شكَّل تولّي “باشيرو ديوماي فاي” سُدَّة الحكم في جمهورية “السنغال” نقطة تحوُّل نوعية لثوابت ومتغيرات سياساتها الخارجية؛ فمنذ تنصيبه في أبريل 2024م، انتهجت جمهورية “السنغال” تحرُّكات خارجية أكثر انخراطًا وتقاربًا وظهورًا في محيطها الإقليمي، وأكثر ارتباطًا بدول جوارها؛ القريبة والبعيدة.
وتظهر تلك التحركات جليةً في جولات المكوكية للرئيس السنغالي ورئيس وزرائه إلى موريتانيا وغامبيا ونيجيريا وسيراليون وغينيا بيساو وساحل العاج وبوركينا فاسو وغينيا كوناكري خلال عام وشهرين تقريبًا.
وفي عام 2025م، إضافة إلى زيارات رئيس الوزراء إلى موريتانيا وبوركينا فاسو وساحل العاج وغينيا كوناكري وسيراليون في 13 يناير و16و30 مايو و1 و2 يونيو، جاءت زيارة الرئيس السنغالي إلى غينيا بيساو في 26 مايو لمدة 48 ساعة بدعوة من نظيره “عمر سيسوكو إمبالو“، في محاولةٍ طموحةٍ لتعزيز العلاقات الثنائية واستكشاف سبل ومحاور التعاون والصداقة وحسن الجوار.([1])
تآخٍ وتقارُب وتآزر… رسائل الزيارات ودوافعها:
يعي المُدقّق أن زيارات السنغال ورسائلها إلى دول الجوار لا تختلف كثيرًا؛ فجميعها زيارات موجَّهة نحو الجوار، بهدف تنشيط العلاقات الثنائية والإقليمية، والتباحث حول القضايا والتحديات المشتركة، وحتى مايو 2025م، يمكن استعراض الدوافع والرسائل المشتركة لزيارات المسئولين السنغاليين كما يلي:
1-التأكيد على التآخي الإقليمي
تجاور السنغال بصورة مباشرة كلًّا من مالي وموريتانيا وغامبيا وغينيا بيساو، وتترابط معهم بعلاقات تاريخية وثقافية وجغرافية واقتصادية، وتعمل بشتى الطرق لتوثيقها وتقويتها؛ فهي لا تدع فرصة أو زيارة إلا ونوَّهت إلى روابط التآخي الإقليمي، وكان أحدث رسالة هي التي أشار إليها رئيس وزراء السنغال “عثمان سونكو” في ساحل العاجل في 30 مايو؛ حيث ارتدى الزي الإيفواري التقليدي، مما يدل على تعلُّقه بالقِيَم الثقافية للبلد المضيف، وكرَّر تلك الرسالة شفهيًّا في 1 يونيو خلال زيارته إلى غينيا كوناكري؛ حيث قال: “أنا في وطني هنا. لم آتِ كسنغالي. لم أؤمن قط بالحدود المصطنعة التي فُرضت علينا، حتى لو اضطررنا للتعايش معها، فمنذ عام الاستقلال، اتفقنا على الحفاظ عليها لمجرد العقلانية والتنظيم… إن المجتمعات الغينية المقيمة في السنغال منذ عقود، والمجتمعات السنغالية في غينيا، لا تعتبر نفسها أُمَّتين مختلفتين”.([2])
2-التأكيد على احترام السيادة الوطنية وعدم التدخل
دأبت السنغال ومسؤولوها الدبلوماسيون على إظهار درجة من التوازن والبراغماتية والحيادية في تعاطيها مع دول الجوار الإقليمي؛ فهي تحرص باستمرار على إظهار احترامها للسيادة الوطنية، وعدم التدخل في شؤون الدول الداخلية، وهو اتجاه ظهر في تحركاتها ومواقفها تجاه مستجدات تحالف دول الساحل: النيجر ومالي وبوركينا فاسو، والتغيرات غير الدستورية التي طالتهم، ولعل ذلك هو ما رشَّحها للقيام بدور الوسيط والمُيسِّر لإعادتهم إلى جماعة “الإيكواس”، وخلال زيارة رئيس وزراء السنغال إلى غينيا كوناكري الأخيرة، وبتصريح أكثر دبلوماسية وحيادية وبراغماتية، أبدى موقفًا متزنًا وحياديًّا بشأن مسألة “اختفاء ناشطين سنغاليين في غينيا كوناكري، تمثل في إجابته لسؤال صحفي بشأن الناشطين السنغاليين قائلًا: “جئتُ في جولة اقتصادية، وهذه مسألة سياسية بامتياز“، مؤكدًا التزامه بمبدأ عدم التدخل. وأصرّ قائلًا: “لن أزور غينيا لأُملي على الغينيين ما يجب عليهم فِعْله”… إذا سمحت علاقاتي الودية بذلك، وإذا اضطررت للحديث عن ذلك، فسيكون ذلك بهدوء وبطريقة ودية، وليس في مؤتمر لأقول ما فعلته أو قلته”.
3-إبداء التضامن الإقليمي
تحمل زيارات المسؤولين السنغاليين تضامنهم الإقليمي إزاء التحديات المشتركة التي تواجه دول الجوار وخاصة الإرهاب؛ ففي 16 مايو 2025م، قال رئيس الوزراء السنغالي “عثمان سونكو“: “لقد جئت لنقل رسالة الدعم المطلق للرئيس إبراهيم تراوري وحكومته وكل شعب بوركينا فاسو في حربهم ضد الإرهاب، ولبحث كل إمكانيات التعاون والدعم من السنغال في مواجهة هذه المحنة”.
وأشار إلى أنه مِن الوهم الاعتقاد بأن دولًا أخرى في المنطقة الفرعية آمنة من الإرهاب المستشري في بوركينا فاسو والنيجر ومالي. “نعلم جميعًا أن مصائرنا مرتبطة بالتاريخ والجغرافيا، وأن أيًّا من بلداننا لا يمكن أن يكون بمنأى عن هذه المشكلة. ولذلك، فإن السنغال، بالإضافة إلى التعبير عن تضامنها، لن تستبعد أيّ شكل من أشكال التعاون لدعم بوركينا فاسو في هذه المحنة”.([3])
4-الترويج لإنشاء المنطقة الفرعية
أطلق مسؤولي السنغال خلال زياراتهم دعوات إلى دول جوارها لتعزيز التواصل والتضامن والتكامل فيما بينهم؛ ففي ساحل العاج، تمحورت المحادثات حول عدة مجالات إستراتيجية للتعاون، بما في ذلك التجارة والبنية الأساسية والطاقة والأمن وتنقل الأشخاص وتبسيط التجارة الاقتصادية من خلال توحيد الأطر التنظيمية، وخفض الحواجز الجمركية، وإنشاء ممرات لوجستية أكثر كفاءة، وناقشت الوفود مشروع تحسين الروابط الطرقية والسكك الحديدية بين أبيدجان وداكار، واقترح إعادة إطلاق مشروع الممر الاقتصادي أبيدجان-داكار الذي سيشمل برايا وكوناكري وبيساو وفريتاون، ومن شأنه أن يسمح بالاستفادة الكاملة من الفرص التي توفّرها بلدان المنطقة الفرعية. وصرح رئيس وزراء السنغال قائلًا: “نؤمن بإفريقيا، وداخل هذه إفريقيا، نؤمن بالدائرة المركزية لغرب إفريقيا”.([4])
5-الدعوة لشراكات اقتصادية وتجارية
تفصح تركيبة الوفود المصاحبة للمسؤولين السنغاليين المكونة من وزراء ونخب اقتصادية عن أحد الدوافع السنغالية من الزيارات الذي يتمثل في تطوير أو الدعوة لإقامة شراكات اقتصادية وتجارية ثنائية وإقليمية؛ فتركيبة الوفد المصاحب لرئيس الوزراء خلال زيارته الأخيرة إلى ساحل العاج، جمع بين وزيرة التجارة والصناعة، ووزير الاقتصاد والتخطيط، ووزير الثروة السمكية والبنية التحتية البحرية؛ ليؤكد الرغبة في تعزيز وترقية التبادل التجاري مع ساحل العاج؛ حيث أعرب رئيس وزراء السنغال عن مخاوفه بشأن انخفاض مستوى التجارة بين السنغال وكوت ديفوار المقدر بنحو 170 مليار فرنك إفريقي، وهي رغبة بدت أيضًا في اصطحابه في زيارته إلى غينيا كوناكري مسؤولين تنفيذيين من وزارتي الثروة السمكية والبنية التحتية؛ حيث صرح رئيس وزراء السنغال قائلًا: “أنا هنا تحديدًا لمواصلة توطيد هذه العلاقات بالمعنى المفهوم جيدًا لتعزيز أعمال التعاون الاقتصادي. إنني على قناعة بأنه معًا، من خلال تجميع جهودنا ومواردنا وخبراتنا، سنتمكن من تحقيق أكثر بكثير مما حققناه حتى الآن”.([5])
وفي نهاية الزيارة، أشار إلى الاتفاق على تشكيل “لجنة فنية” لتعزيز التكامل بين البلدين الجارين في قطاعات عدة، مثل مصائد الأسماك والطاقة والبنية التحتية.([6])
6-إحياء مشروعات البنية التحتية والنقل
روَّج مسؤولو السنغال لمشروعات الربط والبنية التحتية التي تُوصّل السنغال بدول الجوار الإقليمي، وذلك إلى الحد الذي يمكن القول معه: إنه لا توجد زيارة مسؤول سنغالي تخلو من الحديث عن تلك المشروعات أو الإشارة إليها.
وبالنظر إلى الزيارات الأخيرة، يتضح تسليط رئيس الوزراء في زيارته إلى موريتانيا في 14 يناير 2025م الضوء على مشروع جسر روسو، الذي اكتمل بناؤه بنسبة 30% حتى الآن، واتفق الزعيمان على تشكيل لجنة فنية لمعالجة المعوقات التي تعترض تقدم المشروع والسماح بتسليم الجسر قبل الموعد النهائي المحدد في 31 يوليو 2026م.
كما يظهر اقتراحه في زيارته إلى ساحل العاج بإعادة إطلاق الممر الاقتصادي أبيدجان-داكار، والذي سيشمل برايا وكوناكري وبيساو وفريتاون. وهي مبادرة من شأنها، أن تسمح بالاستفادة الكاملة من الفرص التي توفرها بلدان المنطقة الفرعية. وذلك بالإضافة إلى إشارة الرئيس السنغالي خلال زيارته لغينيا بيساو في مايو 2025م إلى ضرورة إعادة تأهيل الطريق الرابط بين زيجينشور وبيساو، والذي لا يزال جزءًا أساسيًّا من محور داكار-بانجول-بيساو.([7])
وفي 1 يونيو، أكد رئيس الوزراء إلى غينيا كوناكري على سعيه لتطوير مشروع “سيماندو” العملاق الذي يتضمن إنشاء 600 كيلو متر من البنية التحتية للسكك الحديد والموانئ لخدمة أكبر منجم جديد لخام الحديد في العالم.([8])
7-تحفيز التآزر الإقليمي حول المواد الخام والطاقة
تمتلك السنغال احتياطيات من المعادن بعائدات أكثر من 157 و112 و960 مليون دولار سنويًّا من التيتانيوم والزيركون والذهب على التوالي، وفيها، تُقدَّر احتياطات حقل “السلحفاة-آحميم” البحري المشترك مع موريتانيا من الغاز بنحو 100 تريليون قدم مكعب، وفيها أيضًا يُقدَّر حجم إنتاج حقل سانغومار من النفط بنحو 100 ألف برميل يوميًّا، وفي سياق ذلك، تسعى السنغال إلى تحقيق التآزر والترابط والتشبيك في مجال تطوير حقوق الغاز والنفط مع دول جوارها، ومع موريتانيا، طورت السنغال مشروع تعاون مع موريتانيا “GTA” في حقل “تورتو أحميم”، وفي غينيا كوناكري، أكد عثمان سونكو على تكامل الموارد الطبيعية للبلدين: الغاز في السنغال والبوكسيت في غينيا. وقال: إن هذا التآزر من شأنه أن يُثمر نتائج أكثر فائدة بكثير من الاستغلال المعزول والبدائي لهذه الموارد. وأضاف أن “الجمع بين هذين الموردين من شأنه أن يسمح لنا بإضافة قيمة وتحقيق مكاسب مائة مرة أكثر مما لو قمنا بتصديرهما كما هما”.([9])
8-مراجعة عقود النفط والغاز وإعادة التفاوض
بعد توليه منصبه ودخول السنغال على خط الدول المنتجة للنفط، أمر الرئيس “باشيرو ديوماي فاي” بمراجعة قطاعات النفط والغاز والتعدين، وتعهد بإعادة التفاوض على شروط العقود مع المشغّلين الأجانب في البلاد إذا لزم الأمر، وفي أغسطس 2024، شكلت السنغال لجنة من الخبراء القانونيين والضريبيين وقطاع الطاقة لمراجعة عقودها في مجال النفط والغاز، والعمل على إعادة توازنها بما يخدم المصلحة الوطنية، وتأتي تلك الخطوة من إدراك السنغال أن وجود مناطق غنية بالنفط والغاز مشتركة مع دول الجوار تنذر بصدامات محتملة وأكيدة في حال غياب الاتفاق والترتيب الواضح والمسبق، ولا سيما مع موريتانيا. وبشأن ذلك، ظلت النقاشات حول حقل الغاز الواقع على الحدود البحرية المشتركة على جدول أعمال كافة الزيارات، ولعل أحدثها جدول أعمال زيارة رئيس الوزراء في يناير 2025م.([10])
9-تقريب الرؤى والمواقف المشتركة
تدفع إشكالات الحدود المشتركة والتداعيات الجيوسياسية السنغال إلى إيجاد رؤية موحدة ومشتركة ومتقاربة بشأن التحديات العالمية والإقليمية مع دول جوارها، وتحقيقًا لذلك، يُكثّف مسؤولو السنغال في زياراتهم المناقشات والمشاورات حول تلك التحديات مع نظرائهم؛ من أجل عقد وتنفيذ اتفاقات في إدارة الغابات والحياة البرية والتجارة والنقل الجوي والتعليم والنظام القضائي، والطاقة ومكافحة الهجرة غير المشروعة والتجارة غير المشروعة العابرة للحدود ومكافحة الإرهاب، وهو ما أوضح تصريح الرئيس السنغالي في زيارته إلى غينيا بيساو في 26 مايو؛ حيث قال: “إنه ناقش مع الجانب الغيني بيساو في اجتماع التحديات العالمية، بما في ذلك عدم الاستقرار، وخطر تفكك المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا وأزمة التعددية، والأزمة الاقتصادية والمالية وتغيُّر المناخ وقال: إن هناك “تقاربًا مثاليًّا في الرؤية” مع غينيا بيساو بشأن كل هذه القضايا.([11])
10-تسهيل حرية التنقل والعبور
أدخلت السنغال في نقاشاتها ومحادثاتها حرية التنقل والعبور للأفراد والسلع والبضائع والخدمات، وقد زاد اهتمامها بهذا الملف بعد مراجعة أوضاع السنغاليين المقيمين في موريتانيا؛ وفي 15 أبريل 2025م، قال الوزير الأول السنغالي عثمان سونكو: إن “المناقشات ما تزال مستمرة” بين بلاده وموريتانيا بخصوص أوضاع السنغاليين المقيمين على أراضيها، وذلك في خضم الجدل الذي دار مؤخرًا بشأن ترحيل السلطات الموريتانية بعض المهاجرين غير النظاميين ينحدرون من دول مختلفة بينها السنغال. وفي 3 يونيو 2025م، وقَّعت السنغال اتفاقات لتحسين ظروف إقامة واستقرار المواطنين السنغاليين المقيمين في موريتانيا، وإنشاء إطار عمل للتعاون في مكافحة الهجرة غير النظامية والجريمة المنظمة العابرة للحدود.([12])
حفاوة بالغة:
بالعودة إلى زيارة الرئيس السنغالي الأخيرة إلى غينيا بيساو، تجدر الإشارة إلى أنه تم استقباله بحفاوة عسكرية بالغة وبتشريفات بروتوكولية مِن قِبَل نظيره “عمر سيسوكو إمبالو” في عاصمة غينيا بيساو، وبحضور أعضاء حكومته، والسلك الدبلوماسي، والزعماء التقليديين، وتم تقليده “وسام كابرال” – وهو أعلى وسام في غينيا بيساو-؛ لالتزامه بالسلام والتعاون الإقليمي وتعزيز العلاقات الثنائية.
وزار قلعة أمورا؛ حيث قاما بوضع إكليل من الزهور على ضريح أميلكار كابرال، الشخصية الرمزية في النضال من أجل الاستقلال، وكان ذلك بمثابة استذكار للروابط التاريخية العميقة التي تجمع السنغال وغينيا بيساو، وهو ما دفع الأوساط الأكاديمية والرسمية والشعبية في غينيا بيساو إلى القول بأنه لم يسبق قط أن حظي رئيس دولة أجنبية بهذا القدر من التصفيق على طول الكيلو مترات الثمانية التي تفصل المطار عن مركز المدينة.([13])
زيارة بروتوكولية:
ترجع حفاوة الاستقبال بزيارة الرئيس السنغالي إلى كونها الأهم في التسلسل الهرمي للبروتوكول؛ حيث لم يقم رئيس سنغالي بزيارة بروتوكولية إلى هذا الحد -الأعلى على الإطلاق- إلى البلاد منذ حصول غينيا بيساو على استقلالها عام 1974م، ولكونها جاءت تلبيةً لدعوة الرئيس “عمر سيسوكو إمبالو” لتعزيز “علاقات التعاون وحسن الجوار”.([14])
وتجدر الإشارة إلى أنها ليست الوحيدة التي شهدتها غينيا بيساو لمسؤول سنغالي في 2025م؛ إذ سبقتها زيارة رئيس الوزراء السنغالي “عثمان سونكو” في فبراير 2025م، والتي انتهت بتوقيع اتفاق بين الحكومة السنغالية وبوساطة غينيا بيساو لوقف نهائي لإطلاق النار، ولاستكمال الاتفاق السابق المبرم في أغسطس 2022م، وقد وافق الطرفان على بنوده الرئيسية، التي تشمل وقف إطلاق النار، ونزع سلاح المقاتلين وإعادة دمجهم في المجتمع، وتسهيل عودة اللاجئين والنازحين، إضافة إلى احترام سيادة السنغال.([15])
ملفات شائكة:
يؤكد الناظر للزيارات السنغالية، أن زيارة الرئيس السنغالي الأخيرة -بالإضافة إلى كونها الأهم في التسلسل الهرمي البرتوكولي-، وُصِفَتْ في الأوساط الشعبية والأكاديمية والرسمية بأنها زيارة تاريخية، وهو وَصْف ورد على لسان رئيس غينيا بيساو، ويمكن فهم تاريخية واستثنائية تلك الزيارة ليس فقط لتطرُّقها إلى ملفات شائكة: سياسية وأمنية واقتصادية وثقافية خلال المحادثات الثنائية بين الرئيسين واللقاءات بين الوزراء والوفود، بل أيضًا لكونها الزيارة الوحيدة التي نفَّذها الرئيس السنغالي لدول الجوار الإقليمي في حين نفَّذ باقي الزيارات رئيس الوزراء السنغالي، وفي هذا السياق، يمكن الإشارة إلى ما تطرقت إليه الزيارة على النحو التالي:
1- التأكيد على الروابط التاريخية والجغرافية
لم تختلف زيارة الرئيس السنغالي عن زيارات رئيس وزراء في التأكيد على روابط التاريخ والجغرافيا والثقافة والتآخي بين دول الجوار؛ فإزاء دولة غينيا بيساو، صرح الرئيس السنغالي قائلًا: “شعوبنا لا تنفصل عن بعضها البعض؛ إذ يجمعنا التاريخ والجغرافيا والثقافة. هذه اللحظة التي نتشاركها معًا تعكس بلا شك الجودة الاستثنائية لعلاقات الصداقة الأخوية وحُسْن الجوار بين السنغال وغينيا بيساو. هذا ما صرّح به “باسيرو ديوماي فاي”. وأشاد الرئيس “إمبالو” بعمق العلاقات الثنائية، مؤكدا أنها تمتد بجذورها إلى تاريخ مشترك يعود إلى ما قبل استقلال غينيا بيساو. وقال: “لا يوجد بلد أكثر التزامًا بالسلام والاستقرار والتنمية في غينيا بيساو من السنغال”.([16])
2-تطوير المصائد السمكية
تُولي السنغال للثروة والمصائد السمكية عنايةً بالغةً، وتجعلها أحد ملفات التعاون والشراكة مع دول جوارها الإقليمي لا سيما مع كلٍّ من موريتانيا وغينيا بيساو؛ فمع الأخيرة، وإلى جانب سعي الرئيس السنغالي في زيارته إلى استكشاف محاور تعاون جديدة مع نظيره رئيس غينيا بيساو، لم يُغفل الرئيس السنغالي الإشارة إلى ضرورة ترقية وتعزيز التعاون بين الطرفين في مجال الثروة السمكية، والذي يمثل إحدى الركائز الأساسية للعلاقات الثنائية بين البلدين منذ توقيع اتفاقية مصائد الأسماك في 1987م؛ إذ تحاول السنغال تعزيز وتطوير مصائدها البحرية والاستعاضة عن تضاؤل وضعف الثروة السمكية في السواحل السنغالية من خلال الاستفادة من تراخيص الصيد التي تمنحها غينيا بيساو إلى السنغاليين، وكذلك عبر معالجة مسألة سفن الصيد الصينية غير المرخصة التي تتمركز في مياه غينيا بيساو، وتشتري صيدها من الصيادين الحرفيين السنغاليين.([17])
3-تسهيل الحركة والعبور بين الدولتين
كشفت زيارة الرئيس السنغالي عن رغبة السنغال في تعزيز التعاون والشراكة في مجال إدارة الحدود والهجرة غير النظامية، ومنع الاتجار بالبشر، والعمل على تسهيل وضمان حرية الحركة والتنقل والعبور بين الدولتين للسلع والبضائع والأفراد. وفي ثنايا الزيارة، أكد الرئيس السنغالي على ضرورة العمل على تأهيل الطريق الذي يربط بين زيغينشور وبيساو، الذي يُشكِّل محورًا إستراتيجيًّا في الخط الرابط بين دكار وبانجول وبيساو، ويضمن تعزيز التبادل التجاري بين الطرفين الذي يحتاج إلى الترقية؛ فقد قُدّرت صادرات غينيا بيساو إلى السنغال بنحو 108.257 طن في عام 2022م، ومثل السنغال 48٪ من إجمالي واردات غينيا بيساو داخل الاتحاد الاقتصادي والنقدي لغرب إفريقيا، بما في ذلك الفواكه والخضروات والحليب المبستر والماشية والأرز والزيت والدقيق.([18])
4-تقييم وتقويم إجراءات السلام والأمن في إقليم كازامانس
لا شك أن زيارة الرئيس السنغالي سبقتها زيارة رئيس الوزراء في فبراير 2025م التي مهَّدت للتوقيع على اتفاق وقف إطلاق النار بين الحكومة السنغالية وحركة القوى الديمقراطية في كازامانس برعاية غينيا بيساو، وقد نص هذا الاتفاق -في جملة أمور- على الوقف الدائم لإطلاق النار، وتسريح المقاتلين وإعادة إدماجهم، وعودة اللاجئين والنازحين([19]).
ويُلاحظ المدقق أن تلك البنود لم تشهد تقدمًا حقيقيًّا بعدُ في الإقليم، ولم تُنْهِ التوترات والاشتباكات القائمة، ولم تعالج التحديات التي أرَّقَت اتفاقات السلام المُوقَّعة سابقًا.
ويكفي القول: إن اتفاق وقف إطلاق النار لا يعدو عن كونه إعادة إنتاج لاتفاقات السابقة دون معالجة، ولا يرى في الاتفاق حلًّا حتى الآن، ويشمل أحد الفصائل المتمردة وليس كلها، وقد دلَّل على ضعف وهشاشة الاتفاق: الاشتباكات التي وقعت في منتصف أبريل 2025م في منطقة دجيناكي، ورغم أن تلك الاشتباكات لم تُنْهِ الاتفاق، إلا أنها تحمل رسالة ممن لم يرتضوا بلغة التسويات، وتؤكد أن بعض فصائل المتمردين لا تأخذ بعين الاعتبار الاتفاق المبرم. ونظرًا لثقل غينيا بيساو ودورها وتقاربها وترابطها مع قاطني الإقليم وقيامها بدور الوسيط والراعي لمحاولات السلام في الإقليم، عمل الرئيس السنغالي في زيارته على طرح مسألة الإقليم في لقاء مغلق مع نظيره “عمر سيسوكو إمبالو”؛ حيث يتسنَّى لهما إجراء تقييمات لاتفاق وقف إطلاق النار وتسليط الضوء على التقدمات والنجاحات وتحديد التحديات على أن يضع الاجتماع المغلق تقويمًا لإجراءات السلام ويدفعها للاستمرار قدمًا نحو النفاذ والتطبيق.([20])
5-ترسيم الحدود البحرية المشتركة وترتيب إدارتها
تتقاسم السنغال مع غينيا بيساو حدودًا مشتركة بطول أكثر من 300 كم من ناحية الجنوب، وهي حدود -بالإضافة إلى كونها شاهدة على تمرُّد حركة استقلال كازامانس– غير محددة جيدًا، وتثير من وقتٍ لآخر نزاعًا كامنًا لم يَنْتَهِ بعدُ، وهو ما دفَع السنغال إلى إنشاء لجنة فنية مشتركة في نوفمبر 2023م لبدء وتنفيذ إجراءات مشتركة للحل السلمي للنزاعات، وتعزيز السلام والأمن في المناطق الحدودية، وقد كشفت السياقات الراهنة عن اعتزام الرئيس السنغالي مناقشة مسألة ترسيم الحدود المشتركة، وترتيب إدارته بشكل يُعزّز الإدارة المشتركة للحدود بين الطرفين، ويزيد من فرص تعاونهم في مكافحة الاتجار غير المشروع والجريمة العابرة للحدود الوطنية.([21])
6-تعزيز التبادل التجاري
أفصحت الزيارة عن مساعٍ سنغالية وترحيبات من غينيا بيساو لتطوير وتعزيز العلاقات الثنائية؛ حيث تناولت المحادثات محاولات تطوير وتعزيز التعاون في مجالات الدفاع والأمن والتعليم والتدريب والصحة والزراعة وصيد الأسماك، وهو ما كشفت عنه مخرجات الزيارة وتصريحات أطرافها؛ حيث قال الرئيس السنغالي: “إن الزيارات المتبادلة بين زعماء البلدين تظهر “تميز العلاقات الثنائية” في الوقت الحاضر.
وقال: “أود أن أؤكد لكم أن السنغال ستقف دائمًا إلى جانب غينيا بيساو في مساعيها لتعزيز أمنها واستقرارها”، وقال: “أود أن أعرب عن ارتياحي للتعاون الغني في مختلف المجالات بين السنغال وغينيا بيساو وخاصة في مجال التجارة”، الأمر الذي يؤكد رغبة وسعي السنغال في توقيع اتفاقية ثلاثية بين غينيا بيساو وغامبيا والسنغال لاستيراد الضروريات بشكل مشترك من السوق الدولية.([22])
وفي الختام، يمكن القول: إن تولّي الرئيس السنغالي “باشيرو ديوماي فاي”، أعاد هندسة السياسة الخارجية السنغالية وحفَّز تحركاتها الخارجية نحو دول الجوار الإقليمي، وأن السنغال ترغب في استثمار تحركاتها الإقليمية في المقام الأول في إعادة التموضع الإقليمي والقيام بدور أكثر نشاطًا، ودفع دول جوارها القريب نحو نهج أكثر تكاملًا وتقاربًا، تلج منه إلى إنشاء المنطقة الفرعية بين تلك الدول تحت قيادتها، وتنعم من خلاله بفرص أكثر سهولة في تسوية وتصفير خلافاتها معهم، لا سيما حول النفط والغاز والمياه والثروة السمكية والحدود المشتركة.
وحتى الآن، يبدو أن السنغال تمكنت عبر زيارات مسؤوليها من توجيه رسائلها إلى دول الجوار التي تدور حول التآخي الإقليمي والتعاون والتكامل الاقتصادي والتجاري والاستخباراتي والأمني، والتأكيد على احترام السيادة الوطنية، وعدم التدخل، وإبداء التضامن الإقليمي وتحفيز التآزر الإقليمي حول المواد الخام والطاقة. كما يمكن الجزم بأن زيارة الرئيس السنغالي إلى غينيا بيساو كانت الأكثر ظهورًا في جولات مسؤولي السنغال والأهم في التسلسل الهرمي، وسمحت للسنغال بفرصة جديدة للتأكيد على الروابط التاريخية مع جارتها “غينيا بيساو”، وعزمها على تطوير المصائد السمكية، وتقييم وتقويم إجراءات السلام والأمن في إقليم كازامانس.
………………………….
[1] Bassirou Diomaye Faye Visits Bissau Amid Banned Protests and Police Repression, Gambia Journal, May 2025, https://l.muz.kr/FRy
[2] Après Ouaga, Sonko en visite de travail de 3 jours a Abidjan, bamda, 30 May 2025, https://l.muz.kr/Csp
[3] Dakar n’exclut aucune forme de soutien à Ouagadougou dans sa guerre contre le terrorisme (Ousmane Sonko), APS, 16 May 2025, https://l.muz.kr/IQN
[4] Sierra Leone : Ousmane Sonko plaide pour un corridor maritime Dakar–Freetown, LERAL, Access date June 2025, https://l.muz.kr/2bM
[5] Sonko à Conakry pour renforcer « la coopération économique », APA, 2 juin2025, https://l.muz.kr/HZV
[6] Guinée: coopération renforcée avec le Sénégal à l’occasion de la visite du Premier ministre Ousmane Sonko, 3 June 4, 2025, https://l.muz.kr/eFW
[7] – مناقشات ثنائية والتوقيع على اتفاقيات… الرئيس السنغالي يختتم زيارته إلى غينيا بيساو، بوابة الأهرام، 27 مايو 2025م، https://gate.ahram.org.eg/News/5179558.aspx
[8] Ousmane Sonko en Guinée : « Je n’ai jamais cru aux frontières qui nous ont été imposées », senenews, 02/06/2025, https://l.muz.kr/CmZ
[9] Sonko à Conakry pour renforcer « la coopération économique », APA, 02 juin 2025, https://l.muz.kr/PE2
[10] À Ouagadougou, Ousmane Sonko affirme le soutien total du Sénégal au Burkina Faso dans la lutte contre le terrorisme,, SENEGO, 16 mai 2025, https://l.muz.kr/PYx
[11] Guinea-Bissau: Senegal ‘will always stand by country’ on security – president Faye, clubofmozambique, 27 May 2025, https://l.muz.kr/lZJ
[12] Ousmane Sonko à Abidjan : appel à une coopération renforcée pour une Afrique de l’Ouest pacifiée, Africa Radio, le 31/05/2025, https://l.muz.kr/ckk8
[13] Guinea-Bissau: Senegal ‘will always stand by country’ on security – president Faye, 27 May 2025, https://l.muz.kr/HPh
[14] Coopération. Le Sénégal et la Guinée-Bissau signent plusieurs accords, lobservateur.info, 28 Mai 2025, https://l.muz.kr/g1a
[15] Ousmane Sonko signe un nouvel accord de paix avec une faction du MFDC, journaldusenegaL, 3 JUIN 2025, https://l.muz.kr/yp0
[16] Guinée-Bissau: le président sénégalais accueilli en grande pompe pour sa première visite d’État dans le pays, RFI, 27/05/2025, https://l.muz.kr/3zT
[17] Guinée-Bissau: le président sénégalais accueilli en grande pompe pour sa première visite d’État dans le pays, RFI, 27/05/2025, https://l.muz.kr/3zT
[18] Visite d’État en République de Guinée-Bissau : Le Président Faye visite une usine de transformation de noix de cajou., Présidence du Sénégal, 27 mai 2025, https://l.muz.kr/J6E
[19] – رئيس السنغال في زيارة دولة لغينيا بيساو، الجزيرة، 26 مايو 2025، https://l.muz.kr/G3R
[20] – غينيا: توقيع اتفاق بين الحكومة السنغالية وحركة القوى الديمقراطية لكازامانس، وكالة أنباء موريتانيا، https://alakhbar.info/?q=node/59212
[21] Guinée-Bissau: le nouveau président sénégalais Bassirou Diomaye Faye en visite, RFI, 30/04/2024, https://l.muz.kr/fKwF
[22]Lusa – Business News – Guinea-Bissau: Senegal represents 48% of imports under UEMOA, aman, 05/28/2025, https://www.aman-alliance.org/Home/ContentDetail/90525