يُعد النزاع على الحدود البحرية بين الصومال وكينيا نموذجًا للنزاعات الإفريقية التي قبل فيها الطرفان الاختصاص الإلزامي لمحكمة العدل الدولية. يتركز النزاع على منطقة بحرية مساحتها 160 ألف كيلومتر مربع في المحيط الهندي مع احتمالات وجود احتياطيات ضخمة من النفط والغاز.
وينبع الخلاف من تفسيرات متضاربة لكيفية امتداد الحدود إلى المحيط الهندي؛ حيث يدّعي الصومال أن حدوده الجنوبية يجب أن تمتد إلى الجنوب الشرقي كامتداد للحدود البرية. بينما ترى كينيا أن الحدود الصومالية يجب أن تأخذ منعطفًا بزاوية 45 درجة تقريبًا عند الخط الساحلي، وأن تسير في خط عرضي.
في خضم الخلافات الدبلوماسية بين الدولتين الجارتين؛ استمرت إجراءات المحكمة لما يقرب من سبع سنوات. وفي مارس 2020م، أعلنت كينيا أنها لن تشارك في إجراءات المحكمة. واحتجت نيروبي على التحيُّز الملحوظ في رفض المحكمة تلبية طلبها بتأجيل الجلسات؛ حيث زعمت كينيا أن جائحة كوفيد-19 قد أثَّرت على فُرص فريقها القانوني لدراسة والاستعداد للحالة بسبب البروتوكولات الصحية؛ إلَّا أنَّ المحكمة رفضت الطلب الكيني.
وعلى الرغم من أن المحكمة لديها تفويض للنظر في القضية والبتّ فيها؛ فإن تنفيذ أحكامها سيواجه تحديات مختلفة. يمكن أن تستشهد كينيا بعدم الالتزام بالقواعد؛ لأنها لم تكن جزءًا من الإجراءات، ولم تكن ممثَّلَة في القضية. بالإضافة إلى ذلك، لا يوجد لدى المحكمة الدولية وكالة إنفاذ أحكام، وتعتمد على حُسن نية أطراف النزاع للامتثال للأحكام أو على مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة لتنفيذ حكمها من خلال الدبلوماسية القسرية.
الإطار القانوني للحدود الكينية الصومالية:
في 15 يوليو 1924م، أبرمت إيطاليا والمملكة المتحدة معاهدة تنظّم بعض المسائل المتعلقة بحدود أراضي كل منهما في شرق إفريقيا، بما في ذلك ما تصفه الصومال مستعمرة جوبالاند الإيطالية، الواقعة في الأراضي الصومالية الحالية، وكذلك مستعمرة كينيا البريطانية.
وقد أُعيد تعيين الحدود بين الأراضي الاستعمارية الإيطالية والبريطانية في الجزء الجنوبي منها بموجب تبادل مذكرات بتاريخ 16 و 26 يونيو 1925م. وخلال الفترة بين عامي 1925 و1927م، قامت لجنة بريطانية إيطالية مشتركة بمسح الحدود وترسيمها.
وبعد أن أنهت اللجنة عملها، تم تضمين قراراتها في اتفاقية موقعة في 17 ديسمبر 1927م، والتي تم تأكيدها رسميًّا لاحقًا من خلال تبادل المذكرات في 22 نوفمبر 1933م بين الحكومتين البريطانية والإيطالية. حصلت كلّ من الصومال وكينيا على استقلالهما في عامي 1960 و1963م على التوالي.
وقد وقَّع الطرفان على اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار في 10 ديسمبر 1982م. وتم التصديق عليها لاحقًا في 2 مارس 1989م و24 يوليو 1989م، على التوالي، ودخلت الاتفاقية حيز التنفيذ في 16 نوفمبر 1994م.
قدّمت كل من الصومال وكينيا مذكرات إلى لجنة حدود الجرف القاري من أجل الحصول على توصياتها بشأن إنشاء حدود الجرف القاري لكل منهما فيما وراء 200 ميل بحري، وفقًا للمادة 76، الفقرة 8، من اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار. وبينما اعترض البلدان في السابق على نظر اللجنة في الطلبات المقدَّمة من كل منهما، فقد تم سحب هذه الاعتراضات فيما بعد.
ومن الملاحظ أن كلاً من الصومال وكينيا اتبعتا مناهج مختلفة اختلافًا جوهريًّا في ترسيم حدود المناطق البحرية. يجادل الصومال بعدم وجود حدود بحرية بين الدولتين، ويطلب من المحكمة رسم خط حدودي باستخدام طريقة تساوي البُعْد/الظروف ذات الصلة (لتعيين حدود البحر الإقليمي)، وطريقة تساوي البُعْد/الظروف ذات الصلة (بالنسبة للمناطق البحرية الواقعة خارج حدود البحر الإقليمي).
ومن وجهة نظر الصومال؛ فإن خطًّا متساوي البُعد غير معدَّل في جميع المناطق البحرية يحقق النتيجة المنصفة التي يتطلبها القانون الدولي.
كينيا، من جانبها، تؤكد أن هناك بالفعل حدًّا بحريًّا متفقًا عليه بين الطرفين؛ لأن الصومال قبلت بحدود تتبع الخط الموازي لخط العرض عند 1 ° 39 ‘43.2 جنوبًا. وتدفع كينيا كذلك بأن الطرفين قد اعتبرا أن هذا تحديد عادل، في ضوء كل من السياق الجغرافي والممارسة الإقليمية. وتدفع كينيا كذلك بأنه، حتى لو خلصت المحكمة إلى عدم وجود حدود بحرية، ينبغي لها تعيين حدود المناطق البحرية التي تتبع الخط الموازي لخط العرض، وأنه حتى لو استخدمت المحكمة منهجية ترسيم الحدود التي اقترحتها الصومال، فإن النتيجة، بعد التعديل ستكون تحديدًا يتبع الخط الموازي لخط العرض.
اللجوء للتحكيم الدولي:
في 28 أغسطس 2014م، رفعت الصومال دعوى ضد كينيا أمام محكمة العدل الدولية بشأن نزاع يتعلق بإنشاء الحدود البحرية الوحيدة بين الصومال وكينيا في المحيط الهندي لتعيين حدود البحر الإقليمي والمنطقة الاقتصادية الخالصة والجرف القاري، بما في ذلك الجرف القاري وراء حد 200 ميل بحري.
وسعت الصومال في طلبها إلى إثبات اختصاص المحكمة بشأن الإعلانات الصادرة، عملاً بالفقرة 2 من المادة 36 من النظام الأساسي للمحكمة، من جانب الصومال في 11 أبريل 1963م وكينيا في 19 أبريل 1965م.
وفي 7 أكتوبر 2015م، قدمت كينيا الدفوع الابتدائية بشأن اختصاص المحكمة ومقبولية الطلب. بيد أن المحكمة بموجب حكمها الصادر في 2 فبراير 2017م رفضت الاعتراضات الأولية التي قدمتها كينيا، ووجدت أن لها اختصاصًا أصيلاً للنظر في الطلب المقدَّم من الصومال، وأن الطلب مقبولٌ.
بعد تقديم المذكرات الخطية للطرفين، عُقدت جلسات استماع عامة بشأن الأسس الموضوعية في الفترة من 15 إلى 18 مارس 2021م. غير أن كينيا لم تشارك في تلك الجلسات.
في 12 أكتوبر 2021م رفضت محكمة العدل الدولية بالإجماع فكرة وجود حدود بالفعل، مشيرة إلى أن الصومال لم تقبل قط بشكل واضح وثابت “موازاة خط العرض” في كينيا. وبالتالي، فإن قرار المحكمة أكثر ملاءمة للصومال؛ لأن الحدود كانت في الواقع لا تزال محل نزاع. على أنه من غير المرجَّح أن يُرضي قرار المحكمة أيًّا من الطرفين.
ولتهدئة كلا الطرفين، رسمت المحكمة حدودًا جديدة أبقت معظم المنطقة المتنازع عليها تحت الولاية القضائية الكينية، لكنها مع ذلك منحت جزءًا كبيرًا للصومال. ويبدو أن كينيا خسرت نحو 44% من مساحة المنطقة التي كانت تتوقع السيطرة عليها.
الحلول التفاوضية:
تضغط كينيا اليوم من أجل “حل دبلوماسي تفاوضيّ” كما فعلت منذ سنوات. ويبقى أن نرى ما إذا كان المسار الدبلوماسي ممكنًا وسط تأرجح دائم للعلاقات الدبلوماسية وهشاشة مركز السلطة في مقديشيو. سيكون الحل الأكثر قابلية للتطبيق للنزاع هو الحل الدبلوماسي؛ حيث يمكن لكلا البلدين تقديم تنازلات متبادلة بما في ذلك إمكانية مشاركة الموارد في المنطقة المتنازع عليها. تكمن قوة الدبلوماسية في أنه يمكن استخدام العديد من الأوراق بما في ذلك أمن النظام الحاكم، ودخول الصومال في مجموعة شرق إفريقيا، فضلاً عن الوصول إلى الأسواق أو المؤسسات الأكاديمية أو إنشاء أنظمة طويلة الأمد بين البلدين.
وفي هذا السياق يمكن الإشارة إلى اقترابين رئيسيين:
أولاً: الاقتصاد البحري مقابل الأمن
قد يكون من الأفضل تقاسم الموارد، والعمل معًا في استغلال النفط والغاز. ومع ذلك، فإن هذه الاستكشافات النفطية لا ينبغي أن تأتي على حساب الأمن. لقد كانت أعمال القرصنة قبالة السواحل الصومالية عقبة كبرى. بيد أن تحسن الأوضاع بسبب الوجود الدولي المكثف في خليج عدن يساعد على استغلال الموارد المتاحة في المياه الإقليمية للدولتين. ومع ذلك فإن احتدام الخلافات الحدودية يمكن أن يغير ذلك. من المهم تسوية هذه النزاعات الحدودية؛ لأنها تخلق حالة من عدم اليقين.
ثانيًا: تقاسم الموارد
يمكن تعزيز الأمن البحري من خلال تعاون أفضل بين الدول الإفريقية. لدى محكمة العدل الدولية قضايا مماثلة من قبل ونجحت في تعيين الحدود البحرية. هناك حالات مثل تلك التي وقعت بين نيجيريا وساو تومي وبرينسيب أدَّت إلى إنشاء منطقة تنمية مشتركة ناجحة تمكن البلدين من تقاسم مواردهما.
وفقًا للمادتين 74 و 83 من اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار لعام 1982م ينبغي للدول إيجاد حل لنزاعاتها على الحدود البحرية. وعليه فإن نجاح نموذج نيجيريا وساو تومي وبرينسيب من خلال اتفاقية التنمية المشتركة يوضح أن حلّ النزاعات البحرية الودية لملكية الموارد والسيطرة عليها يمكن تحقيقه من خلال المفاوضات والاتفاقات. كما أن هناك دورَ الطرف الثالث الذي يتمتع بالمصداقية مثل محكمة العدل الدولية ومؤسسات التحكيم الدولية. وريثما يتم ترسيم الحدود بشكل دائم وحلها، فإن المنظور التعاوني لتنمية الموارد واستثمارها يعد الأنسب لتحقيق الاستقرار الإقليمي.
بعض الأمثلة من مناطق إفريقية أخرى تشمل النزاعات بين كوت ديفوار وغانا، ونيجيريا والكاميرون. في كلتا الحالتين، وافق الطرفان على الحكم، وتواصلوا فيما بعد مع بعضهم البعض لتحقيق مصالحهم المشتركة. يمكن أيضًا حلّ معظم النزاعات البحرية في نهاية المطاف من خلال المساعي الحميدة والتحكيم والوساطة.
آفاق المستقبل:
يعني انسحاب كينيا من القضية أنها لم تعد تعترف بالقضية، ولم تعد تتأثر بالإجراءات أو القرار النهائي للمحكمة. في نهاية المطاف، فإن قرار محكمة العدل الدولية الأخير لن يكون قابلاً للتنفيذ إلا إذا وافق طرفا النزاع على الامتثال. وهذا يمكن أن يعيد النزاع إلى المربع الأول؛ فلقد رفضت كينيا الامتثال بالفعل.
في هذه الحالة، سيكون لمجلس الأمن التابع للأمم المتحدة فقط القدرة على تنفيذ حكم المحكمة من خلال الدبلوماسية القسرية. على إن فرص تدخل مجلس الأمن في هذه المسألة ضئيل للغاية بالنظر إلى انسحاب كينيا من القضية. ومع ذلك بالنسبة لكل من كينيا والصومال، يعد الامتثال للحكم أكثر أهمية من محاولة ممارسة السيطرة على بعضهما البعض. قد يضغط المجتمع الدولي على كينيا، ربما من خلف الأبواب المغلقة، لقبول الحكم وتجنُّب تقويض المؤسسات والمبادئ الرئيسية التي ترسخ مبادئ قانون البحار.
ونظرًا لسياستها الخارجية المتمثلة في تعزيز إدارة المحيطات العالمية، سيكون من المكلف بالنسبة لكينيا أن تعارض القرار دبلوماسيًّا. لقد استضافت قمة الاقتصاد الأزرق العالمية الناجحة في عام 2018م، والرئيس أوهورو كينياتا هو عضو فاعل في اللجنة رفيعة المستوى من أجل محيط مستدام. وتشارك كينيا في استضافة مؤتمر الأمم المتحدة للمحيطات لعام 2022م مع البرتغال. لقد اكتسبت الدولة أوراق اعتماد كبيرة كقائد عالمي لإدارة المحيطات، وهي حالة قد لا ترغب في تعريضها للخطر. وخلال توليها الرئاسة الدورية لمجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، أسهمت في نقاش مفتوح رفيع المستوى حول التنوع وبناء الدولة والسلام.
الخلاصة:
قد يستغرق إصلاح العلاقات الدبلوماسية بين كينيا والصومال بعض الوقت؛ حيث بدأت تمر بحالة من التقارب بعد سنوات من الخلافات. من المؤسف أنه على الرغم من العلاقات الثقافية والاقتصادية القوية -التي تربطهما بشكل وثيق أكثر من أي دولة أخرى في المنطقة- انتهى بهما المطاف إلى نزاع بحري مرير وعدم اتفاق على قرار محكمة العدل الدولية.
ومن المتعارف عليه أن محكمة العدل الدولية تعد آخر آلية تلجأ إليها الدول بعد استنفاد الطرق السياسية والدبلوماسية الأخرى. حاول كلا البلدين التوصل إلى اتفاق خلال العقود القليلة الماضية، لكن طلب الصومال في عام 2014م بأن تتخذ محكمة العدل الدولية قرارًا يشير إلى أنها فقدت الثقة في المفاوضات الثنائية.
لدى الاتحاد الإفريقي استراتيجية جديدة لتسوية النزاعات الحدودية، وكان عليه أن يساعد في التقريب بين مواقف الطرفين قبل أن تتفاقم الأزمة إلى هذا الحد.
الدرس المفيد هو أن تحاول الدول الإفريقية أولاً الاتفاق فيما بينها، أو الحصول على المساعدة من الهياكل والمنظمات الإقليمية مثل الاتحاد الإفريقي قبل التوجه للتحكيم الدولي.
والملاحظة المهمة الأخرى هنا هي أن معظم قضايا الحدود في إفريقيا تتركز على الأراضي (وليس الحدود البحرية) المتنازع عليها، مما يعني أن الموارد والتمويل والتدريب قد تم توجيهها نحو تسوية مثل هذه النزاعات الحدودية.
يجب أن ينبّه النزاع الكيني-الصومالي الدول الإفريقية والاتحاد الإفريقي إلى الحاجة إلى الاهتمام بالنزاعات البحرية، وتحديد سُبل حلّها من أجل عدم زعزعة استقرار البلدان والمناطق.
إن مفهوم الحدود البحرية جديد إلى حد ما بالنسبة للدول الإفريقية. نحن نتحدث عن منطقة كانت صماء في البحر. بدأت الكثير من البلدان الآن فقط في إدراك مدى أهمية المجال البحري الآمن ليس فقط من حيث النقل والتجارة بالنسبة لها، ولكن أيضًا من حيث الموارد المعدنية المحتملة الكامنة تحت مياه البحر.
إن ما أثار حفيظة الصومال هو قيام كينيا بمنح الترخيص لشركة التعدين الإيطالية “ايني سبا” للتنقيب في المناطق البحرية المتنازَع عليها. لم تمتلك الدول الإفريقية وجودًا فعَّالاً في البحر، ولم يكن لديها سفن تتحكم في مياهها، لذا فإن وُلُوج الدول إلى مياهها الاقليمية، والتي يمكن تقسيمها إلى كتل للنفط والغاز، يُعد أمرًا مربحًا للغاية، لكنه يخلق شعورًا بالظلم إذا شعرت أن تلك الحدود لم تُرسَم بشكل صحيح.