تمهيد:
أصبح موضوع الهجرة الاستثمارية، ظاهرة عالمية مدفوعة برغبة الأفراد في تحسين تنقلاتهم وفرصهم، ورغبة الدول في جذب رءوس الأموال وتحفيز الاقتصادات.
وقد توسَّع هذا السوق بشكل كبير على مدار العقود الأربعة الماضية؛ حيث تُوفّر العديد من البلدان، وخاصةً تلك التي تواجه تحديات اقتصادية، تلك الآلية مقابل استثمارات محددة.
تتضمن هذه البرامج عادةً خيارات مثل المساهمات المالية المباشرة في صناديق التنمية الوطنية، وشراء العقارات، والاستثمار في الشركات المحلية، أو شراء السندات الحكومية؛ إلا أن هذه البرامج تواجه انتقادات كبيرة اضطرت بعض البلدان إلى تعليقها أو إلغائها.
وقد انخرطت بعض بلدان إفريقيا جنوب الصحراء في برامج التأشيرات الذهبية، كخطوة أولى نحو الدخول في سوق الجنسية، سعيًا منها لتحقيق فوائد اقتصادية، وهو ما سنستعرضه في المحاور التالية:
- أولًا: الهجرة الاستثمارية… المفهوم والأنواع.
- ثانيًا: مزايا وانتقادات جواز السفر الذهبي.
- ثالثًا: دول إفريقية رائدة في سباق التأشيرة الذهبية.
أولًا: الهجرة الاستثمارية… المفهوم والأنواع
تمنح برامج الهجرة الاستثمارية الأفراد الحق القانوني في العيش والعمل في بلد أجنبي مقابل استثمارات كبيرة ومؤهلة في اقتصاد ذلك البلد، غالبًا في أصول مثل السندات الحكومية والأسهم والعقارات. ومع ذلك، قد تختلف الشروط اختلافًا كبيرًا بين البلدان؛ حيث تتراوح من مئات الآلاف من الدولارات إلى أكثر من مليون دولار. وهناك نوعان منها:
1-الإقامة عن طريق الاستثمار (RBI):
تُعرف برامج RBI أيضًا باسم “التأشيرات الذهبية”، وهي تُتيح للمستثمرين الأجانب الحق في العيش والعمل والدراسة والحصول على مزايا الرعاية الصحية. بعض الدول لا تشترط على المستثمرين الإقامة الفعلية فيها لفترة طويلة حتى بعد الحصول على التأشيرة؛ وفي دول أخرى، يمكن للمستثمرين التقدُّم بطلب للحصول على الإقامة الدائمة أو الجنسية بعد فترة زمنية محددة.
2-المواطنة عن طريق الاستثمار (CBI):
تُعرف برامج المواطنة عن طريق الاستثمار أيضًا باسم “جوازات السفر الذهبية”، وهي تُتيح للمستثمرين شراء جنسية أجنبية، مما يمنحهم بشكل دائم مختلف الحقوق المرتبطة بالبلد المُصدر. في كثير من الحالات، تُتيح هذه البرامج للمستثمرين إمكانية الوصول إلى دول ذات ضرائب أقل، وتعليم ورعاية صحية أفضل، وامتيازات سفر وإقامة دولية واسعة. على سبيل المثال، يمكن لحاملي الجنسية المالطية التمتع بجميع مزايا المواطنين المولودين، بالإضافة إلى مزايا كونهم مواطنين في الاتحاد الأوروبي، بما في ذلك القدرة على العيش والعمل والتنقل بحرية بين دول الاتحاد الأوروبي الأخرى.
وهناك أيضًا تأشيرات “البدو الرقميين”، أو تأشيرات الإقامة المؤقتة:
تسمح للأجانب بالعيش والعمل عن بُعد في الخارج بشكل قانوني لفترة أطول مما تسمح به تأشيرة السياحة العادية.
تستخدم الحكومات هذه البرامج عادةً لتحفيز النمو الاقتصادي من خلال جذب العمالة الأجنبية العاملة عن بُعْد، وخاصةً العاملين في الشركات والقطاعات التقنية. وتشترط معظم تأشيرات البدو الرقميين حدًّا أدنى للدخل، وفي بعض الحالات، كما هو الحال في لاتفيا والبرتغال، يمكن أن تؤدي إلى الإقامة الدائمة أو الحصول على الجنسية.([1])
ثانيًا: مزايا وانتقادات برامج الهجرة الاستثمارية
تشمل مزايا برامج الهجرة الاستثمارية، ما يلي:([2])
- السفر بدون تأشيرة: إمكانية الوصول إلى العديد من الدول.
- تعزيز حرية التنقل العالمي: حرية السفر دون عناء طلبات التأشيرة.
- تحسين الضرائب: إمكانية وجود أنظمة ضريبية مواتية في البلد المضيف.
- الحفاظ على الثروة: حماية الأصول في ولايات قضائية مستقرة وآمنة.
- الحصول على التعليم والرعاية الصحية: تحسين الفرص لأفراد الأسرة.
- الأمن: شبكة أمان في مواجهة عدم الاستقرار الجيوسياسي أو الاقتصادي.
- الفوائد الاقتصادية للبلدان: قد تجلب فوائد اقتصادية للبلدان الصغيرة. ويمكن أن تُؤمّن مبالغ كبيرة من الاستثمار الأجنبي. هذا الحقن الرأسمالي يُعزّز الاقتصاد المحلي، ويخلق فرص العمل. فمثلًا كانت منطقة البحر الكاريبي تعتمد في السابق على السياحة كمساهمة رئيسية في الناتج المحلي. وقد ساعدت برامج الجنسية عن طريق الاستثمار الجزر على التنويع. وعندما توقف السفر بسبب COVID، أصبحت الجنسية عن طريق الاستثمار هي الحل.([3])
وتشمل الانتقادات الموجهة لبرامج الهجرة الاستثمارية:([4])
- احتمالات الفساد: أحد الانتقادات الرئيسية هو احتمال الفساد. يجادل النقاد بأن الأفراد المشكوك فيهم يمكنهم استغلال هذه البرامج. وهذا يسهل على الأفراد إخفاء نواياهم الحقيقية أو مصادر ثروتهم.
- مخاوف أمنية: مصدر قلق آخر هو المخاطر الأمنية المحتملة المرتبطة بجوازات السفر الذهبية، كالإرهاب وغسل الأموال، ومِن ثَم استخدام الجنسية الثانية للتهرب من العدالة.
- تقويض مفهوم المواطنة: الفكرة التقليدية للمواطنة هي أنك تكتسبها من خلال الولادة أو التجنُّس. وهو ما يُحقّق الشعور بالهوية الوطنية والانتماء. وعند شراء الجنسية يؤدي إلى مخاوف من أنها أصبحت سلعةً وليست امتيازًا.
- تفاقم عدم المساواة العالمية: غالبًا ما تكون هذه البرامج متاحة فقط للأثرياء.
وقد اتخذ الاتحاد الأوروبي إجراءات قانونية ضد دول مثل مالطا بسبب برامج “جواز السفر الذهبي” الخاصة بها؛ بسبب مخاوف بشأن الفساد والأمن.([5]) كما استغل أفراد متورطون في أنشطة غير مشروعة بعض البرامج، مما أدَّى إلى زيادة التدقيق، وفي بعض الحالات، إلى تعليق أو إلغاء البرامج، كما هو الحال في بلغاريا.([6])
ثالثًا: دول إفريقية رائدة في سباق التأشيرة الذهبية
عندما أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عن برنامج تأشيرة البطاقة الذهبية، الذي سيُتيح للأفراد ذوي الثروات الكبيرة فرصة الحصول على الجنسية الأمريكية في فبراير 2025م، تجدّد الاهتمام ببرامج مماثلة حول العالم. فالعديد من الدول الإفريقية تُنشئ الآن فئات تأشيرات خاصة بها، متشابهة إلى حد كبير. لا تُقدّم جميع هذه الدول الجنسية (أي: أنك لن تتمكن من الحصول على جواز سفر)، ولكن لأنها تُقدّر أي استثمار يُوفّر فرص عمل، ويُنمِّي المواهب المحلية، ويُعزّز الاقتصاد، فإن الإقامة الدائمة تُعدّ أقرب ما يكون إلى المواطنة.([7])
وبعد أن كانت أوروبا وأمريكا الشمالية تهيمنان تاريخيًّا على هذا المجال، يشهد مشهد التأشيرة الذهبية الآن بروز دول إفريقية تُقدّم برامج إقامة تنافسية للمستثمرين، تهدف إلى جذب رأس المال الأجنبي ودفع عجلة النمو الاقتصادي. ووفقًا لشركة هينلي وشركاه، وهي شركة محاماة رائدة، لا يُقدّم حاليًّا سوى عدد قليل من الدول الإفريقية برامج التأشيرة الذهبية أو برامج إقامة مماثلة للمستثمرين. وتبرز جنوب إفريقيا وموريشيوس وناميبيا كدول رائدة في القارة؛ حيث تُوفر مسارات مُنظمة للمستثمرين.
جدير بالذكر أن هذه البرامج الإفريقية تُقدّم خيارات أكثر وضوحًا واستقرارًا مُقارنةً بالبرامج المُتعثرة أو غير المُستقرة في أجزاء أخرى من العالم، مثل تأشيرة ترامب كارد الأمريكية.
فبينما تواصل أوروبا والإمارات العربية هيمنتهما على سوق التأشيرات الذهبية العالمية، تُرسِّخ الدول الإفريقية مكانتها من خلال توفير خيارات إقامة للمستثمرين بشروط استثمارية تنافسية وبيئات اقتصادية جاذبة.([8])
تتميز دول مثل موريشيوس وجنوب إفريقيا وناميبيا بجمعها بين جودة حياة جيدة، بما في ذلك الاستقرار السياسي والبنية التحتية الحديثة والأمان، وإمكانات استثمارية قوية في العقارات والتمويل والموارد الطبيعية. وهذه العوامل تجعلها وجهات جذابة بشكل متزايد للمستثمرين العالميين الذين يبحثون عن الإقامة وفرص النمو طويل الأجل.
كما تقدم سيشل تصريح إقامة دائمة عند استثمار ما لا يقل عن مليون دولار في مشروع تجاري محلي، مع إثبات الإقامة الفعلية القانونية في البلاد بتأشيرة أو تصريح ساري المفعول لمدة عام على الأقل. وبعد إقامة متواصلة لمدة 11 عامًا، يمكن الحصول على الجنسية. ولدى سيراليون برنامج إقامة دائمة يهدف إلى جذب رأس المال الأجنبي. مقابل 65000 دولار، بالإضافة إلى كيلو جرام واحد من الذهب، تبقى السبائك الذهبية لدى الحكومة لمدة خمس سنوات، وتشمل التأشيرة أفراد العائلة المباشرين (مقابل رسوم إضافية)، بالإضافة إلى إمكانية الحصول على الجنسية بعد فترة زمنية.([9])
بالإضافة إلى ذلك، تحظى بوتسوانا ورواندا بتقدير كبير لتحسُّن حوكمتهما وبنيتهما التحتية وآفاقهما الاقتصادية. فالاستقرار السياسي الراسخ في بوتسوانا وسياساتها الاقتصادية الحكيمة يجعلها وجهة استثمارية موثوقة، في حين أن التنمية السريعة في رواندا والإصلاحات المواتية للأعمال التجارية تجعلها مركزًا ناشئًا للمستثمرين المهتمين بشرق إفريقيا. معًا، تُشكِّل هذه الدول جاذبية إفريقيا المتنامية في المشهد العالمي للإقامة من خلال الاستثمار.([10])
ختامًا:
ربما توفّر برامج الهجرة الاستثمارية، وخاصة جوازات السفر الذهبية فوائد اقتصادية كبيرة للدول الصغيرة، وتساعدها في تنويع اقتصاداتها، وتجذب الاستثمار الأجنبي. وأيضًا يمكن أن تكون سلاحًا ضد الفساد في الأنظمة الاستبدادية؛ حيث يمكن للمواطنين الأجانب المطالبة بالتحكيم الدولي عند تعرُّضهم للظلم.
إلا أن التحديات المتعلقة بالأمن والفساد وعدم المساواة، دفعت العديد من البلدان إلى تعطيلها أو إلغائها. ورغمًا عن ذلك يستمر سوق الجنسية في التطوُّر، مع تدقيق وتغييرات مستمرة؛ حيث تُعدّل الدول برامجها استجابةً للاحتياجات الاقتصادية والضغوط الدولية لتعزيز العناية الواجبة والشفافية.
وقد سلكت بلدان إفريقيا جنوب الصحراء هذا الطريق؛ حيث قدمت بعض البلدان برامج معتبرة للتأشيرة الذهبية مثل ناميبيا وجنوب إفريقيا، وموريشيوس. إلا أن التجربة لم تنضج بعد؛ نظرًا لحداثتها، حتى يتم وضعها موضع التقييم. غير أن بلدان المنطقة مضطرة لتوفير بيئات استثمارية مستقرة وجذابة تتمتع بوضع جيد للاستفادة من الطلب المتزايد على تلك البرامج.
في النهاية، كان الطريق الأقرب لتحقيق الأهداف التي تريدها تلك البلدان من وراء هذه البرامج، هو إصدار جواز السفر الإفريقي الموحّد، باعتباره أهم مشاريع أجندة إفريقيا 2063م، والذي كان موعد تحققه عام 2023م، لكنه لم يتحقق بعد.
………………………….
[1] ) https://www.cfr.org/in-brief/golden-passports-and-visas-how-investment-migration-works
[2] ) koogoldenvisas, Citizenship by Investment (Golden Passport) Countries 2025.at: https://www.koogoldenvisas.com/citizenship-by-investment-golden-passport-countries
[3] ) جوازات السفر الذهبية، الجيد والسيئ والقبيح، متاح عل الرابط: https://www.riftrust.com/ar/%D8%AC%D9%88%D8%A7%D8%B2%D8%A7%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%81%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D8%B0%D9%87%D8%A8%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%AC%D9%8A%D8%AF-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%8A%D8%A6-%D9%88%D8%A7%D9%84/
[4] ) المرجع السابق.
[5] ) الشرق بلومبيرج، أوروبا تحظر بيع جواز السفر الذهبي في مالطا للأثرياء الأجانب. متاح على الرابط: https://asharqbusiness.com/economics/80480/
[6] ) بلغاريا تحظر جوازات السفر الذهبية بعد انتقادات المفوضية الأوروبية. متاح على الرابط: https://asharqbusiness.com/economics/17151
[7] ) Wayua Muli, The World’s Newest Gold Rush: Where To Invest In Africa To Get A ‘Golden Visa’ (And Why You Should).3/9/2025.at: https://weetracker.com/2025/09/03/african-countries-that-offer-golden-visas-and-why-you-should-get-one/
[8] ) businessinsider, Top three African countries leading the golden visa race.9/8/2025.at: https://africa.businessinsider.com/local/lifestyle/top-three-african-countries-leading-the-golden-visa-race/9c402kn
[9] ) Wayua Muli, Op.cit.
[10] ) businessinsider, Op.cit