الكاتب: “إيفان كوبيتسيف”([1])
الناشر: المجلس الروسي للشؤون الدولية RIAC
ترجمة: مروة أحمد عبد العليم
مقدمة:
أصبح الاهتمام الذي أبداه عدد متزايد من اللاعبين الدوليين بالقارة الإفريقية في السنوات الأخيرة أحد المحرّكات الرئيسية لجداول الأعمال العلمية وملتقيات الخبراء.
اليوم، يغلب على موضوعات البحث مجالات الحياة الأكثر تنوعًا في المجتمعات الإفريقية واتجاهات السياسات التي تنتهجها الحكومات المحلية؛ على الرغم من أنه -كما يحدث في كثير من الأحيان- يتم إعطاء المكانة الرئيسية للمشكلات ذات الطبيعة السياسية والاقتصادية والعسكرية، إلا أن المجالات الإنسانية والعلمية والثقافية تتلقَّى تدريجيًّا تغطيةً إضافيةً في إطار العلوم الأجنبية والروسية، ولهذا تستحق الدبلوماسية العلمية للدول الإفريقية التحليل الهيكلي والدراسة باستخدام أمثلة من الحالات الفردية باعتبارها ظاهرة جديدة نسبيًّا، ولكنها تمثل في الوقت نفسه أداةً واعدةً لتعميق العلاقات الدولية وسدّ فجوة التنمية.
البعد النظري للدبلوماسية العلمية:
لقد تطوَّرت مناهج دراسة نظرية العلاقات الدولية في النصف الثاني من القرن العشرين، وأدَّى ذلك إلى التخلي التدريجي عن النموذج “المباشر” الذي تم تأسيسه سابقًا، والذي يعتمد على السلطة والآليات الاقتصادية، لفَهْم التفاعل بين الجهات الفاعلة في الدولة، وبهذا المعنى، كان الابتكار الأساسي هو مفهوم “القوة الناعمة”، الذي اقترحه الباحث الأمريكي ج. ناي في عام 1990م كتسمية لمثل هذا النموذج من السلوك في السياسة الخارجية عندما تسعى الدولة إلى خلق صورة إيجابية في عيون شريك حالي أو محتمل معيّن؛ لتعزيز مصالحها من خلال تعزيز جاذبيتها.
وفي وقت لاحق، تم تحديد أدوات “القوة الناعمة” المختلفة، بما في ذلك الدبلوماسية العامة، وعنصرها الدبلوماسية العلمية، في إطار النهج الذي اقترحه ج. ناي. ووفقًا ربما للتعريف الأكثر اتساعًا، ينبغي اعتبار الأخيرة بمثابة قدرة العلم على لعب دور “القوة الناعمة” في السياسة الخارجية.
ومع ذلك، فإن مثل هذا التعريف يتجاهل الاختلافات المحتملة في أهداف وممارسات الدبلوماسية العلمية، والتي تلقَّت تفسيرات هيكلية من الجمعية الأمريكية لتقدم العلوم والجمعية الملكية في لندن لتحسين المعرفة الطبيعية.
وفي تقرير نُشر عام 2010م، تم تحديد ثلاثة مجالات للدبلوماسية العلمية: 1) العلم في الدبلوماسية أو بعبارة أخرى، الدعم المعلوماتي والتحليلي لأنشطة الوكالات الحكومية في تشكيل وتنفيذ السياسة الخارجية؛ 2) العلوم من أجل الدبلوماسية- التعاون العلمي الذي يتم تنفيذه لتعزيز الاتصالات الثنائية؛ 3) الدبلوماسية من أجل العلم، وتعني استخدام الأدوات الدبلوماسية لتحقيق الأهداف العلمية. وبشكل عام يبدو أن مثل هذا التصنيف يُشكّل إطارًا تحليليًّا ناجحًا من وجهة نظر فَهْم أهداف ومبادئ وأساليب تنفيذ الدبلوماسية العلمية لكل حالة على حدة.
الدبلوماسية العلمية في إفريقيا:
وفقًا لتقديرات عام 2018م، لا تزال إفريقيا “بعيدة” على مستوى العالم من حيث النشاط العلمي؛ ففي السنة المشمولة بالتقرير، كانت حصة الباحثين الأفارقة في المجتمع العلمي العالمي متواضعة فقط 2.3٪، وكانت المنشورات المساهمة في صندوق البحوث العلمية أقل من ذلك 2٪. وهكذا، بالنسبة لدول القارة الإفريقية بشكل عام وإفريقيا جنوب الصحراء بشكل خاص، يظل إنتاج المعرفة والخبرة مهمة صعبة، وهو في الوقت نفسه لا يقلل من اهتمام الحكومات والمجتمعات العلمية في المنطقة بهذا المجال، ومن الملاحظ أن أكثر من 90% من الدول الإفريقية تنظر إلى الدبلوماسية العلمية باعتبارها اتجاهًا في غاية الأهمية.
عند تحليل ظاهرة الدبلوماسية العلمية في إفريقيا، من الضروري أن نفهم أننا في الغالبية العظمى من الحالات نتحدَّث عن صيغة “الدبلوماسية من أجل العلوم”: إن تعدُّد وشدة المشكلات في مجال التنمية -سواء كانت الزراعة أو الطب أو الطاقة- يحددان الاهتمام العملي بالإنجازات العلمية كوسيلة لحلّ المشكلات الأكثر إلحاحًا للمجتمع والدولة.
وبهذا المعنى، يُعدّ ذلك بمثابة مساهمة كبيرة في عملية إشراك المجتمع العلمي الإفريقي في الأنشطة التطبيقية لوضع المعايير الغذائية، التي قدَّمتها المؤسسات الدولية، ولا سيما اتفاقية تطبيق التدابير الصحية وتدابير الصحة النباتية تحت رعاية منظمة التجارة العالمية (WTO).
هذا وتشارك هيئات وضع المعايير ومراقبة الجودة المنشأة بموجب هذه الاتفاقية، والمعروفة باسم “الأخوات الثلاث”، بمساعدة مرفق المعايير وتنمية التجارة، ليس فقط في تعزيز القدرات العلمية للدول الإفريقية في مجال دراسة قضايا الأمن الغذائي والتجارة، ولكن أيضًا ضمان مشاركة الأخيرة في عملية التفاوض بشأن وضع معايير غذائية جديدة.
الدبلوماسية العلمية في إثيوبيا:
في حد ذاتها، تُعدّ دراسة تجربة ممارسة الدبلوماسية العلمية مِن قِبَل الدول الإفريقية ذات أهمية كبيرة، سواء بسبب التطور الضعيف للموضوع، أو في ضوء الاهتمام الوثيق المتزايد من جانب السياسيين والعلماء ومجتمعات الأعمال المحليين والأجانب تجاه القارة الإفريقية؛ باعتبارها منطقة لم يتم حتى الآن استغلال إمكاناتها وتقييمها بشكل كامل.
وفي المقابل، فإن اختيار الحالة الإثيوبية يرجع إلى اعتبارين؛ أولاً: إثيوبيا هي الرائدة بلا منازع في شرق إفريقيا من حيث الإمكانات الديموغرافية والاقتصادية. ثانيًا، تُعدّ إثيوبيا اليوم إحدى دول القارة التي تعمل بنشاط على تطوير العلاقات مع روسيا الاتحادية، باعتبارها عضوًا في مجموعة البريكس.
بالانتقال إلى تحليل التجربة الإثيوبية في الدبلوماسية العلمية، من الضروري ملاحظة عدد من المقدمات الأساسية. بادئ ذي بدء، ينبغي اعتبار حجم التمويل المخصص أحد المؤشرات الرئيسية لمشاركة حكومة البلاد في تطوير أدوات الدبلوماسية العلمية. وبالتالي، وفقًا لتقديرات عام 2017م، في المتوسط في منطقة جنوب الصحراء الكبرى في إفريقيا، خصَّصت الدول 0.37% من الناتج المحلي الإجمالي سنويًّا لبحوث التنمية، وهو ما يقل بنحو ثماني مرات عن مؤشرات مماثلة في شمال إفريقيا. ومع ذلك، تبيّن أن هذه القيمة بالنسبة لإثيوبيا أقل من ذلك، حيث تبلغ 0.27% فقط من الناتج المحلي الإجمالي، أقل من تلك الموجودة في جنوب إفريقيا (0.83%) وبوركينا فاسو (0.61%) وموريشيوس (0.37%).
وبشكل عام، يبدو من الممكن التمييز بين اتجاهين للدبلوماسية العلمية لإثيوبيا:
أولاً: في إطار جذب الدعم المادي والفني والخبرة من المنظمات الدولية.
وثانيًا: في شكل اتصالات ثنائية مع الدول الأكثر تقدمًا في المجال العلمي والتكنولوجي، بما في ذلك اللاعبون الغربيون وغير الغربيين. وباعتبارها عضوًا في الوكالة الدولية للطاقة الذرية (IAEA) منذ تأسيس المنظمة في عام 1957م، وقَّعت إثيوبيا في عام 2024م إطار البرنامج القُطري الخامس مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية للفترة 2024-2028م، والذي حدَّد مجالات التفاعل ذات الأولوية التالية: 1) الصحة والتغذية؛ 2) الأغذية والزراعة؛ 3) الموارد المائية والبيئة؛ 4) الإنتاج والاستخراج؛ 5) الطاقة؛ 6) تنمية الموارد البشرية.
وفي الوقت نفسه، تتيح لنا تجربة سنوات التعاون السابقة أن ننظر إلى هذه الشراكة باعتبارها ذات توجه عملي ومفيدة.
مثال آخر على تفاعل إثيوبيا مع المؤسسات الدولية لتطوير العلوم هو الاتفاق المذكور سابقًا بشأن تطبيق تدابير الصحة والصحة النباتية والصندوق الذي تم إنشاؤه تحت رعايتها، على وجه الخصوص، في الفترة 2018-2023م قدَّمت أكثر من 795 ألف دولار لمختلف الدوائر الحكومية الإثيوبية. في إطار برنامج “تحسين المكون الصحي وضمان تصدير الماشية والمنتجات الحيوانية من إثيوبيا”، وعلى الرغم من ضآلة حجم هذه المساعدات على المستوى العالمي، إلا أنه لا يمكن الاستهانة بأهميتها بالنسبة لبلدٍ يُواجه باستمرار العديد من التحديات والحواجز التي تعترض التنمية الشاملة.
إذا كان التعاون مع المنظمات الدولية الموصوفة أعلاه يندرج حصريًّا تحت صيغة “الدبلوماسية من أجل العلم”، ففي حالة الاتصالات الثنائية مع الجهات الفاعلة الحكومية؛ فإن الدبلوماسية العلمية تخدم حتمًا اعتبارات السياسة الخارجية، حتى لو كان التركيز في حالة الغالبية العظمى من البلدان الإفريقية ينصبّ على جذب الخبرة والمعرفة.
في عام 2011م، وقَّعت حكومتا إثيوبيا وجمهورية الصين الشعبية اتفاقية للتعاون في مجال العلوم والتكنولوجيا، والتي أصبحت إطارًا مؤسسيًّا لمزيد من بناء الاتصالات، خاصةً في مجال تدريب الموظفين في إثيوبيا، بما في ذلك عقد الاجتماعات للجنة الصينية الإثيوبية للعلوم والتكنولوجيا كل 3-5 سنوات.
بالإضافة إلى ذلك، ففي عام 2012م، أبرم الجانب الإثيوبي والأكاديمية الروسية للعلوم اتفاقية للتعاون في مجال العلوم والتكنولوجيا، مما سمح للبعثة البيولوجية الروسية الإثيوبية المشتركة بمواصلة العمل الذي بدأ في عام 1987م، وقد تم تطوير هذه الاتفاقية لاحقًا بالصيغة المعتمدة عام 2023م بشأن قرارات إنشاء المركز المشترك للأبحاث البيولوجية.
القيود والآفاق:
بالنظر إلى المجال العلمي في إثيوبيا، وعلى وجه الخصوص، كثافة وفعالية الدبلوماسية العلمية في البلاد، يبدو من المنطقي تمامًا أن نستنتج أن أديس أبابا لا تزال بعيدة عن الهدف الذي أعلنه وزير العلوم والابتكار: إن وصف إثيوبيا بأنها “مركز إقليمي في مجال الابتكار” سيكون سابقًا لأوانه بسبب انخفاض مستوى الدعم المؤسسي والمادي لهذا المجال، وبسبب العدد غير المثير للإعجاب من النجاحات العملية، ويتم تحديد هذا الوضع من خلال عدد من العوامل السياسية والاقتصادية في الغالب، بما في ذلك: 1) المشاكل الأمنية الحادة (الاشتباكات العرقية والتطرف وأنشطة الجماعات المتمردة)؛ 2) النقص المزمن في التمويل؛ 3) انخفاض مؤشرات التنمية الاجتماعية 4) ضعف مؤسسات الدولة.
ومن الناحية الموضوعية؛ فقد شهدت إثيوبيا في السنوات الأخيرة تغيرات كبيرة في التوازن داخل النخبة، مما أدى إلى مضاعفة عدد وشدة الصراعات المسلحة ونتيجة لذلك، فإن التركيز السياسي وتكاليف الموارد الهائلة يَحُدّ بشكل كبير من احتمالات تطوُّر العلوم، بما في ذلك تحسين واستخدام أدوات مثل الدبلوماسية العلمية.
استنتاجات وتوصيات للجانب الروسي:
إن الدبلوماسية العلمية في إثيوبيا لا تُشكّل في الوقت الحالي أولوية في السياسة الخارجية و/أو أداة التنمية؛ نظرًا لأنها تركز في الغالب على جذب الخبرات (“الدبلوماسية من أجل العلوم”)، فإن الدبلوماسية العلمية هنا لا تدعمها موارد تنظيمية ومادية كافية، فضلاً عن الطموحات الحكومية المقابلة. وفي الوقت نفسه، يحتفظ هذا الاتجاه بأهميته كأحد السُّبل للتغلُّب على عدد من المشكلات الأكثر إلحاحًا للمجتمع الإثيوبي، خاصةً في مجال الأمن الغذائي، وتطوير الصناعات ذات التقنية العالية وإنشاء قاعدة من الموظفين المؤهلين.
وفي ظل هذه الظروف، تستطيع روسيا الاتحادية، من جانبها، توفير المستوى اللازم من المشاركة ونوعية الخبرة المقدمة، وبالتالي، ومع الأخذ في الاعتبار الخصائص المناخية لإثيوبيا، فإن التعاون المستمر من خلال البعثة البيولوجية المشتركة سيُسهم في مزيد من دراسة الحياة البرية في البلاد، ويمكن للمتخصصين المحليين ومراكز البحوث أيضًا مساعدة الشركاء الإثيوبيين في التطوير المستمر للموارد المائية في إثيوبيا، وهو أحد المُحرّكات المحتملة للتخفيف من حدة الفقر.
وأخيرًا، تتمتع الهياكل العلمية والتجارية في روسيا بخبرة هائلة في مجال الزراعة، التي لا تعد اليوم أحد أسس الاقتصاد الإثيوبي فحسب، ولكنها مدعوة أيضًا إلى حل أهم مشكلة وهي نقص الغذاء في البلاد.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
رابط التقرير
[1] – باحث مبتدئ في مركز دراسات شمال إفريقيا والقرن الإفريقي في معهد الدراسات الإفريقية التابع للأكاديمية الروسية للعلوم، وباحث متدرب في مركز الدراسات الإفريقية ومعهد الدراسات الدولية التابع لوزارة الخارجية الروسية.