بقلم: إيزيدور كووُنو
ترجمة: سيدي.م. ويدراوغو
الأفكار العامة:
– أعلنت دول تحالف الساحل انسحابها من المحكمة الجنائية الدولية، معتبرة إياها أداةً لفرض الهيمنة الإمبريالية ومظهراً من مظاهر القمع الاستعماري الجديد.
– اعتبرت منظمة العفو الدولية هذا القرار انتكاسة خطيرة في الجهود المبذولة لمكافحة الإفلات من العقاب في منطقة الساحل.
– في المقابل، يتجه التحالف إلى إنشاء محكمة جنائية إقليمية تُعنى بالتحقيق في الجرائم المرتكبة داخل أراضيه.
– يُذكر أن نظام روما الأساسي، المؤسس للمحكمة الجنائية الدولية سنة 2002، وقّعت عليه 125 دولة حتى الآن.
– سبق وأن وصف رئيس الوزراء الإثيوبي الأسبق، هايلي مريم ديسالين، المحكمة الجنائية الدولية في عام 2013 بأنها تحولت إلى “أداة للصيد العنصري”، وذلك خلال رئاسته للاتحاد الإفريقي.
– لطالما واجهت المحكمة انتقادات متزايدة بسبب إدارتها لعدد من الملفات في القارة الإفريقية، سواء داخل القارة أو خارجها.
– ولعل أبرز مظاهر هذه الانتقادات أن الولايات المتحدة، ردًا على أوامر توقيف شملت مسؤولين أمريكيين وإسرائيليين، فرضت عقوبات مباشرة على قضاة المحكمة.
إعلان منظمتي العفو الدولية وهيومن رايتس ووتش عن أن انسحاب دول تحالف الساحل (بوركينا فاسو، مالي، النيجر) من المحكمة الجنائية الدولية يمثل تراجعًا مقلقًا في مكافحة الإفلات من العقاب، ويقوّض العدالة، ويُعدّ إهانة للضحايا والناجين من الجرائم الخطيرة. كما حذّرت المنظمتان من أن هذا القرار يحرم سكان المنطقة من ضمانات أساسية في مجال حقوق الإنسان، في ظل ضعف قدرات القضاء المحلي.
ورغم ذلك، أعلنت الدول الثلاث في 22 سبتمبر انسحابها “بأثر فوري” من المحكمة، مؤكدة عزمها على إنشاء آلية قضائية داخلية لضمان العدالة وترسيخ السلم. وتدرس بالفعل إمكانية إنشاء محكمة جنائية إقليمية لمعالجة الجرائم المرتكبة داخل حدودها.
وتعتبر هذه الدول أن المحكمة الجنائية الدولية باتت “أداة استعمارية جديدة في يد القوى الإمبريالية”، وفشلت في الاضطلاع بمهامها، سواء في ملاحقة الجرائم ضد الإنسانية أو محاسبة الجناة.
ورغم إعلان الطابع ” الأثر الفوري” للانسحاب، فإن نفاذه الفعلي يستلزم مرور عام كامل من تاريخ إبلاغ الأمم المتحدة رسميًا. ويعيد هذا القرار الجدل حول مصداقية المحكمة، التي واجهت انتقادات دائمة بشأن تحيّزها، وتركيزها على القارة الإفريقية، وتعرضها للضغوط السياسية من الدول الكبرى.
المحكمة الجنائية الدولية من منظور إفريقيا:
نظام روما الأساسي، المعاهدة التأسيسية للمحكمة الجنائية الدولية المعتمدة عام 1998، دخل حيّز التنفيذ في 2002 بعد تصديق عدد من الدول عليه، ليصل عدد أعضائه اليوم إلى 125 دولة. ومع ذلك، لا تزال دول مؤثرة مثل: الولايات المتحدة، روسيا، الصين، إسرائيل، وبورما، خارج إطار هذه المحكمة.
ورغم أن المحكمة وُضعت لضمان العدالة الدولية، فإنها أثارت انتقادات واسعة، لا سيما في إفريقيا، حيث يُنظر إليها باعتبارها منحازة وتخدم مصالح القوى الكبرى، وتُمارس نوعاً من “العدالة الانتقائية”، تركّز بشكل مفرط على القادة الأفارقة دون غيرهم.
الاتحاد الإفريقي، من ناحيته، أعرب مرارًا عن استيائه من هذا التوجه، معتبرًا أن المحكمة تحولت إلى أداة لمحاكمة القادة الأفارقة فقط، وهو ما يُعزز تصوّرًا بالتحيّز وهيمنة “عدالة الأقوياء”.
وفي عام 2013، وجّه رئيس الوزراء الإثيوبي آنذاك، هايلي مريام ديسالين، انتقادًا لاذعًا للمحكمة، متهمًا إياها بممارسة “صيد عنصري”، وذلك في سياق ملاحقتها لكبار المسؤولين الكينيين، وقال إن المحكمة لا ينبغي أن تُطارد القادة الأفارقة تحت غطاء العدالة الدولية.
وقد طالبت قمة الاتحاد الإفريقي في ذلك العام بتحويل الملفات إلى القضاء المحلي، ورفعت القضية إلى الأمم المتحدة كخطوة احتجاجية على استمرار المحكمة في تجاهل سيادة الدول الإفريقية.
وكانت الشخصيات الكينية المعنية تخضع للملاحقة القضائية بسبب أعمال العنف العرقي التي أعقبت الانتخابات، والتي أسفرت عن مقتل أكثر من ألف شخص. وقد اعتبر تدخل المحكمة الجنائية الدولية واختيارها لأهداف الملاحقة القضائية متماشيًا مع مصالح وزارة الخارجية الأميركية والقوة الاستعمارية السابقة، بريطانيا. إذ عبّر سفيرا الولايات المتحدة والمملكة المتحدة في نيروبي حينها عن دعمهما لرايلا أودينغا، وناشدا الكينيين بعدم التصويت لمرشحين يُشتبه في تورطهم بجرائم ضد الإنسانية.
وبحسب مصادر من مكتب المدعي العام، فإن لويس مورينو أوكامبو، المدعي السابق للمحكمة، صرّح بأن الأهداف تم تحديدها بالتنسيق مع وزارة الخارجية الأميركية، كما أورد معهد العلاقات الدولية والاستراتيجية (IRIS).
وفي هذا السياق، قال رئيس الوزراء الإثيوبي هايلي مريم ديسالين “إن 99% من المتهمين أمام المحكمة الجنائية الدولية هم أفارقة، ما يعكس خللاً في هذا النظام القضائي نرفضه بشكل قاطع”.
حالة كوت ديفوار:
لقد كانت إدارة المحكمة الجنائية الدولية لقضية كوت ديفوار موضع انتقاد ليس في إفريقيا فحسب، بل أيضا خارج القارة.
وفقا لما ذكرته مجموعة من منظمات حقوق الإنسان، منها الاتحاد الدولي لحقوق الإنسان، والحركة الإيفوارية للدفاع عن حقوق الإنسان، والرابطة الإيفوارية للدفاع عن حقوق الإنسان، فإن المحكمة كانت متحيزة في النزاع الإيفواري.
وقال بيير كوامي أدجوماني، رئيس الرابطة الإيفوارية لحقوق الإنسان في أكتوبر 2024: “ما نأسف له هو أن مكتب المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية يأتي إلى أبيدجان طوال الوقت ولا يفعل شيئًا سوى ملاحقة الموالين لغباغبو، ولكننا نعلم أن تقرير لجنة التحقيق الوطنية وتقاريرنا الخاصة بالمنظمات غير الحكومية، على الصعيدين الوطني والدولي، تشير إلى أن كلا الجانبين كان مخطئًا وأن مسؤوليتهما ثابتة”.
وأبدى الأخير استغرابه من أن المحكمة لم تحاكم معسكر الرئيس واتارا، باستثناء “بعض العناصر من الدرجة الثانية التي لم تتورط في أزمة ما بعد الانتخابات”.
وأضاف قائلا: “لقد تم تحديد هوية الأشخاص بشكل رسمي، ولا بد أن تكون لديه الشجاعة للذهاب إلى أبعد من ذلك لتحقيق العدالة للضحايا؛ لأننا نعمل فقط من أجل الضحايا”.
وقالت كل من الفدرالية الدولية لحقوق الإنسان والرابطة الليبية لحقوق الإنسان والمنظمة الدولية لحقوق الإنسان إن المحكمة الجنائية الدولية يجب أن تحول كلامها إلى أفعال، وأن تظهر إستعدادها لمحاكمة المسؤولين عن الجرائم الدولية من جميع أطراف النزاع.
احتجاجات بعض الدول الإفريقية على المحكمة الجنائية الدولية:
ما تزال زيارة الرئيس السوداني الأسبق عمر البشير إلى جنوب إفريقيا خلال قمة الاتحاد الإفريقي عام 2015 تُعد من أبرز محطات التوتر في العلاقة بين الدول الإفريقية والمحكمة الجنائية الدولية. فرغم صدور مذكرة توقيف بحقه، تمكن البشير من دخول الأراضي الجنوب إفريقية ومغادرتها دون عوائق، مستفيدًا من تساهل حكومة جاكوب زوما آنذاك.
أدى هذا الموقف إلى مثول جنوب إفريقيا أمام المحكمة في لاهاي لتبرير تصرفها، لكنها استطاعت في النهاية تفادي العقوبات. ومع مرور الوقت، برزت دول مثل رواندا (رغم عدم عضويتها في المحكمة) إلى جانب أوغندا، إثيوبيا، وكينيا، كأطراف فاعلة في تحدي سلطة المحكمة.
كما أعربت عدة دول، من بينها جنوب إفريقيا، غامبيا، وبوروندي، عن رغبتها في الانسحاب من المحكمة الجنائية الدولية، إلا أن بوروندي وحدها هي التي مضت في ذلك حتى النهاية، مبررة قرارها باعتزام المدعية العامة استهداف بعض الشخصيات في نظامها السياسي.
لكن الانسحاب من المحكمة الجنائية الدولية، الذي دخل حيّز التنفيذ بعد مرور عام على إخطار الأمم المتحدة به، لم يمنع المدعية العامة من فتح تحقيق رسمي في نوفمبر 2017.
وطالت اتهامات المحكمة عددًا من الشخصيات الإفريقية في دول مثل جمهورية الكونغو الديمقراطية، إفريقيا الوسطى، أوغندا، السودان (إقليم دارفور)، كينيا، ليبيا، كوت ديفوار، ومالي. غير أن عددًا من هذه التحقيقات، بما في ذلك تلك المتعلقة بالكونغو، إفريقيا الوسطى، مالي، وأوغندا، تم فتحها بطلب من حكومات هذه الدول بصفتها أطرافًا موقعة على نظام روما الأساسي.
أما في حالتي دارفور وليبيا، فقد جاء تحريك الملفات بطلب من مجلس الأمن الدولي، بينما بادر مكتب الادعاء العام في المحكمة بفتح التحقيقات في كل من كينيا وكوت ديفوار من تلقاء نفسه.
ورغم الاتهامات، فقد تمت تبرئة شخصيات بارزة مثل الرئيس الإيفواري السابق لوران غباغبو، ووزير الشباب الأسبق شارل بليه غوديه، وزعيم المتمردين الكونغولي السابق جان بيير بيمبا.
وبينما تُواجه المحكمة انتقادات متكررة بكونها تُمارس انتقائية ضد القادة الأفارقة، فإنها تبدو عاجزة في مواجهة بعض الدول التي ترفض الالتزام بقراراتها، بما في ذلك أوامر التوقيف الدولية.
تردد بعض الدول في تنفيذ مذكرة التوقيف الصادرة عن “المحكمة الجنائية الدولية” بحق نتنياهو:
منذ تأسيسها، واجهت المحكمة الجنائية الدولية مشكلات عميقة تتعلق بالحوكمة، بحسب ما ذكر معهد العلاقات الدولية والاستراتيجية (IRIS).
ورغم تصاعد عمليات التدقيق وتكرار مراجعات الحسابات، فإن محاولات الإصلاح لا تزال محدودة التأثير وغير فعالة حتى الآن.
وقد سلطت الحرب الإسرائيلية على غزة، والتي تتهمها بعض الدول بارتكاب جرائم إبادة جماعية بحق الفلسطينيين، الضوء مجددًا على تحديات المحكمة.
ففي 21 نوفمبر 2024، أصدرت المحكمة مذكرة توقيف دولية بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، غير أن تنفيذ هذا القرار يواجه عقبات كبيرة.
وفي أوروبا، أبدت بعض الدول مثل إسبانيا وأيرلندا وبلجيكا وسلوفينيا وليتوانيا وهولندا استعدادها لاحترام المذكرة، لكن هذا الموقف لا يشمل كافة أعضاء الاتحاد الأوروبي.
وقد أثار تردد دول رئيسية مثل فرنسا وألمانيا وإيطاليا قلق المراقبين، إذ يُنذر ذلك بإضعاف سلطة المحكمة وتقويض مصداقيتها.
وفي ديسمبر الماضي، عبّر كل من الأعضاء الأوروبيين عن مواقفهم المتباينة، حيث شككت فرنسا في جدوى مذكرة التوقيف، ملمحة إلى أن رئيس الوزراء الإسرائيلي قد يتمتع بحصانة تحول دون تنفيذ أوامر المحكمة.
وقالت وزارة الخارجية الفرنسية في بيان إنّه “لا يمكن مطالبة دولة معينة باتخاذ إجراءات تتعارض مع التزاماتها بموجب القانون الدولي، لا سيما فيما يخص الحصانات التي تتمتع بها الدول غير الأعضاء في المحكمة الجنائية الدولية”.
أما في إيطاليا، فقد شكك وزير الخارجية أنطونيو تاجاني في إمكانية تنفيذ مذكرة توقيف بحق بنيامين نتنياهو، موضحًا أن “اعتقاله غير وارد، على الأقل طالما يشغل منصب رئيس الوزراء”.
وفي ألمانيا، أبدت الحكومة في البداية نيتها “دراسة” المسألة، لكن متحدثًا رسميًا صرّح لاحقًا بأن “من الصعب تصور أن تقوم ألمانيا باعتقال نتنياهو على أراضيها”.
وفي موقف أكثر وضوحًا، أعلنت المجر رفضها تنفيذ المذكرة، إذ أكد رئيس الوزراء فيكتور أوربان لنظيره الإسرائيلي أن بلاده “لن تمتثل لأمر يعتبره سخريًا”، وذلك خلال زيارة استمرت خمسة أيام في بودابست.
وفي مواجهة أوامر توقيف صدرت عن المحكمة ضد مسؤولين إسرائيليين وأمريكيين، لجأت الولايات المتحدة إلى أسلوب الضغوط والعقوبات، حيث فرضت قيودًا على عدد من قضاة المحكمة، في خطوة تعكس رفضها لصلاحيات المحكمة في ملاحقة مواطنيها أو حلفائها.
عقوبات الولايات المتحدة:
لطالما رفضت الولايات المتحدة الانضمام رسميًا إلى معاهدة المحكمة الجنائية الدولية. ورغم توقيع الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون على المعاهدة، إلا أن الكونغرس لم يُصادق عليها، ما حال دون انضمام واشنطن بشكل فعلي.
وتُعد مشاركة الولايات المتحدة ضرورية لتعزيز فاعلية المحكمة، ومع ذلك لم تغلق واشنطن باب التعاون معها بالكامل، إذ وجّه الرئيس جو بايدن وكالات الاستخبارات الأمريكية بمشاركة الأدلة مع المحكمة بشأن جرائم الحرب الروسية في أوكرانيا.
وفي المقابل، اتخذت إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب موقفًا أكثر عدائية، إذ فرضت في يونيو عقوبات على قضاة المحكمة الجنائية الدولية، دخلت حيز التنفيذ في أغسطس من العام نفسه. وتضمنت هذه العقوبات حظر دخول القضاة إلى الأراضي الأمريكية، وتجميد أصولهم في الولايات المتحدة، ومنع إجراء أي تعاملات مالية معهم.
وكان من بين القضاة المشمولين بالعقوبات كيمبرلي بروست (كندا)، ونيكولا غيو (فرنسا)، ونزات شاميم خان (فيجي)، وماندياي نيانغ (السنغال)، وذلك “بسبب مشاركتهم المباشرة في إجراءات تستهدف التحقيق مع مواطنين أمريكيين أو إسرائيليين أو توقيفهم ومحاكمتهم دون موافقة حكوماتهم”، وفق ما جاء في بيان وزير الخارجية الأمريكي ماركو روبيو.
وأعربت الولايات المتحدة عن استيائها مما اعتبرته “تسييسًا” لعمل المحكمة الجنائية الدولية، معتبرة أن تصرفاتها “تهدد الأمن القومي الأمريكي”.
ويأتي هذا الموقف في أعقاب فتح المحكمة تحقيقات ضد جنود أمريكيين يُشتبه في تورطهم في جرائم حرب بأفغانستان بين عامي 2001 و2021.
كما أعربت واشنطن عن رفضها للتحقيقات التي تستهدف رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير دفاعه يوآف غالانت، والمتهمين بارتكاب “جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية” خلال العدوان الإسرائيلي على غزة منذ هجوم حماس في 7 أكتوبر 2023.
وردّت المحكمة على العقوبات الأمريكية ووصفتها بأنها “هجمات فاضحة” تشكّل “إهانة للدول الأعضاء، وللنظام الدولي القائم على القواعد، والأهم من ذلك، لملايين الضحايا الأبرياء حول العالم”.
وفي فبراير الماضي، فرضت الولايات المتحدة عقوبات على المدعي العام الحالي للمحكمة، البريطاني كريم خان، والذي أخذ إجازة مؤقتة في مايو بعد مزاعم تتعلق بسلوك غير لائق.
وخلال إدارة ترامب، فرضت واشنطن أيضًا عقوبات على المدعية العامة السابقة فاتو بنسودة من غامبيا، قبل أن يتم رفعها عند تولي جو بايدن السلطة.
ورغم الضغوط، شددت المحكمة الجنائية الدولية على أنها ستواصل أداء مهامها في إطار قانوني صارم، دون الالتفات إلى التهديدات أو التدخلات السياسية.
رابط المقال:
https://www.bbc.com/afrique/articles/c5yq5q0n99vo