إعلان نيويورك وحلّ الدولتين: هل فشلت إفريقيا في صياغة موقف مُوحَّد؟

هشام قدري أحمد، باحث في العلوم السياسية

نهال أحمد السيد، باحثة في الشأن الإفريقي

في 12 سبتمبر 2025م، أقرت الجمعية العامة للأمم المُتحدة “إعلان نيويورك” بشأن التسوية السلمية للقضية الفلسطينيَّة وتنفيذ حل الدولتين، بموافقة 142 دولة، ومُعارضة 10 دول، وامتناع 12 دولة عن التصويت، وتعكس هذه الخطوة الجهود الدوليَّة المستمرة لإنهاء الحرب الدائرة في قطاع غزة مُنذ عامين ومنح الشعب الفلسطيني حقه في إقامة دولة مُستقلة ذات سيادة.

وفي سياق متصل، وعلى الرغم من إدانة الاتحاد الإفريقي للعنف ودعواته إلى خفض التصعيد ودعمه لحق الفلسطينيين في تقرير مصيرهم؛ فقد كشف تصويت دول المجموعة الإفريقيَّة على الإعلان عن تباين واضح في مواقفها، مما يعكس غياب سياسة خارجيَّة موحدة بين دول القارة.

ارتباطًا بما تقدم؛ تسعى هذه الورقة إلى تحليل السُّلوك التصويتي للدول الإفريقيَّة إزاء “إعلان نيويورك” وإقامة دولة فلسطينيَّة، وذلك من خلال ثلاثة محاور رئيسية؛ حيث يتناول المحور الأول أهم مضامين إعلان نيويورك بوصفة خارطة طريق جديدة لإحلال السلام وتنفيذ حلّ الدولتين، ويرصد المحور الثاني اتجاهات السُّلوك التصويتي لدول المجموعة الإفريقيَّة، ولا سيَّما الدول التي امتنعت عن التصويت بهدف الكشف عن دوافعها لاتخاذ هذا القرار، وأخيرًا يُحاول المحور الثالث الوقوف على أبرز الدلالات السياسيَّة التي كشف عنها السلوك التصويتي للدول الإفريقيَّة في هذا الجانب.

أولًا- إعلان نيويورك وخارطة طريق جديدة لإحلال السلام وتنفيذ حل الدولتين:

يُشكّل إعلان نيويورك بشأن تسوية القضية الفلسطينيَّة سلميًّا، وتطبيق حل الدولتين، أحد أهم النتائج السياسيَّة التي أسفر عنها مؤتمر الأمم المُتحدة رفيع المستوى، الذي عُقِد في الفترة من 28 إلى 30 أغسطس 2025م، تحت رئاسة مشتركة لكلٍّ من فرنسا والمملكة العربيَّة السعودية؛ بهدف إعادة تأكيد الدعم الدولي لحل الدولتين والمُساعدة في إنهاء الحرب التي تشنّها إسرائيل على قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر 2023م، والتي خلَّفت حتى اليوم، بحسب بيانات صادرة عن وزارة الصحة في القطاع، نحو 200 ألف ما بين قتيل وجريح.

يدعو “إعلان نيويورك”، المكون من سبع صفحات، إلى إنهاء الحرب في قطاع غزة، وإيجاد تسوية شاملة وعادلة بين طرفي الصراع، وإدانة الهجمات وأعمال العنف المُرتكبة مِن قِبَل حماس أو قوات الجيش الإسرائيلي، ويطالب بالإفراج الفوري عن الرهائن الإسرائيليين الذين اختطفتهم الحركة، كما تدين وثيقة الإعلان عمليات الحصار والتجويع التي تفرضها إسرائيل بحق المدنيين، والتي تُشكّل خرقًا جسيمًا لقواعد القانون الدولي، وترفض أعمال التهجير والترحيل القسري للمدنيين الفلسطينيين أو إجبارهم على مغادرة أراضيهم، وتنفيذًا لحل الدولتين، ضمن حدود آمنة ومعترف بها، يدعو الإعلان إلى خارطة طريقة محددة زمنيًّا استنادًا إلى قرارات الأمم المُتحدة ذات الصلة، على أن تتضمَّن هذه الخارطة انسحاب حركة حماس من المشهد السياسي في غزة وتسليم السلاح للسلطة الفلسطينيَّة، وإنشاء لجنة انتقالية تتولى مهام الإدارة في القطاع تحت مظلة السلطة الفلسطينيَّة، بالإضافة إلى نشر بعثة دوليَّة مؤقتة لتحقيق الاستقرار تحت رعاية الأمم المُتحدة من أجل حماية السكان المدنيين وضمان الالتزام بوقف إطلاق النار[1].

ويعكس “إعلان نيويورك” الإرادة الدوليَّة المؤيدة لحل الدولتين، باعتباره الضمانة الأساسية لإخماد الصراع ودعم الاستقرار الإقليمي في الشرق الأوسط، كما أنه يُمثل محاولةً لإعادة إحياء المسار الدبلوماسي بشأن إمكانية تسوية المسألة الفلسطينيَّة سلميًّا، والتأكيد على عدم جدوى الخيار العسكري الذي تحاول إسرائيل من خلاله إقصاء الفلسطينيين، ومنعهم من الحق المشروع في تقرير مصيرهم، ومع ذلك فإنَّ التوافق الدولي حول “إعلان نيويورك” ليس كافيًا لترجمة مضامينه فعليًّا على أرض الواقع؛ إذ ستصطدم محاولات تنفيذه بعدة عقبات، أبرزها التعنُّت الإسرائيلي وتمسُّك الإدارة الأمريكيَّة بموقفها الداعم لإسرائيل بلا قيد أو شرط والرافض لقيام دولة فلسطينيَّة مستقلة.

ثانيًا- اتجاهات السُّلوك التصويتي للدول الإفريقيَّة إزاء إعلان نيويورك:

تُشكّل المجموعة الإفريقيَّة في الأمم المُتحدة أكبر كتلة تصويتية؛ إذ تضم 54 دولةً من مجموع الدول الأعضاء في المنظمة الأممية البالغ عددهم 193 عضوًا، أي: ما يقارب 28 في المائة، ومِن ثمَّ تُمثل الدولة الإفريقيَّة عاملًا حاسمًا ومؤثرًا في اعتماد قرارات الأمم المُتحدة، ولا سيَّما الجمعية العامة التي يشترط الميثاق عند التصويت على قراراتها المهمة، مثل قبول أعضاء جدد والتوصيات الخاصة بحفظ السلم والأمن الدولي وانتخاب أعضاء مجلس الأمن غير الدائمين، موافقة ثلثي الدول الحاضرة والمُشتركة في التصويت.

لكن على الرغم من الإدانة الواسعة التي عبَّرت عنها حكومات الدول الإفريقيَّة للحرب الإسرائيليَّة على غزة، وما تحظى به القضية الفلسطينيَّة من دعم تاريخي منذ تدشين منظمة الوحدة الإفريقيَّة في مطلع ستينيَّات القرن الفائت مرورًا بالاتحاد الإفريقي، إلا أنَّ الجلسة التصويتية، التي عقدتها الجمعية العامة في مقرها بمدينة نيويورك في 12 سبتمبر 2025م للتصويت بشأن مشروع حل الدولتين؛ شهدت تباينًا واضحًا في مواقف المجموعة الإفريقيَّة.

يعكس هذا التباين تبنّي الحكومات الإفريقيَّة مصالح وتوجهات معارضة لسياسة الاتحاد الإفريقي الداعمة لحل الدولتين، وهو ما أكَّدت عليه مفوضية الاتحاد الإفريقي في بيانها الصادر في أكتوبر 2023م، ووقَّعت عليه كل حكومات التكتل الإقليمي، ودعت من خلاله إلى تطبيق حلّ الدولتين وإقامة دولة فلسطينيَّة مستقلة على حدود الرابع من يونيو لعام 1967م[2]، ونتناول فيما يلي اتجاهات السُلوك التصويتي للدول الإفريقيَّة تجاه “إعلان نيويورك” وتطبيق حل الدولتين، وذلك على النحو الآتي:

المصدر: الشكل من إعداد الباحثين اعتمادًا على البيانات المُتاحة على موقع الأمم المُتحدة

1- الدول المؤيدة لمشروع القرار

اعتمدت الجمعية العامة “إعلان نيويورك” بعد موافقة 142 دولة، وقد بلغ عدد الدول الإفريقيَّة التي صوَّتت إيجابًا لصالح القرار 38 دولةً، أي ما يُمثل 26.8 في المائة من مجموع الدول المؤيدة، ونحو 70 في المائة من إجمالي الكتلة التصويتية الإفريقيَّة في الجمعية العامة، وتضم قائمة الدول التي صوَّتت لصالح القرار كلًّا من: الجزائر، أنغولا، بوتسوانا، بوركينا فاسو، بوروندي، الرأس الأخضر، تشاد، تنزانيا، جزر القمر، الكونغو، كوت ديفوار، جيبوتي، مصر، الغابون، غامبيا، غانا، غينيا، كينيا، ليسوتو، ليبيا، مالي، موريتانيا، موريشيوس، المغرب، موزمبيق، ناميبيا، النيجر، نيجيريا، رواندا، السنغال، سيشل، سيراليون، الصومال، جنوب إفريقيا، السودان، توجو، أوغندا، وزيمبابوي.

2- الدول المُعارضة والمتغيبة عن الحضور

لم تعارض أي دولة إفريقيَّة ولم تصوِّت ضد مشروع حل الدولتين، ومع ذلك قرَّرت وفود 12 دولةً إفريقيَّة من أصل 29 دولة، الامتناع عن حضور جلسة التصويت، وهذه الدول هي: بنين، تونس، إريتريا، غينيا الاستوائيَّة، إفريقيا الوسطى، مدغشقر، زامبيا، ليبيريا، ساوتومي وبرينسيب، إسواتيني (سوازيلاند سابقًا)، مالاوي، وغينيا بيساو. ويعكس هذا الموقف تذبذبًا في سياسات هذه الدول، فبالعودة إلى مايو 2024م عندما صوَّتت الجمعية العامة على عضوية فلسطين في الأمم المُتحدة، نجد أنَّ الدول الست الأولى أيَّدت القرار اعترافًا منها بالدولة الفلسطينيَّة، وكانت مالاوي هي الدولة الإفريقيَّة الوحيدة التي امتنعت عن التصويت، فيما تغيبت الدول الخمس الأخرى عن الحضور أيضًا.

3- الدول الممتنعة عن التصويت

من بين 12 دولةً امتنعت عن التصويت بـ “نعم” أو “لا” بشأن مشروع قرار “إعلان نيويورك”؛ نجد أنَّ هناك أربع دول إفريقية فقط اتخذت هذا الموقف، وهي: إثيوبيا، جنوب السودان، الكاميرون، بالإضافة إلى جمهورية الكونغو الديمقراطيَّة، وباستثناء أديس أبابا التي أيَّدت مشروع قرار منح فلسطين العضوية الكاملة في الأمم المُتحدة في مايو 2024م، فإنَّ السلوك التصويتي للدول الثلاث الأخرى لا يبدو مفاجئًا بحكم علاقاتها الوثيقة بإسرائيل ونظرًا لعدم دعمها لعضوية فلسطين في المُنظمة الأممية.

فإثيوبيا تربطها بإسرائيل علاقات خاصة لها جذور تاريخيَّة تعود إلى خمسينيَّات القرن العشرين، وتشهد العلاقات البينية بين الطرفين حراكًا كثيفًا في المجالات السياسيَّة والاقتصاديَّة والاستخباراتيَّة، فعلى المستوى الاقتصادي تركز تل أبيب استثماراتها في قطاع الزراعة الإثيوبي، وبدورها تسعى أديس أبابا للاستفادة من التكنولوجيا الإسرائيليَّة الحديثة في هذا القطاع، وعلى صعيد التعاون العسكري والأمني يُشكِّل مجال الاستخبارات ومكافحة الإرهاب أبرز المجالات لتعزيز التعاون الثنائي بين البلدين، علاوةً على ذلك، لا تخلو العلاقات بين الجانبين من رمزية دينيَّة؛ إذ تحتضن إسرائيل ما يقرب من 135 ألف عنصرًا من يهود إثيوبيا “الفلاشا”، وفي المقابل تمتلك إثيوبيا أكبر تجمع يهودي في إفريقيا جنوب الصحراء بعد جنوب إفريقيا[3].

ولا شك أنَّ هذه العلاقات البينية الخاصة بين البلدين، والتي شهدت تقدمًا وتنوعًا ملحوظًا في السنوات الأخيرة؛ هي ما دفعت إثيوبيا إلى الامتناع عن التصويت حول “إعلان نيويورك”، على الرغم من خطابها الداعم لحقوق الفلسطينيين، باعتبار ذلك يُمثل إستراتيجية متوازنة تستهدف أديس أبابا من خلالها عدم الإضرار بمصالحها مع حليفيها الإستراتيجيين؛ تل أبيب وواشنطن، وإظهار تمسكها بموقفها الحيادي في الوقت نفسه.

أما الكاميرون، وهي الدولة التي ترفض الاعتراف بالدولة الفلسطينيَّة، وأعلنت تعاطفها مع إسرائيل غداة هجوم السابع من أكتوبر 2023م ضد ما أسمته بالهجمات الإرهابية للفصائل الفلسطينيَّة، فإنَّ عنصر الأمن لا يزال يشكل لدى حكومتها الركيزة الأساسية التي تُبقى على علاقتها مع إسرائيل ضمن مستوى مستقر من التقارب والتعاون الثنائي، فالرئيس الكاميروني “بول بيا” Paul Biya، الذي يحكم البلاد منذ عام 1982م كأقدم رؤساء القارة، لم يُخفِ دعمه الصريح لتل أبيب التي وسَّعت تعاونها الأمني والاستخباراتي مع “ياوندي” بشكل مكثّف وصل إلى حد تولّي ضباط إسرائيليين تشكيل وتدريب قوات التدخل السريع (BIR) التي تتبع للرئيس الكاميروني بشكل مباشر وتضطلع بمهمة حمايته شخصيًّا، ولعل ذلك ما يفسر رفض الكاميرون الاعتراف بالدولة الفلسطينيَّة أو التصويت لصالح “إعلان نيويورك”؛ حيث من شأن هذه الخطوة أن تؤثر سلبًا على علاقاتها الدافئة مع إسرائيل، كما أنها قد تُعكّر صفو علاقاتها بالولايات المُتحدة التي تغض الطرف عن انتهاكات الحكومة الكاميرونيَّة بحق الجماعات الانفصاليَّة المتمردة الناطقة بالإنجليزيَّة في جمهورية أمبازونيا المُعلنة من طرفٍ واحد، يُضاف إلى ذلك رغبة الرئيس “بيا” في الحصول على الدعم الدولي من المؤسسات الماليَّة، مثل صندوق النقد والبنك الدوليين، لمواجهة الأعباء والضغوط الاقتصاديَّة التي تواجه البلاد، وهو ما لن يتحقق إلا بدعم الولايات المُتحدة.

بالنسبة لجنوب السودان، وهي آخر الدول التي انضمت إلى الجماعة الدوليَّة في أعقاب انفصالها عن السودان عام 2011م وانتسابها إلى عضوية الأمم المُتحدة، فقد كانت إسرائيل في مقدمة الدول التي سارعت إلى الاعتراف بها وشرعت في توطيد علاقاتها السياسيَّة والاقتصاديَّة معها، وقدَّمت لها دعمًا في مجالات عدة، شملت الأمن والزراعة والتعليم.

هذا التقارب بين البلدين بلغ مستوًى غير مسبوق، إلى حدّ أنَّ بعض التقارير الدوليَّة أشارت إلى أنَّ حكومة جنوب السودان تلقَّت عرضًا من الولايات المُتحدة وإسرائيل لإعادة توطين الفلسطينيين الذين سيتم تهجيرهم وإجبارهم على النزوح من قطاع غزة، وعلى الرغم من نَفْي حكومة “جوبا” وجود مثل هذا الاتفاق[4]، إلا أنَّ ذلك لم يُبدِّد الشكوك القائمة حول إمكانية رضوخ حكومة جنوب السودان لهذا المقترح، لا سيما وأن علاقاتها مع تل أبيب تدفع لإمكانية انخراط “جوبا” في هذا الاتجاه، فضلًا عن رغبتها في استمالة الولايات المُتحدة لرفع العقوبات الأمريكيَّة والدوليَّة عنها؛ لذا يُمكن القول بأنَّ امتناع حكومة جنوب السودان عن تأييد “إعلان نيويورك” بشأن تطبيق حل الدولتين، من خلال عزوفها عن التصويت، يُمثل مؤشرًا قويًّا لدعم هذه الفرضية.

وأخيرًا، يُمثل موقف جمهورية الكونغو الديمقراطيَّة بالامتناع عن التصويت حول “إعلان نيويورك” تعبيرًا عن سياسة النهج الحذر، فمن ناحية لا تسعى كنيشاسا، التي تعاني من ويلات الحرب الأهليَّة، إلى تحدي الإرادة الدوليَّة أو التصادم معها من خلال دعمها الصريح لإسرائيل والتصويت بـ”لا”، ومن ناحية أخرى لا ترغب في الإضرار بعلاقاتها الأمنيَّة والاستخباراتيَّة مع إسرائيل والولايات المُتحدة الأمريكيَّة عبر التصويت بـ”نعم”، وبالتالي كان الامتناع عن التصويت هو الخيار العقلاني بالنسبة لحكومة كينشاسا.

ومما تجدر الإشارة إليه أنَّ التغلغل الإسرائيلي في الكونغو الديمقراطيَّة ليس وليد السنوات الأخيرة، بل يعود إلى بداية ثمانينيَّات القرن الماضي، عندما وقَّعت تل أبيب مع كينشاسا أولى اتفاقياتها الأمنيَّة والعسكريَّة في القارة، وقد شكَّلت هذه الاتفاقية فاتحة طريق لتوقيع اتفاقيات مُماثلة مع دول أخرى، وتُعدّ الشركات الأمنيَّة الإسرائيليَّة أداةً لتعزيز التوغل الإسرائيلي في الكونغو الديمقراطيَّة، وتبرز في هذا الصدد “مجموعة  مير Mer Group” التي تقدم خدمات أمنيَّة واستخباراتيَّة متقدمة للحكومة حول المتمردين وعناصر المُعارضة السياسيَّة[5].

من هنا، تظهر أهمية الدعم الإسرائيلي، على الصعيدين الأمني والاستخباراتي، لحكومة كينشاسا بوصفه عاملًا مساندًا في صراعها المُسلَّح ضد تحالف نهر الكونغو الذي تقوده جماعة إم 23 المتمردة، وبالتالي يُمكن القول: إنَّ امتناع كينشاسا عن التصويت بشأن قرار حل الدولتين هو موقفٌ يعكس انحيازًا لإسرائيل أكثر منه التزامًا بسياسة الحياد، والأمر هنا لا يتعلق فقط بحرص حكومة الكونغو الديمقراطيَّة على تعزيز تعاونها الوثيق مع تل أبيب، بل يمكن تفسيره أيضًا من منطلق رغبة كينشاسا في عدم الإضرار بعلاقاتها الودية مع الولايات المُتحدة التي تُشكّل طرفًا رئيسًا في جهود السلام الرامية إلى وقف الصراع المُسلَّح في شرق الكونغو الديمقراطيَّة، كما أنَّ هذه الأخيرة، بما تكتنزه من ثروات معدنية ضخمة، تطمح لأن تكون مركزًا لاجتذاب الشركات الأمريكيَّة إليها، وهو ما تَعُدّه كينشاسا فرصةً استثماريةً واعدةً لزيادة العوائد الماليَّة وتحسين بنيتها التحتية وتطويرها.

ثالثا- ما وراء التباين: دلالات الانقسام الإفريقي في ملف حلّ الدولتين:

يكشف الانقسام الأخير داخل الكتلة الإفريقيَّة، إزاء إعلان نيويورك، هشاشة الاتحاد الإفريقي، وعجزه عن تنسيق المواقف في القضايا الحساسة، فبالرغم من توافق غالبية دول القارة على إدانة الاستهداف الإسرائيلي للمدنيين في غزة عبر بيانات رسميَّة، لكن كان هناك غياب واضح لموقف دبلوماسي مُوحَّد تجاه الإعلان الأممي رغم أوجه التشابه التاريخيَّة بين القضية الفلسطينية، وتجارب القارة الطويلة مع الاستعمار، وهي أوجه كان من شأنها تعزيز الدعم الإفريقي للقضية، خاصةً في ظل التصعيد الممنهج للهجمات على القطاع، وما خلَّفته من أوضاع إنسانيَّة بالغة القسوة.

وبناءً عليه، يمكن تلخيص دلالات انقسام الكتلة الإفريقيَّة بشأن إعلان نيويورك في النقاط التالية:

1- تباين الأولويات السياسيَّة:

لا زالت بعض الدول الإفريقيَّة تتعامل مع القضية الفلسطينيَّة باعتبارها الأكثر إلحاحًا، وهو ما ينعكس في السياسة الخارجيَّة لتلك الدول، كما هو الحال بالنسبة للسنغال وجنوب إفريقيا، اللتين تستندان في مواقفهما إلى عقيدة داعمة للنضال وحركات التحرُّر، وقد عبَّرت جنوب إفريقيا عن هذا التوجه بوضوح حين رفعت دعوى قضائيَّة ضد إسرائيل أمام محكمة العدل الدوليَّة، تتهم فيها تل أبيب بارتكاب إبادة جماعية.

في المُقابل تحرص دول أخرى -من بين الممتنعين عن التصويت أو المتغيبين عن الحضور-، على حماية مصالحها الإستراتيجيَّة، مثل جنوب السودان والكاميرون، اللتين، كما أشرنا إلى ذلك، ترتبطان بعلاقات أمنيَّة وتنمويَّة وثيقة مع إسرائيل والولايات المُتحدة، فتلك الدول لم تعد تعتبر القضية الفلسطينيَّة أولويةً، بل تنظر إليها باعتبارها أزمةً تخص الشرق الأوسط والمنطقة العربيَّة، ما يعكس تحولًا في أولويات الدبلوماسيَّة الإفريقيَّة لصالح الملفات الداخليَّة والإستراتيجيَّة.

2- تهدئة الرأي العام الداخلي:

يعكس موقف بعض الدول التي أيَّدت الإعلان الأممي، رغبتها في احتواء الرأي العام المحلي، الذي يلعب دورًا مؤثرًا في توجيه السياسات، خاصةً حين يتفاعل مع مشاهد إنسانيَّة مؤلمة كما في الحرب على غزة. ولهذا، تحاول هذه الأنظمة كسب التأييد الشعبي لتعزيز شرعيتها، في ظل التوتُّرات السياسيَّة التي تعصف بعدد من دول القارة.

3- البراغماتية الدبلوماسيَّة:

وتعني الفصل بين المواقف السياسيَّة والعلاقات الاقتصاديَّة، فرغم امتلاك غالبية دول القارة علاقات جيدة مع الولايات المُتحدة وإسرائيل في قطاعات متعددة، لم يمنعها ذلك من اتخاذ مواقف دبلوماسيَّة واضحة تجاه القضية الفلسطينيَّة. على سبيل المثال، أدانت الجزائر وناميبيا الهجمات الإسرائيلية على غزة في بيانات رسمية، وصوتتا لصالح إعلان نيويورك، في المُقابل هناك توسُّع ملحوظ في معدلات التعاون الاقتصادي مع واشنطن وتل أبيب، وهناك مساعٍ مستمرة لتطويرها، فوفقًا لتقارير صادرة عن مرصد التعقيد الاقتصادي تجاوز حجم  الصادرات الجزائريَّة إلى إسرائيل خلال عام 2023م، 30.5 مليون دولار، فيما تأتي الجزائر في المرتبة الرابعة عربيًّا للدول المُصدِّرة لإسرائيل[6]، كما يظهر في حالة كينيا أيضًا التي أدانت التصعيد الإسرائيلي لكنها وقَّعت لاحقًا اتفاقيات تعاون في مجالات التكنولوجيا والدفاع مع إسرائيل.

4- فجوة بين الخطاب والموقف الفعلي:

رغم إعلان معظم دول القارة رفضها للاعتداءات الإسرائيليَّة على غزة وتبنّيها خطابات ثورية داعمة للقضايا التحررية، إلا أنَّ ذلك لم يُترجَم إلى مواقف عمليَّة حاسمة. فقد امتنع البعض عن التصويت وتغيَّب آخرون، ما يعكس استمرار ارتهان القرار السيادي لعوامل خارجية، ويكشف عن فجوة بين التصريحات والممارسة الفعليَّة، وانعدام الإرادة السياسيَّة المُستقلة.

5-تحوُّلات مفهوم الحياد الإفريقي:

لم يَعُد الامتناع عن التصويت يُفسَّر باعتباره حيادًا تقليديًّا، بل بات يُستخدَم كآلية لتجنُّب التورط في صراعات رمزية قد تؤثر على مصالح الحكومات الإفريقيَّة وعلاقاتها مع القوى الكبرى. فعلى سبيل المثال، أعلن رئيس الوزراء الكاميروني، جوزيف نغوت Joseph Ngute، خلال اجتماع وزراء خارجية منظمة التعاون الإسلامي في أغسطس 2024م تأييد بلاده إقامة دولة فلسطينيَّة[7]^[7]، ومع ذلك امتنعت الكاميرون عن التصويت لصالح إقامة دولة فلسطينية، وتجنَّبت اتخاذ موقف حادّ ضد إسرائيل؛ حيث أبدت ميلًا للحياد في التصويت، وهكذا تحوَّل مفهوم الحياد من تضامن مبدئي إلى حسابات واقعيَّة تحكمها اعتبارات إستراتيجيَّة.

6- الاستغلال الفعلي للكتلة الإفريقيَّة:

لطالما سعت القوى الكبرى إلى استغلال الكتلة الإفريقيَّة في المحافل الدوليَّة، وبخاصة في الأمم المُتحدة، ورغم أنَّ عدد الممتنعين والمتغيبين أقل بكثير من المؤيدين؛ فإنَّ غياب موقف موحد يعكس حالة الانقسام الإقليمي واستمرار التبعية للغرب، وهو ما يُعدّ شكلًا جديدًا من أشكال الاستعمار غير المباشر، كما يكشف هذا الانقسام عن تفاوت في قدرة الدول الإفريقيَّة على اتخاذ مواقف مستقلة بعيدًا عن الضغوط الدوليَّة.

7- التحفظ على بعض البنود:

قد تبدو بعض حالات الامتناع أو الغياب امتدادًا لحالة التردد السياسي؛ إلا أنَّ جزءًا منها يُعبِّر عن تحفظ واعٍ تجاه بنود بعينها في “إعلان نيويورك”، لا عن غياب الإرادة أو الانحياز، فربما اختارت بعض الدول الاعتراض عبر الامتناع، لا عبر المواجهة المباشرة، في محاولة منها للحفاظ على توازن دبلوماسي دون التخلّي عن موقفها المبدئي، لذا لا يُمكن اعتبار الرفض أو الامتناع عن التصويت موقفًا سلبيًّا بالضرورة، فقد يعكس اعتراضًا على بعض البنود المُثيرة للجدل، مثل الدعوة لتسليم سلاح حماس، أو إقصائها من المشهد السياسي؛ إذ ترى بعض الدول أن إقصاء فصيل مقاوم رئيسي يُعدّ عرقلة جوهرية لحل الدولتين، ما دفَعها إلى الامتناع أو التغيب كوسيلة للاعتراض على الصياغات الواردة في “إعلان نيويورك”.

إجمالًا، يُمكن القول: إنَّ التباين الواضح في المواقف الإفريقيَّة إزاء “إعلان نيويورك”، وتطبيق حل الدولتين؛ لا يمكن اختزاله في ثنائية الرفض والتأييد، لكنّه يكشف عن واقع دبلوماسي مُعقَّد تتداخل فيه الاعتبارات السياديَّة مع الحسابات الإستراتيجيَّة، فهناك مَن تبنَّى الإعلان باعتباره فرصةً لإعادة تموضع سياسي، ومَن تحفَّظ تفاديًا للتورط في صراعاتٍ رمزية، ومن غاب تجنبًا للإحراج أو الإرباك، لتتبدَّى بذلك الكتلة الإفريقيَّة كجغرافيا سياسيَّة منقسمة وغير متجانسة، تتفاعل مع القضايا التحرُّرية وفق منطق المصلحة لا منطق المبادئ، ومع ذلك فإنَّ هذا الإرباك لا يُضْعِف شرعية القضية الفلسطينيَّة بقَدْر ما يكشف هشاشة المواقف الإفريقيَّة حين تُختبر في ساحات القرار الدولي.

……………………………………

[1] إعلان نيويورك بشأن تسوية قضية فلسطين بالوسائل السلمية وتنفيذ حل الدولتين، الجمعية العامة للأمم المُتحدة، وثيقة رقم A/CONF.243/2025/1، 4 أغسطس 2025م.

[2] نجلاء مرعي، ” تداعيات حرب غزة على النفوذ الإسرائيلي في إفريقيا”، مركز أبعاد للدراسات الإستراتيجيَّة، منشور بتاريخ 26 أغسطس 2024م، على الرابط https://n9.cl/eka0w4

[3] محمود زکريا، “العلاقات الإثيوبية-الإسرائيلية وتأثيرها على المصالح المصريَّة”، مجلة السياسة والاقتصاد، جامعة بني سويف، مجلد (22)، عدد (21)، ص188، وما بعدها.

[4] South Sudan says no talks with Israel to resettle Palestinians from Gaza, Reuters, 13 August  2025م, available at: https://n9.cl/1zoo9

[5] تامر محمد سامي، “البعد الأمني والعسكري في العلاقات الإسرائيليَّة الإفريقيَّة”، مركز فاروس للاستشارات والدراسات الإستراتيجيَّة، منشور بتاريخ 27 يوليو 2025م، على الرابط  https://n9.cl/bt66n

[6] Israel/ Algeria, OEC, available at: https://n9.cl/ll4at6

[7] فلسطين تشارك في أعمال الدورة الـ50 لمجلس وزراء خارجية دول منظمة التعاون الإسلامي، اتحاد وكالات أنباء دول منظمة التعاون الإسلامي (يونا)، منشور بتاريخ 30 أغسطس 2024م، على الرابط https://n9.cl/84zgm