الزراعية الريفية، بالقرب من مصادر المياه، وعلى طول الحدود، وقد زُرِعَت خلال الحرب الأهلية التي استمرت 30 عامًا، وخاصة في الفترة من 1975 إلى 1991م.
وفي إثيوبيا لا يزال هناك ما يُقدَّر بنحو 500 ألف لغم أرضي، والمزيد من قِطَع الذخائر غير المنفجرة، من مُخلَّفات الحرب الأهلية في إثيوبيا، مما يتسبَّب في وقوع ما بين خمسة إلى عشرة ضحايا أسبوعيًّا. وبدأت الحكومة عمليات واسعة النطاق في أوائل عام 1995م لإزالة الألغام.
وفي الصومال أدت الفوضى إلى نشر العديد من الألغام الأرضية، بالإضافة إلى تلك التي زُرِعَت خلال العديد من الصراعات منذ الستينيات. وتُشكّل الألغام الأرضية غير المزروعة خطرًا شديدًا ليس فقط على المقاتلين العسكريين، بل أيضًا على المزارعين والرعاة وسكان المدن. وقد قامت القوات المسلحة الصومالية السابقة بزرع معظم الألغام على طول الحدود مع إثيوبيا. ومنذ انهيار الحكومة قامت الفصائل المتحاربة بزرع الألغام، كما تُوجَد الألغام أيضًا حول القواعد العسكرية والمدارس والبلدات وحتى المنازل، وتمَّت إزالة الألغام في الشمال الغربي. وعلى الرغم من الجهود المبذولة، فلا تزال الأراضي الصومالية مليئة بالألغام. وتمتلئ الحدود مع جيبوتي وحدها بما يتراوح بين 76 إلى 96 حقل ألغام. فضلاً عن غينيا بيساو وليبريا وموريتانيا وناميبيا ورواندا، وسيراليون، السودان (مليون لغم تقريبا)، وأوغندا، زيمبابوي وتشاد، وغيرها.
وفي عام 2023م أشار التقرير الصادر عن مرصد الألغام الأرضية إلى أنه من بين 51 دولة ومنطقة بها ضحايا من الألغام ومخلفات الحرب القابلة للانفجار، كان هناك 20 دولة في إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، و10 في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، و11 في شرق وجنوب آسيا والمحيط الهادئ.
وحتى نهاية عام 2022م، أبلغت أنغولا عن انتشار الألغام المضادة للأفراد في مناطق تُقدَّر بـ68 كيلو مترًا مربعًا عبر 16 مقاطعة و1142 منطقة. وحدَّدت تشاد ما مجموعه 120 منطقة خطرة، مع تصنيف 72 منطقة على أنها مناطق خطرة تنتشر فيها الألغام. بينما كان انتشار الألغام المتبقي في الكونغو الديمقراطية محدودًا؛ ففي مارس 2022م، أبلغت عن انتشار الألغام في مناطق إجمالية تُقدَّر بـ 0.4 كيلو متر مربع عبر 37 منطقة، تم زرعها في الأراضي الزراعية، لمنع المزارعين من العمل في حقولهم. ولم تبلّغ إريتريا عن مدى انتشار الألغام منذ عام 2014م، عندما قُدِّر أن لديها 33.5 كيلو مترًا مربعًا من الأراضي التي تنتشر فيها الألغام الأرضية. وفي يونيو 2022م، أبلغت إثيوبيا عن انتشار الألغام في مناطق تُقدَّر بـ726.07 كيلو متر مربع عبر 152 منطقة في ست مقاطعات، وقد أدى الصراع في شمال الدولة وفي مناطق أخرى إلى انتشار الذخائر المتفجرة وغير المتفجرة. كما أعلنت غينيا بيساو عن انتهاء التطهير في ديسمبر 2012م، لكنها أبلغت في عام 2021م عن وجود “مناطق ملغومة غير معروفة سابقًا”، وبحلول نهاية عام 2022م، أفادت باكتشاف تسعة مناطق خطرة بمساحة 1.09 كيلو متر مربع، دون إحراز مزيد من التقدم في تطهير 43 منطقة أُبلغ عنها سابقًا. وأعلنت موريتانيا عن تطهير جميع المناطق في عام 2018م، لكنّها حددت لاحقًا مناطق ملغومة جديدة. وبحلول نهاية عام 2022م، أبلغت عن انتشار الألغام في مناطق تُقدَّر بـ16 كيلو مترًا مربعًا([7]).
وفي عام 2021م، أبلغت النيجر عن وجود 0.18 كيلو متر مربع من المناطق الخطرة، وفي عام 2022م، أفادت أنها لا تستطيع ضمان اكتمال التطهير بحلول عام 2024م، بسبب التحديات الجوية ونقص التمويل ونشاط الجماعات المسلحة. وفي عام 2019م، أبلغت نيجيريا عن انتشار الألغام المرتجلة. وحددت السنغال في عام 2020م ما مجموعه 37 منطقة خطرة تغطي 0.49 كيلو متر مربع. وأضافت 21 منطقة تغطي مساحة 0.21 كيلو متر مربع عام 2022م بحاجة إلى معالجة. وفي سبتمبر 2021م، أبلغت الصومال عن 6.1 كيلو متر مربع من انتشار الألغام المضادة للأفراد، ضمن إجمالي 161.8 كيلو متر مربع من التلوث المختلط، وبحلول نهاية عام 2022م، أبلغت عن إجمالي 124.23 كيلو متر مربع من التلوث المختلط. كما أبلغ جنوب السودان عن تلوث 5.41 كيلو متر مربع بالألغام الأرضية اعتبارًا من مايو 2023م. وفي نهاية عام 2022م، بلغ إجمالي التلوث في زيمبابوي 18.31 كيلو متر مربع([8]).
ثالثا: الألغام الأرضية في إفريقيا جنوب الصحراء – تكاليف باهظة وإعاقة للتنمية
على مدى عقود من الزمن كانت الألغام الأرضية تقتل المدنيين وتشوّههم في جميع أنحاء المنطقة، وقعت أول ضحية معروفة للألغام في شمال أنجولا في عام 1961م. وبحلول عام 1997م، سجلت عشرة من الدول الاثنتي عشرة في مجموعة (السادك) حوادث ألغام أرضية.
وتشير تقديرات متحفظة إلى أن المنطقة تضم نحو عشرين مليون حقل ألغام في أراضيها. أودت بحياة أكثر من 250 ألف ضحية منذ عام 1961م حتى التسعينيات؛ حيث انتشر استخدام الألغام الأرضية المضادة للأفراد في الحروب الاستعمارية وما بعد الاستعمارية التي ابتُليت بها المنطقة، فخلال هذه الفترة، تم استيراد ملايين الألغام الأرضية وتصنيع عدد أقل. وتم العثور على 67 نوعًا من الألغام المضادة للأفراد من 21 دولة في المنطقة، آتية من بلدان مختلفة. ومنذ أن بدأت عمليات التطهير الجادة في عام 1991م، تمت إزالة حوالي 400 ألف لغم فقط.
وفي الأعوام الأخيرة، استُخدمت الألغام الأرضية في أعمال إجرامية في أنغولا وموزمبيق؛ حيث قامت الجماعات الإجرامية المرتبطة بالمخدرات وتهريب الأسلحة بزرع ألغام أرضية في وسط موزمبيق من أجل وقف قدرة الدولة على السيطرة على المناطق النائية.
وفي عام 1996م، كانت الألغام متاحة في أنغولا وموزمبيق وناميبيا وزامبيا مقابل الغذاء أو الملابس المستعملة. وقد قامت دولتان على الأقل بإنتاج وتصدير الألغام المضادة للأفراد، وهما جنوب إفريقيا وزيمبابوي. وفي عام 1997م، تعهدتا بعدم الإنتاج أو التصدير، وربما كانت ناميبيا أيضًا منتجة، وفقًا للتقييمات العسكرية الأمريكية([9]).
وهناك ارتباط جوهري بين إزالة الألغام وتحقيق أهداف التنمية؛ حيث يمكن أن يُعزّز إطلاق الأراضي وتطهيرها، وحملات التوعية، ودعم الضحايا التعافي والمرونة لكل من المجتمعات المتضررة والنظم الإيكولوجية من خلال تمكين تلك المجتمعات من الوصول إلى الخدمات الأساسية؛ وتحسين الأمن الغذائي؛ ودعم التنمية الاقتصادية من خلال تمكين الوصول إلى الموارد الطبيعية([10]).
وتبيِّن العديد من الدراسات أنه بينما فقد الجزء الأكبر من الأرواح نتيجة الحروب المباشرة والصراعات المسلحة كما في الكونغو الديمقراطية، وليبيريا، ورواندا، إلا أن إرث الحرب لا يزال يسهم في الوفيات من خلال تفجُّر القنابل اليدوية والألغام الأرضية كما في موزمبيق؛ حيث إن أرقام الوفيات الناجمة عن الحرب غير المباشرة لا تقل تدميرًا عن الخسائر الناجمة عن القتال المباشر. وتختلف تقديرات وفيات الحرب غير المباشرة؛ حيث تُقدّرها بعض الدراسات بنحو وفاة 2.5 مليون كما في حالة الحرب الأهلية في الكونغو الديمقراطية في الفترة من 1998م إلى 2003م([11]).
وفي مقاطعة مابوتو في موزمبيق، ظلت قرية مابولينج، التي كانت مركزًا لمجتمع يضم 10 آلاف شخص، مهجورة لمدة أربع سنوات، وقد كشفت عملية إزالة الألغام التي استمرت ثلاثة أشهر في القرية عام 1994م عن أربعة ألغام فقط؛ حيث كان انتشار الشائعات كافيًا لإخلاء المنطقة من السكان لكل هذه المدة. فقد أدَّت أربعة ألغام تكلفتها 40 دولارًا إلى سنوات من الخوف وإنفاق عشرات الآلاف من الدولارات، قبل أن يشعر المجتمع بالأمان.
وفي موزمبيق أيضًا، أبرمت الأمم المتحدة عقدًا لتطهير 2010 كيلو مترات من الطرق في عام 1994م. كما تؤدي غالبية انفجارات الألغام الأرضية التي لا تُسبِّب الوفاة إلى بتر الأطراف المؤلمة أو الجراحية. ففي أنغولا هناك نحو 70 ألف ضحية أُصيبوا بتشوهات خطيرة. كما أن تركة الألغام الأرضية لها عواقب بيئية خطيرة؛ ففي زيمبابوي، أصبحت حقول الألغام الحدودية ملاذًا لذبابة تسي تسي. كما أدت الألغام التي يستخدمها الصيادون في متنزه موبا في أنغولا إلى تدمير مراعي الأفيال. وفي زيمبابوي، ومنذ عام 1980م، تم الإبلاغ عن نفوق أكثر من 9000 رأس من الماشية في حقول الألغام([12]).
رابعًا: الجدوى الاقتصادية لإزالة الألغام في إفريقيا جنوب الصحراء: موزمبيق نموذجًا
تم إنفاق 45 مليون دولار في إزالة الألغام في إفريقيا جنوب الصحراء منذ مايو 1991م حتى عام 2000م، مما أدَّى إلى إزالة نحو 400 ألف لغم، مع تعرُّض تلك الجهود للنقد. وفي موزمبيق، أصبح برنامج الأمم المتحدة لإزالة الألغام ضحية للمنافسة بين الوكالات المختلفة والبيروقراطية، كما تعرَّضت لسمعة سيئة عندما ذهب عقد بقيمة 7.5 مليون دولار لتطهير الطرق إلى شركاتٍ شاركت في الماضي في صناعة الألغام. كما يُبيِّن سجل المنطقة في إزالة الألغام عدم الفعالية. وعندما يتم بذل الجهود، غالبًا ما تكون ضعيفة التمويل وسيئة التنسيق. فضلاً عن ارتفاع التكاليف ونقص التمويل؛ وعلى الرغم من أن متوسط تكلفة تصنيع الألغام يتراوح بين 10 و20 دولارًا، فإن متوسط التكاليف المباشرة وغير المباشرة للإزالة يتراوح بين 300 دولار إلى 1000 دولار لكل لغم، وهي نسبة مخيفة على منطقة بها نحو عشرين مليون لغم غير مزال، وأخرى جديدة لا تزال قيد الإزالة([13]).
على مدار 25 عامًا، تعرَّضت موزمبيق لمعاناة إنسانية في النضال من أجل الاستقلال ضد البرتغاليين، ثم تلتها الحرب الأهلية بين جبهة تحرير موزمبيق (فريليمو) والمقاومة الوطنية الموزمبيقية (رينامو). وكانت الألغام الأرضية نتيجة للحرب الأهلية أكثر منها نتيجة لحرب الاستقلال؛ حيث زرعت معظمها بين عامي 1978 و1992م. وقدَّرت الأمم المتحدة في عام 1992م العدد بنحو 2 مليون لغم، وبلغ مليون في تقديرات أخرى. وتراوحت أعداد القتلى أو المصابين بسببها حتى منتصف تسعينيات القرن العشرين بين سبعة آلاف وخمسة عشرة ألفًا، وتشير تقديرات أخرى إلى أعلى من ذلك، أغلبهم من المدنيين.
وقد أظهر ذلك بيانات برنامج تقييم الأثر البيئي للألغام الأرضية للفترة 1996-1998م في الشكل التالي ([14]).
شكل (1) ضحايا حوادث الألغام الأرضية خلال الفترة 1996-1998م
) Gareth Elliot & Geoff Harris, A cost–benefit analysis of landmine clearance in Mozambique, Development Southern Africa Vol 18, No 5, December 2001. p. 626..at:
https://www.researchgate.net/publication/23991875_The_Economics_of_Landmine_Clearance_Case_Study_of_Cambodia
وقد كانت هناك 1800 “منطقة ملغومة” منتشرة في موزمبيق، وبدأت جهود إزالة الألغام في عام 1993م مع وصول عملية الأمم المتحدة إلى موزمبيق (أونوموز). ونُفِّذ الجزء الأكبر من العمليات بواسطة شركات خاصة بدعم من وكالات المعونة الدولية والحكومات الأجنبية. ومنذ أن بدأت عمليات إزالة الألغام في عام 1993م، أنفق مجتمع المانحين أكثر من 136 مليون دولار. مما أسفر عن تطهير أكثر من 40528 هكتارًا من الأراضي من الألغام الأرضية لإعادة توطين السكان وإعادة الإنتاج الزراعي والحيواني. خلال هذه الفترة، قامت شركات إزالة الألغام المختلفة بتدمير أكثر من 56176 لغمًا مضادًّا للأفراد و456 لغمًا مضادًّا للدبابات([15]).
وفي 17 سبتمبر 2015م، أعلن المعهد الوطني لإزالة الألغام عن الانتهاء من إزالة الألغام الأرضية المضادة للأفراد في جميع أنحاء البلاد. ولا تزال موزامبيق مُلوَّثة بذخائر أخرى غير منفجرة. بعد تقدير الحكومة لعدد الضحايا بنحو 10.900 شخص سواء قُتِلُوا أو أُصيبوا([16]).
وبتحليل للتكاليف والفوائد لعمليات إزالة الألغام في موزمبيق على مدى فترة 10 سنوات، بدءًا من عام 2000م. خلصت بعض الدراسات إلى أن رفاهة الموزمبيقيين كانت سوف تزداد لو تم تخصيص نفقات إزالة الألغام لمجالات أخرى كالصحة والتعليم، وأن تكاليف إنقاذ وتحسين حياة الناس أقل كثيرًا من تكاليف إنقاذهم من خلال إزالة الألغام؛ حيث شكَّكت تلك الدراسات حول إمكانية استمرار الدعم الدولي، منتقدةً سُوء التنسيق وعدم تحديد أولويات الإزالة. كما رأت أن مجالات مثل التوعية بمخاطر الألغام، قد تكون لها قيمة صافية أعلى كثيرًا من عملية التطهير في حدّ ذاتها. مُوجِّهة إلى دمج برامج التنمية وعمليات إزالة الألغام، مع رفع كفاءة العاملين في مجال إزالة الألغام واستخدام وسائل مبتكرة([17]).
وباستكشاف العواقب الاقتصادية لإزالة الألغام الأرضية في الدولة الوحيدة التي انتقلت من حالة “ملوثة بشدة” في عام 1992م إلى حالة “خالية من الألغام” في عام 2015م؛ وجدت الدراسات أن الارتباط بين إزالة الألغام والتنمية ضعيف في المناطق الريفية ذات الكثافة السكانية المنخفضة، بينما مرتفع في مراكز التجارة والمناطق الحضرية الأكثر اكتظاظًا بالسكان. وأن إزالة الألغام أعادت تشكيل إمكانية الوصول إلى البنية الأساسية للنقل والأسواق، مما أدى إلى تحسينات كبيرة في النشاط الاقتصادي الكلي. وأن هذه الفائدة موجودة أيضًا في المناطق الخالية من أي تلوث([18]).
خاتمة وتوصيات:
لم تخترع بلدان إفريقيا جنوب الصحراء الألغام الأرضية، ولم تبدأ بتصنيعها أو استخدامها، غير أن أطماع المستعمرين وصراعهم حول الموارد، وجعل القارة ساحات للحروب العالمية، وبعد ذلك صراعهم على الموارد ودعمهم لأطرف الحروب الأهلية من أجل الموارد مرة أخرى؛ كل هذا كان من الأسباب التي أدَّت لأن يعيش عدد كبير من أبناء القارة في رعب جراء هذه الألغام، مما أودى بحياة الآلاف وأصاب عشرات الآلاف بإعاقات مستديمة، حتى حُرمت موارد القارة عليهم وعلى أبناء القارة، بعدما اختلط باطن الأرض بهذا القاتل الخفي، وبعدما فعلت فعلتها قصرت في معالجتها، وتقاعس المجتمع الدولي عن إزالتها.
وعليه، فينبغي للمجتمع الدولي توفير التمويل والدعم الفني اللازم لإزالة الألغام الأرضية في المنطقة.
وفي حين تؤكد اتفاقية حظر الألغام حق الضحايا في “المساعدة في الرعاية وإعادة التأهيل، وإعادة الإدماج الاجتماعي والاقتصادي”، ويدعو إعلان أوسلو إلى “المشاركة الكاملة والمتساوية والفعّالة لضحايا الألغام في المجتمع”؛ فإن العالم لا يزال أمامه طريق طويل قبل القضاء التام على التهديد الذي تُشكّله الألغام الأرضية على حياة البشر وحقوقهم، وصون حقوق الضحايا.
ولهذا السبب، فإن النظام الدولي لحقوق الإنسان والتزامات الدول بموجب القانون الدولي تُشكِّل أهمية بالغة، ويمكنها بل ينبغي لها أن تُشكِّل مصدر إلهام لسياسات مكافحة الألغام والعمل عليها.
ويشمل هذا تطوير برامج إعادة تأهيل الضحايا التي تشمل التوظيف والمساعدة النفسية والاجتماعية والطبية؛ وبرامج إعادة الإدماج للنازحين العائدين؛ والوصول الآمِن إلى المدارس وحملات التوعية بالمخاطر، مع التركيز بشكل خاص على النساء والأطفال؛ والتخطيط لأنشطة إزالة الألغام وإدارتها.
……………………………………………….
[1] ) Kevin J. Weddle, Land Mines.at: https://www.sciencedirect.com/topics/social-sciences/land-mines
[2] ) S Baynham,” Landmines in Africa: indiscriminate warfare”, Africa Insight, vol 24, no 4, 1994.pp.264-265.at: https://journals.co.za/doi/pdf/10.10520/AJA02562804_553
[3] ) Idem.
[4] ) United Nations, Anti-Personnel Landmines Convention.at:
[5] ) S Baynham, Op.cit.
[6] ) U.S. Department of State, Hidden Killers 1994: The Global Landmine Crisis, Washington, DC, January 1994.at:
https://1997-2001.state.gov/global/arms/rpt_9401_demine_ch3.html
[7] ) International Campaign to Ban Landmines – Cluster Munition Coalition (ICBL-CMC), Landmine Monitor 2023. pp.42-44 at: http://the-monitor.org/reports/landmine-monitor
[8] ) Ibid.44-45.
[9] ) Human Rights Watch Arms Project Human Rights Watch, Still Killing Landmines in Southern Africa.at: https://www.hrw.org/reports/1997/lmsa/
[10] ) Amalia Ordóñez Vahi, the presence and legacy of landmines is a human rights issue: why the UN human rights system should engage in driving progress towards a mine-free world, AprilL 4, 2024.at: https://www.universal-rights.org/the-presence-and-legacy-of-landmines-is-a-human-rights-issue-why-the-un-human-rights-system-should-engage-in-driving-progress-towards-a-mine-free-world/
[11] ) Brett Bowman and etal, Disease and Mortality in Sub-Saharan Africa. 2nd edition.at: https://www.ncbi.nlm.nih.gov/books/NBK2308/
[12] ) Human Rights Watch Arms Project Human Rights Watch, Op.cit.
[13] ) Human Rights Watch Arms Project Human Rights Watch, Op.cit.
[14] ) Gareth Elliot & Geoff Harris, A cost–benefit analysis of landmine clearance in Mozambique, Development Southern Africa Vol 18, No 5, December 2001. p.625..at: https://www.researchgate.net/publication/23991875_The_Economics_of_Landmine_Clearance_Case_Study_of_Cambodia
[15] ) Gareth Elliot & Geoff Harris, p.626.
[16]) https://reliefweb.int/report/mozambique/mozambique-landmine-clearance-success-shows-mine-free-world-possible
[17] ) Gareth Elliot & Geoff Harris,Op.cit.pp.631-632.
[18] ) Giorgio Chiovelli and etal, landmines and spatial development, Working Paper 24758(Cambridge: national bureau of economic research,2018) pp.3-37.