نشرت مؤسسة العلوم والسياسة الألمانية (SWP) تقريرًا لـ “فرانزيسكا زانكر/Franzisca Zanker” رئيسة مجموعة أبحاث “أنماط الهجرة (القسرية)” في معهد “أرنولد بيرجسترايسر/ABI” في جامعة فرايبورج، في تبويبها Megatrends Afrika(1)؛ حيث أشارت إلى أن الهجرة القانونية والآمنة إلى أوروبا أصبحت صعبة على نحو متزايد بالنسبة للأفارقة؛ نظرًا لهياكل التنقل العنصرية. تقول “زانكر”: إن لوائح التأشيرات تفرض عقبات هائلة، ولم يكن لشراكات الهجرة تأثير يُذْكَر على الرغم من الحاجة إلى هجرة اليد العاملة.
بقلم: فرانزيسكا زانكر
ترجمة: شيرين ماهر
لقد نُشِرت المبادئ التوجيهية الجديدة لسياسة الحكومة الفيدرالية تجاه إفريقيا في يناير 2025م، والتي تأتي في الوقت المناسب، تزامنًا مع الاحتفال بالذكرى السنوية الـ140 لمؤتمر برلين سيئ السمعة (1884/ 1885م)، والذي كان بمثابة نقطة البداية للاستعمار الكامل تقريبًا لقارة إفريقيا بأكملها. وتعلن المبادئ التوجيهية عن الالتزام المستمر بالتعامل مع الماضي الاستعماري لألمانيا. كما تحتوي على دعوة إلى “الهجرة المنتظمة والمُنظمة”، وتعزيز التبادل الطلابي والأكاديمي من خلال إجراءات التأشيرة السريعة في كلا المجالين. وفي ضوء هذه الأهداف، من المناسب التفكير في الاستمرارية الاستعمارية للوائح التأشيرة الإفريقية الأوروبية الحالية.
هل يتعلق الأمر بقواعد تنظيمية صارمة؟
في عام 2023م، قُدِّم طلب صغير في البرلمان الألماني بشأن قواعد التأشيرة للطلاب والباحثين من إفريقيا. وكان الطلب يتعلق، من بين أمور أخرى، برفض طلب تأشيرة لعالم كاميروني. وكان ردّ الحكومة الفيدرالية أن هذا ليس تمييزًا، بل مجرد قرار يستند إلى القواعد التنظيمية المعتادة. قد يكون ذلك صحيحًا، ولكن ماذا لو كانت القواعد التنظيمية نفسها تُمثّل إشكالية بحد ذاتها؟
بصفتي شخصًا لم يُرفَض طلبي للحصول على تأشيرة في أيّ مكان في العالم سواء بجواز سفري البريطاني أو الألماني، أجد أنه من المُهين، بشكل خاص، أنني لم أنظّم مؤتمرًا أو ورشة عمل مع زملاء من إفريقيا دون الاضطرار إلى التعامل مع تأخيرات التأشيرة أو رفضها أو مشاكل أخرى. ماذا يحتاج شخص يحمل جواز سفر ألماني للسفر إلى ناميبيا أو تنزانيا؟ لا يلزم الحصول على تأشيرة لناميبيا، على الرغم من أن هذا الأمر سيتغير قريبًا، ولا يلزم سوى الحصول على تأشيرة عند الوصول إلى تنزانيا، بتكلفة 50 دولارًا أمريكيًّا.
من ناحية أخرى، يحتاج المسافرون من ناميبيا أو تنزانيا الذين يحتاجون إلى تأشيرة شنجن إلى خطاب دعوة وحجز رحلات العودة، وإثبات الإقامة وإثبات العمل أو الرغبة في العودة إلى الوطن (على سبيل المثال مرجع العمل)، وإثبات الوضع المالي وإثبات الوسائل المالية الكافية (من خلال مستندات مصرفية)، والتأمين الصحي الذي يُغطّي تكاليف لا تقل عن 30000 يورو. يجب على المُتقدمين أيضًا تحديد موعد في سفارة الدولة الأوروبية التي يرغبون في زيارتها. وتبلغ تكلفة التأشيرة 83 يورو. في عام 2022م، تم رفض 30 في المائة من جميع الطلبات الإفريقية، وهو ما يزيد كثيرًا عن المتوسط العالمي البالغ 17.5 في المائة. ووفقًا لدراسة حديثة أخرى، يتأثر المُتقدمون الأفارقة بصورة غير متناسبة بعدم سداد تكاليف تأشيرات شنجن. فعلى سبيل المثال، جمع الاتحاد الأوروبي 130 مليون يورو من طلبات التأشيرة المرفوضة في عام 2023م، حيث يأتي حوالي 42 في المائة من هذه الإيرادات من المُتقدمين في إفريقيا.
مع تراجع طرق الهجرة القانونية تزداد الهجرة غير النظامية:
لقد تراجعت فرص الدخول القانوني من إفريقيا إلى أوروبا، بصورة مُطردة، منذ ثمانينيات القرن العشرين. وعلى الرغم من الحديث عن الشراكة العادلة وطرق الهجرة القانونية على المستوى الدبلوماسي الأوروبي والألماني، فإن الوصول القانوني والآمن و”المُنظم” إلى الدول الأوروبية أصبح مستحيلًا على نحو متزايد.
ووفقًا لتقرير بتكليف من المفوضية الأوروبية، حتى عام 2012م، حصلت الغالبية العظمى من المهاجرين الأفارقة القادمين إلى أوروبا على تأشيرة وتصريح إقامة قبل وصولهم. وعادة ما يصل ما بين 400 ألف و500 ألف مهاجر إفريقي سنويًّا؛ ومنذ عام 2012م انخفض العدد إلى النصف تقريبًا، ليصل إلى حوالي 270 ألفًا إلى 290 ألفًا سنويًّا. ولفت التقرير إلى أنه في حين انخفضت الهجرة القانونية بشكل كبير، فقد زادت حركات الهجرة غير النظامية عبر البحر الأبيض المتوسط. ومِن ثَم يمكننا أن نستنتج أنه إذا تَقلصت الطرق النظامية، سوف تظهر طرق غير نظامية بديلًا لها. ويمكن أن يكون لذلك عواقب وخيمة: ووفقًا للتقرير الخاص بالمهاجرين المفقودين، اختفى ما لا يقل عن 31360 شخصًا في البحر الأبيض المتوسط منذ عام 2014م، ومن المُفترض أنهم فقدوا حياتهم.
هياكل عرقية متجذرة لـ(منع) التنقل:
بشكل عام، أصبحت الهجرة القانونية إلى أوروبا -بطريقة آمنة ومنظمة- صعبة للغاية بالنسبة لكافة المواطنين الأفارقة. فهل يتعلق الأمر ببساطة بلوائح تنظيمية صعبة تحديدًا على القادمين من إفريقيا؛ لأن أوروبا الغنية وجهة شائعة، وإلا لكانت قد غمرتها الهجرة؟
أولًا: شكَّل المهاجرون الأفارقة 14.5% فقط من الهجرة العالمية في عام 2020م، وهي نسبة أقل بكثير من آسيا (41%) أو أوروبا (22.5%). تبقى الغالبية العظمى من المهاجرين الأفارقة في القارة الإفريقية، ويعيش أقل من ثلثهم في أوروبا (27.2%).
ثانيًا: تحتل ألمانيا المرتبة الثالثة في مؤشر هينلي لجوازات السفر، مما يعني أنه يمكن للألمان السفر بدون تأشيرة إلى 192 دولة؛ في المقابل، تحتل تنزانيا المرتبة 69، مع 73 وجهة يمكن لمواطنيها السفر إليها بدون تأشيرة. ومِن ثَم، يمكن اعتبار عدم المساواة في التنقل حقيقة واقعة.
يتحدث الباحث القانوني “تيندايي أشيومي” عن “إمبراطورية استعمارية جديدة” تفرض فيها بعض الأماكن قيودًا على التنقل أكثر من غيرها. بمعنى آخر، يُحدّد التفاوت المُتجذر من يُسمَح له بالتنقل وكيفية ذلك. ويرتبط ذلك بالهياكل العنصرية التي تتحكم في حركة السود والملونين وتصنفهم خطرًا أمنيًّا. ولكن ما علاقة ذلك بالاستعمار؟ إنها علاقة وطيدة، كما يشير كُتّاب عِدة مثل لوسي مايبلين وجو تيرنر، وهنريتا ماكنيل وتوماس سبيكربوير، وآخرون. لماذا انخفضت مُتطلبات التأشيرة عالميًّا، بينما بقيت ثابتة أو حتى زادت لمواطني الدول الإفريقية؟ وفي ظل أي ظروف وُضعت أُطر تنظيمية للتنقل، بما في ذلك اتفاقية جنيف للاجئين، التي خُصصت في الأصل للاجئين الأوروبيين فقط؟ وما أسباب التفاوتات الجوهرية في توزيع الثروة التي تُحدد من يُسمح له بالهجرة؟ أو بعبارة أخرى: من أين تأتي كل هذه الثروة في البلدان التي يتمتع مواطنوها بأكبر قدر من حرية التنقل؟ ومن الآمن أن نقول: إن العلاقات الدولية لا تزال تتأثر بالإرث الاستعماري، ولا يزال هذا الإرث يُملي ترتيبات التَنقُّل اليوم.
شراكات الهجرة.. مُربِحة للجميع:
نظرًا للمطالب السياسية بهجرة آمنة ومنظمة والحاجة إلى مهاجرين مهرة، فإن أحد الحلول البديهية هو إصدار تأشيرات للدراسة والتدريب. ولكن، وفقًا للحكومة الألمانية، لم يحصل سوى 283 طالبًا و16 أكاديميًّا ناميبيًّا على تأشيرات بين عامي 2012 و2022م. وهذا ليس عددًا كبيرًا خلال عشر سنوات.
وهناك وسيلة أخرى لزيادة التنقُّل تتمثل في اتفاقيات الهجرة الثنائية، والتي يمكن أن تكون وسيلة جيدة للمضي قُدمًا، وتُوصَف أحيانًا بأنها ذات مكاسب مُزدوجة أو ثلاثية: مكسب لبلد المقصِد (المزيد من العُمال ذوي المهارات المطلوبة)، ومكسب لبلد المنشأ (على شكل تحويلات مالية إلى الوطن)، ومكسب للمهاجرين أنفسهم (الذين يستفيدون من فرص العمل وتعلم مهارات جديدة). من المحتمل أن توفر هذه الاتفاقيات مسارات أكثر ابتكارًا وواقعية للهجرة القانونية، مثل الاتفاقية الثنائية المُبرمة مؤخرًا بين كينيا وألمانيا، والتي توفر تأشيرات لمُتخصصي تكنولوجيا المعلومات الكينيين دون مؤهلات رسمية (المادة 7.3). وهو أمر من شأنه أن يزيد عادةً من صعوبة الوصول إلى سوق العمل الألماني. ولكن هل يستفيد الجميع حقًّا من هذا النوع من الاتفاقيات؟
أولًا: من المشكوك فيه عدد الكينيين الذين سيتمكنون فعليًّا من السفر إلى ألمانيا والعمل هناك. كما لا يزال من غير الواضح كيف سيُسهم هذا النهج في مكافحة معدل بطالة الشباب في كينيا البالغ 67%.
ثانيًا: من المرجح أن تسمح الاتفاقية في المقام الأول للكينيين المتعلمين تعليمًا جيدًا بالذهاب إلى ألمانيا -على سبيل المثال، العاملين في القطاع الصحي-، مما يشكل خطر هجرة الأدمغة. في الواقع، تعاني كينيا بالفعل من نقص في الكوادر الطبية؛ حيث يوجد حاليًّا (طبيب) واحد لكل 5263 كينيًّا، وهو عدد ضخم من المواطنين أيّ أكثر من خمسة أضعاف النسبة التي توصي بها منظمة الصحة العالمية.
وبالطبع، يمكن للمرء أن يتساءل عن الموقف السياسي للرئيس الكيني روتو، الذي ادعى أن ما يصل إلى 250 ألف كيني يمكنهم العثور على عمل في ألمانيا. لكن الجانب الألماني يحاول أيضًا الاعتراف -وإن لم يكن بصوت عالٍ- بالحاجة الملحة لهجرة العمالة، ومن ناحية أخرى، تهدئة مخاوف الناخبين الألمان التي قد تكون مُفتعلة. يتحقق ذلك من خلال إلزام الحكومة الكينية باستعادة الكينيين الذين لا يملكون الحق القانوني في العيش في أوروبا مقابل منحهم تأشيرات عمل. وقد كانت عمليات الترحيل واسعة النطاق هدفًا طويل الأجل للحكومة الحالية.
وأخيرًا، لماذا تُخصص البنود من 10 إلى 18 من الاتفاقية للتعاون في العودة -بما في ذلك رعايا الدول الثالثة- من ألمانيا إلى كينيا، وهو أمرٌ يُقال: إنه لا علاقة له بهجرة العمالة؟ ووفقًا لبيانات المكتب الإحصائي للجماعات الأوروبية “يورستات”، أُعيد خمسة كينيين من ألمانيا في عام 2023م. وفي العام نفسه، أُمر ما مجموعه 85 مواطنًا كينيًّا بالمغادرة بعد أن ثبت عدم امتلاكهم حق الإقامة في ألمانيا. فهل تبرر هذه الأرقام بالفعل تخصيص هذا الجزء الكبير من الاتفاقية لقضية العودة؟
يتضح هنا اشتراطات هذه الشراكات؛ حيث يمتلك طرفٌ واحدٌ القرار النهائي بوضوح، ويحدد من جانب واحد شروط (توسيع) وصول العمال إلى أسواق العمل الأوروبية. أما بالنسبة للحكومات الإفريقية التي تلتزم بشروط العودة، فإن الضغط في الداخل يكون شديدًا، خاصةً في ظل غياب إمكانية واضحة وموثوقة للحصول على التأشيرات. في حالة الاتفاقية الألمانية الكينية، أتاحت الشراكة للرئيس “روتو” فرصة الترويج لفرص العمل (المحتملة) أمام ناخبيه الساخطين؛ نظرًا لانخفاض تكاليف إعادة هذا العدد القليل من الكينيين. من جانبها، تمكَّنت الحكومة الألمانية من إظهار التزامها علنًا بعمليات الترحيل، حتى وإن كانت رمزية فقط.
ماذا تريد ألمانيا؟
قبل 140 عامًا، اجتمع أكثر من اثني عشر رجلًا يمثلون دولًا غير إفريقية في غرفة ببرلين، وقرروا من جانب واحد مصير قارة بأكملها وملايين سكانها. يُجادل “أشيومي” بأن هناك حجة أخلاقية وقانونية تفيد أن سكان المناطق المستعمرة سابقًا يجب أن يتمكنوا من السفر بحرية إلى أراضي القوى الاستعمارية السابقة. ففي النهاية، لم تكن هناك أيّ قيود على سفر المستعمرين وعائلاتهم إلى المستعمرات. نحن أبعد ما نكون عن هذه الرؤية للتعويض. ولكن السؤال هو: “ما الذي نخشاه؟” وربما، من منظور الواقعية الاقتصادية، “ما الذي نحتاجه؟” الحقيقة هي أن ألمانيا بحاجة إلى هجرة العِمالة، لكن تُظهر دراسة حديثة أن العديد من العُمال المهاجرين يغادرون؛ لأنهم لا يشعرون بالراحة.
في الواقع، ألمانيا هي الدولة الأوروبية التي يتعرض فيها الناس لأكبر قدر من التمييز والعنصرية على أساس لون بشرتهم. ويجب أن نتساءل مع أنفسنا، ومع الساسة في بلدنا، ومع وسائل الإعلام، التي ترسم صورة مشوهة إلى حد كبير لعدد غير منضبط من المهاجرين الذين يشكلون تهديدًا أمنيًّا. هذه الصورة لا تتوافق مع الأرقام الفعلية ولا مع الحاجة الحقيقية لهجرة العمالة. كما أنها تتجاهل الصعوبات التي يواجهها المهاجرون، وخاصةً من إفريقيا. وهذا يُعيدنا إلى السؤال الأهم على الإطلاق: متى سنتقبل ونعترف بمسؤوليتنا المشتركة تجاه نظام تَنقُل غير عادل؟
………………………………….
(1): Megatrends Afrika: مشروع “الاتجاهات الكبرى في إفريقيا”، مشروع بحثيّ مموّل من قِبل وزارة الخارجية الفيدرالية (AA) والوزارة الفيدرالية للتعاون الاقتصادي والتنمية (BMZ) ووزارة الدفاع الفيدرالية (BMVg) الألمانية. وهو أحد مبادرات التعاون بين معهد الشؤون الدولية والأمنية (SWP)، والمعهد الألماني للتنمية والاستدامة (IDOS) ومعهد كيل للاقتصاد العالمي (IfW). يعكف المشروع على دراسة كيفية تأثير الاتجاهات الكبرى على الدول والمجتمعات الإفريقية، وتطوير أفكار للتعاون الألماني والأوروبي مع الشركاء الأفارقة بهدف جعل عمليات التغيير الجارية مستدامة وعادلة، نظرًا لتزايد أهمية القارة المجاورة على أجندة السياسية الألمانية والأوروبية، وهذا يضع صُنّاع القرار الألمان والأوروبيين أمام تحديات جديدة، بما يدفع إلى الحاجة إلى المشورة السياسية القائمة على أساس علمي وأكاديمي.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
رابط التقرير: