منذ عودته من أوروبا في يوليو الماضي, عاد الزعيم والرئيس العاجي السابق “لوران غباغبو” إلى الأضواء بعدما بُرِّئَ في قضية حُوكِمَ بسببها في المحكمة الجنائية الدولية منذ نوفمبر 2011م عن تُهَمٍ شملت ارتكاب جرائم القتل والاغتصاب والاضطهاد, وذلك عقب أعمال العنف التي أعقبت الانتخابات في ساحل العاج بين 2010 و2011م.
وقد أثارت محاكمة “غباغبو” بدورها أيضًا اهتمام القانونيين والسياسيين؛ إذ رفضت لجنة المحكمة الجنائية الدولية التُّهَم الموجَّهة إلى “غباغبو” في يناير 2019م؛ باعتبار أن الأدلة المقدمة ضده لا ترتقي إلى درجة إثبات ارتكابه جرائم ضد الإنسانية, وبالتالي أيَّدت المحكمة الجنائية الدولية تبرئته، وأكَّد الرئيس الحالي في ساحل العاج “الحسن واتارا” في أبريل 2021م أن له مطلق الحرية في العودة إلى البلاد.
لا تزال كوابيس أزمة 2010-2011م حاضرة:
رحَّب الرئيس الحالي “الحسن واتارا” بلقائه مع الرئيس السابق “لوران غباغبو”, معتبرًا ذلك في تغريدة له على حسابه الموثَّق في تويتر أنه “لقاء وُدّي وأخوي مع أخي الأصغر لوران غباغبو”، مضيفًا أنهما سيعملان “على بناء الثقة لصالح بلدنا”.
وقد أثار اللقاء مرة أخرى الحديث عن أزمة 2010-2011م في ساحل العاج نتيجة الانتخابات الرئاسية المتنازع عليها في عام 2010م؛ حيث أعلن المجلس الدستوري فوز “غباغبو” على الرغم من اعتراف لجنة الانتخابات والأمم المتحدة بفوز “واتارا” في التصويت, ليكون “واتارا” الرئيس الجديد المعترَف به دوليًّا؛ حيث فرض المجتمع الدولي والاتحاد الإفريقي والمجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا (إيكواس) عقوبات على “غباغبو” بعد أن رفض التنحي عن المنصب الرئاسي.
وقد تسبّبت الأزمة في اندلاع قتالٍ منتشر في ساحل العاج أسفر عن مقتل حوالي 3000 شخص، وتدمير قرى بأكملها، وتشريد مئات الآلاف؛ بسبب العنف بين الميليشيات الموالية لـ “غباغبو” وقوات “واتارا” المدعومة مِن قِبَل الأمم المتحدة والمجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا والقوات والمعدات الفرنسية. وقد قُبِضَ على “غباغبو” في أبريل 2011م ونُفِيَ من ساحل العاج, كما أُرسِلَ إلى لاهاي للمثول أمام المحكمة الجنائية الدولية.
ويمكن ملاحظة الجرح الذي تركته الأزمة في الذاكرة العاجية؛ خاصةً بين الأقاليم وذوي الأديان المختلفة؛ إذ وسّعت الصدعَ بين المجتمعات المسلمة التي دعمت “واتارا” في الشمال وبين المجتمعات التي تتكون غالبية سكانها من المسيحيين في الجنوب والذين دعموا “غباغبو”.
من جانب آخر, اتّضح مؤخرًا أن تبرئة “غباغبو” من جميع التُّهَم الموجهة إليه قد عزَّزت موقفه لدى متابعيه، وبالتالي قد تمنحه نقاطًا زائدة في الساحة السياسية. وفي المقابل يُواجه الرئيس “واتارا” انتقادات متواصلة وسلامٍ غير مستقر مِن قِبَل الذين عارضوا خطواته في السنوات الأخيرة؛ إذ اقتنعت الأغلبية بفوزه في عام 2015م، وانتخابه لفترة الولاية الرئاسية الثانية, ولكن هذا القناعة تراجعت بسبب حادثة 2020م التي أسفرت عن مقتل العشرات في اشتباكات مع الشرطة نتيجة سعي “واتارا” وراء ولاية رئاسية ثالثة؛ مُخالفًا بذلك دستور البلاد الذي يسمح بفترتين فقط.
وبالرغم من الفوز الساحق الذي حقّقه “واتارا” في انتخابات 2020م الأخيرة, إلا أنه وَاجَه أزمة الاعتراف بالشرعية والمصداقية بهذا الفوز؛ حيث قاطعت أحزاب المعارضة تلك الانتخابات.
مشاعر متضاربة:
قبل اللقاء بين “غباغبو” و”واتارا”, أبدَى الكثيرون أمَلهم في أن يكون الاجتماع فرصةً نحو المصالحة الوطنية، ودفن الأحقاد بين السياسيَّيْنِ اللَّذَيْنِ يُعتبران أكثر الرجال نفوذًا في ساحل العاج. بينما شكَّك آخرون في رمزية اللقاء؛ نظرًا للتطورات التي طرأت على الساحة أثناء غياب “غباغبو”.
بل حذّر “جاستن كاتينان كوني” -المتحدث باسم “غباغبو” نفسه– من “عدم المبالغة” في أهمية اللقاء؛ حيث قال: إن “هذه زيارة مجاملة كبيرة.. وستكون أفضل بكثير إذا كانت ستساعد على تهدئة الأجواء السياسية”.
وفي يوم اللقاء, تابع المواطنون في ساحل العاج الحدث على القنوات التلفزيونية والمواقع الاجتماعية، كما نشرته صحف البلاد على صفحاتها الأولى, وظل موضوعًا رئيسيًّا للنقاش في العاصمة أبيدجان لعدة أيام.
وهناك مَن وصَف هذا اللقاء بـ”يوم تاريخي” انتظره العاجيون بفارغ الصبر, وينما رأى آخرون أنه اجتماع غير مهمّ؛ لأن الزعيمين غير صادقين في خطواتهما السياسية؛ إذ أُفْرِجَ عن العديد من المتورطين في أزمة 2010-2011م بمن فيهم “سيمون غباغبو” السيدة الأولى السابقة بموجب العفو الرئاسي من حكومة الرئيس “واتارا” في إطار “المصالحة الوطنية” دون معاقبتهم على الجرائم التي ارتكبوها في حق الضحايا المواطنين. ولا تزال هناك شكوك في حقيقة ما جرى مع “غباغبو” في المحكمة الجنائية الدولية.
هذا, ويُلاحظ بعد عودة “غباغبو” أنه رغم غيابه الذي دام عقدًا من الزمان، إلا أنه لا يزال يحظى بشعبية كبيرة في ساحل العاج؛ خاصةً في المناطق الساحلية الجنوبية التي يشتهر فيها بالدفاع عن الفقراء والمضطهدين, مما يعني أن بإمكانه التأثير في العملية السياسية في حال عزمه العودة إلى الحياة السياسة.
وفي المنوال نفسه, أكد نجاح التعديل الدستوري الأخير في البلاد قوة الرئيس “واتارا” ومكانته السياسية. كما أن اللقاء يؤشّر على أن معسكر “غباغبو” يعترف بشرعية “واتارا”؛ إذ أكّدت تصريحات “فرانك أندرسون كواسي” -المتحدث باسم حزب “الجبهة الشعبية الإيفوارية” التي يزعمها “غباغبو”- على أن “لوران غباغبو يعمل بروح الانفتاح والحوار والمصالحة”, واللقاء “يتوافق تمامًا مع طريقة تفكيرنا”.
وقد بادلت إدارة الرئيس “واتارا” معسكر “غباغبو” بالشعور نفسه؛ حيث قال المتحدث باسم الحكومة “أمادو كوليبالي”: “إن الحوار مستمر بين الطرفين والمعارضين الآخرين؛ لأن هذا إرادة الحكومة”.
أي مستقبل لساحل العاج؟
لا يزال الرأي السائد أن لقاء “غباغبو” مع “واتارا” في صالح البلاد رغم الانتقادات الموجهة لحكومة الرئيس “واتارا” حول إطلاق سراح المتورطين والمتهمين بشأن أزمة 2010-2011م.
وبالنسبة لعدد من الإيفواريين, سيكون حلّ الخلافات السياسية بين الزعيمين مفتاحًا للتغلب على المشاكل الرئيسية في البلاد، ومواجهة الأوضاع المعيشية للمواطنين؛ وذلك لأنه رغم ما سجّلته ساحل العاج من نموّ اقتصاديّ نَشِط منذ عام 2012م إلا أن قرابة 40 في المئة من سكان البلاد لا يزالون يعيشون في فقر.
كما أن هناك حاجة لتضعيف الجهود الرامية إلى حل التحديات التي تتعلق بخلق فرص عملٍ والتعليم، وغيرها من القضايا التي تخصّ شباب البلاد الذين تتراوح أعمارهم بين 15 و29 عامًا، وهم الذين يُمثّلون أكثر من ربع سكان البلاد.
ويمكن للزعيمين أيضًا وأتباعهما استثمار هذا الاجتماع والاتصالات الودّية المستقبلية في صالح إطلاق مشاريع المصالحة العملية، وترميم العلاقات بين المجموعات العرقية في البلاد؛ وذلك نظرًا للإخفاقات السابقة في موضوع معالجة التوترات السياسية والعرقية القائمة بين الشمال والجنوب والتي عمّقتها أزمة 2010-2011م.
وعلى ما سبق, يمكن القول بأن أهمية اللقاء تكمن في دوره في رأب الصدع وتقليل المخاطر الكامنة وراء الخلافات الإثنية والدينية والسياسية من خلال المصالحة العملية، وتعزيز السلام والتقدم.
_____________________
– للمزيد:
كوت ديفوار: عودة لوران غباغبو وتطلعات الضحايا:
ICC upholds acquittal of Ivory Coast’s Gbagbo, Ble Goude:
Ivory Coast: Ouattara and Gbagbo meet for the first time in 10 years:
Ivory Coast: Suspicion and surprise as Ouattara, Gbagbo meet: