تواجه الكونغو الديمقراطية ثاني أكبر سرعة تفشِّي فيروس “إيبولا” على الإطلاق؛ حيث سُجلت أكثر من 3000 حالة إصابة، و2000 حالة وفاة منذ الإعلان عن تفشّي الوباء في الصيف الماضي بجمورية الكونغو الديمقراطية.
كانت النسبة الكبرى من هذه الإصابات في مقاطعة شمال كيفو، وانتشر الوباء إلى مقاطعة جنوب “كيفو” المجاورة ومركز العبور “غوما” على الحدود مع رواندا. وأعلنت منظمة الصحة العالمية في يوليو الماضي “حالة طوارئ للصحة العامة ذات اهتمام دولي” في البلاد.
وإذ يعيق جهودَ التصدّي لتفشي الوباء؛ عدمُ الاستقرار السياسي، والعنفُ المتقطع، والبنيةُ التحتية المحدودة في هذه المناطق من البلاد، وانعدامُ الثقة في اللقاحات المتاحة، فإن الفساد ومساعي التربُّح من الوضع، وتصارع منظمات دولية بالمنطقة تساهم أيضًا في تعطيل جهود الحدِّ من الوباء.
سندات إيبولا.. استثمار أو “غباء مالي”؟
أعلن البنك الدولي عام 2016م -بعد أسوأ موجة لتفشي إيبولا عام 2014م- عن إصدار “سندات الأوبئة” باسم (The Pandemic Emergency Financing Facility) أو (PEF) باختصار، وهي الأولى من نوعها التي من شأنها توفير الأموال للبلدان المتأثرة بتفشي الفيروسات مثل إيبولا. وتُدعم (PEF) بنحو 190 مليون دولار في شكل تبرعات من 3 دول ومؤسسة التنمية الدولية (IDA) التابعة للبنك الدولي، وهذا الصندوق يقدم حوالي 20 مليار دولار لـ 75 دولة كل عام.
كانت هذه الأوراق المالية ذات عائد مرتفع، ووُضِعَتْ على نماذج “سندات الكوارث” التي تُدْفَع استجابةً لمطالبات التأمين لأحداث مثل الأعاصير. وبموجبها يحصل المستثمرون الذين اشتروا “سندات الأوبئة” على “كوبونات” سخية –أكثر من 11٪ من الفائدة تُدفع سنويًّا-، وذلك لتعويض المستثمرين عن المخاطرة التي ستقوم بها السندات، والتي تتمثل في دفع “تأمين” لمحاربة الأوبئة في ظل ظروف معينة. وإذا لم يحدث أي شيء ستعود نقود المستثمرين إليهم في يوليو 2020 عند نضوج السندات.
غير أن أوجه القصور في “السندات الوبائية” وضعفها في وقف العدوى قد انكشفت بعد مرور عامين من إعلان هذه الطريقة الجديدة لتمويل مكافحة الأمراض العالمية، وبعد مرور 14 شهرًا من تفشي إيبولا في الكونغو الديمقراطية، ووجود الآلاف من الوفيات والإصابات.
ففي يوليو الماضي أعلن البنك الدولي أنه -بغض النظر عن آليات “سندات الأوبئة”- سيجمع ما يصل إلى 300 مليون دولار من أجل التصدّي لتفشي إيبولا في الكونغو الديمقراطية، بالرغم من أن هذه السندات قد كلَّفتْ أكثر بكثير مما جلبتْ.
وذكرت “أولغا جوناس” -مستشارة اقتصادية في معهد هارفارد للصحة العالمية في كامبريدج، ماساتشوستس، في مقال لها بمجلّة “نيتشر” العلمية، أنه “لم يعلن البنك الدولي -حيث عملتُ لمدة ثلاثة عقود كخبيرة اقتصادية- عن الشروط المحددة للسندات، وتصفحتُ نشرة السندات المحيِّرة التي تتألف من 386 صفحة. لقد دفعتْ PEF بالفعل حوالي 75.5 مليون دولار لحاملي السندات كأقساط، لكنها لم تكشف عن المبلغ الذي تم دفعُهُ لهم في الفائدة، ومن المقرر أن تدفع لهم أكثر من ذلك. ومع ذلك، لم يحصل المستجيبون لتفشّي الوباء إلا على 31 مليون دولار من PEF، ومن غير المرجّح إلى حد كبير أنّه سيُدفع مبلغ 425 مليون دولار الذي رُوّج له للمصابين بفيروس إيبولا.
وبالتالي، يمكن القول: إن ما يسمى “سندات الوباء” صفقة جيدة للمستثمرين فقط، ولكنها ليست جيدة للتصدّي لتفشّي الأوبئة. ولعل الأرباح الهائلة من هذه السندات باسم مكافحة الأوبئة أجبرت البنك الدولي على إجراء مناقشات جديدة بشأن “سندات وبائية” ثانية.
وترى “أولغا جوناس” أنّ الحل الأكثر واقعية هو أن توجِّه “مؤسسة التنمية الدولية” (IDA) تلك الموارد المقدمة لـ “PEF” إلى تحسين قدرة الصحة العامة بشكل مباشر، أو عبر إنشاء صندوق الطوارئ الصحي في “منظمة الصحة العالمية” (WHO)، بحيث تذهب جميع الأموال إلى البلدان المحتاجة إليها؛ وذلك لأنّ طريقة توفير “PEF” للأموال للمستجيبين والفاعلين في مجال الصحة بالكونغو الديمقراطية لا تتناسب مع مستوى انتشار إيبولا، وعدد الإصابات والوفيات وحتى خطورته وضرورة السرعة في التصدِّي له.
وقد وصف “لاري سمرز” -كبير الاقتصاديين السابق بالبنك الدولي ووزير الخزانة الأمريكي السابق- “سندات الوباء” بأنها “غباء مالي”، روَّج له مسؤولو الحكومة والبنك الدولي للتباهي بأنهم ابتكروا مبادرة جديدة يشارك فيه القطاع الخاص.
“منظمة الصحة العالمية” و “تقتير” لقاحات إيبولا:
لقد حلّت التّهمة الموجهة لـ”منظمة الصحة العالمية” (WHO) مِن قِبَل منظمة “أطباء بلا حدود” (MSF) محل اهتمام المحلّلين الأفارقة هذا الأسبوع، والتي مفادها أن “منظمة الصحة العالمية “تُقَتِّر” لقاحات إيبولا في الكونغو الديمقراطية، وتفرض ضوابط صارمة لأهلية التطعيم ولمراقبة حصول المصابين على اللقاحات، مما يعني حصول نسبة قليلة جدًّا من المصابين فقط عليها وحمايتهم من المرض المميت، وتعزيز احتمال انتشار الفيروس في المجتمعات الخالية أو المحمية منه بالتطعيم.
وفي حين نفت “منظمة الصحة العالمية” هذه التهمة قائلة: إنها تعمل بجدّ مثل أيّ منظمة أخرى لإنهاء تفشي الفيروس، فقد دعت “أطباء بلا حدود” إلى الشفافية في طريقة الوصول إلى اللقاح الذي تصنعه شركة الأدوية الأمريكية “ميرك”، وتوزعه “منظمة الصحة العالمية” أثناء الاستجابة لحالات الطوارئ التي تقودها. وتطلب “أطباء بلا حدود” توزيع اللقاح بسرعة ليصل إلى ضعف المصابين والمصابين المحتملين والمتصلين بهم أو القريبين منهم –أي ما بين 450،000 و 600،000 شخص، وذلك بناءً على عدد حالات الإصابة بالوباء حتى الآن.
جدير بالذكر أن أزمةً أخرى نشبتْ في 10 سبتمبر بين الحكومة التنزانية و”منظمة الصحة العالمية” بسبب مخاوف بشأن احتمال انتشار إيبولا في تنزانيا. فقد ذكرت المنظمة أنها حصلت على “تقارير غير رسمية” بوفاة شخص يُشتبه في أنه مصاب بإيبولا في دار السلام -أكبر مدن تنزانيا-، كما حصلت المنظمة على حالتين محتملتين. لكنَّ السلطات في تنزانيا تنفي هذه التقارير، وتؤكد عدم وجود أيّ حالة إصابة بفيروس إيبولا، وأن الحالتين المشتبه بهما أظهرتا نتيجة سلبية في مختبرها الوطني.
سوء إدارة صناديق الإيبولا:
لم يتوقف التربّح من تفشي الأوبئة على المستوى الدولي؛ إذ أفادت تقارير باستغلال مسؤولين -في عدد من الدول التي تعاني من مختلف الأوبئة- لمناصبهم بهدف جمع الثروات، وتبديد الموارد الخاصة للتصدِّي لهذه الأمراض.
وعلى سبيل المثال: احتجزت سلطات الكونغو الديمقراطية الأسبوع الماضي وزيرَ الصحة السابق “أَولِي إيلونغا”؛ بسبب اتهامات تتعلق بسوء إدارة الأموال العامة بقيمة 4.3 مليون دولار المخصَّصة لمحاربة تفشّي إيبولا في البلاد. وقد استقال “إيلونغا” من منصبه كوزير للصحة في يوليو الماضي؛ احتجاجًا على إقالته من رئاسة فريق الاستجابة لإيبولا في الكونغو الديمقراطية.
وقد نفى محامو “إيلونغا” ارتكاب موكلهم لأيّ مخالفات؛ حيث أشاروا في بيان إلى أن 1.9 مليون دولار (من 4.3 مليون دولار) تم إنفاقه بعد استقالة “إيلونغا” من منصبه، وعليه لا يمكن أن يكون مسؤولاً عن إدارة ذلك المبلغ.
ويأتي هذا الاحتجاز على خلفية تعهد الرئيس الكونغولي “فيليكس تشيسيكيدي” منذ توليه رئاسة البلاد بمحاسبة المسؤولين الذين أساؤوا استخدام إداراتهم وارتكبوا جرائم في الحكومات السابقة. كما أعرب عن التزامه بالشفافية، واحترام حقوق الإنسان ومكافحة الفساد، وضرورة تفكيك “النظام الديكتاتوري القائم” في البلاد؛ فأطلق في مارس 2019م أكثر من 700 سجين سياسي، وهي خطوة رآها البعض حيلة سياسية، بينما وصفها آخرون بخطوة إيجابية نحو بناء الثقة وتحسين العلاقات بين الحكومة والمواطنين.