تمهيد:
شهدت منطقة الساحل موجة ثالثة من الانقلابات العسكرية بين عامي 2019 و2023م، شملت مالي وبوركينا فاسو وغينيا، وأخيرًا النيجر، وسط بيئة سياسية وأمنية مُعقَّدة تُميّزها هشاشة مؤسسات الدولة، وتنامي العنف المسلح، وتآكل شرعية الأنظمة الحاكمة.
هذه الانقلابات لم تأتِ من فراغ، بل كانت نتاجًا لتراكمات من سُوء الحكم، وتراجع الثقة الشعبية، وتنامي الشعور بالخذلان من القوى الدولية والإقليمية. وبرغم اشتراك هذه الدول في سياقات مشابهة، فإن كل حالة انتقالية اتخذت مسارًا مختلفًا، تأثر بمحددات داخلية خاصة، وبدرجة استجابة الأطراف الإقليمية والدولية، مما يَفتح الباب أمام دراسة مقارنة موضوعية تسبر الفروق الدقيقة في ديناميات الانتقال، ومدى فعالية الفاعلين المحليين والدوليين، ومآلات كل تجربة.
رغم القواسم المشتركة التي تجمع الانقلابات في دول الساحل، إلا أن السياقات السياسية والأمنية في كلّ دولة أضْفَتْ طابعًا خاصًّا على مرحلة ما بعد الانقلاب.
ففي حين انخرطت مالي وبوركينا فاسو وغينيا في مسارات انتقالية اتسمت بالتحدي العلني للاتحاد الإفريقي والإيكواس، وشهدت إجراءات مضادة تراوحت بين العقوبات والمقاطعة؛ اتجهت النيجر نحو مقاربة أكثر حذرًا وبراغماتية، حافظت فيها على بعض القنوات الدبلوماسية مع الخارج، رغم خطابها السيادي.
من جهة أخرى، يبدو أن وجود صراعات داخل النُّخَب العسكرية والسياسية، وتفاوت قوة المعارضة المدنية، وسرعة بلورة مواثيق الانتقال؛ قد أثّرت بعمق في طبيعة كلّ تجربة، ما يجعل من النيجر حالة فريدة جديرة بالدراسة والتحليل المقارن في ضوء تحديات المرحلة الانتقالية.
تميّزت تجربة النيجر بعد الانقلاب بمحاولة الجمع بين الخطاب السيادي والمرونة الإستراتيجية في التعامل مع الضغوط الإقليمية والدولية، على عكس النبرة التصعيدية التي اتسمت بها بيانات قادة المرحلة الانتقالية في مالي وبوركينا فاسو.
ففي حين اختارت هذه الدول الانسحاب من الإيكواس وتشكيل تحالف ثلاثي جديد (تحالف دول الساحل)، تبنّت النيجر نهجًا أكثر انضباطًا في إدارة المرحلة، مستفيدةً من موقعها الإستراتيجي، ومن محاولات بعض القوى الدولية الحفاظ على قنوات التعاون معها. كما أن تأخُّر صياغة خارطة طريق واضحة للانتقال في النيجر كان نتيجة لحسابات دقيقة، وليست بالضرورة مؤشرًا على فوضى أو تردُّد، بل يعكس تريثًا محسوبًا لتحصين المرحلة الانتقالية من العثرات التي وقعت فيها الدول المجاورة.([1])
يأتي التميز في انتقال النيجر كذلك من قدرتها –حتى الآن– على تفادي الانزلاق الحادّ نحو عسكرة الفضاء السياسي، عبر الإبقاء على درجة من الانفتاح على الفاعلين المدنيين والقَبَليّين، ولو في نطاق محدود. كما أن الجيش النيجري لم يسارع إلى اتخاذ قرارات استعراضية تمسّ البنية الدستورية بشكل كلي، مقارنةً بما حدث في غينيا من إلغاء للدستور أو في مالي من تعليق للمؤسسات.
هذه السمات منحت النيجر فرصة نسبية للحفاظ على توازن داخلي هشّ، دون أن تنجرف بشكل كامل إلى حالة القطيعة المؤسسية أو العزلة الإقليمية، ما يجعل تجربتها الانتقالية مرشحة –نظريًّا– لتكون أقل تصادمية، وأكثر قدرة على المساومة والانفتاح، شريطةَ استمرار هذا النهج وتحصينه من الانزلاق إلى نَهْج الأحادية أو التصعيد.
وفي هذا السياق، يسعى المقال إلى إجراء مقارنة موضوعية عن الفترة الانتقالية بين دول الساحل الإفريقي، لا سيما بعد التحوُّلات التي شهدتها الأنظمة الحاكمة في المنطقة، فضلًا عن تسليط الضوء على التحولات التي شهدتها العملية الانتقالية في النيجر؛ حيث يطرح المقال تساؤلًا رئيسيًّا: ما أوجه التشابه والاختلاف بين مسارات المرحلة الانتقالية في دول الساحل؟ وكيف يمكن فهم تمايز تجربة النيجر في ضوء التحديات الأمنية والمؤسسية والتفاعلات الإقليمية والدولية؟ وستتم الإجابة عن هذه التساؤلات من خلال مجموعة من المحاور فيما يلي:
المحور الأول: السياقات المُحفّزة للانقلابات في الساحل وتأثيرها على الفترة الانتقالية
تُعَدّ الانقلابات العسكرية التي اجتاحت منطقة الساحل منذ عام 2019م نتاجًا لتراكم أزمات هيكلية مزمنة في بنية الدولة ما بعد الاستعمار، وعلى رأسها فشل النخب الحاكمة في تلبية تطلعات المواطنين السياسية والاجتماعية. لقد لعبت هشاشة المؤسسات، وتآكل العقد الاجتماعي، والتدهور الأمني المتفاقم دورًا محوريًّا في توفير بيئة خصبة للانقلابات. في مالي وبوركينا فاسو على وجه الخصوص، شكَّل العجز عن احتواء تمدُّد الجماعات المسلحة دافعًا قويًّا لانهيار الثقة في الحكومات المنتخبة. وقد انعكس هذا السياق في فترات انتقالية مرتبكة، لم تكن وليدة رؤية إصلاحية شاملة، بل جاءت كرد فعل على أزمات ملحة. وعليه، فإن طبيعة الأزمة التي أفضت إلى الانقلاب ألقت بظلالها الثقيلة على بنية وأولويات المرحلة الانتقالية، مما جعلها هشّة وغير متماسكة.([2])
اتسمت الموجة الأخيرة من الانقلابات في دول الساحل بسمات مختلفة عن الموجتين السابقتين، لا سيما من حيث الفاعلون والسياقات المحفزة. ففي حين كانت الانقلابات في منتصف القرن العشرين مدفوعة بصراعات أيديولوجية أو مدعومة خارجيًّا، جاءت الانقلابات الحديثة نتيجة إخفاقات داخلية متراكمة. في غينيا، على سبيل المثال، أدى العبث الدستوري ومحاولة فرض الولاية الثالثة إلى تفجّر الغضب الشعبي، أما في مالي وبوركينا فاسو، فقد كان الفشل في التصدي للتهديدات الأمنية والتدهور الإداري هو الوقود الحقيقي للانقلابات. هذه الاختلافات الجوهرية في السياقات السياسية أعادت تشكيل طبيعة الفترة الانتقالية في كل بلد؛ حيث طغت الحسابات العسكرية والأمنية على مقاربات الحكم المدني، وهو ما قلّص فرص بناء مسارات انتقالية تشاركية ومستدامة.([3])
السياق الأمني المضطرب في الساحل، وخاصةً في المناطق الوسطى والشرقية من مالي، وفي شمال بوركينا فاسو وغرب النيجر، خلَق ديناميكيات ضغط كبيرة على الأنظمة؛ إذ بات الجيش يُنظَر إليه مِن قِبَل قطاعات واسعة باعتباره الحصن الأخير للدولة. هذا التصوُّر منَح الانقلابيين شرعية رمزية، ولو مؤقتة، للانخراط في العملية السياسية. لكنّ المفارقة تكمن في أن هذا “التدخل المنقذ” لم يُؤسّس لمرحلة انتقالية واضحة المعالم. ففي مالي مثلاً، ظلت خارطة الطريق الانتقالية تتأرجح بين التأجيل والتعديل، ما أضعف مصداقيتها. أما في النيجر، فقد حاول الجيش استثمار موقعه الأمني لتبرير التدخل، دون الوقوع في الفوضى الدستورية السافرة كما حدث في دول الجوار، ما يعكس اختلاف السياق المحلي وأثره في ضبط ملامح المرحلة الانتقالية.
من العوامل الهيكلية المُحفّزة للانقلابات أيضًا: هشاشة الشرعية السياسية في دول الساحل، والتي فشلت في كثير من الحالات في ترسيخ التعددية أو بناء مؤسسات حكم راشدة. فالعديد من القادة المدنيين اعتمدوا على شبكات المحسوبية وتعديل الدساتير بدلًا من كسب الشرعية عبر الإنجاز والإصلاح. وقد أدَّى هذا إلى تفكك الثقة بين الدولة والمجتمع، وفتح المجال لتصاعد النبرة العسكرية كبديل للحكم المدني. هذا التدهور في شرعية النُّخَب انعكس بوضوح على طبيعة الفترات الانتقالية؛ إذ لم تُبنَ على أُسُس توافقية، بل انطلقت من منطق القوة والفرض. وهو ما يُفسِّر غياب الشمولية في تشكيل الحكومات الانتقالية، وتهميش قوى المجتمع المدني، ما أدْخَل بعض الدول في دورات مغلقة من التأجيل السياسي والجمود المؤسسي.
شهدت موجة الانقلابات الأخيرة تصاعدًا لافتًا للخطاب السيادي والعداء للنفوذ الأجنبي، لا سيما الفرنسي، وهو ما وظَّفته القيادات العسكرية لتعبئة الشارع. في مالي وبوركينا فاسو، جاء طرد القوات الفرنسية كخطوة رمزية تعكس هذا التوجُّه، وتم تأطير الفترة الانتقالية كمشروع تحرُّر وطني. غير أن هذا التسييس الزائد للسيادة أدَّى في كثير من الأحيان إلى عزل هذه الدول عن شركائها التقليديين، وتقويض فرص الدعم الاقتصادي والتقني للمرحلة الانتقالية. في المقابل، حاولت النيجر التمايز عبر الحفاظ على خطوط اتصال مفتوحة، ولو بحذر، مع بعض القوى الدولية، ما وفَّر لها هامشًا أكبر للمناورة في مرحلة ما بعد الانقلاب، وعكس تفوقًا نسبيًّا في إدراك أهمية التوازن بين الخطاب السيادي والانفتاح البراغماتي على الخارج.([4])
أحد أبرز ما يكشفه تحليل السياقات المُحفّزة للانقلابات هو تأثيرها المباشر في صياغة نماذج الانتقال. فالدول التي جاء انقلابها كرد فعل أمني كمالي وبوركينا فاسو، اتسمت فتراتها الانتقالية بالتركيز على الجانب العسكري والأمني على حساب المدني والمؤسسي. أما غينيا، التي كان الانقلاب فيها موجهًا ضد احتكار السلطة مِن قِبَل المدنيين، فقد شهدت مرحلة انتقالية مشحونة بالصراع السياسي وضعف الرؤية التنفيذية. بالمقابل، أظهرت النيجر حتى الآن سلوكًا انتقاليًّا أكثر انضباطًا نسبيًّا، متأثرًا بسياق داخلي لم يبلغ حدّ الانهيار المؤسسي الكامل. وهو ما يبرز أهمية السياق التمهيدي للانقلاب كمحدد حاسم في رسم مسار الانتقال، وشكل العلاقة بين الحكم العسكري والمجتمع المدني، ومدى استعداد الأطراف لتقديم تنازلات تضمن استقرارًا نسبيًّا.
أما ما يتعلق بالنيجر، فرغم محاولات المجلس العسكري تبنّي نَهْج براغماتي نسبيًّا مقارنةً ببقية دول الساحل، إلا أن المرحلة الانتقالية لا تزال في جوهرها هشَّة وقابلة للانتكاس في أيّ لحظة. فحتى الآن، لم يتم إقرار خارطة طريق واضحة ومفصلة للعودة إلى الحكم المدني، كما لم تُوضع آليات شفافة لمراقبة الأداء الانتقالي أو إشراك الأطراف المدنية بشكل فاعل في صنع القرار، تزداد هذه الهشاشة في ظل التوتر القائم مع المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا (الإيكواس)، فضلًا عن التحديات الأمنية المستمرة في المناطق الحدودية مع مالي ونيجيريا. ورغم أن النيجر لم تتبنَّ خطابًا تصادميًّا مطلقًا مع الشركاء الدوليين، إلا أن موقعها الجيوسياسي الحساس، والضغوط المتزايدة من الداخل والخارج، تجعل من الفترة الانتقالية حالة معلّقة، مفتوحة على احتمالات متعددة، ولا يمكن توصيفها حتى الآن كمسار مستقر أو مضمون النتائج.
المحور الثاني: مسارات تشكيل المرحلة الانتقالية داخل دول الساحل
تشير مسارات تشكيل المرحلة الانتقالية في دول الساحل إلى غياب النموذج الموحد، وارتباط كل تجربة انتقالية بسياقاتها الخاصة وموازين القوى المحلية. ففي مالي مثلًا، قادت المؤسسة العسكرية المرحلة منذ البداية، متبنية نهجًا تصاعديًّا في إعادة إنتاج السلطة؛ حيث جرى أولًا إزاحة الرئيس، ثم رئيس الحكومة الانتقالية، واستبعاد كافة المكونات المدنية تقريبًا، قبل فرض خارطة طريق لم يُستشر فيها المجتمع المدني أو القوى الحزبية. وقد وُضعت هذه الخارطة بآلية فوقية تهدف أساسًا إلى تأمين مصالح النخبة العسكرية. في هذا السياق، برزت مخاوف جدية من عسكرة الدولة واحتكار السلطة، خاصةً بعد تأجيل الانتخابات مرارًا، الأمر الذي انعكس سلبًا على شرعية المرحلة الانتقالية، التي أفرزت سلطات تفتقر للتمثيل الحقيقي والتوافق المجتمعي.([5])
في غينيا، اتخذت المرحلة الانتقالية طابعًا سياسيًّا هشًّا منذ اللحظة الأولى، وذلك بسبب تأزم العلاقة بين السلطة الجديدة وقوى المعارضة والمجتمع المدني. على الرغم من أن الانقلاب الذي قاده مامادي دومبويا جاء نتيجة احتجاجات شعبية على التمديد الدستوري لألفا كوندي، فإن المجلس العسكري لم يبادر إلى تشكيل هيئة انتقالية جامعة، بل ركَّز على ضبط المشهد السياسي والأمني، متبعًا سياسة احتواء أكثر منها مشاركة. تأخرت عملية إعداد دستور جديد، كما أن الجداول الزمنية للانتقال ظلّت غامضة ومفتوحة على التعديل، ما أضعف ثقة المواطنين في جدية الالتزام بمرحلة انتقال ديمقراطي حقيقي. وهذا يؤكد أن غياب التوافق المبكر على آليات المرحلة الانتقالية، ومحدودية الانفتاح على القوى الاجتماعية، قد قادا إلى انقسامات سياسية عمّقت من هشاشة السلطة الانتقالية في غينيا.
بوركينا فاسو بدورها سلكت مسارًا انتقاليًّا اتَّسم بطغيان المنطق العسكري والأمني؛ حيث ركَّز قادة الانقلاب على محاربة الإرهاب أكثر من بناء مؤسسات انتقالية جامعة. بعد الإطاحة برئيسين مدنيين خلال أقل من عام، بدا واضحًا أن الأولوية للسلطة العسكرية كانت تأمين استقرار ميداني بدلاً من التأسيس لحكم مدني مستقر. أُعلنت خارطة طريق انتقالية حُددت بخمس سنوات، ولكن دون وجود آلية واضحة لمراقبة التنفيذ أو إشراك قوى مدنية فاعلة. كما اتخذ المجلس العسكري قرارات مركزية، مثل حلّ الأحزاب السياسية، وفرض قيود على حرية التعبير، ما زاد من انغلاق المرحلة الانتقالية. هذا النموذج المغلق أضعف التوازن بين الأمن والسياسة، وأنتج منظومة حكم انتقالية تفتقر للشرعية التعددية، وقد يفتح الباب أمام مزيد من عدم الاستقرار على المدى البعيد.([6])
أما في النيجر، فقد تميزت عملية تشكيل المرحلة الانتقالية بنهج أكثر حذرًا وتدرجًا، رغم عدم إعلان خارطة انتقال شاملة حتى الآن. لم يلجأ قادة المجلس العسكري إلى خطوات تصعيدية سريعة ضد المجتمع المدني أو القوى الحزبية، بل حاولوا تقديم مبرراتهم كخطوة تصحيحية لحماية الأمن الوطني ومؤسسات الدولة. ورغم إعلان بعض الإجراءات أحادية الجانب، فإن السلطة العسكرية لم تغلق الباب أمام المسار الدبلوماسي، وظلت مترددة في التصعيد ضد الإيكواس في البداية، مقارنةً بمواقف مالي وبوركينا فاسو. هذا التمايز في سلوك المجلس العسكري النيجري أتاح مساحة نسبية للمناورة السياسية، ولكنّ استمرار غياب رؤية واضحة ومعلنة حول آليات نقل السلطة ومدة المرحلة الانتقالية، يُبقي التجربة عرضة للشكوك والمخاوف، ما لم يتم التأسيس لعملية تشاركية ومؤسسية جادة تضمن الخروج الآمن من الحالة الانقلابية.
تُظهر التجارب الأربع أن مسارات تشكيل المرحلة الانتقالية في دول الساحل تتأثر بدرجة عسكرة السلطة، ومدى انفتاحها على الفاعلين المدنيين، وسياق الانقلاب نفسه. فبينما اتسمت مالي وبوركينا فاسو بعسكرة شبه تامة للمشهد الانتقالي، بدا المشهد في غينيا أكثر غموضًا وانقسامًا، في حين أن النيجر تسعى للحفاظ على توازن دقيق بين السيطرة العسكرية والانفتاح السياسي. ومع ذلك، فإن هشاشة البنية المؤسسية في كل هذه الدول، إلى جانب تراجع الثقة الشعبية في الوعود الانتقالية، تجعل من نجاح هذه المسارات أمرًا معلقًا على قدرة المجالس العسكرية على التحوُّل من منطق السيطرة إلى منطق التفاوض، وإرساء قواعد واضحة للعودة إلى الحكم المدني، دون أن يتحوَّل الانتقال إلى ذريعة للبقاء في السلطة أو تبرير القطيعة مع المحيط الإقليمي والدولي.
المحور الثالث: تفاعل الفاعلين الإقليميين والدوليين مع المرحلة الانتقالية داخل دول الساحل
أدَّت الموجة الأخيرة من الانقلابات في دول الساحل إلى إعادة تشكيل توازنات التفاعل بين الفاعلين الإقليميين والدوليين والمنظومات الانتقالية التي تلت هذه الانقلابات. لقد أصبح واضحًا أن نجاح أو فشل أيّ عملية انتقالية بات مرهونًا إلى حدّ بعيد بطبيعة الاستجابة الخارجية، سواء مِن قِبَل المنظمات الإقليمية مثل الاتحاد الإفريقي والإيكواس، أو مِن قِبَل القوى الكبرى صاحبة النفوذ التاريخي في المنطقة كفرنسا والولايات المتحدة، والصاعدة مثل روسيا والصين. وقد تباينت هذه الردود في شدتها وأهدافها وأدواتها، فبينما تبنَّت بعض الجهات نهج الضغط والعزلة، فضّلت أطراف أخرى التفاعل البراغماتي وفقًا لحسابات النفوذ والمصالح الإستراتيجية.
وهذا التباين كشف عن ضعف في أدوات الردع الإقليمي، ومرونة في التموضع الدولي، ما أوجد بيئة انتقالية مضطربة وغير مستقرة، تفتقر إلى الضمانات المؤسسية، وتخضع لحسابات متغيرة من الداخل والخارج. لذا، فإن دراسة هذا التفاعل الخارجي تُمثّل مدخلًا أساسيًّا لفهم حدود المرحلة الانتقالية ومآلاتها السياسية والأمنية.
شهد التفاعل الإقليمي، خاصةً مِن قِبَل الاتحاد الإفريقي والمجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا (الإيكواس)، حالة من التفاوت في المواقف وسرعة التحرك إزاء الانقلابات. ففي بداية الموجة، تبنّت الإيكواس مواقف صارمة ضد انقلابي مالي وغينيا، فرضت خلالها عقوبات اقتصادية وجمدت عضوية الدول المعنية. إلا أن فعاليتها كانت محدودة بسبب غياب آليات تنفيذية حقيقية، وضعف القدرة على التأثير داخل الأنظمة العسكرية الجديدة، لا سيما مع تنامي الخطاب السيادي المناهض للتدخل. كما أن تردد الاتحاد الإفريقي في تبنّي مواقف موحدة، إلى جانب انقسام المواقف بين دول الأعضاء، أضعف من مركزية القرار، وأدَّى إلى ازدواجية في المعالجة؛ حيث عُومِلَت بعض الانقلابات بتساهل نسبيّ، في حين وُوجِهَت أخرى بعقوبات حادة، ما أضعف من مصداقية المنظومة الإقليمية.([7])
مع تكرار الانقلابات وتصاعُد التوتر بين دول الساحل والإيكواس، تحوَّلت العلاقة من الاحتواء إلى المواجهة. ففي حالة النيجر، بلغ التصعيد ذروته مع التهديد بالتدخل العسكري لإعادة الرئيس بازوم، وهو ما قُوبِلَ برفض واسع من مالي وبوركينا فاسو اللتين أعلنتا دعمهما للانقلاب، وتشكيل ما سُمِّي بـ”تحالف دول الساحل” كإطار بديل لمواجهة ما اعتبروه وصاية إقليمية. هذا التكتل الثلاثي مَثَّل تحديًا مباشرًا لمصداقية الإيكواس، وأظهر بوضوح هشاشة التماسك الإقليمي، والعجز عن فرض الانضباط الجماعي. بل إن الردود العقابية أدَّت أحيانًا إلى نتائج عكسية؛ حيث عززت خطاب الاستقلال الوطني، ودفعت الأنظمة العسكرية إلى المزيد من التقارب فيما بينها، وبالتالي تعقيد فرص العودة السريعة إلى النظام الدستوري. هذا التفاعل المتوتر كشف عن قصور في قدرة المنظمات الإقليمية على التكيُّف مع ديناميات ما بعد الانقلاب، وأدَّى فعليًّا إلى تآكل هيبتها السياسية.
على المستوى الدولي، مَثَّل الموقف الأمريكي من الانقلابات في الساحل توازنًا بين المبادئ الليبرالية والمصالح الجيوسياسية. فعقب انقلاب النيجر، أبدت واشنطن قلقًا بالغًا من الإطاحة بالرئيس المنتخب محمد بازوم، ووصفت ما حدث بأنه “تهديد للديمقراطية”، وأعلنت تعليق بعض أوجه التعاون العسكري والاقتصادي، بما في ذلك المساعدات التنموية. ومع ذلك، فإن الولايات المتحدة لم تذهب نحو القطيعة الكاملة، وحرصت على إبقاء قنوات الاتصال مفتوحة مع القيادة العسكرية، إدراكًا لحساسية موقع النيجر في خارطة مكافحة الإرهاب في الساحل. يعكس هذا الموقف تراجعًا نسبيًّا في القدرة على فرض شروط سياسية صارمة، لصالح نهج احتواء مَرِن يحافظ على المصالح الأمنية الأمريكية، خاصةً في ظل توسع النشاط الروسي والصيني في المنطقة. هذا الموقف البراغماتي أضعف الرسائل الأمريكية بشأن الالتزام بالديمقراطية، لكنَّه حافظ على موطئ قدم لواشنطن في المشهد الانتقالي.([8])
أما فرنسا، الحليف التاريخي لدول الساحل، فقد واجهت نكسة إستراتيجية غير مسبوقة بفعل تصاعد المدّ السيادي المعادي لها، خصوصًا في مالي وبوركينا فاسو والنيجر. كان ردّ فِعْلها على الانقلابات مزيجًا من التنديد الحادّ، والسحب المتسارع لقواتها وممثليها الدبلوماسيين، وسط تظاهرات شعبية طالبت بطردها. ففي النيجر، طالبت باريس بإعادة بازوم فورًا، ورفضت الاعتراف بالسلطة الجديدة، ما أدَّى إلى أزمة دبلوماسية حادة. وقد تعاملت الأنظمة الانتقالية مع فرنسا بوصفها رمزًا للحقبة الاستعمارية، واستثمرت ذلك في تعزيز شرعيتها المحلية، ولو مؤقتًا. وقد خسرت فرنسا الكثير من نفوذها، ليس فقط على مستوى العلاقات الثنائية، بل في إطار قدرتها على التأثير الإقليمي. هذا التراجع فتح المجال أمام قوى دولية أخرى لإعادة تشكيل قواعد النفوذ في المنطقة، على رأسها روسيا والصين.([9])
في المقابل، جاء التفاعل الروسي الصيني مختلفًا من حيث الشكل والجوهر. فموسكو اختارت نهج الاحتضان السياسي والعسكري السريع للأنظمة الجديدة، خاصةً في مالي وبوركينا فاسو، عبر دعم خطابات السيادة ورفض التدخل الغربي، وتعزيز حضور الشركات الأمنية مثل فاجنر، التي باتت تلعب أدوارًا متعددة في مكافحة الإرهاب وبناء القدرات الأمنية.
هذا الدور جعل روسيا شريكًا بديلًا لأنظمة ما بعد الانقلاب، وساعد على ترسيخ تماسكها داخليًّا، وإن كان على حساب الحقوق والحريات. أما الصين، فتبنّت إستراتيجية أكثر حذرًا وواقعية، تمثلت في الحفاظ على العلاقات الاقتصادية، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية، دون أن تُظهر تأييدًا مباشرًا للانقلابات. ركَّزت بكين على حماية استثماراتها ومصالحها طويلة المدى، وأبقت خطابها الدبلوماسي محايدًا. بهذا، أصبح التفاعل الروسي–الصيني يُمثّل نموذجًا لنفوذ بديل، يقدّم الدعم دون شروط سياسية، ويجد صدى لدى الأنظمة التي تسعى لتفادي الضغوط الغربية.([10])
المحور الرابع: التحديات الأمنية والمؤسسية في إدارة المرحلة الانتقالية
تعاني دول الساحل من تحديات أمنية متداخلة تفوق قدرات الحكومات الانتقالية على الاستجابة الفعّالة. ففي مالي وبوركينا فاسو والنيجر، يُشكّل تصاعد وتيرة العنف مِن قِبَل الجماعات المسلحة تحديًا مباشرًا للسلطة السياسية، ويُرهق موارد الدولة ويُقيِّد أولويات المرحلة الانتقالية.
في هذه السياقات، غالبًا ما يتم تبرير تأجيل الانتخابات أو تعليق الحريات العامة بذريعة مكافحة الإرهاب، وهو ما يعكس اختلالًا في التوازن بين مقتضيات الأمن ومتطلبات الإصلاح السياسي.
وبسبب هذه التحديات، تميل السلطة إلى عسكرة الحياة العامة، وتهميش القوى المدنية، ما يعمّق من هشاشة الانتقال، ويفتح المجال أمام توترات اجتماعية قد تتفجر في أيّ لحظة، خاصة في ظل غياب إستراتيجية شاملة لمكافحة التطرف.
كما يُعدّ غياب المؤسسات الفعّالة والمتماسكة أحد أخطر مظاهر هشاشة المرحلة الانتقالية في دول الساحل. فقد ورثت الأنظمة العسكرية هياكل دولة ضعيفة، تتسم بتآكل سلطة القانون، وتفكك الإدارات العامة، ومحدودية الكفاءة في تقديم الخدمات. ولا يَخْفى أن الانقلابات في حدّ ذاتها تعمّق أزمة المؤسسات؛ إذ يتم غالبًا تعليق الدساتير، وتجميد المجالس المنتخبة، وإقصاء القوى الحزبية، ما يُفرّغ الحياة السياسية من أدوات التوازن والمساءلة. هذا الضعف المؤسسي لا يسمح ببناء ثقة داخلية في عملية الانتقال، كما يَعُوق التخطيط لأيّ إصلاحات حقيقية. وبدلًا من أن تكون المرحلة الانتقالية لحظة لإعادة هيكلة الدولة، تتحول إلى مسرح لتثبيت الأمر الواقع وتكريس السلطة بوسائل غير ديمقراطية.([11])
تفاقمت التحديات المؤسسية في ظل ضعف التنسيق بين الأجهزة الانتقالية المختلفة، وغياب الرؤية الشاملة لدى السلطات العسكرية. ففي حالات مثل غينيا وبوركينا فاسو، أدَّى تداخل الصلاحيات بين الفاعلين العسكريين والمدنيين، وغياب آليات لمراقبة الأداء الحكومي، إلى حالة من التسيب الإداري والفوضى المؤسسية. كما ساهم غياب الموازنات بين السلطات، وإقصاء المؤسسات الرقابية والقضائية، في تقويض أُسُس الحوكمة الرشيدة. وحتى في النيجر التي بدت أقل عدائية تجاه المجتمع المدني، لا تزال الإدارة العمومية تعمل في أجواء ضبابية، وسط تراجع الشفافية، وتعليق المساءلة السياسية. إن بناء مؤسسات فاعلة خلال الانتقال يتطلب قيادة مدنية واعية، وشراكة مجتمعية حقيقية، وهي شروط تفتقر إليها معظم تجارب الساحل حتى الآن.
المفارقة الأبرز في التحدي الأمني والمؤسسي تكمن في أن الأنظمة العسكرية تبرر وجودها استنادًا إلى الضعف الأمني والمؤسسي الذي ورثته، لكنها في الوقت ذاته تُكرِّس هذا الضعف أو تعجز عن تجاوزه. فعلى الرغم من الإمكانيات الأمنية الموسعة، ودعم بعض الشركاء الدوليين، لم تُسجّل أيّ من الحكومات الانتقالية إنجازات أمنية جوهرية تُقلّل من التهديدات أو تُوسِّع نطاق السيطرة الحكومية. بل إن الانشغال بإدارة السلطة ومواجهة الانتقادات الداخلية قد أدى إلى تراجع فعالية العمليات الميدانية، وتزايد هجمات الجماعات المسلحة. وبذلك، تبدو الحكومات الانتقالية عالقة في دائرة مفرغة: تفشل في إدارة الأمن والمؤسسات، وتستخدم هذا الفشل ذريعة للبقاء في السلطة، دون تقديم أفق واضح للانتقال.
المحور الخامس: آفاق الخروج من المرحلة الانتقالية والعودة إلى النظام الدستوري
يعتمد الخروج من المرحلة الانتقالية على توفر شروط سياسية ومؤسسية غير متوفرة بعد في أغلب دول الساحل. فغياب التوافق الوطني، وتفكك النظام الحزبي، وضعف الحريات؛ كلها عوامل تُعرقل التفكير الجاد في العودة إلى المسار الدستوري. كما أن ضعف الثقة بين السلطات العسكرية والقوى المدنية يؤدي إلى غياب أيّ إطار جامع يضع معالم واضحة للانتقال. ففي مالي وغينيا، تتوالى الوعود بإجراء انتخابات دون تحديد رزنامة دقيقة أو معايير شفافة، ما يُضْعِف مصداقية الخطاب السياسي. أما في بوركينا فاسو، فقد تم تمديد المرحلة الانتقالية لخمس سنوات، ما يعكس غياب إرادة حقيقية للعودة إلى الشرعية، ويفتح الباب أمام تحوُّل مؤسسات الانتقال إلى بنيات دائمة للحكم السلطوي.
من التحديات الجوهرية في مسار الخروج من المرحلة الانتقالية أن أغلب الأنظمة الانقلابية تسعى لتوظيف الوقت لإعادة صياغة المعادلة السياسية لصالحها؛ حيث تعمل على تفكيك البنية الحزبية التقليدية، وتهميش قوى المعارضة، وفرض قوانين انتخابية تخدم استمرارها بهيئة مدنية.
وفي ظل غياب رقابة حقيقية من الفاعلين الإقليميين والدوليين، فإن هذه الأنظمة تستغل الغموض الدستوري لتأجيل الانتخابات، أو هندسة نتائجها مسبقًا. كما أن إضعاف المجتمع المدني عبر الحظر أو التضييق، يؤدي إلى كسر التوازن الداخلي، ويُحوّل المرحلة الانتقالية إلى أداة لإعادة ترتيب السلطة، لا مدخلًا للإصلاح الديمقراطي. وهذا ما يجعل احتمالات العودة إلى نظام دستوري فعّال في أغلب الحالات، احتمالًا مؤجلًا أو مشكوكًا فيه.
في المقابل، يمكن القول: إن تجربة النيجر رغم هشاشتها تظل من حيث الشكل أكثر قدرة على تجنُّب بعض أخطاء دول الجوار. فلم يصدر حتى الآن أيّ إعلان عن تمديد مفتوح للمرحلة الانتقالية، كما لم يُحَلّ البرلمان أو تُعلَّق مؤسسات الحكم بالكامل، وهو ما يُبقِي على هامش من الشرعية المؤسسية، ولو شكليًّا. لكنّ هذه الإيجابيات النسبية لا تنفي أن المجلس العسكري لم يعلن حتى اللحظة خارطة طريق مفصلة، أو جدولًا زمنيًّا واضحًا للعودة إلى الحكم المدني. وهذا الغموض يجعل التقييم النهائي مرهونًا بالتطورات المقبلة، ومدى استعداد السلطات الحاكمة للانخراط في حوار وطني حقيقي، يُفضي إلى مرحلة انتقالية مدنية ومؤسسية، تحفظ وحدة الدولة وتمنع الانزلاق إلى النموذج الانغلاقي.([12])
أحد المحددات الكبرى في تقييم فرص العودة إلى النظام الدستوري هو موقف الفاعلين الإقليميين والدوليين، ومدى التزامهم بممارسة ضغط فعَّال ومتماسك. فالتجارب السابقة أثبتت أن العقوبات وحدها لا تكفي، وأن الانقسام بين الأطراف الدولية يمنح الأنظمة العسكرية القدرة على المناورة وإطالة أمد الحكم. كما أن ضعف المتابعة مِن قِبَل الاتحاد الإفريقي والإيكواس في مراقبة الالتزامات الانتقالية، يجعل من الانتخابات أداة شكلية قد تُستخدَم لإعادة إنتاج النظام القائم. لذلك، فإن الخروج الآمِن من المرحلة الانتقالية يتطلب نهجًا مزدوجًا؛ يشمل ضغوطًا منظمة تراعي خصوصيات كل حالة، ومرافقة تقنية وسياسية تساعد في بناء الثقة، وترسيخ المسار الديمقراطي، بعيدًا عن الاعتبارات الضيقة أو الحسابات الجيوسياسية المتناقضة.([13])
خامسًا: ملامح المرحلة الانتقالية في النيجر
تتَّسم المرحلة الانتقالية في النيجر بسمات معقدة تشير إلى توجُّه القيادة العسكرية نحو إعادة صياغة المشهد السياسي بما يضمن تثبيت النفوذ العسكري، وتأجيل العودة إلى الحكم المدني. فقد أوصت اللجنة الوطنية بتمديد المرحلة الانتقالية إلى خمس سنوات، وهي خطوة تعكس رغبة واضحة في تأطير السلطة الجديدة ضمن مسار زمني طويل يسمح بإعادة ترتيب المشهد المؤسسي والسياسي بما يتماشى مع مصالح المجلس العسكري. كما تضمنت التوصيات: حلّ الأحزاب السياسية القائمة، ومنح العفو الكامل للمشاركين في الانقلاب، ما يُكرِّس حالة من الانفصال عن التجربة الديمقراطية السابقة، ويُهدّد مستقبل التعددية السياسية. هذه الإجراءات مجتمعة تُظهر مرحلة انتقالية تُدار بعقلية تصفية وليس عقلية تشاركية، وتفتقر إلى ضمانات واضحة للعودة إلى المؤسسات الدستورية المُنتَخَبة.([14])
السمات القانونية والمؤسسية للمرحلة الانتقالية تعكس مسارًا شديد الحساسية في ظل تفكك المنظومة الحزبية وإعادة هندسة النظام السياسي من جديد. فالتوصيات المتعلقة بحلّ جميع الأحزاب، والسماح لاحقًا بتأسيس عدد محدود منها، تثير مخاوف حقيقية بشأن احتكار المشهد السياسي، وتقويض آليات التنافس الديمقراطي. من جهة أخرى، فإن منح العفو العام للمنخرطين في الانقلاب يؤسس لثقافة الإفلات من العقاب، ويُضْعِف من استقلال القضاء، ويعكس هشاشة التوازن بين السلطات. في الوقت ذاته، تُروّج السلطة لهذه الإجراءات على أنها ضرورية لتجاوز فساد المرحلة السابقة، ولإعادة ضبط الحياة السياسية على أُسُس جديدة. غير أن غياب آلية واضحة لمراقبة تنفيذ هذه الإصلاحات، أو ضمان حيادية العملية السياسية، يضع مستقبل الانتقال برمّته في دائرة الغموض والمخاطر السياسية.([15])
المشهد الانتقالي في النيجر يتَّسم أيضًا بصراع مزدوج: داخلي مع المعارضة السياسية والمدنية، وخارجي مع الأطراف الإقليمية والدولية. فقد واجهت توصيات اللجنة الوطنية انتقادات حادة من قبل المجتمع الدولي، لا سيما فرنسا والولايات المتحدة، التي اعتبرت أن تمديد الفترة الانتقالية وحل الأحزاب يشكلان انحرافًا عن الالتزامات الديمقراطية. على الصعيد الإقليمي، تزايد التوتر مع الإيكواس، خاصةً بعد مقترح السنوات الخمس، ما أدَّى إلى تعميق عزلة النيجر وتهديد موقعها داخل الفضاء الإقليمي. وفي الوقت ذاته، تتجه السلطة نحو تنويع تحالفاتها الأمنية، لا سيما من خلال التقارب مع روسيا. هذا التوتر الإقليمي والدولي يُعزّز الطابع المتأزم للمرحلة الانتقالية، ويجعل من كل خطوة نحو الاستقرار رهينة توازنات متغيرة داخليًّا وخارجيًّا.
عند المقارنة بين المرحلة الانتقالية في النيجر ونظيراتها في مالي وبوركينا فاسو وغينيا، يتضح أن هناك عناصر تشابه من حيث محاولة العسكر فرض تصورهم الخاص لمستقبل الدولة، وإعادة بناء المنظومة السياسية وفق معايير تخدم بقائهم في السلطة، إلا أن النيجر تميزت، في بدايات الأمر، بقَدْر من الانضباط في الخطاب ومحاولة إبقاء التواصل الدبلوماسي مفتوحًا. غير أن التوصيات الأخيرة للجنة الوطنية وضعت النيجر في مسار متقارب مع نماذج الهيمنة العسكرية في دول الجوار، سواء من حيث تمديد المرحلة الانتقالية، أو تصفية الأحزاب، أو ترسيخ الحصانة للانقلابيين. وبالتالي، فإن التمايز النسبي الذي ميَّز النيجر بدأ في التلاشي، ما يدعو إلى التساؤل حول ما إذا كانت المرحلة الانتقالية الحالية تُعدّ مدخلًا لإصلاح عميق أم مجرد إعادة إنتاج للنموذج السلطوي في ثوب جديد.([16])
وختامًا، تكشف التجارب الانتقالية في دول الساحل الإفريقي، وفي مقدمتها النيجر، عن تحديات مُركّبة تعكس أزمات الدولة ما بعد الاستعمار، وتفاوت قدرة الفاعلين على إدارة التحوُّل السياسي بشفافية وفعالية. ففي الوقت الذي أظهرت فيه النيجر تمايزًا نسبيًّا في بدايات المسار الانتقالي، فإن التطورات الأخيرة والتوصيات المطروحة تُهدّد بتحويل هذه المرحلة إلى أداة لترسيخ الهيمنة العسكرية، لا بوابة للإصلاح المؤسسي. ويؤكد ذلك أن نجاح أيّ انتقال لا يتوقف فقط على إسقاط النظم السابقة، بل على قدرة السلطة الجديدة على بناء توافق وطني، وتعزيز المشاركة المدنية، والالتزام بمسار واضح نحو العودة إلى الحكم الدستوري. فبدون ذلك، تبقى هذه المراحل مؤقتة، هشَّة، وعُرضة لإعادة إنتاج الأزمات ذاتها.
……………………………….
[1] Barau Yusuf Abdulrahman, Effectiveness of ECOWAS in Countering Coups in West Africa: A Case Study of Niger Republic, Kashere Journal of Management Sciences, 1 January 2025. https://journals.fukashere.edu.ng/index.php/kjpir/article/view/452
[2] Effectiveness of ECOWAS in Countering Coups in West Africa: A Case Study of Niger Republic, ibid.
[3]– انقلاب النيجر ومنطقة الساحل الإفريقي.. التداعيات وردود الأفعال، مركز فاروس. https://shorturl.at/JpfqO
[4] Moussa Soumahoro, AU and REC challenges in supporting post-coup transitions. https://issafrica.org/research/policy-briefs/au-and-rec-challenges-in-supporting-post-coup-transitions
[5]– سيمون توتي، دوافع حمى الانقلابات العسكرية في غرب ووسط إفريقيا، المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة. https://shorturl.at/JfctD
[6] Festus B. Aboagye, The Withdrawal of AES from ECOWAS: An opportunity for re-evaluating existing instruments for regional integration?, Amani Africa, 31 Jan 2025. https://amaniafrica-et.org/the-withdrawal-of-aes-from-ecowas-an-opportunity-for-re-evaluating-existing-instruments-for-regional-integration/
[7] Mahamadou Hamidou, Coalition of Coups: The AES-ECOWAS Split and West Africa’s Security Crisis, Georgetown Security Studies Review. https://georgetownsecuritystudiesreview.org/2025/03/17/coalition-of-coups-the-aes-ecowas-split-and-west-africas-security-crisis/
[8] Farouk Hussein Abu Deif, The decline of US influence in West Africa. https://english.ahram.org.eg/NewsContentP/50/539388/AlAhram-Weekly/The-decline-of-US-influence–in-West-Africa.aspx
[9] Farouk Hussein Abu Deif, France’s Withdrawal: Redefining Geopolitical Dynamics in West and Central Africa. https://africannarratives.org/frances-withdrawal-redefining-geopolitical-dynamics-in-west-and-central-africa
[10] France’s Withdrawal: Redefining Geopolitical Dynamics in West and Central Africa, ibid.
[11] Michael Howard, by Ethan Czaja, West Africa Divided: Challenges of the Fracturing of ECOWAS for Counterterrorism Efforts, small wars journal, 4 march 2025. https://smallwarsjournal.com/2025/04/03/west-africa-divided-challenges/
[12] Jessica Moody, How ECOWAS Lost Its Way, Foreign Policy. https://foreignpolicy.com/2024/06/10/ecowas-niger-coup-togo-gnassingbe-senegal-faye-ouattara/
[13] Coalition of Coups: The AES-ECOWAS Split and West Africa’s Security Crisis, ibid.
[14]– إيهاب العاشق، التحول السياسي في النيجر: قراءة في توصيات اللجنة الوطنية للعودة إلى الحكم المدني، أفروبولسي. https://shorturl.at/grKm2
[15]– التحول السياسي في النيجر: قراءة في توصيات اللجنة الوطنية للعودة إلى الحكم المدني، مرجع سابق.
[16]– هل سيغير انسحاب دول الساحل من الإيكواس مسار التعاون الإقليمي؟ المركز الأفريقي للأبحاث ودراسة السياسات (أفروبوليسي)، 10 فبراير 2025. https://shorturl.at/DYzOR