أحمد منير
باحث مساعد بكلية الدراسات الاقتصادية والعلوم السياسية – جامعة الإسكندرية
مدخل:
منذ عقود، يُشكّل القرن الإفريقي نقطة ارتكاز إستراتيجية في معادلة الأمن الإقليمي والدولي؛ نظرًا لموقعه الجغرافي الحسَّاس وتداخله العميق مع شبكات الإرهاب، والهجرة غير النظامية، والصراعات الداخلية. ويأتي الصومال، الذي يعاني من هشاشة مؤسساتية وأزمة أمنية مستدامة، في قلب هذه التفاعلات. وقد لعبت بعثة الاتحاد الإفريقي في الصومال (AMISOM) دورًا محوريًّا في احتواء تنظيم “حركة الشباب”، ودعم بناء الدولة الصومالية، بالتنسيق مع الأمم المتحدة والجهات الدولية الفاعلة.
في قرارٍ أثار تساؤلات واسعة؛ رفَض الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” تقديم الدعم المالي والعسكري لبعثة الاتحاد الإفريقي لحفظ السلام في الصومال. هذا القرار يأتي في إطار سياسة “أمريكا أولًا” التي تنتهجها الإدارة الأمريكية، والتي تسعى إلى تقليص التزاماتها العسكرية في الخارج وتركيز مواردها على القضايا المحلية.
يُعدّ دعم بعثة الاتحاد الإفريقي في الصومال جزءًا من جهود حفظ السلام التي يقودها الاتحاد لمساعدة الحكومة الصومالية في مواجهة تهديدات جماعة “حركة الشباب”. ولكن مع هذا الرفض الأمريكي، يتزايد الضغط على الاتحاد الإفريقي والدول الأعضاء فيه لتوفير تمويل بديل للحفاظ على استقرار الوضع الأمني في الصومال.
هذا القرار لم يكن مجرد خطوة سياسية عابرة، بل كانت له انعكاسات واسعة النطاق على بنية الأمن الإقليمي في شرق إفريقيا، بدءًا من تقليص قدرات القوات الإفريقية على الأرض، مرورًا بتزايد نشاط الجماعات المسلحة، وصولًا إلى تعميق حالة عدم الثقة بين الولايات المتحدة وشركائها الأفارقة.
ومن “الانسحاب” إلى “التهميش”، ترسم هذه الورقة خريطة تداعيات رفض إدارة “ترامب” دعم بعثة AMISOM، في محاولة لفَهْم أعمق لتأثير السياسات الدولية على أمن القارة، وتوازنات القوى في واحدة من أكثر المناطق هشاشة وتنافسًا في العالم.
أسباب الرفض الأمريكي لدعم بعثة الاتحاد الإفريقي في الصومال:
1-الضغط الجمهوري على الإدارة الأمريكية لوقف دعم بعثة الاتحاد الإفريقي في الصومال بسبب التكاليف المالية
كانت هناك انتقادات من بعض الأعضاء الجمهوريين في الكونجرس بشأن تكلفة الدعم المالي الأمريكي للبعثات العسكرية، مثل تلك التي تُنفّذها بعثة الاتحاد الإفريقي في الصومال. هؤلاء الأعضاء اعتبروا أن تقديم الدعم للبعثة يتعارض مع الأولويات الاقتصادية الداخلية للولايات المتحدة، خاصةً في ظل التحديات الاقتصادية التي كانت تواجهها البلاد في تلك الفترة. ومع اقتراب موعد التصويت على تجديد التمويل، ازداد الضغط الجمهوري على الإدارة الأمريكية للعدول عن هذا الدعم، معتبرين أن الولايات المتحدة يجب أن تتجنَّب المزيد من التورط في النزاعات الإفريقية، وأن تعتمد على الدول الإفريقية ذاتها في تحمُّل المسؤولية([1]).
2-إعادة تقييم دور الولايات المتحدة الأمني في الصومال وتزايد الشكوك حول فعالية دعم بعثة الاتحاد الإفريقي
تم إعادة تقييم دور الولايات المتحدة في الصومال في ضوء تطورات إستراتيجية جديدة، وكانت الولايات المتحدة قد دعمت في الماضي بعثة الاتحاد الإفريقي في الصومال بشكل كبير من خلال التمويل والتدريب، وذلك لمساعدتها في مواجهة حركة الشباب. ومع ذلك، تزايدت الشكوك حول فعالية هذا الدعم في تحسين الاستقرار طويل الأمد في الصومال.
3-تركيز إدارة “ترامب” على تقليص النفقات الخارجية في إطار سياسة “أمريكا أولًا“
كانت هناك قناعة لدى بعض أعضاء الكونغرس الأمريكي بأن تمويل بعثات حفظ السلام في إفريقيا لا يُحقّق نتائج ملموسة على المدى الطويل بالنسبة للأمن الأمريكي. واعتبروا أن الولايات المتحدة لا ينبغي أن تتحمَّل الأعباء المالية لمهام حفظ السلام في مناطق قد تظل غير مستقرة بالرغم من الدعم المقدَّم. كما ضغطت فئات من الحزب الجمهوري على إدارة “ترامب” لوقف المزيد من التورط في النزاعات الإفريقية، معتبرين أن الولايات المتحدة يجب أن تشجّع الدول الإفريقية على تحمُّل المسؤولية الأمنية في منطقتها بدلًا من الاعتماد على الدعم الأمريكي المستمر([2]).
4-مخاوف من التوجهات الخارجية للرئيس الصومالي حسن شيخ محمود وتأثيرها على العلاقات مع الولايات المتحدة
أحد الأسباب الرئيسية للرفض الأمريكي لدعم بعثة الاتحاد الإفريقي في الصومال هو المخاوف المتعلقة بالتوجهات الخارجية للرئيس الصومالي حسن شيخ محمود. فبعض التصريحات السياسية لرئيس الصومال حول تعزيز العلاقات مع دول أخرى، مثل روسيا أو الصين، قد أثارت القلق في واشنطن؛ حيث اعتُبرت هذه العلاقات غير متوافقة مع أولويات السياسة الخارجية الأمريكية في المنطقة، التي كانت تركز على دعم الحلفاء التقليديين.
تداعيات وقف الدعم الأمريكي لبعثة الاتحاد الإفريقي:
1-التصاعد المتسارع في نشاط “حركة الشباب” بالصومال
قد يؤدي وقف الدعم الأمريكي لبعثة الاتحاد الإفريقي في الصومال إلى توسيع متزايد في نشاط حركة الشباب، التي تُعتَبر أحد أكبر التهديدات الأمنية في الصومال، فمنذ أن بدأت الولايات المتحدة تقليص دعمها العسكري والمالي لهذه البعثة، بدأت الجماعات المسلحة، مثل حركة الشباب، في استغلال الفراغ الأمني الناجم عن ذلك لتعزيز نفوذها في مناطق متعددة. وقد لُوحظ في الآونة الأخيرة زيادة في الهجمات التي تقوم بها الحركة، سواء في العاصمة مقديشو أو في مناطق أخرى بالجنوب والجنوب الشرقي من البلاد، ما يعكس ضعف تأثير بعثة الاتحاد الإفريقي في التصدي لهذه التهديدات.
علاوة على ذلك، فإن توقف الدعم الأمريكي يضع عبئًا إضافيًا على القوات الإفريقية الموجودة في الصومال، التي قد تفتقر إلى الإمكانيات اللازمة لمواجهة هذا التوسع في نشاط حركة الشباب. بالإضافة إلى أن غياب الدعم اللوجستي والاستخباراتي الأمريكي، يزيد من صعوبة التصدي للهجمات المعقدة التي تشنّها الجماعة المسلحة، ويُشكّل هذا التراجع في الدعم تحديًا كبيرًا للجهود المبذولة لمكافحة الإرهاب في المنطقة؛ حيث يتم إعادة التفكير في إستراتيجيات مكافحة الإرهاب في ظل تصاعد تهديدات حركة الشباب.
2-تزايد العجز المالي سيهدّد استمرارية أنشطة حفظ السلام في الصومال
سيؤدي وقف الدعم الأمريكي لبعثة الاتحاد الإفريقي في الصومال إلى تفاقم العجز المالي لأنشطة حفظ السلام في البلاد، مما سيؤثر بشكل مباشر على قدرة البعثة على تنفيذ مهامها الأمنية والعسكرية بفعالية. حيث كانت الولايات المتحدة من أبرز المُموّلين للبعثة، وساهم دعمها في توفير التمويل اللازم للعمليات اللوجستية، والتدريب، ورواتب الجنود. ومع توقف هذا الدعم، ستواجه البعثة تحديات كبيرة في تغطية نفقاتها، ما يؤدي إلى تقليص انتشارها الميداني وقدرتها على التصدي لتهديدات مثل حركة الشباب.
هذا العجز المالي يُهدِّد استمرارية العمليات الأمنية في مناطق هشَّة أمنيًّا، ويُعزّز من احتمالية عودة الجماعات المسلحة للسيطرة على مواقع كانت قد فُقِدَتْ سابقًا. كما سينعكس ذلك على الروح المعنوية للقوات المشاركة في البعثة، التي تجد نفسها أمام مهام متزايدة بموارد متناقصة. ومن دون بدائل تمويل سريعة من شركاء دوليين آخرين، قد تدخل بعثة الاتحاد الإفريقي في أزمة وجود حقيقية، ما يفتح الباب أمام تصعيد أمني واسع في الصومال والمنطقة المحيطة([3]).
وتُواجه قوة حفظ السلام التابعة للاتحاد الإفريقي في الصومال، والتي تُواصل مهمتها بعد انتقال المهام من بعثة “أميصوم” (بعثة الاتحاد الإفريقي في الصومال)، أزمة مالية حادة تؤثر على قدرتها على تنفيذ مهامها الأمنية والإنسانية في المنطقة. الأزمة المالية تنبع من تراكم ديون تُقدَّر بنحو 96 مليون دولار، وهي ديون ناجمة أساسًا عن تأخُّر دَفْع الأجور لموظفي البعثة وتغطية تكاليف التشغيل المرتبطة بأنشطة حفظ السلام.
تثير هذه الأزمة القلق البالغ من أن هذه الأوضاع المالية قد تُعرقل فعالية البعثة في القيام بمهامها الحيوية، خاصةً في ظل التحديات الأمنية المتزايدة التي يواجهها الصومال. هذه الأزمة المالية قد تؤدي إلى تقليص نطاق عمل البعثة أو حتى تعليق بعض مهامها، مما سيعكس سلبًا على جهود الاستقرار الإقليمي والدولي في الصومال([4]).
3-احتمالية احتدام الخلاف الأمريكي–الأوروبي بشأن آلية تمويل بعثة حفظ السلام في الصومال
يمكن أن يؤدي قرار الولايات المتحدة بوقف دعمها المالي لبعثة الاتحاد الإفريقي في الصومال إلى تصاعد الخلاف بينها وبين الشركاء الأوروبيين بشأن آلية التمويل البديلة للبعثة. فبينما ترى واشنطن أن الدول الإفريقية والداعمين الإقليميين يجب أن يتحمَّلوا عبئًا أكبر في تمويل عمليات حفظ السلام، تدعو العواصم الأوروبية إلى استمرار تقاسم الأعباء المالية بشكلٍ منسَّق؛ حفاظًا على استقرار الصومال ومنع تصاعد نفوذ الجماعات المسلحة. هذا التباين في المواقف تسبَّب في فتور واضح داخل الأُطُر التنسيقية بين الطرفين، وسيؤثر على قدرة المجتمع الدولي على تقديم استجابة موحدة.
إن الخلاف لا يقتصر فقط على التمويل، بل سيمتدّ إلى الرؤية الإستراتيجية العامة للتعامل مع الأزمات الأمنية في إفريقيا. فبينما تميل أوروبا إلى دعم الحلول متعددة الأطراف عبر الأمم المتحدة والاتحاد الإفريقي، تتبنَّى الولايات المتحدة مقاربة أكثر تقشفًا تقوم على الانسحاب الجزئي وتقليص الالتزامات الخارجية. وستؤدي تلك الفجوة في التوجهات إلى تعقيد الجهود الدولية لضمان استدامة بعثة الاتحاد الإفريقي، ما يزيد من المخاوف بشأن مستقبل الأمن في الصومال والمنطقة ككل.
4-ترجيحات حول تزايد تحركات القوى الدولية المنافسة لملء الفراغ الأمريكي في الصومال
سيؤدي وقف الدعم الأمريكي لبعثة الاتحاد الإفريقي في الصومال إلى فتح المجال أمام قوى دولية منافسة للتحرك وملء الفراغ الذي خلّفه الانسحاب الأمريكي. سوف تبدأ بعض الدول، مثل الصين وروسيا، في توسيع نفوذها الدبلوماسي والأمني في منطقة القرن الإفريقي، مستغلةً الفرصة لتقديم مساعدات عسكرية أو اقتصادية مشروطة، تسعى من خلالها إلى تعزيز نفوذها الجيوسياسي.
كما أن هذه القوى يمكن أن تستخدم أدوات متعددة مثل الاتفاقيات الثنائية، والمساعدات التقنية، والدعم الاستخباراتي، لكسب ولاء الحكومات المحلية أو التأثير في مسار عمليات حفظ السلام. وسيثير هذا التحرك مخاوف في العواصم الغربية من أن يؤدي تراجع الدور الأمريكي إلى تقويض نفوذ التحالفات الغربية التقليدية في المنطقة، ويفتح الباب أمام نماذج مختلفة للتعاون الأمني والسياسي لا تخضع للمعايير الدولية المعتادة. ومن المتوقع أن يؤدي هذا الفراغ إلى إعادة تشكيل خريطة النفوذ الدولي في الصومال والقرن الإفريقي بشكل أوسع([5]).
5-التهديدات المتزايدة لسيناريو الانهيار الكامل للحكم في الصومال بعد توقف الدعم الأمريكي
إن توقف الدعم الأمريكي لبعثة الاتحاد الإفريقي في الصومال قد يؤدي إلى زيادة الضغوط الأمنية والسياسية على الحكومة الصومالية، مما يزيد من احتمالية حدوث سيناريو الانهيار الكامل للحكم. فمع انسحاب الدعم العسكري والمالي من أحد أبرز الداعمين الدوليين، قد تزداد قدرة الجماعات المسلحة على السيطرة على مزيد من الأراضي في الصومال، مما يُهدّد استقرار الحكومة المركزية. وقد يؤدي هذا إلى تفاقم الوضع الأمني، ما يُشكّل تهديدًا حقيقيًّا لوجود الحكومة الصومالية، ويجعل من الصعب عليها الحفاظ على السلطة في مواجهة التحديات المتزايدة.
إن زيادة الفوضى الأمنية في البلاد قد تعني أن الحكومة الصومالية ستكون عاجزة عن تقديم الخدمات الأساسية، ما يُفاقم معاناة الشعب الصومالي. وفي حال ضعف السيطرة الأمنية، قد تزداد أعداد النازحين داخليًّا مع تفاقم تهريب الأسلحة، ما يُؤدّي إلى وضع اقتصادي وإنساني كارثي. وقد يُعتبر هذا السيناريو تهديدًا مباشرًا لاستقرار المنطقة ككل، ما يجعل من الضروري أن تتم إعادة تقييم السياسة الدولية تجاه الصومال لمواجهة هذا التحدي المتزايد.
في الختام، يمكن القول:
إن رفض إدارة ترامب دعم بعثة الاتحاد الإفريقي في الصومال لم يكن مجرد قرار مالي أو سياسي بحت، بل سيكون له تداعيات عميقة على استقرار المنطقة بشكل عام. سيؤدي هذا القرار إلى زيادة الفراغ الأمني، مما سيسمح بتصعيد الأنشطة العنيفة في البلاد، خاصةً مِن قِبَل حركة الشباب، وأدَّى إلى تعزيز الانقسامات الإقليمية والدولية. كما أظهر التوجُّه الأمريكي نحو تقليص التورط في الصومال تراجعًا في النفوذ الأمريكي، ما سيفتح المجال لقوى دولية منافسة للهيمنة على الملف الصومالي. وبينما تسعى الصومال لمواجهة تحدياتها الأمنية والاقتصادية، يبقى السؤال الأبرز هو كيف ستتمكن من إعادة بناء الاستقرار في ظل هذا التهميش الدولي المتزايد؟!
………………………..
[1] – بعد قرار واشنطن: أزمة تمويل تضرب بعثة الاتحاد الإفريقي في الصومال، تقرير، 12 مايو 2025م، بوابة الحركات الإسلامية، على الرابط التالي: https://short-link.me/12kDT
[2] The crisis of multilateralism and African peace operations, https://short-link.me/Zk3c
[3] Impact of Trump 2.0 on Sub-Saharan Africa, https://short-link.me/Zk40
[4] – عملية عسكرية غرب الصومال ضد «الشباب».. و«أتميص» تحت سيف النقد الأمريكي، تقرير، 12 مايو 2025، العين الإخبارية، على الرابط التالي: https://short-link.me/12kET
[5] Will the US Leave the AU Peacekeeping Mission in Somalia Out on a Limb?, https://short-link.me/12kHe