شهدت العلاقات التركية المصرية في السنوات الأخيرة حالةً من التوتر الشديد، دفع بها لأن تكون في أدنى مستوياتها التاريخية. ربما يُعْزَى ذلك إلى عوامل أيديولوجية وخطاب الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الإسلامي، ودعمه لجماعة الإخوان المسلمين.
بَيْدَ أنَّ اللافت للأمر هو أنه في الوقت الذي يحاول فيه أردوغان توسيع خطابه الإسلامي في الداخل؛ فإنه يسعى اليوم أيضًا -وبشكل برجماتي مصلحي- إلى التقارب مع مصر ودول الخليج على صعيد العلاقات الخارجية.
وعلى الرغم من أن مدى تأثير مناخ الانفراج بين البلدين على ديناميات التفاعل الإقليمي في منطقة القرن الإفريقي تبدو غير واضحة وغير مؤكدة؛ إلا أن الهدوء النسبيّ يوفّر فرصة لإدارة الرئيس بايدن من أجل استعادة زمام القيادة، ومنع هذا النوع من التنافس العنيف الذي ثبت أنه كارثي في بلدان مثل سوريا وليبيا.
الأهمية الاستراتيجية للقرن الإفريقي:
لقد أدت التطورات الاقتصادية والأمنية في القرن الإفريقي على مدى العقد الماضي إلى تحويل المنطقة -وخاصة الأقاليم الساحلية منها- إلى واحدة من أهم المواقع الجيوستراتيجية في العالم. كما أن المنطقة، من ناحية أخرى، تمتلك أهمية اقتصادية كبرى. فمن المعلوم أن القرن الإفريقي يطل على أحد أهم الشرايين التجارية في العالم، من المحيط الهندي إلى أوروبا عبر البحر الأحمر وقناة السويس، مرورًا بمضيق باب المندب بين جيبوتي واليمن. كما شهدت المنطقة نفسها نموًّا اقتصاديًّا كبيرًا، وذلك قبل اندلاع حرب التيغراي وجائحة كوفيد-19.
من ناحية أخرى تُشكل المنطقة مركبًا أمنيًّا بالغ التعقيد والتشابك؛ حيث إنها بؤرة صراع، مع تنامي نشاط القرصنة قبالة الساحل، وحركة الشباب المجاهدين في الصومال، والحرب الأهلية في اليمن وجنوب السودان، ومجموعة من النزاعات الحدودية التي تندلع شرارتها بين الحين والآخر في المنطقة. وأخيرًا حرب التيغراي التي تهدِّد وحدة إثيوبيا وتُنْذِر بخطر جسيم للمنطقة ككل.
وقد نظرت القوى الأجنبية الفاعلة القديمة والصاعدة، سواء بسواء إلى المنطقة كمركز رئيس للأنشطة الأمنية والاستخباراتية، بدءًا من قيام الولايات المتحدة ببناء قاعدة عسكرية في جيبوتي بعد إعلانها الحرب على الإرهاب (على وجه التحديد ضد كل من مقاتلي القاعدة والشباب)، ومرورًا بدول الخليج العربية مثل الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية من خلال استخدام موانئ جيبوتي وإريتريا في حملتهما العسكرية لدعم الحكومة الشرعية في اليمن، وانتهاء بالصين التي قامت ببناء أول قاعدة عسكرية خارجية لها في جيبوتي، وشاركت بقوة كبيرة لحفظ السلام في جنوب السودان.
وعادة ما يتم الجمع بين المصالح الاقتصادية والأمنية المتقاربة في المنطقة، وهو ما جعلها تشكّل منطقًا خاصًّا بها. نتيجة لذلك؛ شهدت المنطقة انتشارًا كبيرًا للقواعد العسكرية الأجنبية، وهي غالبًا ما تكون مصحوبة بمقاربات القوة الناعمة مثل الاستثمارات الضخمة مِن قِبَل الشركات الأجنبية، لا سيما في الموانئ. ومع تزايد تمركز القوى الأجنبية؛ تزداد أهمية المنطقة والحاجة المُلِحَّة لتأمين موانئها.
وعلى أيّ الأحوال فقد أصبح القرن الإفريقي معمل اختبار لمختلف مناهج السياسة الخارجية وطرائق المساعدة المختلفة؛ ليس فقط مِن قِبَل القوى الغربية التقليدية، ولكن أيضًا من القوى الصاعدة التي تشارك في أشكال بديلة للتنمية الاقتصادية والأمنية. وتشكل تركيا -وخاصة في الصومال- جزءًا مهمًّا من هذه الصورة الكلية لديناميات القرن الإفريقي.
الدخول التركي والتنافس الإقليمي:
من المعروف أن لتركيا تاريخًا طويلاً في القرن الإفريقي، يرجع إلى فترة وجود الدولة العثمانية في المنطقة. على أنه في العصر الحديث، كانت مشاركتها محدودة نوعًا ما، حتى برزت بشكل كبير في عام 2011م عندما دخلت الصومال. منذ ذلك الحين، استمرت تركيا في المشاركة على نطاق واسع مع الصومال. ومنذ نهاية عام 2017م فصاعدًا، عززت أيضًا وجودها بشكل كبير في السودان.
وعلى الرغم من أن الدخول التركي في هذين البلدين قد اجتذب أكبر قدر من الاهتمام الدولي، وظهرت أيضًا بشكل بارز في المنافسات الإقليمية الأكبر، فإنه ينبغي التنويه إلى أن تركيا تشارك في مناطق أخرى في القرن الإفريقي، على الرغم من دورها المحدود. ففي جيبوتي -على سبيل المثال- تقوم هيئة الأشغال الهيدروليكية الحكومية التركية ببناء سدّ، وتقوم مديرية الشؤون الدينية التركية ببناء مسجد، وهناك خطط لمنطقة اقتصادية حرة خاصة بتركيا. إلى جانب ذلك هناك توقعات محتملة بإمكانية بناء قاعدة عسكرية تركية جديدة في جيبوتي.
في عام 2012م، حذَّرت مجموعة الأزمات الدولية تركيا من دورها المزعزع للاستقرار في الصومال، وأوصت أنقرة بأن “تخطو بحكمة وتجنّب الأحادية، وتعلم الدروس لعدم تكرار تدخّل دوليّ فاشل آخر”.
بَيْدَ أنَّ تركيا لم تستجب لهذا التحذير؛ الذي توافق مع حدوث تغيرات إقليمية أدَّت إلى تغير خارطة التحالفات والعلاقات التركية العربية، وعليه فقد حاول الرئيس التركي بناء تحالفات مناهضة لكل من منافسيه في الخليج ومصر والدخول في معارك على جميع الجبهات بما في ذلك القرن الإفريقي، بشكل مباشر أو من خلال وكلاء.
وربما ساعد تطور الأوضاع الداخلية في تركيا على دعم هذا الاتجاه. فقد أدى تآكل قاعدة دعم حزب العدالة وتقاربه وتحالفه اللاحق مع الفصائل القومية المتطرفة والأوراسية في الداخل إلى تبنّي المفهوم الأفروأوراسي الذي يعزّز مفهوم العثمانية الجديدة التي تمتد إلى البحر الأحمر والمحيط الهندي.
وفي عام 2016م، خلال زيارته للصومال؛ افتتح أردوغان أكبر سفارة تركية تم بناؤها على الإطلاق، في إشارة إلى أهمية القرن الإفريقي بالنسبة لتطلعاته الأوسع. وعلى الرغم من أن الإطاحة بالرئيس عمر البشير، الذي كان حليفًا مقربًا لتركيا، قد أوقفت خطط تركيا بشأن إعادة تطوير الميناء في جزيرة سواكن السودانية للاستخدامات المدنية والعسكرية (إلى جانب قطر التي وقَّعت اتفاقًا منفصلاً مع السودان لتطوير الميناء)، لا تزال تركيا تحتفظ بأكبر قاعدة عسكرية خارجية لها في مقديشو.
ولا تزال الصومال تشكل ركيزة الوجود التركي في القرن الإفريقي. في الشهر الماضي أعلن الرئيس أردوغان عن تبرع بقيمة 30 مليون دولار للصومال، وهو ما يعني أن توجهه نحو المنطقة يمثل اعتبارات استراتيجية راسخة على مدى العقد الماضي، بلغ إجمالي مساعدات أنقرة لمقديشو أكثر من مليار دولار، وهو ما يعكس التنافس على اكتساب السيطرة والنفوذ في مواجهة كل من مصر ودول الخليج باستثناء قطر. وفي المقابل فقد تطورت مشاركة دول الخليج العربي في القرن الإفريقي بشكل كبير في العقد الماضي، لتصبح نقطة مواجهة أخرى في الصراع الإقليمي على الأيديولوجية والاعتبارات الاستراتيجية. فهل يُفْضِى التقارب الجديد بين كل من تركيا ومصر والدول الخليجية إلى نوع من التهدئة أو على الأقل عدم التصعيد في دينياميات القرن الإفريقي الملتهبة؟
آثار الوفاق الثلاثي (التركي المصري الخليجي):
لا تزال المصالح والأيديولوجيات المتضاربة تشكل الديناميكيات والتفاعلات الرئيسية في القرن الإفريقي. ومع ذلك فإن انتخاب جو بايدن كرئيس للولايات المتحدة سوف يُعيد إلى الأذهان تقاليد السياسة الأمريكية في عهد الرئيس باراك أوباما.
ولعل ذلك يدفع إلى إعادة تقويم للسياسات المصرية والخليجية والتركية تجاه المنطقة بشكل يهدف إلى إصلاح العلاقات بين الكتل المتعارضة. قامت مصر بخطوات مهمة لاستعادة شبكة علاقاتها في القرن الإفريقي. وبالفعل قام الرئيس عبد الفتاح السيسي، أواخر مايو 2021م، بزيارة جيبوتي، والتي تُعد الأولى لرئيس مصري منذ إعلان جيبوتي استقلالها عام 1977م.
وتعكس هذه الزيارة بلا شك لدولة متاخمة لإثيوبيا محاولات مصر تطوير العلاقات الاستراتيجية والدبلوماسية وبناء التحالفات في ظل الأوضاع الأمنية المضطربة في منطقة القرن الإفريقي. وقد قامت مصر قبل هذه الزيارة بتوقيع اتفاقية دفاع مع كينيا، كما أقامت شراكة استراتيجية مع السودان، ولا سيما بعد الإطاحة بنظام البشير.
وفي ضوء الجدل المستمر حول أزمة سد النهضة؛ أقر الرئيس جو بايدن بمشروعية مخاوف مصر بشأن الوصول إلى مياه النيل، وشدد على اهتمام إدارته بالتوصل إلى حل دبلوماسي.
ولا يخفى أن تعيين جيفري فيلتمان كمبعوث خاص للولايات المتحدة في القرن الإفريقي؛ يشير إلى الأولوية المتزايدة التي تُوليها واشنطن الآن لهذه المنطقة. كما أنه يعكس المخاطر التي ينطوي عليها الأمر بعدما اشتدت المنافسة في القرن الإفريقي مرة أخرى بين القوى الإقليمية المتنافسة وأيديولوجياتها.
وتبدو أهمية إعادة تشكيل التحالفات منعًا للسيناريو الكارثي، ولذا قام المبعوث الأمريكي للقرن الإفريقي بزيارة إلى الخليج؛ حيث أجرى مباحثات في كل من السعودية والإمارات وقطر. ومع ذلك فإنه على الرغم من أن مدى تأثير مناخ الانفراج على القرن الإفريقي غير مؤكّد، إلا أن الهدوء النسبي يوفر فرصة سانحة للإدارة الأمريكية من أجل تولّي زمام الأمور، ومنع هذا النوع من التنافس العنيف الذي ثبت أنه كارثي في كل من سوريا وليبيا.
ولعل أخطر القضايا التي تحتاج إلى تسوية سلمية ودور خارجي فاعل من خلال توقف جميع أشكال الحرب بالوكالة؛ هي حرب التيغراي، وأزمة سد النهضة، ونقاط الحدود الملتهبة في المنطقة.
وختامًا؛ فإنه في ظل طبيعة القرن الإفريقي كمركب أمني بالغ التعقيد؛ فإن التهدئة والاستقرار تتوقف على قدرة النخب السياسية وداعميهم من الأطراف الدولية الفاعلة على الحوار والتسوية والإصلاح.
لقد أظهرت الأزمات المشتعلة –مثل: أزمة التيغراي، وسد النهضة، ونزاعات الحدود-؛ مدى سهولة انتشار الاضطرابات عبر الحدود، لذا سواء كانت نظرتنا إلى من سيخرج منتصرًا في الحرب العبثية الإثيوبية، أو انتخابات الصومال المعطلة، أو ما يُخطط له الرئيس الإريتري أسياس أفورقي؛ فإن كيفية تداخل هذه الديناميات هي التي ستُثبت أنها الأكثر دلالةً. وعليه يبدو التقارب الثلاثي التركي المصري الخليجي خطوة مهمة في هذا الاتجاه، على الأقل من أجل تجنُّب السيناريو الكارثي الذي حدث في مناطق أخرى في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.