الباحثة: ليديا أمير عدلي
مقدمة:
لم تَعُد رواندا مجرد دولة إفريقية صغيرة تبحث عن موطئ قدم في العصر الرقمي، بل غدت لاعبًا طموحًا يسعى إلى توظيف التكنولوجيا كسلاح للسيادة الوطنية وأداة لإعادة رسم خريطة النفوذ الإقليمي. فخلال الشهور الماضية، برزت رواندا كنموذج فريد للتحوُّل الرقمي السريع؛ إذ لم تكتفِ بتبنّي الأدوات التقنية الحديثة أو توسيع نطاق الإنترنت، بل وضعت رؤية إستراتيجية متكاملة لبناء “أمة رقمية” ترتكز على استقلال القرار التكنولوجي وتوظيفه في خدمة مشروع وطني أشمل.
هذا التحوُّل لم يكن تقنيًّا بحتًا، بل ارتبط برؤية سياسية واقتصادية أوسع؛ حيث جعلت رواندا من التكنولوجيا وسيلة لتعزيز قدرتها التنافسية في محيطها الإقليمي، ومنصة لتوسيع نفوذها ضمن دول الجنوب العالمي.
ومن خلال هذا المسار، تحاول الدولة إعادة صياغة قواعد اللعبة الدولية، عبر نموذج يُتيح بناء قوة ناعمة ترتكز على التكنولوجيا كعنصر إستراتيجي للنفوذ والتموضع العالمي.
أولًا: رواندا كنموذج للسيادة التكنولوجية
لم تقتصر تجربة رواندا في التحول الرقمي على تطوير البنية التحتية للاتصالات أو توسيع نطاق الإنترنت، بل اتجهت بشكل إستراتيجي إلى تعزيز السيادة التكنولوجية عبر بناء مؤسسات وطنية قادرة على إدارة البيانات والأنظمة الرقمية بشكل مستقل.
تُعدّ السيادة التكنولوجية أحد المفاهيم المحورية في التحوُّل الرقمي والأمن القومي؛ إذ تشير إلى قدرة الدولة على التحكم الكامل في بنيتها التحتية الرقمية، وإدارة مواردها التقنية، وحماية بيانات مواطنيها بعيدًا عن الاعتماد المفرط على الأطراف الخارجية. ويتجاوز هذا المفهوم مجرد امتلاك التكنولوجيا إلى تطوير القدرات المحلية في مجالات البرمجيات، والاتصالات، والأمن السيبراني، مما يُتيح فرض سياسات حماية البيانات، وضمان استمرارية الخدمات الحيوية، وتعزيز الابتكار المحلي.
1-من أبرز الأمثلة الحديثة على ذلك مشروع الهوية الرقمية الموحّدة SDIS الذي أُطلق في سنة 2023م، ومُقرّر تنفيذه بشكل كامل عام 2026م. وقد شرعت الهيئة الوطنية للهوية NIDA في عملية التسجيل على مستوى البلاد اعتبارًا من 7 أغسطس/آب 2025م([1]). تستثمر حكومة رواندا حوالي 8.5 مليون دولار أمريكي في السنة المالية 2025 –2026م لتعزيز البرنامج([2])، ويهدف إلى توفير هوية بيومترية آمِنَة لكل مُواطِن ولاجئ ومُقيم أجنبي، ما يمنح الدولة سيطرة أكبر على إدارة بيانات السكان ويُعزّز الأمن الوطني.
يمثل المشروع نقلة نوعية نحو الاستقلال الرقمي؛ إذ يُقلّل الاعتماد على أنظمة قديمة أو حلول خارجية، ويوفر قاعدة بيانات بيومترية وطنية يمكن استخدامها في تقديم الخدمات الحكومية والمالية والصحية بشكل مباشر دون وسطاء تقنيين من الخارج. كما أن اعتماد نظام التعريف البيومتري الآلي ABIS يُعدّ خطوة جوهرية نحو امتلاك أدوات تكنولوجية متقدّمة محليًّا، ما يعكس التوجُّه نحو توطين التكنولوجيا وتعزيز السيادة الرقمية.
2- إلى جانب ذلك، أطلقت حكومة رواندا في أبريل 2025م، بالتعاون مع مؤسسة بيل ومليندا غيتس، مركز رواندا لتوسيع نطاق الذكاء الاصطناعي خلال القمة العالمية الأولى للذكاء الاصطناعي في كيغالي. يهدف المركز إلى تسريع تطوير حلول الذكاء الاصطناعي ذات التأثير العالي في الصحة والزراعة والتعليم، مع التركيز على نشرها بشكل أخلاقي ومستدام. يُدار المركز مِن قِبَل مركز الثورة الصناعية الرابعة([3])، وهو جزء من شبكة عالمية، ويُعدّ أول مركز من نوعه في إفريقيا، بقيمة تمويل مبدئي 7.5 مليون دولار على مدى ثلاث سنوات.
3-كما استثمرت الحكومة الرواندية في المراكز الوطنية للبيانات، ودعمت شركات ناشئة في الذكاء الاصطناعي والخدمات المالية الرقمية “فنتيك”، ضمن إستراتيجية خمسية بالشراكة مع البنك الوطني والمؤسسات المالية المحلية لتحويل البلاد إلى مركز إقليمي للخدمات المالية وتعزيز الشمول المالي. نجحت الإستراتيجية في إنشاء نحو 300 شركة “فينتك”، وتوفير 7500 وظيفة، مع تحقيق معدل اعتماد للتكنولوجيا المالية يصل إلى 80%، وتأمين مكانة رواندا ضمن أفضل 30 دولة عالميًّا في التصنيف المالي([4])، كما تهدف لجذب 200 مليون دولار في استثمار وتسهيل عمليات الترخيص خلال ثلاثة أو أربعة أشهر.
سياسيًّا، تعكس هذه التجارب أن السيادة التكنولوجية لم تَعُد مسألة تقنية فقط، بل أصبحت عنصرًا من عناصر الأمن القومي ومجالًا جديدًا للتنافس بين الدول. فامتلاك دولة مثل رواندا لنظام هوية رقمية وطني ومراكز بيانات محلية يعني تقليص فُرَص التدخُّل الأجنبي في بيانات مواطنيها، ويمنحها قدرة على التحكم في الموارد الإستراتيجية الأكثر حساسية في القرن الحادي والعشرين؛ ألا وهي البيانات.
ثانيًا: التكنولوجيا كأداة للنفوذ الإقليمي والنمو الاقتصادي
نتيجةً لتعزيز رواندا لسيادتها التكنولوجية عبر مشاريع مثل الهوية الرقمية الوطنية ومراكز البيانات المحلية، لم تَعُد التكنولوجيا مجرد أداة تقنية، بل أصبحت تتقاطع مع السياسة لتعزيز النفوذ الجيوسياسي، ودعم النمو الاقتصادي. وأصبحت الدولة قادرة على استخدام التكنولوجيا كأداة إستراتيجية لتعزيز نفوذها الإقليمي، ودعم الابتكار، وجعلها مركزًا إستراتيجيًّا، بالإضافة إلى مضاعفة النمو الاقتصادي، ما يعكس دور التكنولوجيا كرافعة للقدرة السياسية والاقتصادية في المنطقة.
1-بناء النفوذ الإقليمي عبر التكنولوجيا والابتكار:
من خلال سياساتها التكنولوجية، تتحول رواندا تدريجيًّا إلى قوة صاعدة في شرق إفريقيا؛ حيث تجمع بين الاستقلال التكنولوجي، القوة الرقمية الناعمة، وتعزيز الأمن القومي. تمنح هذه الأبعاد رواندا وزنًا جيوسياسيًّا أكبر مقارنةً بدول الجوار التي تعتمد على الخارج في إدارة بنيتها الرقمية، وتصبح التكنولوجيا أداة إستراتيجية لبناء النفوذ الإقليمي، وتعزيز مكانتها كدولة صاعدة ذات مشروع سياسي–اقتصادي متكامل.
ظهر ذلك من خلال مركز كيغالي للابتكار، الذي يهدف إلى تطوير بيئة رقمية متكاملة تضم جامعات ومراكز بحثية وشركات تكنولوجيا، مما يُعزّز الابتكار المحلي ويخلق فرص اقتصادية وتقنية جديدة في المنطقة. وفقًا للمؤشر الإقليمي للابتكار في إفريقيا، حققت رواندا 19 نقطة([5])، ما يجعلها في المرتبة الثانية بين دول شرق إفريقيا، وعلى مستوى القارة تحتل المركز الثاني عشر، وهو ما يعكس تقدُّمها في استخدام التكنولوجيا والابتكار لتعزيز نفوذها الإقليمي
تجلّى الأمر أوضح في القمة الدبلوماسية لثورة الذكاء الاصطناعي الرابعة؛ حيث برزت رواندا بوصفها بوابةً ومركزًا للذكاء الاصطناعي والتحول الرقمي، معتمدةً على قوتها الناعمة في ترسيخ هذا الدور
2-التكنولوجيا كمُضاعِف للنمو الاقتصادي
ساهمت التكنولوجيا في تعزيز الاقتصاد الرواندي بشكل واضح؛ حيث أصبحت خدمات المعلومات والاتصالات أحد المحركات الأساسية للنمو الوطني خلال الربع الأول من عام 2025م، وسجل الناتج المحلي الإجمالي ارتفاعًا بنسبة 7.8%([6]) متفوقًا على قطاعات تقليدية مثل التجارة والبناء والإدارة العامة. يعكس هذا الأداء أثر الاستثمارات طويلة الأجل في البنية التحتية الرقمية، التعليم، وتطبيقات الحوكمة الذكية، التي جعلت التكنولوجيا عنصرًا محوريًّا في نموذج الاقتصاد الجديد للبلاد.
لم يقتصر دور التكنولوجيا على دعم الشمول المالي فحسب، بل شمل تعزيز الاقتصاد الأخضر([7])، من خلال مشاريع مثل مركز البيانات الذي يعمل بالطاقة الشمسية بقدرة 5 ميجاوات، بالتعاون مع مستثمرين دوليين لتلبية الطلب المتزايد على البيانات في شرق إفريقيا دون الضغط على الشبكة الوطنية.
3-نموذج يُحتذَى للدول الصغيرة
تجربة رواندا في توظيف التكنولوجيا تكشف عن مسار مختلف عن النماذج التقليدية التي تمثلها الدول الكبرى والصاعدة. فهي لا تسعى إلى إنتاج بدائل كلية لهذه القوى الكبرى، بل تُقدِّم نموذجًا تطبيقيًّا لدولة صغيرة قادرة على التحرُّك بسرعة، بمركزية عالية، وبقدرة على اجتذاب شراكات دولية متنوعة. وبهذا المعنى، فإن رواندا لا تُقدَّم فقط كقصة نجاح محلية، بل كقدوة لدول إفريقية صغيرة تبحث عن أدوات عملية للنهوض الرقمي دون التفريط الكامل في التحكم المحلي.
الأهم من ذلك أن هذا النموذج يُسهم في “تكسير قواعد اللعبة” داخل بيئة الجنوب العالمي؛ إذ يُظهر أن النفوذ الإقليمي لم يَعُد حكرًا على الدول ذات الكثافة السكانية أو الاقتصادات العملاقة، بل يمكن لدولة محدودة الموارد أن تُعيد تعريف معايير القوة من خلال الاستثمار الذكي في التكنولوجيا والسيادة الرقمية. ومع ذلك، تبقى درجة السيادة الحقيقية مرهونة بعوامل أساسية مثل: مِلْكية التكنولوجيا والبيانات، وصياغة الأطر القانونية المحلية بما يعكس الأولويات الوطنية، ومدى القدرة على بناء منظومات محلية مستدامة تحمي من التبعية طويلة الأمد.
تُمثّل هذه المبادرات جزءًا من تحوُّل رقمي شامل يعكس إستراتيجية أوسع تهدف إلى تعزيز قدرة رواندا على المنافسة الإقليمية والسياسية على الصعيد الخارجي، مع تعزيز الابتكار والنفوذ واستخدام التكنولوجيا كوسيلة لتحقيق الاستقلالية الرقمية والسيادة التكنولوجية. كما يفتح هذا الباب أمام أسئلة مهمة حول كيفية تعامل رواندا مع القوى الكبرى مثل الولايات المتحدة أو الصين التي تستخدم التكنولوجيا أداة للنفوذ السياسي والاقتصادي، وإمكانية الحفاظ على استقلاليتها في مواجهة هذه الضغوط.
ثالثًا: التحديات المحتملة
برغم ما حققته رواندا من تطور ملحوظ في مسار التحول الرقمي؛ إلا أن هذا المسار لا يخلو من معوقات مؤثرة قد تَحُدّ من استدامته وفاعليته. وتتمثل هذه التحديات في:
1-هشاشة البنية المحلية التمويلية
على الرغم من استثمار رواندا ملايين الدولارات في المشاريع والمبادرات الرقمية؛ إلا أن ملكية هذه المشروعات ليست خالصة لها بالكامل؛ حيث تعتمد بدرجة كبيرة على التمويل الخارجي القادم من القوى الكبرى، وهو ما يُشكِّل تحديًا رئيسيًّا أمام تحقيق السيادة التكنولوجية والاستقلال الرقمي.
أ-الصين:
تُعدّ الصين من أبرز الممولين لرواندا في مجال التحول الرقمي؛ إذ تندرج استثماراتها ضمن مبادرة “طريق الحرير الرقمي” التي تمثل أحد الأبعاد الإستراتيجية لمبادرة “الحزام والطريق”([8]). وتستثمر بكين في تطوير البنية التحتية الرقمية، وبناء مراكز بيانات، وإنشاء مشروعات إستراتيجية مثل “مدينة كيغالي للابتكار”. وعلى الرغم من أن هذه الاستثمارات تسهم في تسريع التحول الرقمي داخل رواندا، إلا أنها ترتبط في جوهرها بأهداف سياسية واقتصادية أوسع؛ حيث تسعى الصين إلى تعزيز نفوذها الجيوسياسي في إفريقيا، وفتح أسواق جديدة لشركاتها التكنولوجية، فضلاً عن تأمين موقعها كقوة رائدة في الاقتصاد الرقمي العالمي. ومِن ثَمَّ فإن التمويل الصيني لا يُنظَر إليه فقط كدعم تقني، بل أيضًا كأداة لتعزيز النفوذ الإستراتيجي طويل الأجل.
ب- الولايات المتحدة الأمريكية:
على الرغم من أن الحضور الأمريكي في تمويل المشروعات الرقمية في رواندا ليس مباشرًا بقدر الحضور الصيني، إلا أنه أكثر تنوعًا وتأثيرًا من خلال تمويل غير مباشر عبر مبادرات التنمية، والشراكات مع القطاع الخاص، والمنظمات الدولية، والمؤسسات البحثية. فواشنطن تدعم بناء القدرات في مجالات مثل الحوكمة الرقمية، الذكاء الاصطناعي، والخدمات المالية الرقمية، وتساهم في تمويل مشروعات مرتبطة بالابتكار وريادة الأعمال التكنولوجية. هذا النهج غير المباشر يمنح الولايات المتحدة حضورًا قويًّا في تشكيل البيئة الرقمية في رواندا، مع ربط الدعم بشروط تتعلق بالشفافية، الحوكمة، وتعزيز القِيَم الديمقراطية. وبهذا، فإن النفوذ الأمريكي يعتمد بدرجة أكبر على تمويل البرامج المؤسسية والدعم الفني، في مقابل الاستثمارات الصينية الضخمة في البنية التحتية الملموسة.
يثير هذا الواقع تساؤلاً جوهريًّا: ماذا سيحدث إذا توقفت الصين أو الولايات المتحدة عن تمويل هذه المشاريع الرقمية، سواء بصورة مباشرة أو غير مباشرة؟ في هذه الحالة، ستواجه رواندا تحديًا كبيرًا يتمثل في مدى قدرتها على تطوير وتمويل مشروعاتها الرقمية بصورة ذاتية دون الاعتماد على الخارج. ومِن ثَم، يصبح من الضروري أن تركّز الإستراتيجية الوطنية خلال السنوات المقبلة على بناء منظومة تمويل محلية أكثر استدامة، بما يضمن استمرار المشاريع الرقمية وتقليل مستوى التبعية للتمويل الأجنبي.
2-مخاطر الهجمات السيبرانية
مع اتساع نطاق التحول الرقمي في رواندا، تتزايد معها التحديات المرتبطة بالهجمات السيبرانية؛ خاصةً تلك التي تستهدف قواعد البيانات الوطنية والأنظمة الرقمية الحساسة. ويُعدّ هذا الخطر من أبرز التحديات المستقبلية التي قد تُواجه الدولة، لا سيما في حال تعرُّض نظام الهوية الرقمية للاختراق، الأمر الذي قد يترتب عليه تداعيات كارثية على المستوى الوطني والدولي.
وفي هذا السياق، شهدت رواندا في 31 مارس/آذار 2025م هجومًا سيبرانيًّا نوعيًّا([9])؛ حيث أعلنت شركة “ثريت مون للذكاء التهديدي” عن رصد هجوم ببرمجيات الفدية نفَّذته مجموعة بابوك-2. وقد استهدف الهجوم وزارة الصحة الرواندية، وتم الإعلان عن تفاصيله عبر منصات في “الويب المظلم”؛ حيث أكدت المجموعة مسؤوليتها المباشرة عن الاختراق. ويُمثِّل هذا الحادث تطورًا خطيرًا في الموجة المتصاعدة من هجمات الفدية التي تُركِّز على المؤسسات الحكومية والقطاعات الحيوية في الدولة.
ومِن ثَم، فإن التصدي لهذه التهديدات يتطلب تعزيز الاستثمارات المخصَّصة لحماية البنية التحتية الرقمية، إلى جانب تطوير أنظمة الأمن السيبراني والقدرات الوطنية على مواجهة التهديدات المستجدة، بما يضمن استدامة عملية التحول الرقمي وتقليل المخاطر المحتملة.
3-المخاوف الأمنية والحقوقية
على الرغم من أن مشروع الهوية الرقمية في رواندا يُقدَّم كخطوة رائدة نحو تحديث الدولة وتعزيز الكفاءة في تقديم الخدمات، فإنه يثير في الوقت نفسه جملة من التحديات الأمنية والحقوقية. جوهر هذه المخاوف يكمن في طبيعة البيانات التي يتم جمعها، مثل بصمات الأصابع وقزحية العين، والتي تُعتبر من أكثر أنواع المعلومات الشخصية حساسية. هذه البيانات، بمجرد تخزينها في أنظمة مركزية، تُصبح عُرضة ليس فقط لخطر الاختراقات السيبرانية، وإنما أيضًا لاحتمالات إساءة الاستخدام مِن قِبَل الدولة نفسها.
إحدى الإشكاليات الأساسية هنا هي مسألة المراقبة المفرطة. فالدولة، عبر هذا النظام، تمتلك قدرة غير مسبوقة على تتبُّع الأفراد ورصد تحركاتهم وسلوكياتهم الرقمية، وهو ما قد يُستخدم لأغراض سياسية مثل التضييق على المعارضين أو مراقبة الفئات الاجتماعية النشطة، خصوصًا فئة الشباب التي تُشكِّل القوة الأكثر ديناميكية وانتقادًا للسلطة. وهكذا، يتحوَّل المشروع من أداة تقنية يُفترَض أن تُعزّز الثقة في الحكومة وتُسهِّل حياة المواطنين، إلى آلية يمكن أن تُقوِّض الثقة عبر شعور الناس بأنهم تحت المراقبة الدائمة. هذا الوضع يفتح الباب أمام توترات اجتماعية جديدة؛ حيث قد يرى الشباب أن المشروع يمسّ جوهر حرياتهم الشخصية ويُقيِّد فضاءاتهم العامة والخاصة، مما يُحوِّل السيادة التكنولوجية من فرصة إلى مصدر تهديد للعقد الاجتماعي القائم بين الدولة والمجتمع.
4-التحديات المؤسسية والتنظيمية
بجانب البعد الأمني والحقوقي، تبرز إشكالية أخرى مرتبطة بالجانب المؤسسي والتنظيمي، فرغم الطموح الكبير الذي تُظهره رواندا في مجال الرقمنة، فإن هذا الطموح لا يستند إلى بنية مؤسسية قوية ومستقرة. فالمؤسسات المستقلة، التي يُفترض أن تقوم بوظائف المراقبة والتدقيق والمساءلة، ما تزال محدودة الحجم والتأثير، مما يعني أن القرارات الحاسمة المتعلقة بالتحول الرقمي تُتخذ في الغالب داخل دوائر السلطة التنفيذية وحدها. هذا الاحتكار المؤسسي للقرار يُقلِّل من مستوى الشفافية ويُضْعِف من فرص المساءلة المجتمعية أو البرلمانية.
إضافة إلى ذلك، تُعاني البيئة التنظيمية من غياب آليات تنسيق فعَّالة بين مختلف الجهات الحكومية المسؤولة عن ملفات الرقمنة، مثل وزارات تكنولوجيا المعلومات، الأمن، والتعليم. هذا التشتُّت قد يؤدي إلى تضارب في الأولويات والسياسات، ويُضْعِف كفاءة تنفيذ المشروعات. فضلًا عن ذلك، فإن ارتباط نجاح التحول الرقمي بالإرادة السياسية المباشرة أكثر من ارتباطه ببنية تشريعية ومؤسسية راسخة، يجعل المشروع عُرضة للتقلبات السياسية أو الاقتصادية؛ فإذا تغيّرت أولويات القيادة أو تراجعت مصادر التمويل، فإن كثيرًا من هذه المشروعات قد تفقد استدامتها.
5-التنافس الإقليمي
على الرغم من بروز رواندا في مجال التكنولوجيا والابتكار؛ إلا أنها تواجه منافسة قوية من بعض الدول في شرق إفريقيا، خاصةً كينيا، التي تُعدّ من أبرز الفاعلين في هذا القطاع. فقد تقدّمت كينيا في مؤشر الابتكار العالمي لعام 2024م لتحتل المرتبة 96 عالميًّا، مُحقِّقةً صعودًا بمقدار أربع مراتب مقارنةً بالعام السابق، وذلك بفضل أدائها المتميز في مجالات عدة، من بينها جذب رأس المال المخاطر، تنمية الصادرات الرقمية، وزيادة الإنتاجية العمالية.
في المقابل، جاءت رواندا في المرتبة 104 عالميًّا ضمن المؤشر نفسه([10])، إلا أنها تُصنَّف من الدول ذات الأداء الثابت والمتفوق نسبيًّا في بيئة الابتكار؛ حيث حافظت على هذا المستوى بشكل مستمر خلال الاثني عشر عامًا الماضية.
ختامًا، لم يَعُد التحول الرقمي في رواندا مجرد مشروع تنموي أو خطة لتحديث البنية التحتية، بل أصبح ركيزة لرؤية إستراتيجية أعمق تسعى من خلالها الدولة إلى إعادة تعريف مفهوم السيادة في العصر الرقمي. فبقدر ما تُمثّل هذه التجربة فرصة لصعود رواندا كفاعل إقليمي مؤثر، فإنها تكشف أيضًا عن التحديات المعقدة المرتبطة بتمويل خارجي، وضغوط أمنية، وصراع خفي مع القوى الكبرى.
وبين الطموح والمخاطر، تبقى رواندا مثالًا حيًّا على أن التكنولوجيا لم تَعُد أداة محايدة، بل تحوَّلت إلى ساحة جديدة لإعادة توزيع موازين القوة في الجنوب العالمي، وربما إلى بوابة تفتح الطريق أمام دول صغيرة أخرى لتجاوز حدودها الجغرافية والاقتصادية نحو موقع متقدّم في الخريطة العالمية. وهنا يطرح السؤال نفسه: هل ستظل الهيمنة الرقمية حكرًا على الغرب والولايات المتحدة والصين، أم أن رواندا قادرة بالفعل على كسر دائرة التبعية وبناء سيادة تكنولوجية تامة ومستقلة.
………………………………..
[1] Ayang Macdonald, “Rwanda National Identification Agency begins digital ID enrollment,” Biometric Update, August 8, 2025, https://www.biometricupdate.com/
[2] Rwanda Prepares to Launch Biometric Digital ID with Multi-Format Access,” ID Tech Wire. August 8, 2025. https://idtechwire.com/rwanda-prepares-to-launch-biometric-digital-id-with-multi-format-access/.
[3] C4IR Rwanda. “New Rwanda AI Scaling Hub Announced at Global AI Summit on Africa.” published in Abril,2025. C4IR Rwanda. https://c4ir.rw/global-ai-summit-on-africa/news/New-Rwanda-AI-Scaling-Hub-Announced-at-Global-AI-Summit-on-Africa
[4] Rwanda Prepares to Launch Biometric Digital ID with Multi-Format Access,” ID Tech Wire. August 8, 2025. https://idtechwire.com/rwanda-prepares-to-launch-biometric-digital-id-with-multi-format-access/.
[5] TheGlobalEconomy.com. “Innovation index – Country rankings.” The Global Economy. https://share.google/eLaiP7fdZ0aq5aCaL.
[6] Tech Emerges as Second Biggest Contributor to Rwanda’s Growth,” KT Press, June 20, 2025, https://www.ktpress.rw/2025/06/tech-emerges-as-second-biggest-contributor-to-rwandas-growth/.
[7] Joshua Muhammed, “Africa’s Digital Infrastructure: Why Data Centres Are the New Oil,” African Leadership Magazine, May 2, 2025, https://www.africanleadershipmagazine.co.uk/africas-digital-infrastructure-why-data-centres-are-the-new-oil/
[8] Center for Intelligence Research and Analysis (CIRA).“African Gateway: Rwanda and China’s Digital Silk Road.” July 26, 2023, https://cira.exovera.com/research-analysis/african-gateway-rwanda-and-chinas-digital-silk-road/
[9] Babuk2 Ransomware Targets Rwanda’s Ministry of Health: A Growing Threat in Cybersecurity.” UnderCode News.June 15, 2025. https://undercodenews.com/babuk2-ransomware-targets-rwandas-ministry-of-health-a-growing-threat-in-cybersecurity/?utm_source=chatgpt.com
[10] World Intellectual Property Organization (WIPO). Global Innovation Index 2024. https://www.wipo.int/web-publications/global-innovation-index-2024/en/gii-2024-results.html