نشرت مؤسسة العلوم والسياسة الألمانية (SWP) دراسة أعدّتها “مايكه شولتسه: Meike Schulze”(*)، باحثة في قسم شؤون إفريقيا والشرق الأوسط بالمؤسسة، تُسلِّط الضوء على أن التعاون الصناعي بمنزلة أداة لخَلْق القيمة والتعاون المستدام؛ حيث يُعدّ تنويع مصادر الموارد المعدنية ضرورة إستراتيجية؛ إذ تلعب الدول الغنية بالموارد في الجنوب العالمي دورًا محوريًّا في هذا الصدد.
وتسعى زامبيا، وهي مُصدِّر عالمي رئيسي للنحاس ومواد خام حيوية أخرى، إلى إقامة تحالفات وثيقة تحشد من خلالها الاستثمارات، وتُعزّز خلق القيمة المحلية.
وقد وضع الاتحاد الأوروبي الأُسُس الأولية للتعاون مع الشراكة الإستراتيجية للمواد الخام. ولكن للبقاء في ظلّ المنافسة الجيوسياسية، لا بد من دعم السياسات الصناعية بقوة. ويشمل ذلك سياسة خارجية متماسكة تتماشى مع نَهْج “فريق أوروبا” وأدوات تمويل مُوجّهة للتعاون الصناعي.
تستعرض “شولتسه” في عدة محاور أُطُر الشراكة الإستراتيجية في قطاع الموارد الاستخراجية بين الاتحاد الأوروبي وزامبيا ما بين الواقع والمأمول في ظل سباق عالمي محموم على المواد الخام.
بقلم: مايكه شولتسه(*)
ترجمة وتقديم: شيرين ماهر
في ضوء تزايد الطلب على الموارد المعدنية وتصاعد التوترات الجيوسياسية، تسعى حكومات العالم، -بما في ذلك دول الاتحاد الأوروبي-، جاهدةً إلى إقامة شراكات مع الدول الغنية بالموارد في الجنوب العالمي. وتُعدّ زامبيا، العضو في مجموعة تنمية الجنوب الإفريقي (SADC)، محورًا لدبلوماسية الموارد الدولية، لا سيما بفضل النحاس؛ ذلك العنصر الحيوي واللازم للبنية التحتية للطاقة والنقل، بالإضافة إلى الإلكترونيات. كما تمتلك البلاد رواسب من المواد الخام للبطاريات، مثل الكوبالت والنيكل والمنجنيز.
وتعتزم حكومة الرئيس “هيتشيليما” الاستفادة من الاهتمام الدولي لتوسيع قطاع المواد الخام في زامبيا بوتيرة سريعة. وتتحرك الصين ودول الخليج بخطًى متسارعة؛ إذ تُعزّز بكين حضورها في قطاع الموارد الاستخراجية في زامبيا، بينما تُرسِّخ دول الخليج مكانتها كشركاء جُدد. كما يسعى الاتحاد الأوروبي جاهدًا لتوثيق التعاون، وقد اتفق على شراكة إستراتيجية في مجال المواد الخام مع زامبيا في عام ٢٠٢٣م.
وعليه، فالوقت الآن حاسم؛ فإذا أراد الاتحاد الأوروبي البقاء كشريك في المنافسة الجيوسياسية، عليه أن يقوم بتوسيع تعاونه باستمرار مع زامبيا، لا سيما في مجال التعاون الصناعي. وهذه المسألة بمنزلة أولوية قصوى بالنسبة لحكومة زامبيا، وفي الوقت نفسه، ذات أهمية إستراتيجية لضمان مرونة الصناعة الأوروبية.
ومن الضروري ترسيخ الشراكات الإستراتيجية، بما في ذلك تلك التي تستهدف زامبيا، في المفهوم العام لإستراتيجية الاتحاد الأوروبي للمواد الخام. بهذه الطريقة فقط، يُمكن الجَمْع بنجاح بين توسيع قدرات الاتحاد الأوروبي وتضافر التعاون في سلاسل التوريد.
بهذه الطريقة، يُمكن للاتحاد الأوروبي أن يُقدِّم نموذجًا مُضادًّا للسياسة الحمائية الأمريكية في عهد الرئيس ترامب؛ حيث يُجبر النَّهْج الأمريكي الجديد أوروبا على أن تُصبح أكثر استقلالية، وأن تُطبِّق نَهْج “فريق أوروبا” بمزيد من الحزم.
طموحات وتحديات شراكات المواد الخام في الاتحاد الأوروبي:
اكتسبت سياسة الاتحاد الأوروبي المتعلقة بالمواد الخام أهميةً بالغة في السنوات الأخيرة. وبالتزامن مع قانون المواد الخام الحيوية (CRMA) الصادر في أبريل 2024م؛ يهدف الاتحاد الأوروبي إلى تقليل اعتماده على المواد الخام الحيوية وتنويع إمداداته، لا سيما المواد الخام السبع عشرة التي صُنِّفت باعتبارها موادّ إستراتيجية. وبينما يتواصل توسيع القدرات الأوروبية، يظل تنفيذ الشراكات الدولية أمرًا بالغ الأهمية لتعزيز مرونة سلاسل التوريد.
حتى الآن، أبرم الاتحاد الأوروبي 14 شراكة في مجال المواد الخام. وفي أكتوبر 2023م، وقَّع مذكرة تفاهم مع زامبيا، بالتوازي مع اتفاقية مع جمهورية الكونغو الديمقراطية. وانطلاقًا من ذلك، يُرسِّخ الاتحاد الأوروبي التزامه بأن يكون شريكًا موثوقًا وراسخًا في قطاع المواد الخام. وإلى جانب تأمين إمداداته الخاصة، يهدف الاتحاد الأوروبي إلى تعزيز “التعاون المربح للجانبين” الذي يُسْهِم في خلق القيمة في الدول الشريكة.
من المزمع تنفيذ هذه الشراكات من خلال نَهْج “فريق أوروبا”، أي: من خلال التعاون المنسَّق بين الاتحاد الأوروبي ودوله الأعضاء ومؤسساته المالية. كما أن مذكرة التفاهم غير المُلزمة قانونًا مع زامبيا هي الآن في مرحلة التنفيذ. وعقب التوقيع، وُضِعَت خارطة طريق، يتولَّى وفد الاتحاد الأوروبي في زامبيا تنسيقها. وتتضمَّن هذه الخارطة تدابير في خمسة مجالات عمل:
- تكامل سلسلة التوريد (المشاريع المشتركة، التعاون الصناعي).
- تمويل البنية التحتية.
- البحث والابتكار.
- بناء القدرات.
- المشتريات المستدامة والمسؤولة.
وقد وُضِعَتْ خارطة الطريق في يونيو 2024م، لكنها لم تُنْشَر في ذلك الوقت. وبعد عام من توقيعها، وُضِعَت أُسُس التعاون. ولكن، لم تتحقق توقعات زامبيا المأمولة من الاتحاد الأوروبي، لا سيما في مجال تكامل سلسلة التوريد. يتعين على الاتحاد الأوروبي تسريع وتيرة العمل لتأكيد مكانته كشريك في بيئة تنافسية متسارعة. وتُعدّ زامبيا شريكًا مرغوبًا فيه؛ حيث إنه خلال العامين الماضيين، أعلنت الحكومة عن ثماني مذكرات تفاهم ثنائية على الأقل. ومن خلال مبدأ “الحياد الإيجابي”، يلتزم الرئيس هيتشيليما بتنويع واسع النطاق. ولكن، يبقى أن نرى ما إذا كانت هذه الشراكات ستُؤتِي ثمارها بالنسبة لزامبيا، وإلى أيّ مدًى ستكون مثمرة.
ويبرز حاليًّا اتجاهان:
أولًا: لا يمكن لكل من الاتحاد الأوروبي ولا زامبيا حاليًّا اعتبار الولايات المتحدة الأمريكية شريكًا موثوقًا به. ويمثل ذلك انتكاسة إستراتيجية لبروكسل، التي اعتمدت سابقًا على التعاون عبر الأطلسي، على سبيل المثال: في إطار شراكة أمن المعادن (MSP)، التي أطلقتها الولايات المتحدة عام ٢٠٢٢م، تهدف هذه الشراكة إلى تنويع سلاسل توريد المواد الخام من خلال التعاون مع الحلفاء وتقليل الاعتماد على الصين. ومع ذلك، فإن النتائج حتى الآن مثيرة للقلق؛ ففي زامبيا، لم يحصل سوى مشروع واحد لاستكشاف النحاس على صفة شراكة أمن المعادن؛ ولم تتحقق أيّ استثمارات أخرى. وفي ظل سياسة “أمريكا أولًا”، أصبح انسحاب الولايات المتحدة من شراكة أمن المعادن الآن مُرجَّحًا بقدر احتمال انسحابها من التمويل المشترك للبنية التحتية مع الاتحاد الأوروبي في المنطقة.
ثانيًا: تتحرك الصين ودول الخليج بشكل أسرع، وتستجيب بشكل أكثر تحديدًا لرغبة زامبيا في الاستثمار في قطاع المواد الخام. ففي منتدى التعاون الصيني الإفريقي ((FOCAC 2024، وعدت بكين بضخّ مليارات الدولارات في استثمارات البنية التحتية الجديدة. في الوقت نفسه، لا تزال الصين أكبر مشترٍ للنحاس من زامبيا، وقد أعلنت الشركات الصينية عن استثمارات بقيمة خمس مليارات دولار أمريكي. في الوقت نفسه، تضع دول الخليج نفسها في موقع إستراتيجي؛ فقد ضمنت الإمارات العربية المتحدة مصدرًا مهمًّا للنحاس من خلال استحواذ شركة الموارد العالمية القابضة (IRH) على منجم موباني. كما تُكثّف المملكة العربية السعودية دبلوماسيتها في مجال المواد الخام؛ ففي يناير 2025م، وقَّعت البلاد مذكرة تفاهم مع زامبيا. وتُخطّط شركة منارة للمعادن، الذراع الاستثمارية السعودية في قطاع التعدين، للاستحواذ على حصص في مناجم ومشاريع استكشاف في زامبيا.
طموحات زامبيا: التعدين مُحرّك للنمو
من جهتها، ترحّب الحكومة الزامبية بالاهتمام الجيوسياسي المتزايد بمواردها الطبيعية. منذ توليه منصبه عام ٢٠٢١م، يسعى الرئيس هيتشيليما جاهدًا لتحقيق الاستقرار الاقتصادي. ورغم نجاح إعادة هيكلة الديون، لا يزال الوضع المالي متوترًا. ومن المتوقع أن يصبح قطاع التعدين مُحرِّكًا للنمو؛ إذ يُشكّل بالفعل العمود الفقري لاقتصاد البلاد؛ ففي عام ٢٠٢٢م، مثَّل ٧٢٪ من الصادرات و٤٤٪ من الإيرادات الحكومية.
ينصبّ التركيز على إنتاج النحاس القائم بالفعل. ووفقًا لخطة الحكومة وبتوجيه من وزارة المناجم وتنمية المعادن، من المقرر أن يزيد الإنتاج عن أقل بقليل من 820 ألف طن في عام 2024م إلى 3 ملايين طن بحلول عام 2031م، بينما يرى خبراء الصناعة أن 1.5 مليون طن أكثر واقعية. وفي الوقت نفسه، سيتم تنويع إنتاج المواد الخام الحيوية للاستفادة من الطلب العالمي، من أجل التحوُّل في مجال الطاقة وإنتاج البطاريات. وتهدف الإستراتيجية الوطنية الأولى للمواد الخام الحيوية (إستراتيجية المعادن الحيوية، CRM)، التي عُرِضَت في خريف عام 2024م، إلى تحسين الاستفادة من الإمكانات غير المستغلَّة سابقًا، مثل المنجنيز والنيكل والليثيوم. ولكن، سيتطلب التوسع استثمارات كبيرة في الاستكشاف وتطوير مناجم جديدة.
من أجل جذب المستثمرين، تُروِّج حكومة هيتشيليما لأمن الاستثمار والاستقرار السياسي. وقد سُلِّط الضوء على هذين الأمرين في مؤتمر “إنساكا: الاستثمار في التعدين في زامبيا”، الذي عُقِدَ لأول مرة في أكتوبر 2024م. بالإضافة إلى خطط الإصلاح في زامبيا، قدَّم المؤتمر أيضًا برنامج الاستكشاف الجديد، الذي تُنفِّذه شركة إكسكاليبور الإسبانية، ويُموَّل بمبلغ 98 مليون دولار أمريكي من ميزانية الدولة.
من أجل إحراز التوسُّع المُخطّط له في قطاع التعدين، يجب على الدولة أيضًا الاستثمار في بنيتها التحتية، وخاصة في قطاع الطاقة. يتولد أكثر من 80٪ من الكهرباء من الطاقة الكهرومائية، مما يجعل إمدادات الطاقة عُرْضة للنضوب. وقد أدَّى ذلك حاليًا إلى أزمة طاقة حادة تؤثر بشدة على التعدين ومُعالجة النحاس. ولكن، لا تزال معظم المعالجة الأولية للخام تُجرى داخل الدولة. ففي عام 2023م، بالإضافة إلى 820.000 طن من النحاس، أُنْتِجَ 637.000 طن من الأنودات (نحاس، أقل تلوثًا) و199.000 طن من الكاثودات (نحاس عالي النقاء). ويتم حاليًّا تأمين الإمدادات من خلال الواردات؛ ومن المتوقع أن يوفّر الفحم والطاقة الشمسية مزيدًا من الاستقرار في المستقبل. كما أصبح توسيع البنية التحتية للنقل محورًا إستراتيجيًّا. لقد حصلت زامبيا على دعم من الولايات المتحدة الأمريكية ومجموعة الدول السبع والصين لمشروعين رئيسيين للسكك الحديدية: تحديث خط تازارا إلى تنزانيا وربط زامبيا بممر لوبيتو إلى أنجولا وجمهورية الكونغو الديمقراطية.
خطط الإصلاح وسيطرة الدولة:
لا تستطيع زامبيا إدارة توسع قطاعها التعديني بمفردها، وتعتمد على رأس المال الخاص. في الوقت نفسه، تسعى الحكومة إلى تحقيق توازن: دون تثبيط القطاع الخاص، تسعى جاهدة لتعزيز سيطرة الدولة على قطاع التعدين للاستفادة من الطفرة المتوقعة، وتأمين إيرادات الدولة، وزيادة القيمة المضافة المحلية، فيما تحظى الإصلاحات المخطط لها بدعم في النقاش العام، وكذلك بين قطاعات واسعة من المجتمع المدني، لا سيما كرد فِعل على الآثار السلبية للخصخصة في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. ولكن يواجه قطاع الصناعة انتقادات حادة. وعلى عكس تصريحات الحكومة، ترى غرفة مناجم زامبيا، التي تُمثل شركات التعدين الخاصة، حالة من عدم اليقين التنظيمي وإعاقات محتملة للاستثمار في البلاد.
يدور النقاش حول عدة مبادرات تشريعية، منها مشروع قانون هيئة تنظيم المعادن، الذي أُقِرَّ في ديسمبر 2024م، والذي ينص على إنشاء هيئة جديدة لتنظيم ومراقبة قطاع التعدين. إلا أن الابتكار الأكثر إثارة للجدل هو “نموذج الأسهم الحرة” المُخطَّط له، والذي من شأنه أن يضمن للدولة حِصَصًا تصل إلى 30% في مشاريع التعدين الجديدة. وسيتم التفاوض على الاستثمارات على أساس كل مشروع على حدة، وستتولى إدارتها شركة استثمار المعادن في زامبيا (ZMIC)، وهي شركة مملوكة للدولة ومخصصة لأغراض خاصة، والتي أُنشئت حديثًا. إضافةً إلى ذلك، تعتزم الدولة زيادة نشاطها في تجارة المعادن. ولهذا الغرض، أنشأت شركة التنمية الصناعية الزامبية (IDC) مشروعًا مشتركًا مع شركة ميركوريا السويسرية.
من ناحية أخرى، يُحذِّر خبراء دوليون من أن تزايد الاهتمام الدولي والأمل في تحقيق الأرباح قد يُلقيان بظلالهما على تدابير مكافحة الفساد اللازمة والإدارة المالية الفعّالة. وتشهد زامبيا مؤشرات على ذلك؛ فلقد باتت استقلالية هيئة تنظيم المعادن الجديدة موضع شك، وتُعتبر مواردها المالية محدودة للغاية بحيث لا تُحسّن التنظيم. كما أن التدخل الحكومي المُخطط له يُشكِّل مخاطر؛ إذ إن شركة التعدين المملوكة للدولة ZCCM-IH مُتورطة بالفعل في مزاعم التدخل السياسي، كما أن شركة ZMIC أقل خضوعًا للتنظيم.
الاستدامة ليست في المقدمة:
يتناول تنظيم قطاع التعدين أيضًا قضايا رئيسية تتعلق بالاستدامة ووضع المعايير، فيما يعاني قطاع التعدين في زامبيا بالفعل من مشكلات خطيرة متأصلة، لا سيما في المجال البيئي. وفي الوقت الذي تُشير فيه المنظمات غير الحكومية تحديدًا إلى مخاطر التوسع الهائل في القطاع، تُركِّز الحكومة، في المقام الأول، على جذب مستثمرين جدد. أما الاستدامة، فتتراجع إلى مرتبة أدنى.
لا تكمن المشكلة في عدد من الثغرات التنظيمية فحسب، بل تكمن أساسًا في عدم كفاية إنفاذ اللوائح القائمة. فعلى الرغم من أن القانون في زامبيا يشترط إجراء تقييمات الأثر البيئي والاجتماعي؛ إلا أن نطاقها المحدود وغياب الرقابة عليها، سواءٌ خلال فترة تنفيذ المشروع أو في أثناء إغلاق المناجم ومعالجة مخلفات التعدين، قد وُجِّهت إليها انتقادات. ومؤخرًا، انهار سدٌّ شُيِّد من هذه المُخلّفات مجددًا، مما أدى إلى تلوث نهر رئيسي، مع عواقب وخيمة لا يمكن التنبؤ بها على المدى الطويل. وتُعتبر الإدارة المسؤولة في وزارة المناجم ووكالة إدارة البيئة في زامبيا (ZEMA) غير مُؤهَّلة وضعيفة للغاية لدرجة لا تُمكِّنها من اتخاذ إجراءات ضد الحكومة والشركات.
أما في المجال الاجتماعي، فيتمتع قطاع التعدين الصناعي في زامبيا ببيئة مستقرة رغم التحديات. كما يسمح الهيكل الديمقراطي للبلاد بتقديم الشكاوى والدعاوى القضائية، وإن كان تطبيقها محفوفًا بالعقبات عمليًّا. ويزداد الوضع حساسيةً عند فتح مناجم جديدة؛ فغالبًا ما يُنظَر إلى “ترخيص التشغيل الاجتماعي”، أي القبول العام لمشاريع التعدين، بشكل سطحي فقط في تقييمات الأثر البيئي والاجتماعي. وإذا لم توافق المجتمعات المتضررة، فإن الصراعات الاجتماعية وتأخير المشاريع أمرٌ لا مفر منه.
طموحات السياسة الصناعية: الشركات المحلية وسلاسل التوريد
يهدف توسيع قطاع التعدين إلى تعزيز الشركات المحلية وتعزيز سلاسل التوريد. وتتجسد هذه الأهداف أيضًا في الخطة الوطنية الثامنة للتنمية (8NDP) وإستراتيجية إدارة الموارد البشرية. إلا أن الحكومة تُعطي الأولوية حاليًّا لجذب الاستثمارات في قطاع التعدين بدلًا من تنفيذ مشاريع سياسات صناعية طموحة. ويعاني هذا القطاع من نقص في التنسيق بين الإدارات والقدرات الإدارية اللازمة.
ولكن، تُقدِّم جمعيات الصناعة المحلية زخمًا ملموسًا في هذا السياق. وقد نجحت بالفعل في الدعوة إلى لوائح أكثر صرامة (متطلبات المحتوى المحلي) لزيادة مشاركة الشركات ومقدمي الخدمات المحليين. كما تدعو إلى ما يسمى باتفاقيات تقاسُم الإنتاج (PSAs)، التي تنص على أن شركات التعدين تتيح 30% من إنتاجها من المواد الخام للمعالجة المحلية. ويستهدف ذلك تحديدًا صناعة النحاس؛ ففي عام 2023م، تمت معالجة 16% من الكاثودات المُنتَجة محليًّا، وخاصةً في الأسلاك والكابلات. وتهدف اتفاقيات تقاسم الإنتاج إلى ضمان وصول مُستقِرّ وأقل تكلفة إلى الكاثودات للمنتجين الزامبيين، مما يُعزِّز قدرتهم التنافسية مع آسيا. وعلى المدى الطويل، من المتوقع أن يكون ذلك النموذج مربحًا أيضًا بالنسبة للمواد الخام الأخرى.
بالإضافة إلى النحاس، لا تزال المعالجة المباشرة غير مجدية اقتصاديًّا؛ إذ تُستخرَج حاليًّا كميات غير كافية من العديد من المواد الخام الحيوية الأخرى. وهذا بدَوْره يُعزّز فرص التعاون الإقليمي في منطقة جنوب إفريقيا الغنية بالموارد، لا سيما على طول سلاسل القيمة للمواد الخام للبطاريات. وتشهد مبادرة زامبيا وجمهورية الكونغو الديمقراطية لإنتاج منتجات وسيطة وبطاريات للسيارات الكهربائية (فيما يُسمى بتجمع البطاريات) على الزخم السياسي المتزايد في هذا المجال. وقد وقَّع البلدان مذكرة تفاهم مماثلة في عام 2022م، وتعهدت الولايات المتحدة الأمريكية بتقديم الدعم. ولكن، على الرغم من اجتماعات العمل الدورية، لا تزال المصالح الوطنية، ونقص الخبرة، وعدم كفاية القدرات المؤسسية (بما في ذلك في وزارة الصناعة الزامبية) تُبطئ عجلة التقدُّم. كما أن تصاعد الصراع في جمهورية الكونغو الديمقراطية يزيد من صعوبة تنفيذ المشاريع الإقليمية. وفي الوقت نفسه، يُواجه كلا الموقعين تحديات جوهرية في المنافسة الصناعية العالمية. وفي مسعى لتعزيز قدرتها على خلق القيمة، تتنافس بلدان جنوب إفريقيا مع الصين والدول الصناعية الغربية والاتحاد الأوروبي، التي تعمل بشكل متزايد على حماية أسواقها.
التعاون بين الاتحاد الأوروبي وزامبيا: شراكة غير مكتملة
تمتلك زامبيا بالضبط ما تسعى إليه أوروبا إستراتيجيًّا: النحاس، ومواد خام إستراتيجية أخرى، ونظامًا دستوريًّا ديمقراطيًّا، واستقرارًا سياسيًّا. وقد أرست مذكرة التفاهم أساسًا هامًّا. والآن، حان الوقت لتسريع وتيرة العمل. ففي بيئة شديدة التنافس، يُخاطر الاتحاد الأوروبي بالتخلُّف عن الركب إذا فشل في تطوير الشراكة بشكل منهجي.
وهناك عاملان يُعقِّدان هذا المسعى:
أولًا: يفتقر الاتحاد الأوروبي إلى التماسك الإستراتيجي في إطار نهج “فريق أوروبا”. ففي حين تشارك دول أعضاء أصغر حجمًا، مثل فنلندا والسويد، بنشاط، فإن دولًا أقوى اقتصاديًّا، مثل فرنسا وألمانيا، تُحْجِم عن المشاركة. كما أن التنسيق بين بروكسل والدول الأعضاء ووفود الاتحاد الأوروبي على أرض الواقع يستغرق وقتًا طويلًا، وغالبًا ما يفتقر إلى التأثير العملي. هذا التشرذم المؤسسي يجعل الاتحاد الأوروبي بعيد المنال بالنسبة لزامبيا، ويعرقل التآزر داخل أوروبا الذي من شأنه أن يُعزِّز فرص التعاون.
ثانيًا: قد يُضْعِف نقص المشاريع الصناعية الاتحاد الأوروبي بوتيرة متزايدة في المنافسة على الشراكات. تُركز الصين ودول الخليج تحديدًا على طلبات الاستثمار، مما يجعلها شريكًا جذابًا. ولكن، يُركِّز الاتحاد الأوروبي حاليًّا بشكل أكبر على تعزيز صناعاته الخاصة، مُغفلًا إشراك دول غنية بالموارد مثل زامبيا في هذا المسعى. إذا لم يُلحق الاتحاد الأوروبي بالركب في هذا المجال، فإنه يُخاطر بفقدان مصداقيته وتقليل مردود الشراكة.
البنية التحتية والتعاون الصناعي: التنفيذ مسألة بالغة الأهمية
كان التعاون الصناعي أحد أهم وعود الاتحاد الأوروبي المُقدَمة إلى زامبيا. ولكن، يكشف ذلك في الوقت نفسه قصورًا كبيرًا في التنفيذ. الأمر الذي ينطبق، من ناحية، على تطوير البنية التحتية، مما سوف يسهل تطوير المواد الخام، ويُشكّل الأساس لمزيد من المشاريع الصناعية.
ومن خلال برنامج البوابة العالمية، يمتلك الاتحاد الأوروبي أداته الخاصة لتعزيز مثل هذه المشاريع في الدول الشريكة. لكنّ التقدم في زامبيا يسير بـ”خُطى وئيدة” نوعًا ما، مما يتسبَّب في تراجع دور الاتحاد الأوروبي مقارنةً بالصين أو دول الخليج. وهناك اهتمام خاص بربط زامبيا المُخطّط له بممر لوبيتو، وهو مشروع بدأته الولايات المتحدة الأمريكية ويدعمه الاتحاد الأوروبي علنًا. ولكن، بدون دعم مالي من الولايات المتحدة الأمريكية، يكاد يكون من المستحيل تحقيقه. كما لم يدعم الاتحاد الأوروبي بعد توسيع البنية التحتية للطاقة في قطاع الصناعات الاستخراجية.
هناك أيضًا عدد قليل من مبادرات التعاون الملموسة في قطاع المواد الخام والصناعات الاستخراجية. وتأمل زامبيا في الحصول على استثمارات والمشاركة في عمليات الاستكشاف والإنتاج والمعالجة. ولكن عروض الاتحاد الأوروبي محدودة، والشركات الأوروبية تُبْدِي ترددًا. وكان من الممكن أن يصبح وضع “المشروع الإستراتيجي” المُبْرَم لبعض المشاريع بموجب اتفاقية “المواد الخام الحرجة: CRMA” بمثابة حافز لجذب اهتمام أكبر من جانب الشركات الأوروبية في الدول الشريكة مثل زامبيا. ومع ذلك، لم يكن لهذه الآلية تأثير يُذْكَر حتى الآن. وقد اكتملت الجولة الأولى من المناقصات. ولم يُقدّم سوى مشروع زامبي واحد، ويبقى أن نرى ما إذا كان سيتم النظر فيه. وكان الاهتمام المحلي بالمناقصة ضعيفًا. ويعود ذلك جزئيًّا إلى نقص المعلومات والحوافز وخيارات الدعم.
هذه ليست حالة عارضة، بل تشير إلى نمطٍ هيكلي يدلّ على عزوف أوروبا عن الاستثمار في دول الجنوب العالمي الغنية بالموارد. غالبًا ما تُعتَبر الاستثمارات في الدول الأضعف اقتصاديًّا محفوفة بالمخاطر بشكل خاص، بغض النظر عن الوضع الفعلي أحيانًا. وتُعزّز تكاليف البنية التحتية المرتفعة والغموض التنظيمي -كما في حالة زامبيا-، هذا العزوف. ولا تزال الإمكانات الاقتصادية التي تتجاوز الاستخراج الأولي، مثل إعادة التدوير أو استخراج المواد الخام من مخلفات التعدين، غير مستغلة. ويزيد ضعف حضور الصناعة الأوروبية هناك من تعقيد الوضع.
يمكن تحقيق تكامل أفضل لسلسلة التوريد ليس فقط من خلال الاستثمارات، بل أيضًا من خلال اتفاقيات الشراء؛ إذ يمكن لشركات الاتحاد الأوروبي الحصول على المواد الخام الإستراتيجية مباشرةً من تدشين المشاريع الزامبية، متجنبةً بذلك اللجوء إلى مراكز تجارية غير شفافة أو شركات تصنيع آسيوية. وتكتسب مؤسسات الدولة في زامبيا مكانةً بارزةً كشركاء تعاون؛ حيث ستلعب الدولة دورًا أكثر فاعلية في هذا القطاع من خلال استثمارات جديدة في مشاريع التعدين والمشروع المشترك الجديد في تجارة المعادن.
على المدى المتوسط والطويل، ستزداد أهمية المعالجة الإقليمية، خاصةً مع تقدم التوسُّع في تجميع البطاريات في جنوب إفريقيا. وقد يُمكِّن ذلك أوروبا من الحصول على المزيد من المنتجات المُعالَجة من المنطقة. ولكن تُروِّج العديد من دول الاتحاد الأوروبي لصناعاتها الخاصة، في الأساس، بينما يُعاني تمويل الشركات الناشئة للمشاريع في دول الجنوب العالمي من تراجع. وهو ما يُعدّ أحد الأسباب الرئيسية لنقص الاستثمار الخاص. كذلك تُعدّ المبادرات الممولة من الاتحاد الأوروبي، مثل (AfricaMaVal) أو الدراسات الفردية، على سبيل المثال، حول إمكانات صناعة النحاس، مُهمةً وتُسْهِم في تعزيز الرؤية، ولكنها لا تُتيح الوصول إلى الأسواق.
الاستدامة وبناء القدرات: الاستفادة من نقاط القوة وتعظيم التأثير
يُميِّز التعاون التقني، أي بناء القدرات وتعزيز المعايير الاجتماعية والبيئية، الاتحاد الأوروبي بوضوح عن الجهات الفاعلة ذات التوجه الاستثماري الأكبر، مثل الصين ودول الخليج. هذا النوع من التعاون يُرسِّخ مكانة الاتحاد الأوروبي كشريك مُهِمّ ومستدام. كما يُمكن للمؤسسات المحلية الفعَّالة تسهيل الاستثمار من أوروبا.
حتى الآن، ركّز الاتحاد الأوروبي بقوة على دعم المسح الجيولوجي في زامبيا. وينشط العديد من الشركاء الدوليين الآخرين في هذا المجال. ولكن، من أجل جذب الاستثمارات وتحقيق طفرات هيكلية في قطاع التعدين، يجب تعزيز المعايير البيئية والاجتماعية بشكل أكثر تحديدًا. وحتى لو لم تكن هذه الجوانب من أهم أولويات الحكومة الزامبية، إلا أنها منفتحة على التغيير -لا سيما في سياق الكارثة البيئية الأخيرة المذكورة أعلاه-، والتي من المرجَّح أن تجعل القضية أكثر أهمية. ويمكن البناء على الأنشطة الحالية في المجال البيئي.
من جانب زامبيا، تهدف لجنة تنظيم المعادن الجديدة إلى تعزيز دور المعايير البيئية والاجتماعية. بالإضافة إلى ذلك، تُخطّط شركة المواد الخام المملوكة للدولة ZCCM-IH لوضع إستراتيجية قائمة على معايير الحوكمة البيئية والاجتماعية وحوكمة الشركات (ESG). يمكن أن يُوفّر ذلك زخمًا مهمًّا للقطاع بأكمله.
ولا يزال تعزيز الصناعة المحلية وسلاسل التوريد النهائية مجالات غير ملموسة للتعاون بين زامبيا والاتحاد الأوروبي. وليس من الواضح ما إذا كان الاتحاد الأوروبي يسعى بالفعل إلى تعميق التكامل في سلاسل القيمة الإقليمية، على سبيل المثال، من خلال دعم مجموعات البطاريات. لو كان ذلك هدفًا إستراتيجيًّا، لكان من الضروري إشراك جهات فاعلة وطنية وإقليمية إضافية، وخاصةً وزارة التجارة والصناعة الزامبية، التي تشمل مهمتها تطوير المواقع وتطوير صناعات لاحقة تنافسية.
دوافع تعميق شراكة المواد الخام:
تُعدّ زامبيا حاليًّا محورًا لدبلوماسية المواد الخام الدولية. وتُواجه قضايا مثل الحوكمة الرشيدة والاستدامة الاجتماعية والبيئية خطر التهميش لصالح تحقيق المكاسب الاقتصادية. لكنّ، الأضرار البيئية الجسيمة ومطالب الجهات الفاعلة المحلية تضمن بقاء خلق القيمة المستدامة -وهو أمرٌ مُلِحّ-، تُشكِل أولويةً في النقاش. ويُعتبر الاتحاد الأوروبي شريكًا موثوقًا به في هذا المجال. ومن خلال مذكرة التفاهم وتأسيس التعاون الفني، أرسَى الاتحاد الأوروبي أساسًا متينًا للشراكة. ومع إحراز تقدُّم ملموس في التعاون الصناعي، يُمكن للاتحاد الأوروبي تعزيز مكانته في زامبيا وزيادة تنويع إمداداته من المواد الخام.
يُعدّ تكثيف التنسيق الأوروبي أمرًا ضروريًّا لتحقيق ذلك. كما يُعدّ منصب المنسِّق الجديد في وفد الاتحاد الأوروبي خطوةً أولى، ولكنّها ليست كافية. يجب تطبيق نَهْج “فريق أوروبا” عمليًّا، فينبغي للدول الصناعية الأوروبية الرئيسية، بما فيها ألمانيا، أن تُشارك بفعالية أكبر على المستوى المحلي، وأن تتبنى إستراتيجيةً متماسكةً بالتعاون مع مفوضية الاتحاد الأوروبي. علاوةً على ذلك، ينبغي على الاتحاد الأوروبي أن يُشير بثقة إلى أن التعاون الصناعي مرغوبٌ فيه، وأنه عنصرٌ أساسيٌّ في إستراتيجية الاتحاد الأوروبي للمواد الخام. يُعطي الاتحاد الأوروبي حاليًّا الأولوية لتوسيع وحماية صناعته، بينما تتراجع أهمية الشراكات الدولية على نحوٍ متزايدٍ.
من مظاهر التزام الاتحاد الأوروبي الجادّ: تعزيز التعاون الصناعي بشكل مُستهدَف. ومن شأن المبادرة في مجال السياسة الصناعية، أن تُوفِّر حوافز للشركات الأوروبية، وأن يكون لها تأثير إيجابي في زامبيا. وينبغي على الاتحاد الأوروبي بذل جهود أكثر جدية لتشجيع الشركات الأوروبية على التعاون في عمليات المعالجة وسلاسل التوريد اللاحقة، كما في موادّ البطاريات أو إعادة التدوير.
لتحقيق ذلك، لا بد من تهيئة الأوضاع الإطارية المناسبة، حوافز وهياكل دعم مُستهدَفة، بالإضافة إلى تمويل موثوق. ويجب أن تُصمَّم إستراتيجية المواد الخام لبنك الاستثمار الأوروبي (EIB) وأدوات تمويل بنك التنمية الألماني (KfW) بدقة أكبر، لتناسب قطاع المواد الخام، وكذلك الدول النامية مثل زامبيا.
وتُعدّ الهياكل المؤسسية المحلية بالغة الأهمية، ومن شأن تعزيز حضور غرفة التجارة الألمانية، وإنشاء جهات اتصال مُخصَّصة لاتحاد المواد الخام EIT RawMaterials لزامبيا، أن يُسهِّل الوصول إلى الأسواق.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) مايكه شولتسه: باحثة في قسم أبحاث إفريقيا والشرق الأوسط بالمعهد الألماني للشؤون الدولية والأمنية (SWP). تعمل في مشروع “التعاون الدولي في مجال المواد الخام لتوفير إمدادات مستدامة ومرنة من قطاع المواد الخام”، بتمويل من الجمعية الألمانية للتعاون الدولي (GIZ). تستند هذه الدراسة إلى أكثر من 30 مقابلة ونقاشًا في زامبيا وعبر الإنترنت خلال الفترة (من أكتوبر 2024 إلى فبراير 2025م).
رابط الدراسة: