نِهاد محمود
باحثة دكتوراه بكلية الدراسات الإفريقية العليا- جامعة القاهرة
تمهيد:
تُعدّ البنية التحتية ركيزة أساسية في تشكيل مستقبل إفريقيا، فهي لم تَعُد مجرد حاجة تنموية تقليدية، بل أداة إستراتيجية تُعزّز القدرة على الصمود الاقتصادي، وتدعم التنافسية وتُرسّخ الاستقلال الاقتصادي في ظل تقلُّص الاعتماد على التمويل الخارجي وتزايد حالة عدم اليقين العالمي، كما أنه من خلال شبكاتها تتولد فرص العمل وتنتقل السلع والخدمات، ويُتاح الوصول إلى الطاقة، وكذلك تُمثّل قاعدة للابتكار وتحقيق الأهداف المناخية.
وعلى هذا الأساس؛ فإن أيّ دراسة جادة لمسار التنمية في القارة الإفريقية لا يمكن أن تغفل الدور المحوري للبنية التحتية باعتبارها العمود الفقري للنقل واللوجستيات والصناعة والطاقة، وكذلك للبنية التحتية الرقمية التي تُعيد ربط إفريقيا بالعالم.
وفي هذا السياق، يبرز تقرير “حالة البنية التحتية في إفريقيا لعام 2025م” State of Africa’s Infrastructure Report 2025، ليُشكِّل مرجعًا مهمًّا عن واقع البنية التحتية في القارة، وانطلاقًا من ذلك، نحاول استعراض أبرز ما ورد في التقرير، من خلال المحاور الرئيسة التالية:
- أولًا: تقرير حالة البنية التحتية لعام 2025م: جهة الإصدار والتقسيم وأهميته لإفريقيا.
- ثانيًا: رأس المال المحلي وتنمية البنية التحتية في إفريقيا.
- ثالثًا: النقل واللوجستيات: جسر نحو التكامل الاقتصادي.
- رابعًا: الفولاذ والغذاء والطاقة: ركائز التحوّل الصناعي في إفريقيا.
- خامسًا: البنية التحتية الرقمية في إفريقيا.
أولًا: تقرير حالة البنية التحتية لعام 2025م: جهة الإصدار والتقسيم وأهميته لإفريقيا
في البداية، وفيما يتعلق بجهة إصدار التقرير، فقد تم إطلاقه من خلال مؤسسة تمويل إفريقيا Africa Finance Corporation، وهي مؤسسة تنموية متعددة الأطراف تنشط على مستوى القارة الإفريقية، تأسست عام 2007م من قِبَل الدول الإفريقية بهدف تقديم حلول عملية لمعالجة فجوة البنية التحتية في إفريقيا والتحديات المرتبطة ببيئة العمل فيها، ويقع مقرها الرئيس في مدينة لاجوس النيجيرية.
أما عن محتوى التقرير وبِنْيته، فيشمل عددًا من المحاور التي تَرسم صورة دقيقة عن واقع البنية التحتية والتنمية في إفريقيا وآفاقها المستقبلية (كما سيوضحها الشكل التالي)، يبدأ بمقدمة تمهيدية توضّح أهمية البنية التحتية في إفريقيا لتعزيز الصمود الاقتصادي، ثم ينتقل التقرير إلى تناول قضية تعبئة الموارد المحلية باعتبارها الأساس لتمويل مشاريع التنمية وضمان استدامتها، ويتناول بعد ذلك قطاع النقل واللوجستيات بوصفه شريانًا رئيسيًّا للتكامل الاقتصادي، وعقب ذلك يُسلّط الضوء على أهمية توسيع وتطوير البنية التحتية في إفريقيا.
بالإضافة إلى ذلك، يُخصّص التقرير فصلًا لقطاع الطاقة، يؤكد من خلاله على ضرورة تحقيق مستقبل طاقة مشترك يُلبِّي احتياجات النمو، كما يتناول الصناعة والتصنيع، مستعرضًا دراسات حالة تُوضّح كيف يمكن للبنية التحتية أن تفتح آفاقًا جديدة لسلاسل الإمداد الصناعية، وفي السياق ذاته، يناقش البنية التحتية الرقمية بوصفها قاعدة أساسية لربط إفريقيا بالعالم وتحقيق تنافسية أعلى في الاقتصاد العالمي، ويختتم بجداول إحصائية وملحقات تدعم التحليلات الواردة بالتقرير، كما يوضح الشكل التالي:
شكل رقم (1)
محاور رئيسة في تقرير حالة البنية التحتية لعام 2025م
المصدر: من إعداد الباحثة، استنادًا إلى تقرير حالة البنية التحتية في نسخته الإنجليزية لعام 2025م.
أما عن أهمية التقرير وما يُضيفه، فتكمن قيمته في كونه ملفًا شاملًا يُوفّر قراءة دقيقة لحالة القطاعات الأساسية كالنقل والطاقة والصناعة والبنية التحتية الرقمية، مع التركيز على تعبئة الموارد المحلية كخيار إستراتيجي لتعزيز السيادة الاقتصادية وتقليل الاعتماد على المساعدات الخارجية المتقلبة، ولا يكتفي التقرير برَصْد التحديات، بل يُقدِّم نماذج ناجحة لبعض الدول الآسيوية مقترنة ببيانات دقيقة تُؤكّد هذا الطرح، كما يُشكّل التقرير دعوة إلى العمل للحكومات والمستثمرين والمؤسسات التنموية لوضع البنية التحتية في قلب عملية التحول الصناعي والاندماج الإقليمي، ما يجعله أداة مرجعية لصانعي القرار والممولين ورجال الأعمال، على حدّ سواء.
ثانيًا: رأس المال المحلي وتنمية البنية التحتية في إفريقيا
يوضح التقرير في هذا القسم أن إفريقيا تعيش لحظة تحوُّل حاسمة في نواحي عدة، على سبيل المثال يفرض النمو السكاني السريع، وتسارع وتيرة التحضر، واحتياجات القارة الملحة للبنية التحتية والتصنيع؛ متطلبات استثمارية ضخمة وطويلة الأمد، غير أن مصادر التمويل الخارجية التقليدية، مثل المساعدات الإنمائية الرسمية والاستثمار الأجنبي المباشر والاقتراض السيادي، باتت غير كافية وغير متسقة مع أولويات التنمية طويلة الأجل، خاصة في ظل الظروف الاقتصادية العالمية المشددة وتراجع موازنات المانحين وتصاعد النزعات الحمائية.
وفي هذا السياق يؤكد بحث جديد نشرته مؤسسة تمويل إفريقيا -الصادر عنها هذا التقرير-، أن القارة تمتلك نحو 4 تريليونات دولار من رأس المال المحلي القابل للاستثمار، تشمل أصول المؤسسات (صناديق التقاعد، التأمين، الصناديق السيادية)، وأصول البنوك التجارية، والاحتياطيات بالعملة الأجنبية، وهو تقدير يكشف عن حجم الموارد غير المستغَلَّة التي يمكن -إذا تم توجيهها بفاعلية-، أن تُموِّل تنمية إفريقيا، وخاصة مشروعات البنية التحتية التي تُمثّل العمود الفقري للتحول الاقتصادي.
ومن هذا المنطلق، يشير التقرير إلى أن هذا التحول نحو تعبئة الموارد المحلية ليس ردّ فِعْل مؤقتًا على تراجع التمويل الخارجي، بل هو ضرورة إستراتيجية تؤكدها التجارب العالمية في التحول الهيكلي؛ حيث اعتمدت أوروبا وأمريكا الشمالية في القرن التاسع عشر، ثم شرق وجنوب شرق آسيا بعد الحرب العالمية الثانية، على الادخار المحلي والأنظمة المصرفية القوية لتعبئة رأس المال الوطني وتوجيهه للاستثمار في البنية التحتية والصناعة وتنمية رأس المال البشري؛ على سبيل المثال حققت “النمور الآسيوية” ودول ناشئة مثل إندونيسيا وماليزيا وتايلاند معدلات ادخار تجاوزت 40% من الناتج المحلي، مدفوعة بسياسات تشجع الادخار وتُعزّز ثقة المؤسسات المالية، وتربط المدخرات بالاستثمار الإنتاجي، ما أوجد حلقة تنموية متكاملة رفعت الإنتاجية ورسَّخت الاستقلال المالي.
وتبرز تجربة بعض الدول الآسيوية أن البنوك القوية المدعومة ببنوك تنمية عامة، لعبت دورًا محوريًّا في تحويل المدخرات المحلية إلى قروض طويلة الأجل لتمويل مشروعات البنية التحتية والنقل والطاقة والإسكان، وهو ما تحتاجه إفريقيا اليوم لتقليص فجوة تمويل البنية التحتية وتأسيس نموّ صناعي شامل ومستدام.
ويكشف كل ذلك أن إفريقيا أمام فرصة لا يمكن تفويتها لإعادة صياغة مسارها التنموي؛ من خلال الاعتماد على مواردها الذاتية بدل الارتهان لمصادر التمويل الخارجية المتقلبة، فامتلاك القارة لرأسمال محلي ضخم غير مُستغَل يُشكّل أساسًا يمكن البناء عليه لإطلاق مشاريع البنية التحتية التي تمثل العمود الفقري لأي تحول اقتصادي، غير أن نجاح هذا المسار يتطلب إرادة سياسية جادة ونظم مصرفية قوية وإدارة رشيدة قادرة على توجيه المدخرات نحو استثمارات إنتاجية طويلة الأجل، بما يجعل تعبئة الموارد المحلية خيارًا لا غِنَى عنه لتحقيق تنمية شاملة ومستدامة.
ثالثًا: النقل واللوجستيات: جسر نحو التكامل الاقتصادي
يُظهر تقرير البنية التحتية لعام 2025م في هذا القسم أن قطاع النقل واللوجستيات يمثل شريانًا رئيسيًّا للتكامل الاقتصادي القاري؛ إذ تتجه الاستثمارات بشكل متزايد نحو الموانئ والسكك الحديدية والطرق والمطارات. على سبيل المثال: شهدت الموانئ الإفريقية طفرة استثمارية نتيجة ارتفاع أحجام التجارة وزيادة السفن العملاقة وانخراط مستثمرين من أسواق غير تقليدية مثل تركيا والإمارات والمغرب، غير أن هذه الطفرة تفقد كثيرًا من أثرها في غياب الربط الداخلي الكافي عبر الطرق والسكك الحديدية والموانئ ونقاط العبور الحديثة، وهو ما يؤدي إلى ارتفاع تكاليف النقل بصورة لافتة، لدرجة أن شحن الحاويات برًّا بين بعض العواصم الإفريقية قد يتجاوز كلفة شَحْنها من آسيا.
ويبرز التقرير كذلك الفجوات الكبيرة في شبكات الطرق بين الدول الإفريقية، مع استمرار هيمنة التمويل الحكومي، ومحاولات متزايدة لجَذْب القطاع الخاص عبر الشراكات ونُظُم الرسوم، إلى جانب التوجه نحو تحويل السكك الحديدية من خطوط معدنية لتصدير الموارد إلى ممرات اقتصادية متعددة الاستخدامات تربط الموانئ بالأسواق الداخلية والمزارع.
ومن ناحية أخرى، يُنَبِّه التقرير إلى أن التكامل الإقليمي يشهد تقدُّمًا ملحوظًا في شرق وجنوب القارة؛ حيث أسهمت البنية التحتية في إنشاء ممرات تجارية تدعمها شبكة متعددة الوسائط من الموانئ والطرق والسكك الحديدية والمطارات وخطوط الأنابيب والممرات المائية، ولم تُسهم هذه الممرات فقط في تعزيز التجارة البينية الإفريقية، وإنما عززت أيضًا المرونة الاقتصادية من خلال تنويع وسائل النقل وتقليل الاعتماد على بنية تحتية واحدة.
وكما توضح الخريطة رقم (1) التالية تتبنى تنزانيا خطًّا حديديًّا يعمل على زيادة القدرة الاستيعابية لعبور البضائع عبر الممر المركزي لديها
وهو -أي الممر المركزي- طريق تجاري ولوجستي إستراتيجي يربط ميناء دار السلام على المحيط الهندي بدول شرق ووسط إفريقيا غير الساحلية مثل رواندا وبروندي وجمهورية الكونغو الديمقراطية
المصدر: بتصرف من الباحثة، بحسب تقرير حالة البنية التحتية 2025م، في نسخته الإنجليزية، ص37، 2025م.
ومع ذلك، تظل التحديات قائمة في إفريقيا نتيجة الازدحام في الموانئ، وتقطُّع شبكات الطرق والسكك الحديدية، وضعف استغلال إمكانات الشحن الجوي رغم نجاحات بارزة لإثيوبيا وكينيا في بناء مراكز إقليمية للشحن الجوي، كما سيوضح الشكل التالي:
شكل رقم (2)
حالة الشحن الجوي في بعض مراكز الشحن الإفريقية الرئيسة (2017 -2023م)
المصدر: بتصرف من الباحثة، بحسب تقرير “حالة البنية التحتية 2025م” بنسخته الإنجليزية، ص42.
وعن إثيوبيا بشكل أكثر تحديدًا، يعزو التقرير الارتفاع الكبير في حركة الشحن الجوي لشركة الخطوط الجوية الإثيوبية في عامي 2020 و2021م إلى افتتاح محطة الشحن الثانية في أديس أبابا، وظهور جائحة كوفيد-19؛ حيث سهَّلت الخطوط الجوية الإثيوبية نقل ملايين الأطنان من معدات الوقاية الشخصية والأجهزة الطبية واللقاحات والإمدادات الأساسية عبر إفريقيا.
مما سبق يتضح أن تطوير قطاع النقل واللوجستيات في إفريقيا يتجاوز كونه ضرورة لتحسين حركة الأفراد والسلع، ليغدو أساسًا إستراتيجيًّا يرسم ملامح قدرة القارة على تفعيل منطقة التجارة الحرة القارية وتعميق اندماجها في الاقتصاد العالمي، وإذا ما استطاعت الحكومات الإفريقية مواجهة الاختناقات القائمة عبر بناء شراكات مرنة وتوفير آليات تمويل مستدام، فإن هذا القطاع سيكتسب دورًا محوريًّا كرافعة للنمو الصناعي والتجاري، وأداة لبناء قارة أكثر تكاملًا وقوة في ساحة التنافسية العالمية.
رابعًا: الفولاذ والغذاء والطاقة: ركائز التحوُّل الصناعي في إفريقيا
إلى جانب قطاع النقل واللوجستيات الذي يُشكّل شريانًا للحركة الاقتصادية في القارة، يُنبّه تقرير البنية التحتية لعام 2025م إلى مجموعة من القطاعات الإستراتيجية التي تُمثّل ركائز جوهرية للتحوُّل الصناعي الإفريقي، وفي مقدمتها صناعة الفولاذ، مؤكدًا على أن التصنيع في إفريقيا يمر بمرحلة مفصلية تتطلب تطوير هذه الصناعة باعتبارها الركيزة الأساسية للبنية التحتية الحديثة وشرطًا ضروريًّا لدفع التصنيع المحلي؛ لا سيما وأن القارة تستورد ما يقارب 80% من احتياجاتها من الفولاذ على الرغم من امتلاكها موارد طبيعية ضخمة من خام الحديد يمكن أن تُوفّر لها الاكتفاء الذاتي وتُعزّز قدرتها التنافسية في السوق العالمية، غير أن غياب الاستثمارات الكافية وضعف شبكات الطاقة والنقل يشكلان عائقًا أمام تطوير هذه الصناعة، إضافة إلى أن معظم القدرات الإنتاجية القائمة ما زالت محدودة وتعتمد على التكنولوجيا القديمة، ما يجعلها عاجزة عن تلبية الطلب المتنامي.
وهذا الإطار يشير التقرير إلى أن الاستثمار في الفولاذ لا يسهم فقط في تلبية الاحتياجات المتزايدة لمواد البناء والبنية التحتية، بل يفتح المجال أمام خلق سلاسل قيمة صناعية جديدة وتوفير مئات الآلاف من فرص العمل، بما يُعزّز النمو الصناعي الشامل ويَحُدّ من الاعتماد المفرط على الواردات، كما يشير إلى أن تطوير صناعة الفولاذ يمكن أن يضع إفريقيا في موقع أفضل للاستفادة من الطفرة العمرانية والتحضر السريع الذي تشهده القارة، ويجعلها شريكًا أكثر فاعلية في سلاسل التوريد العالمية.
أما فيما يتعلق بالغذاء، فتنفق إفريقيا أكثر من 100 مليار دولار من النقد الأجنبي النادر على استيراد الغذاء كل عام، ولكن كما يشير التقرير، يمكن من خلال الاستثمار في الزراعة كثيفة رأس المال -الزراعة التي تعتمد على رأس المال والتكنولوجيا أكثر من اعتمادها على الأيدي العاملة التقليدية-، والمُقاوِمَة لتغيُّر المناخ، تحويل أنظمة القارة الغذائية وبناء القدرة الإنتاجية اللازمة لإطعام 2.5 مليار شخص بحلول عام 2050م، لا سيما وأن إفريقيا جنوب الصحراء على وجه التحديد تُعدّ ضمن أقل الدول عالميًّا استخدامًا للأسمدة والعناصر المغذية للتربة (كما سيوضح الشكل التالي- رقم3)، إلا أن هذا التحول يحتاج أكثر من مجرد تحسينات في الزراعة؛ إذ يتطلب نظامًا بيئيًّا مترابطًا للبنية التحتية، بما في ذلك الري والطرق الريفية ومستودعات التخزين وممرات السكك الحديدية ومناطق المعالجة الزراعية لربط الإنتاج الريفي بالطلب الحضري والأسواق الإقليمية.
شكل رقم (3)
استهلاك إفريقيا جنوب الصحراء للأسمدة والعناصر المغذية للتربة مقارنة ببقية دول العالم ومصر والبرازيل
(1965-2020م)
المصدر: بتصرف، بحسب تقرير “حالة البنية التحتية 2025م” في نسخته الإنجليزية لعام 2025م، ص79.
يبيّن الشكل أعلاه الفجوة بين إفريقيا جنوب الصحراء وبقية العالم فيما يتعلق باستهلاك الأسمدة والعناصر المغذية للتربة بين عامي 1965 و2020م؛ فبينما شهدت مصر والبرازيل زيادات كبيرة في معدلات الاستخدام -حيث ارتفعت البرازيل منذ السبعينيات والثمانينيات بشكل متسارع لتصل إلى أعلى المعدلات عالميًّا، وسجلت مصر ارتفاعًا ملحوظًا خاصة بعد منتصف الثمانينيات-؛ بقيت إفريقيا جنوب الصحراء عند مستويات شبه ثابتة وضعيفة للغاية مقارنةً بالمتوسط العالمي.
على صعيد آخر ينتقل التقرير إلى قطاع الطاقة والموارد الطبيعية؛ إذ يربط بين وفرة الموارد الطبيعية المتاحة للقارة، مثل الطاقة الشمسية والغاز والمياه، وبين بقائها غير مستغلة على نحو كافٍ بسبب ضعف شبكات النقل وقصور الاستثمارات، مؤكدًا على أن الحلّ يكمن في مضاعفة وتيرة إنشاء محطات توليد جديدة وتعزيز الربط الكهربائي الإقليمي، بما يُوفّر فرصة لبناء نظام طاقة حديث ومرن قادر على دعم التصنيع وتحويل البنية التحتية من عائق إلى مُحرّك للتكامل الاقتصادي والنمو المستدام.
وفي السياق ذاته، يشير التقرير إلى أن صناعة تكرير النفط الخام وإنتاج الوقود تشهد تقدمًا ملحوظًا نحو تحقيق الاكتفاء الذاتي، مدعومة بإضافة قدرات كبيرة مثل مصفاة دانغوتي Dangote Refinery بمدينة لاجوس في نيجيريا -أكبر مصفاة نفط وبتروكيماويات في إفريقيا-، غير أن استمرار هذا النمو يظل مشروطًا بتحديث المصافي القائمة في غرب ووسط إفريقيا، ومعالجة تحديات التمويل والمواد الخام واختناقات شبكات النقل والتوزيع. ومن أجل ضمان أمن الوقود وتلبية الطلب المتزايد، يُشدّد التقرير على ضرورة إعطاء الأولوية لتطوير أنظمة توزيع فعَّالة تشمل خطوط الأنابيب والسكك الحديدية وتوسيع قدرات الموانئ، مع بناء بنية تحتية جديدة للطاقة تكون مَرِنَة وقابلة للتكيُّف مع التحولات المستقبلية في هذا المجال، بما يضمن للقارة أمن الطاقة واستقلالها على المدى الطويل.
وإجمالًا، بالنظر إلى ما ورد في هذا المحور، يتضح أن الفولاذ والغذاء والطاقة ليست مجرد قطاعات تنموية منفصلة، بل تمثل ركائز متداخلة تُحدّد مستقبل التحول الصناعي في إفريقيا؛ فإذا نجحت القارة في استثمار مواردها الطبيعية والزراعية والطاقية وتطوير بنيتها التحتية المساندة، فإنها ستكون قادرة على بناء قاعدة إنتاجية مكتفية ذاتيًّا، وتحرير اقتصادها من الاعتماد المفرط على الواردات والتمويل الخارجي، على نحوٍ يُعزّز استقلاليتها الاقتصادية على المدى الطويل.
خامسًا: البنية التحتية الرقمية في إفريقيا
يشير تقرير البنية التحتية في إفريقيا 2025م في قسمه الأخير، إلى واقع التحول الرقمي في القارة وفرصه وتحدياته، موضحًا أن تضييق الفجوة بين الريف والحضر يُمثّل مفتاحًا أساسيًّا لمعالجة عجز القارة في البنية التحتية الرقمية، وبخاصة ما يتعلق بالوصول إلى الإنترنت، فقد أظهرت الدراسات الحديثة -وفقًا للتقرير-، أن الفجوة الأوسع في الاتصال لا تكمن بين الذكور والإناث أو بين الشباب والبالغين، بل بين المناطق الحضرية والريفية، ويعود ذلك إلى التفاوت الكبير في مستويات الدخل ومدى توافر البنية التحتية؛ إذ يسهل ربط سكان المدن نظرًا لقربهم من شبكات الإنترنت التي تغطي مناطق أوسع وقدرتهم الشرائية الأعلى، في حين يواجه سكان المناطق الريفية صعوبات مضاعفة نتيجة بُعدهم عن التغطية وانخفاض دخولهم التي غالبًا ما ترتبط بالاقتصاد غير الرسمي.
وتتجلى خطورة هذه الفجوة في أن البلدان التي تُسجّل أكبر عجز في الوصول إلى الإنترنت هي نفسها التي تضم نِسَبًا مرتفعة من السكان الريفيين، تصل إلى ما بين 70 و75% في إثيوبيا وأوغندا وكينيا، وأكثر من 60% في السودان وتنزانيا وموزمبيق. وفي المقابل، يبلغ متوسط السكان الريفيين في إفريقيا جنوب الصحراء نحو 57%، بينما ينخفض في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا إلى نحو 34%. وحول نسبة وصول الإنترنت للمواطنين والقدرة على تحمُّل تكلفته ببعض الدول الإفريقية، فيوضحها الشكل التالي رقم (4) كما يلي:
شكل رقم (4)
نسبة الوصول إلى الإنترنت والقدرة على تحمُّل تكلفته ببعض الدول الإفريقية، بحسب تقرير البنية التحتية 2025م
المصدر: بتصرف من الباحثة، بحسب تقرير “حالة البنية التحتية 2025م” بنسخته الإنجليزية، ص95.
ووفقًا للشكل أعلاه، يتضح أنه رغم نجاح بعض الدول الإفريقية في خفض تكلفة خدمات الإنترنت إلى ما يقترب من الحد الموصَى به عالميًّا عند 2% من دخل الفرد؛ فإن مستويات الوصول الفعلية ما تزال منخفضة في معظم الحالات، ما يعكس فجوة كبيرة بين القدرة على الدفع والاستخدام الفِعْلي، كما يبرز الشكل الحجم الكبير لشرائح السكان غير المتصلين في بعض البلدان، وهو ما يشير إلى أن معالجة فجوة الوصول تتطلب أكثر من مجرد تحسين القدرة على التحمل، لتشمل الاستثمار في البنية التحتية الرقمية وتوسيع التغطية الجغرافية وتعزيز الوعي الرقمي.
وبخصوص وضعية إفريقيا بحسب بعض مؤشرات التحول الرقمي مقارنة ببقية دول العالم، فيوضحها الشكل التالي:
شكل رقم (5)
الفجوة الرقمية… إفريقيا وبقية مناطق العالم في بعض مؤشرات البنية التحتية حتى عام 2024م
المصدر: بتصرف من الباحثة، بحسب تقرير حالة البنية التحتية 2025م، في نسخته الإنجليزية لعام 2025م، ص94.
ويتضح من الشكل أعلاه الفجوة الرقمية العالمية بين إفريقيا وبقية مناطق العالم من حيث اشتراكات الإنترنت الثابت وانتشار شبكات الجيل الخامس، على سبيل المثال لا تتجاوز نسبة اشتراكات الإنترنت الثابت سوى مستويات هامشية منذ عام 2005م وحتى عام 2024م، بينما حققت أوروبا والأمريكيتان وآسيا والمحيط الهادئ قفزات كبيرة، وهو ما يبرز الفجوة الواضحة في البنية التحتية الرقمية.
وبالنسبة لتغطية شبكات الجيل الخامس، ورغم النمو السريع عالميًّا منذ عام 2020م، لا تزال إفريقيا في ذيل الترتيب إلى جانب بعض التكتلات الأخرى مثل رابطة الدول المستقلة، في حين قادت أوروبا وأمريكا الشمالية وآسيا هذا التحول بشكل واضح، ويكشف الشكل رقم (5) أن التوسع الرقمي في إفريقيا يسير بوتيرة أبطأ بكثير من بقية العالم، الأمر الذي يُهدّد بتعميق الفجوة الرقمية ما لم يتم الاستثمار بشكل عاجل وواسع النطاق في شبكات الاتصالات والبنية التحتية الرقمية لدعم الاندماج في الاقتصاد العالمي.
وبشكل عام، تظل مشكلات البنية التحتية أحد أبرز العوائق أمام توسيع قاعدة الاتصال الرقمي في إفريقيا، إذ تبقى تكلفة خدمات النطاق العريض مرتفعة وتترك مئات الملايين خارج نطاق التغطية، فعلى سبيل المثال، تشير التقديرات في نيجيريا إلى الحاجة لمضاعفة شبكة الألياف الضوئية ثلاث مرات لتلبية احتياجات السكان والقطاعات الإنتاجية، ويُظْهِر ذلك أن سَدّ هذه الفجوة يتطلب توسيع الاستثمارات العامة والخاصة في البنية التحتية للاتصال، سواء في البنية التحتية المتوسطة -التي تنقل الإنترنت من الشبكات الرئيسة واسعة النطاق إلى المرحلة النهائية للمستخدم مثل أبراج الاتصالات الإقليمية ومحطات التوزيع والكابلات التي تربط القرى بالمدن- أو في البنية النهائية التي تصل مباشرة إلى المستخدمين، مع ضرورة تعزيز سياسات مشاركة الأصول القائمة لخفض التكاليف وتسريع التوسع.
ومن جهة أخرى، فمن المعطيات الواردة في هذا القسم من التقرير، يتضح وصول إفريقيا اليوم إلى لحظة حاسمة في مسار تحولها الرقمي؛ فهي ما تزال تُواجه فجوات واسعة في انتشار النطاق العريض وقدرات البنية التحتية وتوافر التكنولوجيا، لكنّها تُحقّق تقدمًا لا بأس به عبر الاستثمار في الكابلات البحرية وشبكات الألياف ومراكز البيانات والبنية التحتية للاتصالات المحمولة، وقد باتت الحكومات أكثر وعيًا بأهمية الرقمنة كأداة إستراتيجية لتعزيز الشمول المالي ودعم دمج الاقتصادات الإفريقية في النظام الرسمي، غير أن المرحلة المقبلة ستتطلب مضاعفة الجهود لتوسيع شبكات الألياف وتعزيز الاستثمار في مراكز البيانات، إلى جانب معالجة التحديات الأساسية المرتبطة بالطاقة والتنظيم والبنية التحتية الرقمية العامة، وهنا يظل التعاون بين الحكومات والقطاع الخاص والمؤسسات متعددة الأطراف شرطًا رئيسيًّا لتوسيع الوصول إلى الإنترنت بأسعار ميسرة، وتزويد الأجيال الشّابّة بالمهارات الرقمية اللازمة لاقتصاد المستقبل، ومع وجود قاعدة شبابية واسعة تتبنَّى التكنولوجيا بسرعة واهتمام متزايد من المستثمرين العالميين، تبدو إمكانات التحول الرقمي في إفريقيا هائلة، بما يجعلها قوة دافعة لنمو أكثر شمولًا واستدامةً.
خاتمة:
في الختام، يتضح من استعراض تقرير “حالة البنية التحتية في إفريقيا 2025م” أن الاستثمار في البنية التحتية لم يَعُد خيارًا قابلًا للتأجيل، بل ضرورة لا غِنَى عنها لضمان الاستقرار الاقتصادي والسياسي، ومِن ثَم تحقيق التكامل الإقليمي المنشود.
ويُحسَب للتقرير أنه لم يقتصر على تشخيص التحديات الماثلة أمام القطاعات الحيوية كالنقل والطاقة والتصنيع والبنية التحتية الرقمية فقط، بل قدَّم حلولًا عملية ورؤى مستندة إلى تجارب دولية وإمكانات محلية كامنة -مثل رأس المال المحلي-، غير أن القيمة الحقيقية للتقرير تتجلى في كونه دعوة مفتوحة إلى صانعي السياسات والممولين الإقليميين لتبنّي رؤية مشتركة تجعل من تعبئة الموارد المحلية الركيزة الأساسية لأيّ مسار تنموي مستدام.
وعليه، يمكن القول: إن التقرير يمثل إضافة معرفية وعملية هامة، لكنّه يضع على عاتق الحكومات الإفريقية مسؤولية تحويل التوصيات إلى سياسات مُلزمة ومشروعات قابلة للتنفيذ، بما يُعزّز قدرة إفريقيا لتتحوَّل من قارة التحديات إلى قارة الفرص.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مصدر التقرير:
“State of Africa’s Infrastructure Report 2025: Mobilizing Domestic Capital”, (Lagos: Africa Finance Corporation “AFC”, 2025), Available at: https://www.africafc.org/our-impact/our-publications/state-of-africa-infrastructure-report-2025#prId=343588