نِهاد محمود
باحثة دكتوراه بكلية الدراسات الإفريقية العليا- جامعة القاهرة
مُقَدِّمَة:
مع استمرار التحولات السياسية والاجتماعية في القارة الإفريقية منذ الاستقلال وحتى اليوم، يبرز تساؤل رئيس حول مدى قدرة العلوم السياسية في إفريقيا على استيعاب هذه التغيرات، وتقديم تحليلات تعكس الواقع الإفريقي وتحدياته الفريدة.
تتعقد هذه الإشكالية في ظل هيمنة المرجعيات الغربية على حقل العلوم السياسية، ما جعل دراسة السياسة في إفريقيا محكومة بأُطُر ونماذج تفسيرية طُوِّرت بعيدًا عن سياقاتها التاريخية والاجتماعية، وتم تطبيقها على القارة دون مراعاة لخصوصياتها.
في هذا السياق يأتي كتاب “السياسة وعُلومها في إفريقيا” أو Political Science in Africa، الصادر عام 2024م، ليقدّم طرحًا نقديًّا يُعيد فتح النقاش حول ضرورة إعادة النظر في أُسُس ومناهج العلوم السياسية من منظور إفريقي، متجاوزًا المقاربات التقليدية التي صاغتها المدارس الفكرية الغربية.
يتناول الكتاب إشكالية الإرث الاستعماري في العلوم السياسية الإفريقية، والذي لا يزال يُلقي بظلاله على المناهج الأكاديمية، والأُطُر التحليلية، وآليات تمويل البحث العلمي، وما يترتب على ذلك من تحديات تُعيق بناء مدرسة فكرية إفريقية مستقلة. كما يناقش الفجوة بين البحث الأكاديمي وصُنع القرار في إفريقيا، مُسلِّطًا الضوء على العقبات التي يواجهها الباحثون الأفارقة، من ضعف التمويل، إلى القيود المفروضة على الحرية الأكاديمية، والتحديات المتعلقة بتدريس العلوم السياسية في الجامعات الإفريقية.
يسعى الكتاب، من خلال هذا الطرح، إلى تقديم رؤية معمّقة حول سُبل استعادة العلوم السياسية في إفريقيا لطابعها المحلي المستقل (لكن غير المنعزل)، بما يُسهم في تطوير مقاربات معرفية أكثر ارتباطًا بواقع القارة وتحدياتها الفعلية.
أولًا: حول كتاب “السياسة وعُلومها في إفريقيا” وأهميّته
في البداية نشير إلى أن كتاب “السياسة وعلومها في إفريقيا” يستند إلى مُخرجات مؤتمر أكاديمي عُقِدَ في العاصمة الغانية “أكرا” بين 31 أكتوبر و2 نوفمبر 2019م؛ حيث تناول المؤتمر واقع العلوم السياسية في الجامعات الإفريقية، مسلطًا الضوء على التحديات التي تواجهها، والآفاق الممكنة لتطوير هذا المجال في إفريقيا.
وانطلاقًا من ذلك، يكتسب الكتاب أهمية استثنائية في محاولته سدّ فجوة معرفية ملموسة في حقل العلوم السياسية داخل إفريقيا، ألا وهي مشكلة الاعتماد المفرط على الأدبيات الغربية في تحليل قضايا ذات خصوصية إفريقية. ويشير الكتاب إلى أن جزءًا كبيرًا من الدراسات ذات الصلة بشؤون السياسة الإفريقية تستند إلى نظريات غربيّة لا تعكس الواقع الإفريقي بدقة؛ نظرًا لاختلاف السياقات التاريخية، السياسية، والاجتماعية بين القارة الإفريقية والغرب.
استنادًا إلى هذه الإشكالية، يسعى مؤلفو الكتاب -وهم نُخْبَة من الباحثين وأعضاء هيئة التدريس بجامعات داخل وخارج إفريقيا-، إلى تقديم تحليلات وإسهامات أكاديمية تنطلق من منظور إفريقي، يأخذ بعين الاعتبار الخصوصية والسياق المحلي، ويعتمد عليها كركيزة أساسية للتحليل السياسي.
كما يلفت هذا الإسهام البحثي القَيِّم، الانتباه إلى أن هناك بالفعل بعض الإنتاجات العلمية لمتخصصين أفارقة سعوا إلى تجاوز الإطار النظري الغربي وفك الارتباط المعرفي عنه؛ إلا أن هذه الدراسات لا تزال محدودة. وعلى النقيض، تبقى الغالبية العظمى من الدراسات المتاحة في العلوم السياسية داخل الجامعات الإفريقية متأثرة بالنموذج الغربي، لا سيما الأدبيات السياسية الأمريكية، مما يُشكِّل عائقًا أمام تطوير مدرسة فكرية سياسية إفريقية مستقلة، قادرة على تقديم رؤى أكثر ارتباطًا بواقع القارة وأولوياتها.
ثانيًا: بنية الكتاب وتقسيمه
في إطار سعي هذا الكتاب إلى تحليل وتفكيك الإشكاليات النظرية والتطبيقية المرتبطة بهذا الحقل (العلوم السياسية)، سواء ما يتصل بتأثير الاستعمار على التخصص أو تحديات ما بعد الاستقلال، نشير في تقسيم فصوله إلى ما يلي:
- علم السياسة في إفريقيا: الحرية، الأهمية، والتأثير.
- علم السياسة ودراسة إفريقيا: الأُطُر النظرية والمفاهيمية.
- علم السياسة وإدارة التنمية: مسارات وتحوُّلات حاسمة في إفريقيا.
- تفكيك الهيمنة الاستعمارية في علم السياسة في إفريقيا.
- ماذا يعني التحول بعيدًا عن الاستعمار الفكري لعلم السياسة في إفريقيا؟ وكيف يمكن تحقيق ذلك؟
- علم السياسة لمَن؟: تأملات حول تدريس وتعلُّم علم السياسة في بعض الجامعات الإفريقية.
- السياسات العامة كحقل فرعي من علم السياسة في إفريقيا: التدريس، الاتجاهات البحثية، والخبرة الأكاديمية في الكاميرون.
- ما بعد الجدل الأكاديمي: دراسة الهياكل غير الرسمية التي تؤثر على السياسة المحلية في القارة.
- الإثنية والديمقراطية في إفريقيا: دراسة مقارنة بين غانا ونيجيريا.
- البحث حول النوع الاجتماعي والمرأة والسياسة في إفريقيا: المساهمات والمنجزات.
- استخدام البيانات التجريبية في البحث وتدريس علم السياسة في إفريقيا.
- علماء السياسة كمثقفين عامّين في إفريقيا: رؤى حول الأهمية.
- علماء السياسة والمثقفون ودورهم في التطور السياسي للكاميرون (1960- 2020م).
- مراجعة نقديّة للسياسة وحالة الحرية الأكاديمية في الجامعات العامة في غانا: منذ مرحلة ما قبل الاستقلال وحتى الجمهورية الرابعة.
ثالثًا: كتاب “السياسة وعلومها في إفريقيا”… أبرز الأفكار والمضامين
في هذا السياق، نستعرض أبرز الأفكار التي يطرحها مؤلفو الكتاب، متناولين إسهاماتهم في الجدل الدائر حول “أفرقة” العلوم السياسية، وإمكانات التحرُّر من الهيمنة الفكرية الغربية، وذلك على النحو التالي:
1-العلوم السياسيّة في إفريقيا… تحولات نظريّة ومسارات ناشئة
يركز هذا القسم من الكتاب على استكشاف الاتجاهات النظرية والمفاهيمية التي تحكم دراسة العلوم السياسية في إفريقيا، مشيرًا إلى أن الدراسات السياسية الإفريقية ظلت لفترة طويلة أسيرة التصورات الغربية حول السياسة والتنمية. وقد أدَّى ذلك إلى ظهور مقاربات نظرية متباينة، تتراوح بين النموذج الليبرالي التنموي والاتجاه النقدي التحرري. وفي هذا الإطار يوضحهما الكتاب على النحو التالي:
-التيار الليبرالي التنموي: ينظر إلى إفريقيا على أنها كيان يتجه نحو الحداثة في شقَّيْها السياسي والاقتصادي، وفقًا لنموذج غربي، ويفترض أن التنمية السياسية تستوجب تبنّي هياكل ومؤسسات مشابهة لتلك الموجودة في الدول الغربية.
-التيار النقدي التحرري: يرى أن القارة تعرضت للاستغلال السياسي والاقتصادي، وأن فهم دينامياتها السياسية يجب أن ينطلق من سياقاتها الداخلية، لا من نماذج خارجية مفروضة.
بالتوازي مع هذه التوجهات، شهدت الدراسات السياسية الإفريقية تحولات نظرية مهمة في العقود الأخيرة؛ حيث أصبح هناك اهتمام متزايد بقضايا مثل الديمقراطية والتعددية الحزبية، ودور المجتمع المدني في تعزيز الشفافية والمساءلة الحكومية، وتأثير الهوية والإثنية على العملية الانتخابية والصراعات السياسية، وكذلك تحليل النوع الاجتماعي ودور المرأة في السياسة الإفريقية. وتعكس هذه التحولات سعيًا نحو تطوير فهم أكثر تجذرًا في السياق الإفريقي، بعيدًا عن التفسيرات التقليدية المستوردة.
2-المعرفة في مواجهة التبعية: هل حان وقت التحرر من المركزية الغربية؟
يقترب الكتاب هنا من موضوع “محو آثار الاستعمار” أو إنهائه (Decolonization) من العلوم الاجتماعية والإنسانية، وكذلك العلوم الطبيعية، ويشير إلى أن هذا النقاش ليس بالجديد في إفريقيا، لكنه أصبح مؤخرًا أكثر ارتباطًا برغبة حقيقية في تحوُّل معرفي يحرّر القارة من الهيمنة الفكرية الغربية.
تبلور ذلك على سبيل المثال في جامعات جنوب إفريقيا، التي شهدت احتجاجات طلابية وأكاديمية واسعة خلال عامي 2015- 2016م، حول إشكالية التبعية ذاتها، مما دفَع هذا النقاش إلى صدارة الجدل العالمي حول ضرورة إصلاح التعليم العالي، ومعها إحياء النقاشات الأكاديمية حول إنهاء الاستعمار، والأفرقة، وإعادة تشكيل المعرفة الجامعية؛ حيث لم يَعُد كافيًا إدخال إصلاحات شكلية كما حدث في بعض سياقات ما بعد الاستعمار، بل أصبح من الضروري تفكيك البنى الاستعمارية العميقة التي لا تزال تُؤطّر إنتاج المعرفة وآليات نقلها عبر الأجيال.
من جهة أخرى، يشير هذا الفصل إلى أن تحرير العلوم السياسية من الهيمنة الغربية يتطلب منا ومن المنظومات الأكاديمية أكثر مما يُفترض عادةً، فالمسألة ليست مجرد مراجعة تاريخية، بل تتعلق ببنية السلطة في العالم؛ حيث عزز هذا الاستعمار النزعة “المركزية” الغربية (Western-centrism) باعتبارها الشكل الأعلى للمعرفة، ما أدَّى إلى إقصاء وإلغاء أشكال المعرفة الأخرى.
تنعكس هذه الإشكالية في عدة أبعاد داخل العلوم السياسية، منها الإطار المعرفي (Epistemology)، المناهج البحثية (Methodologies)، أساليب التدريس (Pedagogy)، والأرشيف الأكاديمي الذي يُشكِّل القاعدة الفكرية لهذا التخصص. لذا، يرى هذا القسم من الكتاب، أن التحول الجذري في العلوم السياسية لن يتحقق إلا من خلال إعادة تشكيل هذه العناصر الأساسية (سالفة البيان). وفي هذا السياق، يقترح الفصل تدابير يمكن تبنّيها في ثلاثة اتجاهات رئيسية، للتحرُّر معرفيًّا من هيمنة المركزية الغربية:
-تموضع الباحث في العلوم السياسية: بمعنى إدراك الباحث لموقفه المعرفي والمنهجي الذي يتبنَّاه أثناء تحليله.
-إعادة النظر في الأسس الكلاسيكية المؤسِّسَة للعلوم السياسية: وتقييمها من منظور غير استعماري.
-إصلاح المناهج البحثية وأساليب التدريس: وهو مجال يحتاج إلى نقاش موسّع ومعالجة معمقة تتجاوز حدود هذا الكتاب.
في ختام هذا الفصل، يُشدد على ضرورة التحرُّر من الإرث الاستعماري في العلوم السياسية، وضرورة استكشاف المسارات المتاحة لتحقيق ذلك، والتي لا تزال إلى حد كبير غير مُستغلَّة بالشكل الكافي. ورغم التحديات، يبقى من الضروري الإسهام، ولو بجهد متواضع، في هذا المسعى الفكري الحيوي.
3-نحو علوم سياسية (إفريقية): الأفرقة كمدخل للتحرر الفكري
يُسلّط الكتاب هنا الضوء على إشكالية شديدة الأهمية تتصل بغياب كِبار المفكرين والباحثين الأفارقة من قائمة رواد ومؤسسي العلوم السياسية؛ حيث تُهيمن أسماء مثل أفلاطون، أرسطو، ماكس فيبر، كارل ماركس، وديفيد إيستون، إلى جانب العديد من المفكرين الأمريكيين، على المشهد الأكاديمي. كما تغيب الأعمال الكلاسيكية الإفريقية عن قائمة النصوص المُؤسِّسة لهذا المجال، والتي تشمل كتبًا مثل “الجمهورية” لأفلاطون، “الأمير” لميكافيلي، و”البيان الشيوعي” لماركس.
أدّى هذا التهميش إلى بروز آراء ترى أن العلوم السياسية هي تخصص غربي بالأساس، مما يثير تساؤلًا مهمًّا: هل يجعل ذلك من العلوم السياسية مجالًا أقل قيمة أو أقل جدارة بالدراسة في السياق الإفريقي؟ يُشكّل هذا التساؤل مرتكزًا للعديد من النقاشات الأكاديمية الحادة؛ حيث يتفق معظم الباحثين على أهمية دراسة العلوم السياسية، لكنهم يشددون على أن قيمة هذا التخصص ستزداد إذا ما تم إثراؤه بالمحتوى الإفريقي؛ بحيث يعكس واقع القارة وتجاربها السياسية الاستثنائية.
من هنا، تظهر الحاجة إلى تفكيك التبعية الغربية في التخصصات الأكاديمية، ليس لمجرد التخلص من الهيمنة الاستعمارية كغاية في حد ذاتها، وإنما لأن الأطر المعرفية الغربية أثبتت محدوديتها وعدم قدرتها على تقديم تفسير شامل لجميع التجارب السياسية، فالتجربة الغربية لا تمثل جميع المجتمعات، وبالتالي فإن الحل لا يكمن في إنشاء “علوم سياسية إفريقية” منفصلة، بل في دمج المحتوى الإفريقي داخل العلوم السياسية، ليصبح المجال أكثر شمولًا وقدرة على تمثيل التنوع السياسي والمعرفي في العالم.
4-الجامعات الإفريقيّة في مواجهة السُّلطة: هل الاستقلال الأكاديمي مجرد وهم؟ (غانا نموذجًا)
في هذا القسم، يتناول الكتاب إشكالية أخرى تتصل بالحرية الأكاديمية في إفريقيا ومدى تحققها، باعتبارها إحدى الركائز الأساسية لاستقلال المؤسسات التعليمية وجودة البحث العلمي. في البداية، يُعرِّف الحرية الأكاديمية بأنها المساحة التي تُمنَح للمجتمع الأكاديمي لممارسة البحث العلمي وإنتاج المعرفة وتطبيق نتائجها لخدمة مجتمعه وتنميته، على أن تتم هذه الأنشطة دون قيود أو تهديدات من الحكومة أو غيرها من مراكز النفوذ، مع الالتزام بالإطار العام للنظام القانوني والمجتمعي.
يقوم هذا التعريف على ثلاثة مبادئ أساسية تُشكّل أركان الحرية الأكاديمية، وهي:
-الاستقلال المؤسسي والحكم الذاتي: أي قدرة الجامعات على اتخاذ قراراتها بمعزل عن التدخلات الخارجية.
-الحقوق والحريات الفردية: التي تشمل أساتذة الجامعات والطلاب، وتمكنهم من البحث والتعبير بحرية.
-ضمان استقرار الوظيفة الأكاديمية: بما يحفظ استقلالية البحث العلمي ويمنع تعرض الأكاديميين لضغوط سياسية أو اقتصادية.
استنادًا لذلك، فإن الحرية الأكاديمية المكفولة وفقًا للمعايير المذكورة أعلاه، تُعدّ مؤشرًا رئيسيًّا على صحة البيئة البحثية في المجتمع، كما أنها تعكس مستوى القِيَم الديمقراطية والسياسية والثقافية داخل المجتمع الأوسع. فكلما كانت الدولة أكثر ديمقراطية، زاد مستوى احترامها للحرية الأكاديمية، والعكس صحيح.
على الرغم من أهمية الحرية الأكاديمية، فإنها تواجه في إفريقيا تهديدات متزايدة، يتخذ الكتاب تجربة غانا نموذجًا لهذا الصراع. ويشير إلى أبرز التحديات التي واجهتها الحرية الأكاديمية في غانا، وهو “مشروع قانون الجامعات العامة” لعام 2018م (Public University Bill – PUB)، والذي اعتُبر محاولة خطيرة لإحكام السيطرة الحكومية على الجامعات وتقليص استقلالها.
نتيجة لذلك واجَه هذا القانون مقاومة شديدة من المجتمع الأكاديمي في غانا، مما حال دون إقراره رسميًّا، لكن لا تزال هناك مخاوف من إعادة طرحه في المستقبل بصِيَغ جديدة. ويكشف هذا التحليل عن العلاقة المتوترة بين الحرية الأكاديمية والنظام السياسي في غانا؛ حيث أدت التدخلات الحكومية المتكررة إلى تآكل استقلال الجامعات، مما جعلها أكثر خضوعًا لقرارات مركزية.
جدير بالإشارة أن هذا التوجُّه في سياسات الحكومة بغانا تجاه الجامعات لم يكن الأول، فخلال الثمانينيات والتسعينيات تأثرت الجامعات في البلاد بإملاءات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي في إطار برامج التكيف الهيكلي، وبناء عليه فرضت الدولة تدابير تقشفية صارمة، مما أثَّر على تمويل الجامعات الغانيّة، وقلَّص استقلالها الأكاديمي، بل وحوّل بعضها إلى أدوات سياسية تخضع لأولويات الدولة بدلًا من أن تكون مؤسسات مستقلة للبحث العلمي والتطوير الفكري.
رابعًا: رؤية نقديّة لكتاب “السياسة وعلومها في إفريقيا”
على الرغم من المساهمة البحثية الجادة التي يُقدّمها هذا الكتاب، وأهميته في مناقشة واقع العلوم السياسية في إفريقيا؛ إلا أن قراءتنا له تكشف عن بعض المآخذ التي تستدعي التوقف عندها، مع التأكيد أنها لا تقلل من إسهامه المهم في تقييم موقع العلوم السياسية ومستقبل البحث السياسي في القارة. ونذكر من هذه التحفظات ما يلي:
1- غياب البدائل التحليلية: رغم دعوة الكتاب إلى تجاوز الأطر الفكرية الغربية؛ إلا أنه لم يقدم إطارًا معرفيًّا بديلًا يمكن أن يُشكِّل مرجعًا للباحثين الأفارقة. كان من الضروري تضمين نماذج بحثية محلية أو اقتراح نظريات تتماشى مع الواقع الإفريقي، بدلًا من الاكتفاء بالإشارة إلى أن التغيير المطلوب (كالتغيير في المناهج الدراسية والاقترابات النظرية وأساليب التدريس) يتجاوز نطاق الكتاب.
2- التركيز على بعض المشكلات دون حلول عملية: استعرض الكتاب عددًا من التحديات داخل المؤسسات العلمية الإفريقية التي تواجه العلوم السياسية في إفريقيا، لكنه افتقر إلى تحليل معمّق لسبل تجاوزها، ما أدّى إلى طغيان عرض الإشكالية على تقديم حلول ملموسة لها.
3- اختلال في التوازن الجغرافي: رغم تركيز الكتاب على سياق إفريقي كامل، إلا أنه منَح بعض الدول اهتمامًا أكبر من غيرها، كما تكرر بعضها أكثر من مرة، فيما لم تُذكر دول أخرى من الأساس، ما جعل تحليله غير شامل للقارة وأقاليمها ككل.
4- الإطالة والتكرار: بالَغ الكتاب في الحديث عن ضرورة فك الارتباط بالمرجعيات المعرفية الغربية، حتى تحوَّل النقاش من نقد معرفي إلى خطاب أيديولوجي. وبدلًا من التركيز على آليات تحقيق الاستقلالية عمل على ذكر وتكرار المشكلة ذاتها.
خاتمة… (كفى استلابًا معرفيًّا!… نحو ثورة فِكريّة في العلوم السياسيّة الإفريقيّة):
من خلال قراءة كتاب “السياسة وعلومها في إفريقيا”، يتضح ما يثيره من نقاش مُهِمّ حول موقع العلوم السياسية في القارة ضمن المشهد الأكاديمي العالمي، وإمكانية تطوير مناهج تحليلية محلية بديلة للنماذج الغربية. ومع ذلك، تظل التساؤلات قائمة حول مدى واقعية هذه الطروحات، وإمكانية تنفيذها فعليًّا، في ظل تحديات مؤسسية وهيكلية قد تُعيق تحقيق استقلالية أكاديمية حقيقية، وما إذا كانت هناك إرادة جادَّة لإحداث نقلة نوعية وإعادة هيكلة جذرية في المناهج الدراسية وأساليب تدريسها ومؤسسات البحث العلمي الإفريقية ككل.
ينقلنا هذا النقاش إلى إشكال مُهم حول مدى قدرة العلوم السياسية على التأثير في صياغة السياسات العامة داخل إفريقيا، وهو دور لا يزال يعاني من التهميش الشديد. يعود ذلك إلى عوائق مؤسسية وبنيوية تَحُدّ من انخراط الباحثين في دوائر صُنع القرار، وتتفاقم هذه العوائق بفعل الغياب شبه الكلي للوعي بأهمية البحث العلمي عمومًا، والبحث السياسي خصوصًا، لا سيما في الأنظمة التي تعاني من انغلاق سياسي، وتسعى إلى تحييد المعرفة الأكاديمية عن عملية الحكم بشكل ممنهج. ونتيجة لذلك، تبقى العلوم السياسية في موقع هامشي، بعيدًا عن مراكز النفوذ والتأثير، إن لم تكن غائبة تمامًا في العديد من الدول الإفريقية.
بشكل عام، يُشكّل هذا الإسهام البحثي إضافةً نوعية إلى النقاش الدائر حول مكانة العلوم السياسية في إفريقيا، ويمتد ليشمل تساؤلات أعمق حول مستقبل العلوم الاجتماعية والطبيعية في القارة. كما يفتح آفاقًا جديدة أمام الباحثين والمعنيين بالشأن الإفريقي، خصوصًا في المجال السياسي، لتعزيز الإنتاج الأكاديمي من خلال مقاربات تحليلية مستمدة من الواقع الإفريقي ذاته، بعيدًا عن الاعتماد الحصري على النماذج الغربية في تفسير الظواهر السياسية والاجتماعية للقارة.
ختامًا، تفرض الضرورة المُلحّة تطوير منظور معرفي إفريقي مُستقل، يستند إلى بحث أكاديمي حُرّ وغير مقيّد، بما يُتيح إنتاج معرفة تعكس واقع القارة بموضوعية. كما أن تمكين العلوم السياسية من مواكبة التحولات السياسية والاجتماعية في إفريقيا يُعدّ ركيزة أساسية لاستدامة هذا المجال وتعزيز قدرته على تقديم رؤى تحليلية عميقة. ولتحقيق ذلك، لا بد من تجاوز الهيمنة النظرية للمركزية الغربية، والسعي نحو تأسيس مرجعية معرفية نابعة من السياق الإفريقي، أكثر تماسكًا وارتباطًا باحتياجات القارة الراهنة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مصدر الكتاب:
Liisa Laakso and Siphamandla Zondi (Eds.), Political Science in Africa Freedom, Relevance, Impact, (Uppsala: The Nordica Africa Institute, 2024).