تأليف: شوبي إيشيمو Shubi Ishemo
ترجمة: د/ آيات عبد الرحيم سيد عبد الرحمن
دكتوراه في الفلسفة السياسية
كتابان حديثان من تأليف باسل ديفيدسون يُشكّلان ملخصًا ومنظورًا لعمله في إفريقيا، ويمكن القول: إن العمل بأكمله لا مثيل له باعتباره مساهمة في قضية التحرير الإفريقي، واستعادة الصوت الإفريقي في التاريخ. ويقوم هذا الاستعراض بتقييم تاريخ التحرير عند ديفيدسون وتقييمه للمشكلات المركزية للقومية والدولة القومية في التنمية المعاصرة. وهذان الكتابان هما:
1-عبء الرجل الأسود: إفريقيا ولعنة الدولة القومية، تأليف باسل ديفيدسون، لندن: جيمس كاري؛ نيويورك: “”Times Books 1992م، ص 355، 9.95 جنيه إسترليني غلاف (ISBN 0-85255-700-0).
2-البحث عن إفريقيا: تاريخ في طور الصنع، تأليف باسل ديفيدسون، لندن: جيمس كاري، 1994، الصفحات 373، 11.95 جنيه إسترليني، غلاف ورقي (ISBN 0-85255-714-0).
بالطبع يُعدّ باسل ديفيدسون مؤرخًا غربيًّا لا مثيل له في تاريخ إفريقيا. فقد أصدر منذ عام 1952م، 30 كتابًا عن إفريقيا (See, Race and Class, vol. 36, No. 2, 1994, PP. 105-6)، ناهيك عن العديد من المقالات في المجلات الأكاديمية والدوريات واسعة الانتشار.
وبالإضافة إلى أحدث كتابين (واللذين يتصادف إصدارهما مع عيد ميلاده الثمانين)، فإن مساهمته لا تتمثل فقط في الدراسات المتعلقة بإفريقيا، ولكن أيضًا في التزامه وتضامنه مع تحريرها. وبهذه الطريقة، اضطلع بدور الباحث-الناشط، وهو دور لا يستطيع سوى قلة في الغرب القيام به.
كما يعكس الكتابان الأخيران ارتباطه الوثيق وتضامنه مع تحرير إفريقيا، ويكمل بعضهما البعض في هذا الشأن. ومن الأفضل قراءة هذه الأعمال كعمل واحد؛ لأنها تحتوي على إشارات ذاتية مستمرة تشير إلى اهتمامه بإفريقيا وتجربته فيها، وكمقاتل في صفوف الثوار خلال الحرب ضد الفاشية في يوغوسلافيا خلال الحرب العالمية الثانية.
إن نضاله الدؤوب ضد المناهج الأوروبية المركزية والعنصرية في دراسة إفريقيا، وتساؤلاته العميقة والصادقة حول الأسباب والحلول الممكنة للأزمة المعاصرة في إفريقيا، كلها واضحة في جميع أنحاء كتابه.
إنه يتعامل مع هذه القضايا بشكل نقدي، بشغف داخلي وسعة اطلاع كبيرة، وأسلوبه هو أسلوب رجل كبير في السن يروي قصة بجانب الموقد، ويستحضر باستمرار الأسلاف، ويستخلص الدروس بشكل نقدي لتطبيقها على الحقائق الملموسة في الوقت الحاضر. وهو يتأمل كيف أنه بالصدفة في عام 1941م، عند رؤية جدران كانو، قد أصبح مفتونًا بإفريقيا (1992م: ص7)، وكيف ظلت تلك الرؤى معه أثناء زيارته الدراسية إلى جنوب إفريقيا عام 1951م. يتذكر إفريقيا قائلاً: “أخذتني بقوة من يدي، وحتى الآن (يسعدني أن أقول ذلك)، لم تتركني مرة أخرى”. (1994م: ص97).
يقول: “يُشكّل كتاب “عبء الرجل الأسود” ذكريات، ونسيجًا لأفكاره، كـ”ملخص ومنظور” كما يكتب لأيّ حكمة جمعتهالال هذه السنوات الأربعين من الدراسات الإفريقية؛ وبهذا المعنى، وهو أمر مهم بالنسبة لي، تقدم هذه الصفحات استنتاجات العمر” (1992م: ص8).
كما أن كتاب “البحث عن إفريقيا” هو مجموعة من المقالات التي كانت متناثرة سابقًا في مجلات متنوعة، والتي جُمعت الآن مكتملة في كتاب واحد. وهو عبارة عن مقالات تربط بين التاريخ والمناقشات حول الأزمات الإفريقية المعاصرة. ويتساءل: ما الخطأ الذي حدث في إفريقيا ما بعد الاستعمار؟ وكيف نفسّر ذلك؟ وما الذي تسبَّب في التدهور الاقتصادي والاجتماعي؟ ومن الصعب حقًّا محاولة استقراء هذا من المجلدين المكتظين دون تجنُّب مخاطر التحريف والتفسير الخاطئ.
ويسارع باسل ديفيدسون إلى إدراك أنه من التبسيط إلقاء اللوم على الأخطاء/الإخفاقات البشرية. ففي النهاية، لا يوجد مجتمع بشري مُحصَّن من ذلك. إنه يدرك صعوبات تحليل الأزمة في إفريقيا، لكن حجته، التي ترتكز بقوة على التفسير التاريخي، مقدمة بشغف ومتسقة للغاية.
ويجادل بأن الأزمة في إفريقيا هي أزمة مؤسسات (اجتماعية وسياسية)؛ هذه هي نتيجة القومية التي أدَّت إلى ظهور الدولة القومية. فهو يكتب عن الدولة القومية: “بدا الأمر وكأنه تحرير، وبدأ بالفعل كتحرير. لكنّه لم يستمر كتحرير. من الناحية العملية، لم يكن ذلك بمثابة استعادة لتاريخ إفريقيا نفسه، بل بداية فترة جديدة من الخضوع غير المباشر لتاريخ أوروبا. أصبحت الدول الخمسون أو نحو ذلك من التقسيم الاستعماري، والتي تكونت وحكمت كل منها كما لو أن شعوبها لا تمتلك تاريخًا خاصًّا بها، أصبحت خمسين دولة أو نحو ذلك من الدول القومية تكونت وحكمت على النماذج الأوروبية، وخاصة نماذج بريطانيا وفرنسا. وهكذا أنتج التحرير إنكاره لذاته. أدى التحرير إلى الاغتراب” (1992م: ص10).
لا يرفض ديفيدسون التحرير، لقد كان نضالًا. لكن الدولة القومية كانت فرضًا استعماريًّا ذا جذور سطحية في تاريخ إفريقيا نفسه. يصبح البحث التاريخي أمرًا ضروريًّا إذا أردنا فهم الحقائق الحالية. في خطابه أمام المؤتمر الثلاثي للقارات الأول لشعوب آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية، الذي عُقِدَ في هافانا عام 1966م، قيَّم أميلكار كابرال الاتجاه الخاطئ الذي اتخذته بعض حركات التحرير: “إن النقص الأيديولوجي، ناهيك عن الافتقار التام للأيديولوجيا، داخل حركات التحرير الوطني، والذي يرجع أساسًا إلى الجهل بالواقع التاريخي الذي تدّعي هذه الحركات تغييره، يُشكّل أحد أكبر نقاط الضعف في نضالنا ضد الإمبريالية، إن لم يكن أكبر نقاط الضعف على الإطلاق (تأكيدي) (1973م: ص75).
من المفيد الاعتماد على تحليل كابرال؛ لأنه يوفر لنا معيارًا لفهم أفكار ديفيدسون. بالنسبة لكابرال، من المهم فهم “التناقضات الداخلية في الواقع الاقتصادي والاجتماعي والثقافي، (وبالتالي التاريخي) لبلداننا”. وتابع قائلًا: إن أيّ ثورة وطنية أو اجتماعية لا تستند إلى معرفة هذا الواقع الأساسي، مُعرَّضة لخطر الحكم عليها بالفشل” (1973م: ص74). وجادل بشدة ضد التبني غير النقدي للنماذج، “مهما كانت جيدة وجذابة” دون معرفة شاملة بخصائصها الداخلية. وعلى الرغم من أنه لا يمكن تجاهل العوامل الخارجية، “سواء كانت مواتية أو غير مواتية”، إلا أن التحرير كان نتيجة تراكمية لعمل محلي ووطني، الذي تحدَّد وتشكَّل بالأساس من خلال الواقع التاريخي لكل شعب، من خلال التغلب على التناقضات الداخلية بين الفئات المختلفة التي تميز هذا الواقع أو حلها بشكل صحيح (1973م: (74-5.
استعادة التاريخ الإفريقي:
بالنسبة لكابرال، ادعى المستعمرون أن إفريقيا ليس لها تاريخ. لقد سلبوا الشعب الإفريقي من تاريخه، “ليتبعوه، من الخلف مباشرة، ليتبعوا تقدُّم تاريخهم”. لذلك، شكَّل التحرير الوطني “عودة إلى تاريخنا، على أقدامنا، بوسائلنا الخاصة ومن خلال تضحياتنا الخاصة” (1973م: ص63).
يركز نهج ديفيدسون في دراسة التاريخ الإفريقي على تحرير ذلك التاريخ من المناهج الأوروبية المركزية والعنصرية. فالشعوب الإفريقية، مثل غيرها من الشعوب في أيّ مكان آخر، صنعت تاريخها الخاص، ويجب دراسته في إطار خصائصه الداخلية. لذلك، يرفض ديفيدسون التقسيم الزمني الأوروبي المركزي، مع إقراره بتعقيد هذه المهمة. ويقترح البدء من السياقات المحلية والإقليمية لبناء إطار قاري. ويتخلى عن التحديدات التعسفية بين التاريخ، و”ما قبل التاريخ”، والأنثروبولوجيا الاجتماعية والتاريخ، وذلك للوصول إلى فهم هادف لعلاقة المجتمعات الإفريقية نفسها بين الماضي والحاضر والمستقبل، أي “المجتمع الحقيقي واستمرارية [البشرية] ضمن حالتها الثلاثية: السلف، والبشرية على قيد الحياة، والطفل الذي لم يُولَد بعد” (1994:66; For his attempt at periodising African history, see PP. 69-78 and (1992:77.
ويؤكد ديفيدسون بشدة على الإنجازات التاريخية للمجتمعات الإفريقية في حلّ مشاكلها الخاصة وخلق حضارات من الداخل ساهمت في الحضارات الإنسانية. لم تكن حضارات النوبة وكوش ودلتا النيل على أطراف إفريقيا، بل كانت في قلب إفريقيا (1994م: 20- 21). في مراجعة لكتاب مارتن بيرنال “أثينا السوداء”، يوضح بالتفصيل مساهمات حضارات النيل القديمة في حضارة اليونان القديمة (في مجالات الرياضيات والعمارة والدين والفلسفة)؛ التي يُحبّ مُروّجو النموذج الآري الأوروبيون تسميتها سلف الحضارة الأوروبية (1994م: 318- 333).
كانت إنجازات إفريقيا ومكوناتها التكنولوجية بارزة، مثل تصنيع الحديد (فقد سبق العصر الحديدي في إفريقيا عصر أوروبا بألف عام)، وكذا في التقنيات الزراعية، وما إلى ذلك، بالنظر إلى الظروف البيئية المعادية (1994م: 53- 54). بالنسبة لديفيدسون، كان العصر الحديدي في إفريقيا، الممتد من حوالي 500 قبل الميلاد وحتى القرن التاسع عشر، الفترة المركزية للتنمية الإفريقية. لم تكن مجرد “فترة أكملت فيها الشعوب الإفريقية سيطرتها على قارتها في عصر ما قبل الصناعة” (1992م: 77- 78)، بل كانت أيضًا فترة اتسمت بالصراعات الاجتماعية وما تضمنتها من (احتكاكات) و(خلافات) واستبعاد صاحبه طلب العمالة القابلة للاستغلال [والحرب] بعد انتهاء العصر الحديدي، وهذا بلا شك حدث في وقت مبكر من حياته، وخلال عصره الذهبي” (1992م: ص79).
في إطار هذه الأسس المادية الواسعة، ظهرت المؤسسات السياسية والاجتماعية، وتجلت في الممالك. كانت ممالك غانا ومالي وسونغهاي وبنين والهاوسا في غرب إفريقيا، ودولتي كيلوا ومومباسا الساحليتين في شرق إفريقيا، وممالك زيمبابوي المتعاقبة، من بين ممالك أخرى، “أبناء تاريخ [إفريقيا] نفسه، لكن أصولها وطبيعتها تشترك في العديد من الخصائص مع ممالك في أماكن أخرى” من العالم.
يضع ديفيدسون تطوُّر هذه الممالك ضمن الإنتاج المادي الموسع، والتبادل الإقليمي، والتجارة بين القارات. ويشير إلى أنه خلال أواخر العصور الوسطى، ساهمت تجارة غرب إفريقيا في الذهب مع جنوب أوروبا في تطور الرأسمالية في “دول المدن” مثل جنوة والبندقية وفلورنسا. ويكتب أن ذلك كان “نتيجة أخرى، وإن كانت غير مباشرة، لإنجازات إفريقيا، وعمال المناجم ورواد الأعمال في إفريقيا”. ارتبط أولئك الموجودون على الساحل الشرقي لإفريقيا بالتجارة مع آسيا وحتى شرق الصين (1994م: ص34).
يسعى ديفيدسون في دراسته لمملكة أشانتي إلى تفصيل التطور والتوسع للدولة الإمبراطورية ما قبل الاستعمارية، وأسسها المادية ومؤسساتها السياسية والاجتماعية والروحية التي وفَّرت ضوابط وتوازنات ضدّ الاستبداد وسهلت “الاعتراف بعلاقات الالتزام والاحترام المتبادل” على نطاق أوسع. وقد ضمنت هذه المؤسسات تفويض السلطة و”نظام المشاركة” (1992م: 54- 62). ويكتشف ديفيدسون بعض المحتوى الديمقراطي في المؤسسات الروحية الإفريقية. ويرى أنها بشكل صحيح، جزء لا يتجزأ من سيادة القانون، وتؤدي وظيفة وضع قواعد للسلوك الاجتماعي المقبول. ويؤكد أن هذه المؤسسات كانت مشتركة لأنها مستمدة من الخبرة والتجربة في وضع بيئي واجتماعي معين، لكنها تحولت إلى أسطورة، وبالتالي مُنحت قوة إلزامية من خلال إسنادها إلى قوى الأسلاف، وبالتالي القوى الروحية، استمدت سلطتها بدورها من الله (1992م: ص86).
ويشير إلى أن السلطة، وآليات مساءلتها، استندت إلى هذه الأسس الروحية التي كانت، في حدّ ذاتها، تجسيدًا للعلاقات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. وعلى الرغم من أن هذه الدول ما قبل الاستعمار كانت توسعية، إلا أنّ العناصر الحاكمة الأساسية تجنَّبت القومية. لقد حكموا مجموعات عرقية أخرى من خلال فرض الضرائب والإتاوات، وتركوا الأمر عند هذا الحد. وقد نجت الهويات العرقية من هذا على ما يبدو على النقيض من الدولة القومية في فترة ما بعد الاستعمار. كانت لدى مجتمعات ما قبل الاستعمار تناقضات، لكنها طورت أنظمة قادرة على “التكيف الذاتي حتى في لحظات الكارثة” (1992م: ص62) في إطار الثقافة (الثقافات) الإفريقية.
ويؤكد ديفيدسون أن بعض الدول ما قبل الاستعمار قد طورت عشية الاحتلال الإمبريالي، إمكانات التنمية الرأسمالية الإفريقية. وقد أظهر بعضها، مثل بنين لعدة قرون سابقة هذه الإمكانية، يرى في دولة إمبراطورية أشانتي، ومملكة جاجا في أوبوبو، تطورًا في بنية اجتماعية وتأسيسًا لإصلاحات حملت معها إمكانيات التطور الرأسمالي على غرار اليابان في عهد ميجي (1992م: ص68)، بل وحتى إمكانيات نظام “رأسمالي ليبرالي” تقوده طبقة التجار (1992م: ص76).
في المقابل، رفض كولين هذا الافتراض رفضًا قاطعًا وغير مبرر، واصفًا إياه بأنه “غير معقول”؛ فاليابان، على عكس أشانتي، كانت أقوى من أن تتحمل التعدي الغربي. و”يجادل بأن السبب الرئيسي لضعف الدول الإفريقية ما قبل الاستعمار في مواجهة رأس المال الخارجي والإمبريالية هو التخلف الشديد لاقتصاداتها” (1994م: 37- 38). إلا أن اقتراح ديفيدسون يتمتع بأهمية كبيرة لاستناده الملموس على حقائق تاريخية إفريقية. ما يمكن استنتاجه من اقتراح ديفيدسون هو أن أشانتي، على غرار اليابان في عهد ميجي، قد طوّرت إطارًا مؤسسيًّا وثقافيًّا قادرًا على تكييف التكنولوجيا والأفكار الأجنبية مع الظروف المحلية، وتحفيز التراكم والابتكار واستدامتهما. إن عدم فهم ذلك يعني الوقوع في فخّ المركزية الأوروبية التي يُحذّر منها ديفيدسون.
يقدم ديفيدسون تحليلًا موثقًا جيدًا يُظهر مجتمعات، على الرغم من ويلات تجارة الرقيق، قد طورت وما زالت تُطوّر مؤسسات اجتماعية واقتصادية وسياسية بشروطها الخاصة. مزقت الإمبريالية تلك العمليات الداخلية وحرمت المجتمعات الإفريقية من حرية التنمية الذاتية. في الواقع، يجادل ديفيدسون، محقًّا، بأن المشروع الإمبريالي حمل معه جهازًا أيديولوجيًّا عنصريًّا كان يرفض المؤسسات والتاريخ والثقافة الإفريقية. ويحدد أصول العنصرية في بداية تجارة الرقيق عبر المحيط الأطلسي (1994م: 57، 319، 342).
القومية والدولة القومية:
يؤكد ديفيدسون أن القومية الإفريقية في الفترة الاستعمارية كانت على غرار القومية الأوروبية. وينتقل من جانب البحر الأبيض المتوسط إلى الجانب الآخر، من إيطاليا وأوروبا الشرقية وبريطانيا إلى إفريقيا في تحليل مثير للإعجاب للقومية والدولة القومية. يرى القومية كمخلوق شبيه بجانوس “يطالب بالحرية من جانب وينكرها من الجانب الآخر”. ونتيجة لذلك، فإن العديد من مكونات هذه الدول القومية “توقفت عن العيش ضمن تاريخها الخاص وعانت من اغتراب حاد” (1992م: ص14).
خانت الدولة القومية الفقراء الكادحين، وعززت مصالح “الطبقات الوسطى”. وعملت الحدود الوطنية، التي دافعت عنها “الطبقات الوسطى”، كاحتواء لحماية تلك المصالح القطاعية. لم تُؤدِّ الدول القومية إلى السلام الدولي بل إلى الصراع والمآسي.
يلاحظ ديفيدسون أن أيديولوجية الدولة القومية بدأت في غرب إفريقيا، وخاصةً بين العبيد المحررين الذين أُعيد توطينهم وأحفادهم في فريتاون خلال ستينيات القرن التاسع عشر، وفي كيب كوست في غانا، وانتقلت عن طريق السارو والأكو إلى نيجيريا. لقد كان هؤلاء برجوازيين صغارًا منعزلين ثقافيًّا عن السكان المحليين، الذين نصبوا أنفسهم “بالمحدثين”، ورأوا في أوروبا نموذجًا “للتقدم” في إفريقيا.
لقد رفضوا واحتقروا الماضي الإفريقي ومؤسساته، وسعوا إلى تحرير إفريقيا “من خلال عزل إفريقيا عن نفسها”. قام البعض، مثل الليبراليين الأمريكيين، ببناء “أُمَّة غير إفريقية” قائمة على “سيناريوهات وحلول مستوردة” والتي في ثمانينيات القرن العشرين، “ستنتج مشاهد من البربرية غير المسبوقة”. كانت عواقب هذا الاغتراب غير متوقعة في القرن التاسع عشر. (1992م: 28- 44).
من جهة أخرى، يُحدّد ديفيدسون نوعين متنافسين من القوميين: “القوميون القدامى” الذين ناضلوا من أجل استعادة مؤسسات ما قبل الاستعمار، و”القوميون الجدد” الذين رأوا في مؤسسات ما قبل الاستعمار نفيًا لـ”التقدم”. تبنَّى هذا النوع الأخير نموذج الدولة القومية الأوروبية ومؤسساتها وحدودها الاستعمارية المصطنعة من أجل الهروب من الحكم الاستعماري، لكنهم نجحوا بذلك في “نزع سلاح قوى الأسلاف المعادية”. كانت الدولة القومية “آخر منحة من أوروبا لإفريقيا”. ولكن مثل النضالات القومية في أوروبا، اعتمدت النجاح على دعم الفقراء الكادحين (الفلاحين والعمال). ديفيدسون مُحِقّ في التأكيد على الطابع المزدوج للنضال الذي يمثل مصالح مكونيه الاجتماعيين. بالنسبة لـ”الطبقات الوسطى”، كان نضالًا وطنيًّا، بينما كان اجتماعيًّا بالنسبة للفقراء الكادحين.
إن المسألة الاجتماعية -أي قدرة الدولة على إحداث التنمية الاقتصادية والاجتماعية ورفع المستوى المعيشي للشعب، هي التي كانت محور أزمة الدولة القومية في إفريقيا. هذه الأزمة، كما أشار نزونغولا-نتالاجا، هي مهمة للطابع الاجتماعي أو الطبقي للدولة نفسها. يعكس الطابع الاجتماعي للدولة طبيعة مجموعتها القيادية ومصالحها الموضوعية وقيمها”. تحافظ هذه القيادة على امتيازاتها “بدلاً من تغيير الدولة والمجتمع من حولها” (1987م: ص73). لقد كان لأيديولوجية الدولة القومية التي دافعت عنها قيادة ما بعد الاستعمار بقوة تأثير في تقويض العملية الديمقراطية التي تُعدّ في حد ذاتها عنصرًا مهمًا في المسألة الاجتماعية.
يؤكد ديفيدسون على النقطة المذكورة أعلاه، ويجادل بأن التبني غير النقدي للنموذج المؤسسي الغربي، وفي بعض الحالات النموذج “الاشتراكي”، مع آثاره الاجتماعية والاقتصادية والسياسية اللاحقة، يدل على نقص في التحليل الكافي للواقع.
ويشير إلى دور القوى الغربية والمؤسسات المالية الدولية في فرض وصفات غير عملية متخفية في صورة “إصلاحات” اقتصادية وسياسية. سواء كان هناك حكم حزب واحد أو حكم متعدد الأحزاب، أدّى استخدام جهاز الدولة للتراكم إلى تهميش الطبقة العاملة بشكل متزايد، ومنذ سبعينيات القرن العشرين، ساءت مستوياتهم المادية. وظهر الاقتصاد الموازي (غير القانوني)، وهو في حد ذاته مظهر من مظاهر التناقضات بين الأغنياء والفقراء، وتحدى في كثير من الحالات الحدود الوطنية. تسبب الإفقار الاقتصادي في تدهور بيئي واسع النطاق تفاقم بسبب الحروب الأهلية (1992م: 199- 215).
في خضم كلّ هذا، قُوبِلَت تجربة إفريقيا التاريخية وابتكاراتها في حلّ مشكلات الإنتاج المادي، وخاصةً في الزراعة، برفضٍ ازدرائيّ من جانب أولئك الذين دافعوا عن “التحديث” السريع في كلٍّ من الفترتين الاستعمارية وما بعد الاستعمارية. في نظر الطبقة العاملة، فقدت الدولة شرعيتها. وهذا يُفسِّر القمع، وصعود “القراصنة” إلى السلطة، والتشرذم الاجتماعي، والعودة إلى “شركات القرابة”. في بعض البلدان مثل زائير وليبيريا، لم تعد الدولة موجودة.
ويؤكد أن الرأسمالية ما بعد الاستعمارية ونموذجها الإصلاحي، بالإضافة إلى النماذج “الاشتراكية” المستعارة أو المقتبسة من أماكن أخرى، قد خذلت إفريقيا.
إذن ما هو البديل؟ يسأل: “لماذا نتبنَّى نماذج من تلك البلدان أو الأنظمة ذاتها التي اضطهدتكم واحتقرتكم؟ لماذا لا نُحدِّث أنفسنا انطلاقًا من نماذج تاريخنا الخاص، أو نخترع نماذج جديدة؟”؛ إنه يدرك أنه لا يوجد طريق واضح للهروب. لكنّه يدعو إلى حلّ المشكلات المعاصرة “ضمن إطار تاريخي، إطار تاريخي محلي، بغض النظر عن المساهمات التي قد يُقدّمها العالم الخارجي… (1994م: ص282).
وهذا لا يعني العودة إلى الماضي، بل الاستفادة من العناصر الإيجابية لنموذج الأسلاف وتكييفها مع الواقع الملموس اليوم مع المشاركة الشعبية كعنصر أساسي للنظام الجديد الذي يجب أن يتضمن نماذج مُخترعة.
وبغض النظر عن المساهمات التي قد يقدمها العالم الخارجي؛ يتحدى ديفيدسون أولئك الذين يعتبرون هذا غير معقول أن ينظروا إلى نضال التحرير في المستعمرات البرتغالية السابقة أنغولا وغينيا بيساو وموزمبيق. وتُعدّ مقالاته؛ “الفلاحون الأفارقة والثورة”، و”أصوات من الجبهة”، و”إرث أميلكار كابرال” (1994م: 184- 243)؛ تُعدّ امتدادًا لنقده للنموذج الإصلاحي، وهي مقالات تأثرت بوضوح بما اختبره في رحلاته مع مقاتلي الحزب الإفريقي لاستقلال غينيا بيساو والحركة الشعبية لتحرير أنغولا (MPLA)، وصداقته الوثيقة مع كثيرين في هاتين الحركتين، وفوق كل شيء، مع أميلكار كابرال. ولعلّه من الصحيح القول: إنّ فكر كابرال أثّر بشكل كبير على أفكار ديفيدسون (كما أثّر كابرال بالفعل على كثيرين، بمن فيهم أنا). يُقيّم ديفيدسون قيادة كابرال بأنها “الأكثر استثنائية في مجتمعات إفريقيا في أواخر فترة الاستعمار، وربما في أيٍّ من مجتمعات عصرنا”.
ومثل كابرال، يرى ديفيدسون أنّ النضال التحرري في المستعمرات البرتغالية هو عملية لاستعادة التاريخ الإفريقي، كمُنتِج ومُحدِّد للثقافة. وهذا يتضمن، كما قال كابرال: للتخلص من الثقافة الاستعمارية والجوانب السلبية لثقافتنا، سواء في شخصيتنا أو في بيئتنا، علينا أن نخلق ثقافة جديدة، تستند أيضًا إلى تقاليدنا، ولكن تحترم كل ما حقَّقه العالم لخدمة البشرية (1994م: ص233).
سيكون تطوير الديمقراطية التشاركية القائمة على احترام وفَهْم العادات المحلية والتكوينات الاجتماعية واللغات وما إلى ذلك أمرًا محوريًّا في هذه العملية. وفي حالة كابرال، يتضح هذا بوضوح، من بين أعمال أخرى، في كتابه “تحليل موجز للهيكل الاجتماعي في غينيا” (1973م).
يشرح ديفيدسون هذا الأمر بالتفصيل في مقالاته حول التفاعل الإيجابي بين العناصر “التحديثية والتقليدية” في دور فلاحي مبوندا في شرق أنغولا ودور الفلاحين في غينيا بيساو. ويجادل بأنه في هذه الصراعات، كان هناك إدراك واضح لمشاكل النموذج الغربي للدولة القومية وقصور القومية الإصلاحية في حل مشاكل ما بعد الاستعمار. ولهذا اختلفت حركات التحرر هذه اختلافًا جوهريًّا عن نظيراتها في الدول الإفريقية الأخرى. فقد كانت تمثل قومية ثورية سعت بفاعلية لتحقيق الأهداف الإستراتيجية للثورة الوطنية والاجتماعية، مستندةً إلى دراسة متواصلة ودقيقة (كما في أعمال أميلكار كابرال) للواقع الإفريقي.
بالعودة إلى أزمة التسعينيات، يطرح ديفيدسون تحديًا ضد جيش المتشائمين المتزايد، من المفيد بلا شك النظر إلى ما ندر تناوله أو لم يُناقش أبدًا من قبل؛ مثل القيمة الدائمة والباقية للتجربة التي سبقت مرحلة السلب والاستيلاء، لا بوصفها فولكلورًا زاهي الألوان، ولا كتأكيد مبتذل على أن لإفريقيا تاريخًا خاصًّا بها، بل بوصفها قيمة قد تكون ذات صلة بهموم وأزمات اليوم (1992م: 7 – 76).
لذلك، يجب وضع دراسة التاريخ في طليعة النضال من أجل حل المشكلات الحالية. وعلى عكس أولئك الذين اعتنقوا اليوم مفاهيم غامضة عن “التجزئة”، يرى باسل ديفيدسون التاريخ كقوة موحدة. يجب أن يظل التاريخ سلاحًا للضعفاء.
في المجلدين، ساهم باسل ديفيدسون بشكل كبير في النقاش حول ما يجب القيام به. لقد فعل ذلك بصدق وشغف والتزام متجدد بالتضامن مع الشعب الإفريقي. يُعدّ المجلدان رفيقين أساسيين لأولئك المشاركين في هذا النضال.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
- Shubi L. Ishemo, is at Trinity and All Saints, University of Leeds, UK.
Bibliography
- Cabral, Amilear (1973), Revolution in Cuinea, London: Stage1; (1980), unity and Struggle, London: Heinemann.
- Leys, Colin (1994), ‘Confronting the African Tragedy, New Left Review, No. 204.
- Nzongola-Ntalaja (1987), Revolution and Counter-Revolution in Africa, London: Zed Books.
- Race and Class, Vol. 36, No. 2, 1994. A Special Issue on Basil Davidson, London.











































