مقدمة:
مرَّت خمس وستون سنة على أُولى الانفجارات النووية الفرنسية في الجزائر، ولا يزال هذا الجُرْم الاستعماري مدفونًا تحت الرمال. وتبقى آثار هذه الجريمة -التي عرَّفها القانون الدولي بأنها إبادة جماعية-، كارثية إلى يومنا هذا على البيئة والإنسان الإفريقي.
هذا وتُعدّ قضية التجارب النووية الفرنسية في الصحراء الإفريقية عام 1960 إحدى القضايا التي أثارت جدلاً واسعًا داخل الأوساط الإفريقية والدولية؛ لما أسفر عنها من تهديد مباشر للشعوب الإفريقية، التي حصل معظمها على الاستقلال الفعلي.
وفي ضوء هذه التهديدات المباشرة للقارة الإفريقية، برز موقف الرئيس الغاني كوامي نكروما Kwame Nkrumah أحد أبرز القادة الأفارقة المؤثرين آنذاك والمناهضين لتلك التجارب، وذلك انطلاقًا من رؤيته التحررية التي جعلت من استقلال القارة عن الاستعمار الكلاسيكي، وتحقيق الوحدة الإفريقية هدفًا إستراتيجيًّا لمشروعه السياسي والفكري.
وبناءً على خلفية نكروما الأيديولوجية فإنّ استمرار القوى الاستعمارية في استخدام الأراضي الإفريقية كساحة لتجاربها النووية يُمثِّل انتقاصًا من سيادة القارة وإهانة لكرامة شعوبها، واستمرارًا للنزعة الاستعمارية الفرنسية، ونوعًا من الهيمنة الاستعمارية الجديدة.
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: كيف واجَه القائد الغاني كوامي نكروما التجارب النووية الفرنسية في الصحراء الإفريقية؟
قبل الخوض في سياسة نكروما تجاه التجارب النووية الفرنسية في الصحراء الإفريقية، يجدر بنا أن نتناول أهداف فرنسا من اختيار الأراضي الإفريقية لإجراء تلك التجارب.
أولًا: الإستراتيجية النووية الفرنسية والصحراء الجزائرية
سَعَى الرئيس الفرنسي شارل ديجول Charles de Gaulle من خلال التفجيرات النووية في الصحراء الجزائرية إلى رفع معنويات جيشه وشعبه معًا؛ لما أصابتهما حالة من اليأس والإحباط نتيجة الضربات القوية للمقاومين الجزائريين، وكذا الانتصارات الدبلوماسية التي اكتسبوها على المستوى الدولي. إضافة إلى ما أسفرت عنه الحرب العالمية الثانية 1939- 1945 من سباق التسلح واختراع آلات الدمار، حينئذ فهم الساسة الفرنسيون، واستوعبوا جيدًا أن عناصر القوة التي كانت تعتمد عليها والمتمثلة في عدد المستعمرات والمساحات الترابية التي احتلتها، لم تَعُد ذات قيمة تُذْكَر، وأن الغلبة للأقوى والذي يملك أحدث الأسلحة وأفتكها. فسارعوا إلى تجنيد كل ما يملكون من قدرات علمية ومادية وتسخيرها في سبيل اللحاق بالركب والانخراط في “النادي النووي“. لذا كان الهدف الأول للساسة الفرنسيين أن يكونوا في نفس المرتبة مع الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفييتي وبريطانيا في استعمال الطاقة النووية عسكريًّا([1]).
ومن أجل رغبة فرنسا في استعادة مكانتها بالحصول على التحالف الغربي الذي كانت تقوده الولايات المتحدة على الأسرار النووية، وإنشاء قوات ذرية خاصة بها منفصلة عن ذلك التحالف، بعدما رفضت كل من الولايات المتحدة وبريطانيا تزويدها بأسرار صناعة القنبلة النووية([2])، أوكلت حكومة ديجول بمقتضى مرسوم 8 أكتوبر 1945، مهمة إعطاء الأُسُس القاعدية لهيئة جديدة هي محافظة الطاقة النووية “Commissariat à l’Energie Atomique” إثر ذلك انصبَّت الجهود العلمية والعسكرية لصنع أول قنبلة ذرية فرنسية، وتمَّ ذلك عن شراكة وتعاون بين وزارة الحرب ومحافظة الطاقة النووية([3]).
وقد وجدت فرنسا في الأراضي الإفريقية خير قاعدة لترسانتها ومشاريعها العسكرية، فوضع ساستها برنامجًا لإقامة قواعد عسكرية-اقتصادية في إفريقيا تحمي ظهر أوروبا الغربية من ناحية الجنوب، وتمثل في الوقت نفسه مكانًا مضمونًا تُهَرِّب إليه أوروبا مصانعها الحربية وإمكانياتها العسكرية، وتتخذه قاعدة هجوم على المعسكر الشيوعي. وأُطلق على هذه المراكز اسم “مناطق التنظيم الصناعي الإفريقيZ.O.I.A.([4]).
وأقامت فرنسا في الصحراء الجزائرية عدة مراكز نووية منها منطقة “رقان” التي وقع الاختيار عليها في يونيو عام 1957 بعد أن جرت بها عدة استطلاعات، وفي بداية فبراير عام 1960، كان كل شيء جاهزًا في رقان، وفي فجر يوم 13 فبراير 1960([5]) فجَّرت فرنسا أول قنبلة نووية لها، أُطلق عليها اسم “اليربوع الأزرق: Gerboise bleue“([6]) بلغت قدرتها التدميرية 70 كيلو طنًّا، أي أقوى بثلاث أو أربع مرات من القنبلة الأمريكية التي أُلقيت على هيروشيما “اليابان” عام 1945، وكانت تداعياتها الإشعاعية أطول وأوسع من المتوقع([7])، واعتُبِرَتْ أول تجربة جوية ضمن سلسلة من أربع تجارب نُفِّذَت في المركز الصحراوي للتجارب العسكريةCentre saharien d’expérimentation militaire . ([8])
حينئذ قال الجنرال ديجول في 13 فبراير 1960 بحماس: «تحيا فرنسا! فمنذ هذا الصباح، أصبحت أقوى وأكثر فخرًا». ففي الساعة السابعة وأربع دقائق تمامًا، شقَّ وميض ضوءٍ كثيف سماء الصحراء الكبرى: لقد فجّرت فرنسا أول قنبلتها الذرية في الصحراء الجزائرية([9]).
وفي الوقت الذي كان فيه الفرنسيون يُهلِّلون ويستبشرون خيرًا بالقنبلة الذرية التي سترفع مقامهم إلى مصاف الدول الكبرى، ويستظهرون قواهم أمام العالم أجمع، أصبح أهالي منطقة رقان يستنشقون هواء ملوثًا بالإشعاعات، فلقد كان للتجارب النووية انعكاسات خطيرة على الإنسان والبيئة حتى بعد مرور سنوات طويلة على التفجير([10]).
وقد أكدت صحيفة Le Parisien الفرنسية في 14 فبراير 2014، بمناسبة الذكرى 53 للتجارب عن أولى التسريبات التي تؤكد على خروج التفجيرات عن السيطرة وتضرُّر منطقة شمال إفريقيا وجنوب الصحراء بالكامل، وأكَّدت على “أنّ تداعيات التجارب النووية التي قامت بها فرنسا في الصحراء الجزائرية امتدت إشعاعاتها النووية إلى غاية إفريقيا الغربية والجنوب الشرقي لإفريقيا الوسطى“، ووقوع منطقة الجنوب الليبي فزان بوجه خاص تحت طائلة التأثر البالغ. وهي الامتداد الطبيعي الصحراوي لمناطق التفجيرات؛ حيث امتدت تداعياتها لتصل إلى إنجامينا عاصمة دولة تشاد([11]).
وبناءً عليه، يمكن قراءة هذه التجارب النووية في إطار “أيديولوجية استعمارية بُنِيَتْ على إنكار الآخر، وتُشكِّل بالتالي أدوات للهيمنة؛ حيث تُعدّ العنف، بمختلف أشكاله، الأساس الذي تستند إليه“([12]).
ثانيًا: نكروما وتأليب الرأي العام الغاني والإفريقي بخطورة التجارب الذرية الفرنسية
تبنَّى القائد الغاني كوامي نكروما Kwame Nkrumah سياسة مناهضة للتجارب الذرية الفرنسية في الصحراء الإفريقية، وتوعية الداخل الغاني خاصةً، والإفريقي عامة، بخطورة تلك التجارب، وذلك من خلال خطاباته أمام أعضاء البرلمان الغاني، وامتدَّ الأمر للصحافة الغانية لا سيما منابر الدوائر الحكومية الغانية، وهذا ما أبرزته وثائق الخارجية المصرية، والتي تضمنت حرص كوامي نكروما في جعل قضية التجارب الذرية الفرنسية في صدارة أولوياته، وطرحها في المحافل الإفريقية أو الدولية.
ومن الطبيعي أن يقوم نكروما بهذا الدور الفعّال في ضوء إيمانه العميق بقضية التحرُّر الإفريقي، فهو يُعدّ من أبرز الزعماء الأفارقة في العصر الحديث، في سعيه الحثيث لبناء أُمّته، وتحرير شعبه من براثن الاستعمار، فكافح وناضل وجاهد وثابر، ولم تضعف له عزيمة، وأخيرًا تمَّ له النصر، وتحقق له ما أراده، وحصلت غانا على يديه على حريتها واستقلالها في 7 مارس1957([13])؛ كأول دولة في إفريقيا جنوب الصحراء تحقق هذا الحدث البطولي، كما ناضل من أجل توحيد القارة الإفريقية وتصفية الاستعمار الغربي، وضرورة أن يستفيد أبناء القارة الإفريقية من خيراتها وثرواتها([14])، وكان من أبرز شعاراته: “إن استقلالنا لا معنى له ما لم يرتبط بالتحرير الكامل للقارة الإفريقية“([15]) .
وانطلاقًا من هذا المنظور، تبنَّى نكروما موقفًا مناهضًا ضد التجارب الذرية الفرنسية في الصحراء الإفريقية، وأصرَّ على معارضة فرنسا، مُعبِّرًا عن حالة الغضب والسخط الذي شعر به الجميع ضد استعمال الصحراء الإفريقية في تجربة هذه الأسلحة الفتَّاكة، كما رأى في هذه المعارضة أداة لتعبئة الرأي العام داخل المستعمرات في إفريقيا الفرنسية، لذا عزم على استثمار كل فرصة ممكنة لعرقلة تنفيذ إجراء هذه التجارب([16]).
فاستهلَّ نكروما جهوده بتوعية الغانيين وتأليب الرأي العام الإفريقي ضد مخاطر الخطط الفرنسية، فها هي صحيفة “غانا تايمز Ghana Times -التي كانت تُعبِّر عن الدوائر الحكومية في غانا-، نشرت في عددها الصادر في 26 أغسطس 1958، مقالاً بعنوان “احتجاج ضد فرنسا“، ذكرت فيه الآتي:
أولاً: ليس ثمة شك أن الإفريقيين الفرنسيين سيتخلّفون عن واجباتهم المقدسة نحو إفريقيا، إن لم يتخذوا قرارًا جديًّا بالنسبة إلى البرنامج الذي وضعته فرنسا بخصوص عزمها على تفجير قنبلة ذرية بعد بضعة أسابيع في صحراء الجزائر.
ثانيًا: يجب أن تقوم جميع الجهات المعنية في إفريقيا وآسيا بتوجيه احتجاجات شديدة إلى الجنرال ديجول للحيلولة دون القيام بهذا التجربة التي تُعدّ هجومًا سافرًا على أرواح الملايين من سكان إفريقيا.
ثالثًا: إذا كانت فرنسا تأخذ في الاعتبار رفاهية سكانها في إفريقيا فلا بد أن تُظْهِر احترامها للرأي العام العالمي، وخاصةً الرأي الإفريقي المناهض لتلك التجارب.
رابعًا: لا يخفى علينا أن بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية قد قررتا إيقاف تجاربهما الذرية –وقد فعلت روسيا ذلك منذ آنٍ بعيد أيضًا-؛ فليس ثمة شك أن إصرار فرنسا على إجراء تلك التجربة يعني تصميمها على النَّيْل من أرواح سكان إفريقيا.
خامسًا: في أثناء انعقاد مؤتمر “أكرا” الأخير؛ ظهر بوضوح أن الدول الإفريقية المستقلة الثمانية المشتركة فيه عارضت بشدة إجراء أيّ تجربة ذرية في الصحراء الكبرى، ويجب على تلك الدول أن تُظْهِر احتجاجها الآن باتخاذ خطوات فعَّالة في هذا السبيل.
سادسًا: ربما تقرر غانا أن تأخذ على عاتقها بدء القيام بتلك المهمة، وتنفيذًا لذلك فمن المنتظر أن يقوم الدكتور نكروما رئيس وزراء ومُؤسِّس غانا بإجراء الاتصالات اللازمة بغية اتخاذ قرار مُوحَّد للعمل … ولا يجب أن تتأخر تلك الاتصالات، لا سيما أن الوقت قد أزف.
سابعًا: إن فرنسا باعتزامها القيام بتلك التجربة يظهر ضعف التماسك بينها وبين حلف شمال الأطلنطي، فهي إذًا لا تثق بالحلف المذكور، ولنا أن نتساءل ضد مَن تتسلح فرنسا… لا بد لفرنسا أن تثق ثقة كاملة في حلفائها… بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية… إذا ما هاجمها الاتحاد السوفييتي.
ثامنًا: ليس ثمة شك أن العامل الذي يُحرِّك فرنسا لإجراء تلك التجربة هو المحافظة على مكانتها Her Prestige؛ فإذا كان الأمر كذلك فإن فرنسا تُظْهِر للملأ أنها لا تُقدِّر المسؤولية، ومحاولتها بل إصرارها على إجراء تلك التجربة بالرغم من صلابة الرأي العام العالمي([17]).
وكما يظهر من المقال، أكَّدت الصحيفة على رفض الغانيين والأفارقة في إفريقيا الفرنسية معًا للتجارب الذرية الفرنسية في الصحراء الإفريقية، وتأليبهم الشعوب الإفريقية ضد فرنسا، التي أرادت فقط الحفاظ على مكانتها الدولية دون وضع أيّ اعتبار للشعوب الأفارقة.
ومن الدائرة الصحفية إلى الدائرة البرلمانية كانت قضية التجارب الذرية من ضمن اهتمامات البرلمان الغاني، وأخذت حيّزًا كبيرًا في بيان كوامي نكروما عن سياسة غانا الخارجية في 3 سبتمبر 1958؛ حيث أشار نكروما إلى المخاطر التي تتعرَّض إليها الأمم في إشارة للتجارب الذرية، ذاكرًا: “أن الأيام التي نعيشها الآن مليئة بالحوادث الجسام، لا سيما وأن مصير الأمم والإنسانية أصبح في كفّ القدَر، ونظرًا لتلك الظروف فإن على الأمم الصغيرة أيضًا أن تلعب دورها، لا سيما وأنها مشتركة مع الأمم الكبيرة في النضال الخاص بالمحافظة على الجنس البشري من الفناء، وإقامة مستقبل يُبنَى على أساس الكرامة الإنسانية والعدالة للجميع“([18]).
واستطرد نكروما بيانه ذاكرًا بأنه سبَق أن بيَّن للمجلس أن غرض الحكومة هو نهج سياسة خارجية مستقلة؛ أي سياسة لا تشترك من حيث المبادئ أو من حيث الناحية العسكرية مع أيّ دولة كبيرة أو أيّ كتلة معينة، وأن الحكومة لها مُطلَق الحرية في أن تتخذ القرار الذي تراه مناسبًا في ضوء تعهدات غانا نحو ميثاق هيئة الأمم المتحدة من جهة، ومركز غانا بالنسبة لعلاقاتها مع الدول الإفريقية والكومنولث من جهة أخرى، واعتناق غانا لمبادئ باندونج وأكرا الأخيرين، وتصر غانا على المحافظة على استقلالها وسيادتها([19]).
وأكَّد نكروما على تمسك غانا الوثيق بمبادئ هيئة الأمم المتحدة كجزء أساسي من سياستها الخارجية، وأنها ستستمر في مساهمتها الفعَّالة مع جميع أوجه النشاط التابع لهيئة الأمم المتحدة والهيئات المتفرعة منها، وتعلّق غانا وشقيقاتها من الدول الإفريقية أهمية كبرى على هيئة الأمم المتحدة باعتبارها الهيئة المُوكَل إليها المحافظة على السلام العالمي، وهنا كرر نكروما ما سبق أن صرَّح به عدة مرات من أن “غانا يهمها جدًّا المحافظة على السلام العالمي، وعلى أمنها الداخلي؛ بحيث تستطيع أن تتفرغ للنهوض بشؤونها الاقتصادية والاجتماعية في جوٍّ من السلام والطمأنينة، ولذلك فإننا مهتمون جدًّا بالحد من التجارب النووية وما يصحبها من دمار مؤكد”([20]).
وأشار نكروما إلى الاتفاق الذي تمَّ عام 1958 في جنيف بين علماء الشرق والغرب بشأن إيقاف التجارب الذرية، وناشد فرنسا لإعادة النظر في هذا القرار أيضًا، لا سيما وأن الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا قررتا إيقاف تلك التجارب([21]).
واختتم نكروما بيانه بقوله: “إذا استمرت فرنسا في عنادها، وصمَّمت على إجراء تلك التجارب في الصحراء الإفريقية فلن تقف الدول الإفريقية مكتوفة الأيدي إزاء ذلك، لا سيما وأن إفريقيا تحاول الوصول إلى ما وصلت إليه باقي الدول الحديثة من الناحية الصحية والثقافية والاقتصادية. وإننا نرى أن شعوبنا لم تصل بعد إلى مستوى الرفاهية للشعوب الأخرى، ولذلك فإن غانا شعبًا وحكومةً تؤيد جميع الإجراءات الخاصة بتسوية النزاع بين الدول بالطرق السلمية ضمن نطاق أعمال هيئة الأمم المتحدة وتجنّب الحروب بكافة الوسائل الممكنة”([22]).
ومن الدائرة البرلمانية إلى الدائرة الدبلوماسية فلم تكن وزارة الخارجية الغانية ببعيدة عن مناهضة قضية التجارب الذرية الفرنسية؛ حيث سلَّم وزير الخارجية الغاني آكو آدجي Ako Adjei مذكرة احتجاج للقائم بالأعمال الفرنسي في 3 يوليو 1959، غير أن الموقف الفرنسي اتسم بالتعنت، ورفضت فرنسا هذه المذكرة، ذاكرة أنها غير معترفة بحق غانا في الحديث عن سائر الدول الإفريقية([23]).
كما قررت غانا، كنوعٍ من الاحتجاج على القرار، تجميد أموال فرنسا في غانا، وقابلت السلطات الفرنسية هذا الموقف باحـتجاجٍ عميق؛ حيث استُدعي سفير غانا في باريس من طرف وزارة الخارجية الفرنسية، وتم استقباله مِن قِبَل الكاتب العام، الذي طلب منه توضيحاتٍ بخصوص هذا القرار القاضي بتجميد أموال فرنسا في غانا احتجاجًا على تفجيرها النووي في رقان. كما أن الحكومة الغانية أمرت اثنين من البنوك البريطانية الخاصة بعدم القيام بأيّ عملية تحويل تتقدم بها المؤسسات الفرنسية صوب بلدان منطقة الفرنك، كما أمرت حكومة غانا بمنع الاستيراد من بلدان هذه المنطقة إلى أن يتضح مفعول تجارب رقان([24]).
ثالثًا: التجارب الذرية وملاحقة نكروما لفرنسا في المحافل الإفريقية والدولية
لم يكتفِ نكروما بالهجوم على فرنسا وتجاربها الذرية في الصحراء الإفريقية داخل الدوائر المؤسسية الغانية فقط، ولكنه أصرَّ أن يصل صوت إفريقيا المعارض للتجارب الذرية الفرنسية إلى خارج القارة الإفريقية، لذا وضع هذه القضية على أجندة أعماله في أثناء مشاركته في المحافل الإفريقية والدولية.
فتمَّ تناول القضية في المؤتمرات الإفريقية التي شاركت فيها غانا، ففي أثناء انعقاد مؤتمر الدول الإفريقية المستقلة في أكرا في أبريل 1958“، والذي حضره كل من غانا وتونس وليبيا ومصر والسودان والمغرب وليبيريا وإثيوبيا. وعُقِدَ المؤتمر تحت عدة شعارات مثل: إفريقيا للإفريقيين، وإفريقيا ينبغي أن تكون حرة، وارفعوا أيديكم عن إفريقيا، مؤكدًا على بعض المبادئ مثل: مبادئ مؤتمر باندونج، واحترام ميثاق الأمم المتحدة، وطالب المؤتمر بإقناع القوى الكبرى بوقف التجارب النووية والحرارية، والحد من الترسانة التقليدية من الأسلحة([25]).
ثمَّ جاء مؤتمر “كل شعوب إفريقيا” All-African Peoples’ Conference الذي عُقد في أكرا أيضًا، خلال الفترة 8-13 ديسمبر 1958، وتطرَّق لقضية التجارب الذرية؛ حيث تمَّت إدانة دور حلف الناتو في تزويد فرنسا بالأسلحة لمواصلة الحرب في الجزائر، كما تمَّت الإشارة بشكل نقدي إلى القواعد العسكرية للقوى الغربية على الأراضي الإفريقية. وكانت هناك معارضة قوية لمخطط اختبار الأسلحة النووية في الصحراء([26]).
وتابع نكروما جهوده في حركة التضامن الإفريقي الآسيوي، وأثار قضية التجارب الذرية الفرنسية في الصحراء الإفريقية، ومِن ثَمَّ ناضلت حركة التضامن ضد التجارب الفرنسية ودعت للقيام بمظاهرات ضخمة في جميع دول العالم الآسيوي الإفريقي في 7 سبتمبر 1959 ضد فرنسا وتجاربها([27]).
ولم يكتفِ نكروما بمناهضة السياسة الفرنسية داخل المؤتمرات الإفريقية، بل امتدَّ الأمر إلى مناهضتها داخل المؤتمرات الدولية، ففي أثناء انعقاد الدورة الرابعة للمؤتمر العالمي المناهض للتجارب الذرية والهيدروجينية بمدينة طوكيو، أرسل كوامي نكروما إلى المؤتمر رسالة مفادها: “إلحاقًا بالقرارات الأولى الخاصة بمؤتمر الدول الإفريقية المستقلة المنعقد في أكرا في أبريل 1958؛ يشاركني شعب غانا وحكومتها في أن نقدّم إليكم تأييدنا التام لمشاورتكم في مؤتمركم. ونأمل، بل نؤكد أن رغبتنا المُلِحَّة تنحصر في نجاح مؤتمركم بغية الوصول إلى ما يأتي: “إيقاف التجارب النووية وإيقاف إنتاج الأسلحة الذرية والنووية وتركيز الطاقة الذرية في الأغراض السلمية فقط“. وإذا سلكتم هذا السبيل فإنكم ستُنقذون الإنسانية وثقافتها وتمدُّنها من خوفها المتلاحق من الدمار العالمي([28]).
وفي الختام، على الرغم من الجهود الكبيرة التي بذلها كوامي نكروما سواء داخل المؤسسات الغانية -الصحفية والبرلمانية ووزارة الخارجية-، أو عبر سعيه الحثيث لتعبئة الرأي العام الغاني والإفريقي معًا ضد فرنسا وتجاربها النووية، ومن خلال مشاركاته البارزة في المؤتمرات الإفريقية، وما أسفر عنها من إدانة السياسة الفرنسية وممارساتها الذرية في الصحراء الإفريقية، بل وتصميمه على إيصال صوت إفريقيا الرافض لتلك التجارب في المحافل الدولية أو في مؤتمرات حركة التضامن الإفريقي–الآسيوي؛ فإن فرنسا مضت في تنفيذ مخططاتها، غير عابئة بتلك الأصوات، ساعيةً إلى ترسيخ مكانتها بين القوى الكبرى، ولو كان هذا على حساب الشعوب الإفريقية، التي أصابها أضرار جسيمة جراء تلك التجارب النووية.
……………………
([1]) التجارب النووية الفرنسية في الجزائر… دراسات وبحوث وشهادات، سلسلة الندوات، المركز الوطني للدراسات والبحوث في الحركة الوطنية وثورة أول نوفمبر 1954، الطبعة الأولى، الجزائر، 2000، ص 19، 20؛ انظر أيضًا: L’Echo d’Algérie, Explosions nucléaires françaises en Algérie: Un crime colonial toujours enfoui sous les sables, 12 février 2023
([2]) غيتاوي عبدالقادر، بحماوي الشريف، جرائم فرنسا النووية في الصحراء الجزائرية وإشكالية التعويض قراءة في القانون الفرنسي رقم 02-2010، في كتاب: التفجيرات النووية الفرنسية في الصحراء الجزائرية، جامعة أحمد دراية، أدرار، الجزائر، ط1، 2020، ص 10.
([3]) التجارب النووية الفرنسية في الجزائر، مرجع سابق، ص 21.
([6]) اليربوع حيوان له نشاط ليلي، ويُعتبر من الحيوانات المنعزلة. للمزيد انظر: سميرة نقادي، التجارب النووية الفرنسية في الصحراء الجزائرية مقاربة اجتماعية تاريخية، مجلة الدراسات التاريخية، العدد 17، الجزائر، 2016، ص 327.
([7]) L’Echo d’Algérie, Explosions nucléaires françaises en Algérie: Un crime colonial toujours enfoui sous les sables, 12 février 2023,
([8])Sénat français, Rapport d’information n° 856 fait au nom de la commission sénatoriale pour le contrôle de l’application des lois sur la mise en œuvre de la loi n° 2010-2 du 5 janvier 2010 relative à la reconnaissance et l’indemnisation des victimes des essais nucléaires français, par Mme Corinne Bouchoux et M. Jean-Claude Lenoir, sénateurs, session extraordinaire de 2012-2013, enregistré à la Présidence du Sénat le 18 septembre 2013.
([9])Le Monde, Madjid Zerrouky, Que sont devenus les déchets issus des essais nucléaires français en Algérie ?, 2 septembre 2020
([10]) التجارب النووية الفرنسية في الجزائر، مرجع سابق، ص 28.
([11]) عبدالقادر الفيتوري، محاكمة فرنسا، متابعة مستجدات ملف التجارب النووية الفرنسية بالصحراء الإفريقية واحتلال إقليم فزان وتعويض شعب الصحراء، دار الجموع للنشر، ليبيا، 2016، ص 7؛ انظر أيضًا: L’Echo d’Algérie, Explosions nucléaires françaises en Algérie: Un crime colonial toujours enfoui sous les sables, 12 février 2023.
([12])Le Jour D’Algerie, Histoire: Les essais nucléaires français en Algérie, un «déni» de l’autre, 10 février 2021,
([13]) كوامى نكروما، نحو تحرير المستعمرات، كتب سياسية، العدد201 ،1961، د.ن، ص4. للمزيد عن دور نكروما في استقلال غانا عام 1957؛ انظر: علي متولي أحمد المتولي، سياسة الولايات المتحدة الأمريكية تجاه غانا 1957-1966، سلسلة بحوث إفريقية، عدد 5، مركز تاريخ مصر المعاصر، دار الكتب والوثائق القومية، القاهرة، 2015.
([14]) Stephen Gyasi Jnr, Nkrumah never dies, New African, July 2009,p.31.
([15]) Ahmad A. Rahman,The Regime Change of Kwame Nkrumah,Epic Heroism in Africa And the Diaspora, Palgrave Macmillan, New York,2007,p.x.
([16]) أسامة عبدالتواب محمد عبدالعظيم، العلاقات المصرية الغانية 1957- 1966، رسالة ماجستير، قسم التاريخ، معهد البحوث والدراسات الإفريقية، جامعة القاهرة، 2012، ص174.
([17]) وزارة الخارجية المصرية، دار الوثائق القومية، كود أرشيفى 041368- 0078، ملف أكرا 15/10/1958، موضوع الوثيقة، احتجاج الرأي العام في غانا ضد فرنسا بالنسبة إلى التجارب الذرية، سري، 28 أغسطس 1958.
([18]) وزارة الخارجية المصرية، دار الوثائق القومية، كود أرشيفى 041368- 0078، ملف أكرا 15/10/1958، موضوع الوثيقة، مناقشة سياسة غانا الخارجية في البرلمان، سري جدًّا، 8 سبتمبر 1958.
([23]) أسامة عبدالتواب محمد عبدالعظيم، مرجع سابق، ص 175.
([24]) مبارك جعفري، ردود الأفعال الدولية على التفجيرات النووية الفرنسية برقان 1960 من خلال جريدتي الصباح والعمل التونسيتين، في كتاب التفجيرات النووية الفرنسية في الصحراء الجزائرية، جامعة أحمد دراية، أدرار، الجزائر، ط1، 2020، ص59.
([25]) بشير الكوت، الوحدة الإفريقية في القرن العشرين، المركز العالمي للدراسات وأبحاث الكتاب الأخضر، ليبيا، الطبعة الأولى، 2004، ص 28؛ انظر أيضًا: Legum, Colin, Ghana: The Morning After (III) The Accra Conference, Africa South, p. 93.
([26]) Houser, George M., American Committee on Africa: A Report on the All African People’s Conference Held in Accra, Ghana, December 8-13, 1958.
([27]) شوقي عطا الله الجمل، التضامن الآسيوي الإفريقي وأثره في القضايا العربية، المؤسسة المصرية العامة للتأليف والأنباء والنشر، الدار المصرية للتأليف والترجمة، القاهرة، 1964، ص328.
([28]) وزارة الخارجية المصرية، دار الوثائق القومية، كود أرشيفى 041368- 0078، ملف أكرا 15/10/1958، موضوع الوثيقة، موقف حكومة غانا من التجارب الذرية، سري، 28 أغسطس 1958.











































