كانت سنوات حياة المفكّر والمؤرخ الأفروأمريكي البارز وليام دوبويس W.E.B. Du Bois المُبكّرة (1868- 1964م)، هي نفسها السنوات الأولى لتطوُّر الرأسمالية الصناعية كقوة ثقافية مهيمنة في الولايات المتحدة، وفي أغلب أوروبا. كما كانت تلك السنوات هي فترة صعود التوسُّع الاستعماري الأوروبي في إفريقيا وآسيا، وشهدت التجربة الأمريكية لحلّ “المشكلة الزنجية”.
وُلِدَ دوبويس في العام 1868م، وهو العام الذي شهد التصديق على التعديل الرابع عشر، وبدأ دراسته في جامعة فيسك Fisk في العام 1885م، مع انعقاد مؤتمر برلين الذي قسَّم القارة الإفريقية إلى نطاقات نفوذ للقوى الاستعمارية الأوروبية.
وتزوّج واستكمل دراساته في فيلادلفيا في العام 1896م، وهو العام الذي صدر فيه قرار بليسي Plessy Decision، وانضم لهيئة التدريس في جامعة أتلانتا في ذروة شعبية أيديولوجية “الجنوب الجديد”، والتي كانت أتلانتا تعتبر عاصمته، وخاض سجالًا مع بوكر ت. واشنطن Booker T.Washington حول التعليم الصناعي. وربما كان الأكثر أهمية في تطوُّر فكر دوبويس هو قبوله في امتحان الالتحاق بالكلية في وقتٍ كان فيه الدور الاجتماعي واهتمام الجامعة آخِذًا في التغيُّر. ونضج دوبويس في بيئة فكرية محكومة بثلاث استجابات أيديولوجية لتحقق تماسك التحول الصناعي؛ وهي: الجماعية، والكومنولث التعاوني، ومعاداة الحداثة antimodernism([1]).
ظهور مجلة “ذا كريسيس”:
مثَّلت مجلة ذا كريسيس The Crisis نافذة مهمة لنقل دوبويس لأفكاره بشكل مستدام طيلة ربع قرن، تولّى خلالها تحرير المجلة (1910- 1934م)، وزامنت تلك الفترة الصعود التدريجي لحركة نهضة هارلم الثقافية، وذروتها في منتصف عشرينيات القرن الماضي؛ وصدرت المجلة في العام 1910م، مع تكوين الجمعية الوطنية للنهوض بالملونين National Association for the Advancement of Colored People (NAACP)، وكانت “ذا كريسيس” هي الأداة الإعلامية الرئيسة للجمعية. وقد خرجت الجمعية نفسها للوجود عقب أعمال شغب عرقية في سبرنجفيلد Springfield بولاية إلينوي في أغسطس 1908م، وأسفرت عن مقتل رجلين من السود وأربعة من البيض، وإصابة أكثر من سبعين فردًا، وهو الحادث الذي أثار صدمة بين الإصلاحيين السود والبيض، ليس لأنه حادث وقع في الشمال فحسب، لكن لأنه وقع في موطن الرئيس الأسبق أبراهام لينكولن.
ودعا صحفي شاب وهو وليام إنجليش وولينج W.English Walling (كان يقوم بتقصّي الحادث) مع مجموعة من رفاقه ممن يعملون في العمل الاجتماعي مثل هنري موسكوفيتز H.Moskowitz وماري هوايت أوفينجتون Mary White Ovington وأوزوالد جاريسون فيلار Oswald Garrison Villard (وهو مُحرِّر إحدى الصحف وحفيد وليام لويد جاريسون الذي كان من دعاة إلغاء تجارة العبيد)، إلى اجتماع قومي لمناقشة “الشرور الراهنة، وإعلاء الصوت بالاحتجاج، وتجديد النضال من أجل الحرية المدنية والسياسية”.
وانعقد المؤتمر الزنجي القومي National Negro Conference في مدينة نيويورك في 31 مايو و1 يونيو 1909م، وانعقدت خلاله الجمعية الوطنية للنهوض بالملوّنين، وكان أغلب الحضور من المصلحين الاجتماعيين البيض، وشمل الحضور من شخصيات السود عددًا من الشخصيات البارزة، ومن بينهم وليام دوبويس ممن قاموا بأدوار في الدعوة لنيل بني جنسهم حقوقهم المدنية كاملة، وتبنَّت الجمعية برنامجًا يقوم على المعارضة القوية للكراهية والتحامل العرقيين، ووعدت بالكشف الكامل عن كيفية معاملة الأفروامريكيين في الولايات المتحدة. وطلب وولينج من الدكتور دوبويس، الأستاذ بجامعة أتلانتا حينذاك ومؤلف كتاب the Souls of Black Folk (1903) التفرغ تمامًا لصالح المنظمة الجديدة، ووافق دوبويس على ذلك بعد تلبية بعض طلباته المادية والمهنية لضمان سير العمل، ومِن ثَمَّ تولَّى دوبويس تحرير مجلة ذا كريسيس منذ أول أعدادها([2]).
ووفق الوثائق التي اعتمد عليها جيرالد هورن G.Horne في مؤلفه حول سيرة دوبويس الذاتية([3])؛ فإن وولينج تعهَّد بدفع 2500 دولار لدوبويس، إضافةً إلى تغطية الجمعية لجميع نفقاته خلال العام الأول من التعاقد، “مع وعد بالتعاقد معه في الأعوام التالية بقيمة مرتب متزايدة”؛ لكنّ موافقة دوبويس كانت تعني تضحيته بأمور أخرى؛ إذ كان عليه مغادرة أتلانتا، والانتقال إلى مانهاتن المكتظة بسكانها، وكذلك التخلي عن وظيفته الأكاديمية وخوض النضال وسياسة الدفاع عن السود في مناخ مُعادٍ. كما أظهرت الأدبيات التي تناولت تكوين الجمعية الوطنية للنهوض بالملونين مساهمة رجال أعمال يهود كثر ورجال دين وعلمانيين أيضًا من دوائر يهودية مختلفة بتبرعات كبيرة في دعم حركة الحقوق المدنية للسود منذ نهاية القرن التاسع عشر، وتراكم ذلك في فيلادلفيا قبيل تكوين الجمعية بوقت قصير، ثم توجهت هذه التبرعات في أغلبها للجمعية([4])؛ لمواجهة تطرُّف الحركات العنصرية البيضاء التي وجَّهت ضرباتها أحيانًا ضد اليهود في الولايات المتحدة.
وقد صدر العدد الأول من المجلة في نوفمبر 1910م، وكان دوبويس هو المحرّر (ومدير الدعاية والبحوث بالجمعية)، يعاونه أوزوالد جاريسون فيلار وعدد من رفاقه؛ وبحسب افتتاحية أول عدد، والتي كتبها دوبويس، فإن هدف المجلة هو طرح الوقائع والحجج التي تُظْهِر خطر التحامل العرقي، ولا سيما كما بدا متجسدًا اليوم نحو الملونين. وأخذت المجلة اسمها من حقيقة إيمان محرريها بأن هذا الوقت هام في تاريخ تقدُّم الإنسان. إن الشمول والتسامح والمنطق والتحمل يمكن أن يساهموا في تحقيق حلم البشرية القديم بالأخوة؛ فيما يدفع التعصب والتحامل والتأكيد على الوعي العرقي والقوة لتكرار التاريخ القبيح لتواصل الأمم والجماعات في الماضي([5]).
دوبويس والقراءة الانتقائية للتاريخ:
وفي العدد رقم مائة (مجلد 17، رقم 4، فبراير 1919م) قدم دوبويس قراءة مُعمَّمة لتاريخ إفريقيا، وجاء في قلبها مقارنة الحركة القومية الإفريقية بالصهيونية اليهودية، في إشارة على عمق هذه الرؤية لدى قطاعات النخبة الأفروأمريكية، بغض النظر عن الشواهد التاريخية المُفنّدة لمثل هذه الفرضيات.
ويذكر بداية أن أوروبا بدأت تنظر بعين الجشع لإفريقيا منذ العام 1415م، عندما حقَّق البرتغاليون في معركة سبتة موطئ قدم لهم في المغرب؛ وبعدها قام المير هنري الملاح بسلسلة من الكشوف، والتي لم تُسْفِر فحسب عن كشف كيب فيرد، وساحل غينيا ورأس الرجاء الصالح، لكنّها أتاحت للبرتغال بحلول العام 1487م امتلاك جزء كبير من سواحل شرق إفريقيا. وكان ذلك بداية للاستعمار البرتغالي لغينيا وأنجولا وشرق إفريقيا.
واقتفت دولٌ أوروبية أخرى مثل بريطانيا وفرنسا وإسبانا وهولندا والدانمارك هذا التوجُّه وأقامت جميعها محطات على امتداد الساحل الإفريقي وهدفها الرئيس هو تعزيز تجارة الرقيق. لكنّ تقسيم إفريقيا كما نعرفها أمر حديث للغاية، ويبدأ مع تأسيس دولة الكونغو الحرة Congo Free state في العام 1884م، والتي ضمتها بلجيكا إليها بقيادة ملكها ليوبولد في العام 1908م، وانطلق التكالب الأوروبي على المستعمرات الإفريقية وخلال ربع قرن كانت إفريقيا بأكملها تقريبًا في يد أوروبا.
وفي هذا التقسيم حققت الإمبراطورية البريطانية شبكة أملاك تمتد من السودان الإنجليزي المصري حتى جنوب إفريقيا مع وجود أملاك ذات قيمة كبيرة على ساحل شرق إفريقيا، وفي بلاد الصومال Somaliland، وحلت فرنسا تالية لبريطانيا مع مساحة أكبر لكن بعدد سكان أقل. ووصلت سيطرتها من المغرب والجزائر بما في ذلك الصحاري الجزائرية حتى الكونغو الفرنسي، وعلى ساحل شرق إفريقيا ومدغشقر وبلاد الصومال الفرنسية French Somaliland، ووصلت ألمانيا إلى اللعبة متأخرة واستولت على توجولاند والكاميرون Kamerun وجنوب غرب إفريقيا (الألمانية- ناميبيا) وشرق إفريقيا…”([6]). وتحت عنوان فرعي بالمقال “إعادة البناء وإفريقيا”، تبدو إشارته واضحة إلى مرحلة ما بعد الحرب العالمية الأولى، وما عرفت بإعادة البناء في الولايات المتحدة التي بدأت قبل سنوات، ورأى دوبويس أنه ثمة “اقتراح لإعادة المستوطنات التي فقدتها ألمانيا في الحرب لأيّ دولة أوروبية أخرى، تحت إشراف حضارة منظمة organized civilization، وترقيتها لدرجة تطوّر تنتج في النهاية دولة حكم ذاتي؛ لكن هذه الخطة واجهت قدرًا كبيرًا من الانتقاد والسخرية. وكان مدار قولهم: “دعوا الأهالي الوطنيين يتطورون وفق مبادئهم، ولسوف “يعودون للوراء”. العودة إلى ماذا بحق السماء؟ ويتساءل دوبويس: هل تُعدّ حضارة ما متخلفة طبيعيًّا بسبب اختلافها؟ ثم ينتقد شرور الحضارة الأوروبية في إفريقيا التي أدخلتها للمرة الأولى، ويبرز حقيقة أن ثقافة الأهالي المحليين بالنسبة لدولة ما، وتقاليدها الشعبية وفنّها يجب أن يكون لكل ذلك أفق مفتوح، وإلا فلن تكون ثمة أمور في العالم مثل الحرية”.
كما رأى أن الرجال البيض يتلاعبون بالعبارات فحسب؛ عندما يعلنون أن انسحابهم من إفريقيا سيجرّ هذه القارة إلى الفوضى. ويمضي في عبارة لافتة: “إن ما تريده أوروبا، وبالأحرى جماعة صغيرة في أوروبا، ليس ميدانًا لنشر الحضارة الأوروبية، بل ميدان للاستغلال. تشتهي الحصول على موادها الخام… إن الطمع هو الذي يُحرّك اهتمام أوروبا بإفريقيا، ويعلم العالم الأبيض ذلك تمام العلم ولا يخجل منه”.
ويُمهّد دوبويوس للفقرة الأكثر خطورة في تحليلنا الراهن بخصوص الصهيونية السوداء، أو اعتقاده بوجوب أن تسير “الحركة الإفريقية” على خُطَا الصهيونية اليهودية بشكل كامل؛ إذ رأى أن أيّ تعديل من جديد لإفريقيا ليس عادلًا، ولا يمكن أن يستمر إذا لم يأخذ في اعتباره مصالح سكان القارة وفي الشتات (ذوي الأصول الإفريقية): “إن التحامل ضد الزنجي الطموح، في المستعمرات الأوروبية في إفريقيا، أعظم حالًا منه في أمريكا، ولذلك دلالة كبيرة. لكن مع تكوين شكل من الحكم سيقوم على مفهوم أن إفريقيا للإفريقيين ستكون ثمة فرصة للأمريكي الملون للهجرة إلى إفريقيا، وأن يكون رائدًا لدولة تمتلك بالنسبة له نفس الولع الذي تُوفّره إنجلترا للإنجليز المولودون في الهند”.
ويؤكد دوبويس أن تلك الحركة ليست انفصالية؛ إذ إنه ليس ثمة حاجة “للاعتقاد بأن مَن يدافعون عن فتح إفريقيا أمام الأفارقة وذوي الأصول الإفريقية يرغبون في ترحيل أعداد كبيرة من الأمريكيين الملونين إلى أرض أجنبية وغير مأهولة من بعض النواحي. وبشكل نهائي، دعونا نُقِرّ أننا أمريكيون، وأننا وصلنا هنا مع المستوطنين الأوائل، وذلك هو نوع الحضارة التي جئنا منها، ومكننا من اعتناق الأنماط والتقاليد الغربية… باختصار فإنه ليس هناك مَن هو أكثر أصالة (للسكان الأصليين في إفريقيا)، و”صنع في أمريكا” بشكل كامل منا (الزنوج أو الأفروأمريكيون). لذا فإنه من الحماقة بمكان الحديث عن عودة لإفريقيا بسبب وحيد، وهو أنها كانت وطننا قبل 300 عام، ليصل إلى خلاصة بالغة الخطورة:
“لكن صحيح أننا كشعب لم نُخْلَق للاستعمار، وأن عددًا من المهن والاهتمامات قد أُغْلِق في وجهنا وسيفتحها مجددًا استعادة إفريقيا. إن الحركة الإفريقية تعني لنا ما تعنيه الحركة الصهيونية تمامًا لليهود، أي مركزية الجهد العرقي والاعتراف بالأصل العرقي racial fount. إن المساعدة في حمل عبء إفريقيا لا يعني بالضرورة أيّ تقصير في الجهود في مشكلاتنا في الوطن (الولايات المتحدة)، بل إن ذلك يعني زيادة الاهتمام؛ لأن أيّ فورة في العمل والشعور ينتج عنها تحسُّن توجُّه إفريقيا لإصلاح حالة الشعوب الملونة في أرجاء العالم؛ “لأنه ليس أحدٌ منا يعيش لذاته”([7])، (نص كتابي من رسالة بولس الرسول إلى أهل رومية- رومية 14 : 7).
وتكشف قراءة النص الذي خطه دوبويس عن ملاحظة أساسية هنا، وهي أنه رغم الطابع الإنساني الذي غلَّف أفكار دوبويس، ونقده المبكر للاستعمار الأوروبي (وفصله بشكل واضح عن أدوار الولايات المتحدة في ديناميات هذا الاستعمار)؛ باعتباره سببًا في التخلف الذي حاق بإفريقيا قبل مؤتمر برلين 1884-1885م، فإن رؤيته لحلول مشكلات القارة وتوقُّعه لعب الزنوج الأمريكيين الدور الرائد في تحرير إفريقيا من التخلف اقتداءً بالتجربة الصهيونية كوسيلة لتمدين فلسطين، وتمثله بُعدًا دينيًّا (سواء في الرؤية الرسولية للجماعة الزنجية باعتبار تشكُّلها على النمط الغربي-المسيحي، أو اختتام مقالته بآية من سفر رومية) في الحركة الزنجية (صهيونية المشروع، بمعنى العودة إلى إفريقيا لتمدينها)، كشف كل ذلك عن نزعة استعمارية زنجية لا تختلف عن نظيرتها الأوروبية إلا في الأدوات وصياغة الدور في تحمُّل “عبء القارة الإفريقية”؛ بحسب مفردات دوبويس عند قراءتها في مستوى أعمق.
…………………………..
[1] Reed, Adolph L. W. E. B. Du Bois and American Political Thought: Fabianism and the Color Line, Oxford University Press, New York, 1997, p. 15.
[2] Shawn Leigh Alexander, The Crisis: A Record of the Darker Races: An Introduction (in: Kirshke, Amy Helene and Sinitiere, Philip Luke, editors, Protest and Propaganda: W. E. B. Du Bois, the Crisis, and American History) University of Missouri Press, Columbia, Missouri, 2016, pp. 1-2.
[3] Horne, Gerald, W. E. B. Du Bois: A Biography, Greenwood Press, Santa Barbara, 2010, p. 60.
[4] Kellogg, Charles Flint, NAACP: A History of the National Association for the Advancement of Colored People, Vol. I, 1909-1920, The Johns Hopkins University Press, Baltimore, 1967pp. 125-6.
[5] The Crisis Editorial, Volume one, Number one, November 1910, pp. 10-11.
[6] Editorial, Letters from Dr. Du Bois, December 8, 1918, The Crisis, Vol. 17, No. 4 (February, 1919) pp. 164-5
[7] Editorial, Letters from Dr. Du Bois, December 8, 1918, The Crisis, Vol. 17, No. 4 (February, 1919) pp. 165-6.











































